منهاج الصالحين ـ المعاملات الجزء ٢

منهاج الصالحين ـ المعاملات12%

منهاج الصالحين ـ المعاملات مؤلف:
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 491

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 491 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80603 / تحميل: 4854
الحجم الحجم الحجم
منهاج الصالحين ـ المعاملات

منهاج الصالحين ـ المعاملات الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

كان صادقا والا حرم ، والبيع في المكان المظلم الذي يستتر فيه العيب ، بل كل ما كان كذلك ، والربح على المؤمن زائدا على مقدار الحاجة ، وعلى الموعود بالإحسان ، والسوم ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وإن يدخل السوق قبل غيره والمعاملة مع من لم ينشأ في الخير والمحارفين ، وطلب تنقيص الثمن بعد العقد ، والزيادة وقت النداء لطلب الزيادة أما الزيادة بعد سكوت المنادي فلا بأس بها ، والتعرض للكيل أو الوزن أو العد أو المساحة إذا لم يحسنه حذرا من الخطأ ، والدخول في سوم المؤمن ، بل الأحوط استحباباً تركه. والمراد به الزيادة في الثمن الذي بذله المشتري ، أو بذل مبيع له غير ما بذله البائع ، مع رجاء تمامية المعاملة بينهما ، فلو انصرف أحدهما عنها أو علم بعدم تماميتها بينهما فلا كراهة ، وكذا لو كان البيع مبنيا على المزايدة ، وإن يتوكل بعض أهل البلد لمن هو غريب عنها بل الأحوط استحبابا تركه ، وتلقي الركبان الذين يجلبون السلعة وحده إلى ما دون أربعة فراسخ ، فلو بلغ أربعة فراسخ فلا كراهة ، وكذا لو اتفق ذلك بلا قصد. والظاهر عموم الحكم لغير البيع من المعاملة ، كالصلح والإجارة ونحوهما.

مسألة ٥٠ : الاحتكار وهو حبس السلعة والامتناع من بيعها ـ حرام إذا كان لانتظار زيادة القيمة مع حاجة المسلمين ومن يلحق بهم من سائر النفوس المحترمة إليها ، وليس منه حبس السلعة في زمان الغلاء إذا أراد استعمالها في حوائجه وحوائج متعلقيه أو لحفظ النفوس المحترمة عند الاضطرار ، والظاهر اختصاص الحكم بالطعام ، والمراد به هنا القوت الغالب لأهل البلد ، وهذا يختلف باختلاف البلدان ، ويشمل الحكم ما يتوقف عليه تهيئته كالوقود والات الطبخ أو ما يعد من مقوماته كالملح والسمن ونحوهما ، والضابط هو حبس ما يترتب عليه ترك الناس وليس لهم طعام. والأحوط استحبابا ترك الاحتكار في مطلق ما يحتاج إليه كالملابس والمساكن

٢١

والمراكب والأدوية ونحوها ، ويجب النهي عن الاحتكار المحرم بالشروط المقررة للنهي عن المنكر ، وليس للناهي تحديد السعر للمحتكر ، نعم لو كان السعر الذي اختاره مجحفا بالعامة ألزم على الأقل الذي لا يكون مجحفا.

٢٢

الفصل الأول

شروط العقد

البيع هو : نقل المال إلى الغير بعوض ، والمقصود بالعوض هو المال الذي يجعل بدلا وخلفا عن الآخر ، والغالب فيه في هذه الأزمنة أن يكون من النقود ، فالبيع متقوم بقصد العوضية والمعوضية ، وباذل المعوض هو البائع وباذل العوض هو المشتري ، ومن ذلك يتضح معنى الشراء ، وأما المعاوضة بين المالين من دون قصد العوضية والمعوضية فهي معاملة مستقلة صحيحة ولازمة سواء أكانا من الأمتعة أم من النقود ولا تترتب عليها الأحكام المختصة بالبيع كخياري المجلس والحيوان دون ما يشمل مطلق المعاوضات كحرمة الربا.

مسألة ٥١ : يعتبر في البيع الإيجاب والقبول ، ويقع بكل لفظ دال على المقصود ، وإن لم يكن صريحا فيه مثل : بعت وملكت ، وبادلت ونحوها في الإيجاب ، ومثل : قبلت ورضيت وتملكت وأشتريت ونحوها في القبول ، ولا تشترط فيه العربية ، كما لا يقدح فيه اللحن في المادة أو الهيئة إذا لم يمنع من ظهوره في المعنى المقصود عند أبناء المحاورة ، ويجوز إنشاء الإيجاب بمثل : اشتريت ، وأبتعت ، وتملكت وإنشاء القبول بمثل : شريت وبعت وملكت.

مسألة ٥٢ : إذا قال : بعني فرسك بهذا الدينار ، فقال المخاطب : بعتك فرسي بهذا الدينار فالأظهر صحته وترتب الأثر عليه بلا حاجة إلى ضم القبول من الآمر إذا كان المتفاهم منه عرفا إعطاء السلطنة للمخاطب في نقل الدينار إلى نفسه ونقل فرسه إليه ، والظاهر أن الأمر كذلك ، ومثله ما إذا كان

٢٣

لشخص واحد حق التصرف في المالين بأن كان ـ مثلا ـ وليا على المالكين أو وكيلا عنهما.

مسألة ٥٣ : يعتبر في تحقق العقد الموالاة بين الإيجاب والقبول فلو قال البائع : بعت ، فلم يبادر المشتري إلى القبول حتى انصرف البائع عن البيع لم يتحقق العقد ، ولم يترتب عليه الأثر ، أما إذا لم ينصرف وكان ينتظر القبول ، حتى قبل صح ، كما أنه لا تعتبر وحدة المجلس فلو تعاقدا بالتليفون فأوقع أحدهما الإيجاب وقبل الآخر صح. أما المعاملة بالمكاتبة ففيها إشكال ، والأظهر الصحة ، إن لم ينصرف البائع عن بيعه حتى قبل المشتري.

مسألة ٥٤ : الظاهر اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول في الثمن والمثمن ، وفي سائر حدود البيع والعوضين ـ ولو بلحاظ من تضاف إليه الذمة فيما إذا كان أحد العوضين ذميا ـ فلو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار بشرط أن تخيط قميصي ، فقال المشتري : اشتريت هذا الدفتر بدينار أوهذا الكتاب بدرهم أو بشرط أن أخيط عباءتك أو بلا شرط شيء أو بشرط أن تخيط ثوبي أو اشتريت نصفه بنصف درهم ، أو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار في ذمتك فقال : اشتريته بدينار لي في ذمة زيد لم يصح العقد ، وكذا في نحو ذلك من أنحاء الاختلاف ، ولو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار فقال : اشتريت كل نصف منه بنصف دينار ففي الصحة إشكال ، وكذا إذا كان إنشاء أحد الطرفين مشروطا بشيء على نفسه وإنشاء الآخر مطلقا كما إذا قال : بعتك هذا الكتاب بدينار فقال : اشتريته بشرط أن أخيط لك ثوبا ، أو قال : بعتك هذا الكتاب بدينار بشرط أن أخيط ثوبك فقال : قبلت بلا شرط فإنه لا ينعقد مشروطا بلا إشكال وفي انعقاده مطلقا وبلا شرط إشكال.

مسألة ٥٥ : إذا تعذر اللفظ لخرس ونحوه قامت الإشارة مقامه وإن

٢٤

تمكن من التوكيل ، وكذا الكتابة مع العجز عن الإشارة. أما مع القدرة عليها ففي تقديم الإشارة أو الكتابة وجهان بل قولان ، والأظهر الجواز بكل منهما ، بل لا يبعد ذلك حتى مع التمكن من اللفظ.

مسألة ٥٦ : الظاهر وقوع البيع بالمعاطاة ، بأن ينشئ البائع البيع بإعطائه المبيع إلى المشتري ، وينشئ المشتري القبول بإعطاء الثمن إلى البائع ، ولا فرق في صحتها بين المال الخطير والحقير ، وقد تحصل بإعطاء البائع المبيع وأخذ المشتري بلا إعطاء منه ، كما لو كان الثمن كليا في الذمة أو بإعطاء المشتري الثمن وأخذ البائع له بلا إعطاء منه ، كما لو كان المثمن كليا في الذمة.

مسألة ٥٧ : الظاهر أنه يعتبر في صحة البيع المعاطاتي جميع ما يعتبر في البيع العقدي من شرائط العقد والعوضين والمتعاقدين ، كما أن الظاهر ثبوت جميع الخيارات ـ الآتية إن شاء الله تعالى ـ على نحو ثبوتها في البيع العقدي حتى ما يتوقف منها على اشتراطه على كلام سيأتي في المسألة (٥٩).

مسألة ٥٨ : الظاهر جريان المعاطاة في غير البيع من سائر المعاملات بل الإيقاعات إلا في موارد خاصة ، كالنكاح والطلاق والنذر واليمين ، والظاهر جريانها في الرهن والوقف أيضا.

مسألة ٥٩ : في قبول البيع المعاطاتي للشرط سواء أكان شرط خيار في مدة معينة ، أم شرط فعل ، أم غيرهما : إشكال ، وإن كان القبول لا يخلو من وجه ، فلو أعطى كل منهما ماله إلى الآخر قاصدين البيع ، وقال أحدهما في حال التعاطي : جعلت لي الخيار إلى سنة ـ مثلا ـ وقبل الآخر صح شرط الخيار ، وكان البيع خياريا ، وكذا إذا ذكر الشرط في المقاولة ووقع التعاطي مبنيا عليه.

٢٥

مسألة ٦٠ : لا يجوز تعليق البيع على أمر غير حاصل حين العقد سواء أعلم حصوله بعد ذلك ، كما إذا قال : بعتك إذا هل الهلال ، أم جهل حصوله ، كما لو قال : بعتك إذا ولد لي ولد ذكر ، ولا على أمر مجهول الحصول حال العقد ، كما إذا قال : بعتك إن كان اليوم يوم الجمعة مع جهله بذلك ، أما مع علمه به فالوجه الجواز.

مسألة ٦١ : إذا قبض المشتري ما اشتراه بالعقد الفاسد ، فإن علم برضا البائع بالتصرف فيه حتى مع فساد العقد جاز له التصرف فيه والا وجب عليه رده إلى البائع ، وأذا تلف ـ ولو من دون تفريط ـ وجب عليه رد مثله إن كان مثليا وقيمته إن كان قيميا ، وكذا الحكم في الثمن إذا قبضه البائع بالبيع الفاسد ، وأذا كان المالك مجهولا جرى عليه حكم المال المجهول مالكه ، ولا فرق في جميع ذلك بين العلم بالحكم والجهل به ، ولو باع أحدهما ما قبضه كان البيع فضوليا وتوقفت صحته على إجازة المالك وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

٢٦

الفصل الثاني

شروط المتعاقدين

مسألة ٦٢ : يشترط في كل من المتعاقدين أمور :

الأول : البلوغ ، فلا يصح عقد الصبي في ماله ، وإن كان مميزا ، إذا لم يكن بإذن الولي بل وإن كان بإذنه إذا كان الصبي مستقلا في التصرف إلا في الأشياء اليسيرة التي جرت العادة بتصدي الصبي المميز لمعاملتها فإن الصحة فيها لا تخلو من وجه وأما إذا كانت المعاملة من الولي ، وكان الصبي وكيلا عنه في إنشاء الصيغة فالأظهر الصحة ، وكذا إذا كان تصرفه في مال غيره بإذن المالك ، وإن لم يكن بإذن الولي.

الثاني : العقل ، فلا يصح عقد المجنون ، وإن كان قاصدا إنشاء البيع.

الثالث : الاختيار ـ بمعنى الاستقلال في الإرادة ـ فلا يصح بيع المكره وشراؤه ، وهو من يأمره غيره بالبيع أو الشراء على نحو يخاف من الإضرار به لو خالفه بحيث يكون لخوف الضرر من الغير دخل في صدور البيع أو الشراء منه ، وأما لولم يكن له دخل فيه وإن حصل له الخوف من تركه كما لولم يكن مباليا بالضرر المحتمل أو المعلوم فلا يضر بالصحة ، وكذا إذا اضطر إلى البيع أو الشراء فإنه يصح وإن اضطره الغير إليه كما لو أمره بدفع مقدار من المال ولم يمكنه إلا ببيع داره فباعها فإنه يصح بيعها ، نعم إذا حصل الاضطرار بمواطأة الغير مع ثالث ، كما لو تواطئا على أن يحبسه أحدهما في مكان ليضطر إلى بيع خاتمه ـ مثلا ـ على الثاني إزاء ما يسد به رمقه فالأظهر فساد المعاملة وضمانه لما اضطر إلى التصرف فيه بقيمته السوقية.

٢٧

مسألة ٦٣ : لو رضي المكره بالبيع بعد زوال الإكراه صح وإن كان الأحوط حينئذ تجديد العقد.

مسألة ٦٤ : إذا أكره أحد الشخصين على بيع داره ، كما لو قال الظالم : فليبع زيد أو عمرو داره فباع أحدهما داره خوفا منه بطل البيع ، وأما إذا علم إقدام الآخر على البيع وباعها صح البيع.

مسألة ٦٥ : لو أكره على بيع داره أو فرسه فباع أحدهما بطل ، ولو باع الآخر بعد ذلك صح ، ولو باعهما جميعا دفعة بطل فيهما جميعا إذا كان للإكراه دخل في بيعهما مجتمعين كما في بيع أحدهما منفردا والا فالظاهر صحة البيع بالنسبة إلى كليهما.

مسألة ٦٦ : لو أكرهه على بيع دابته فباعها مع ولدها بطل بيع الدابة ، وصح بيع الولد إلا إذا كان للإكراه دخل في بيعه معها ، كما لولم يمكن حفظه مع بيع أمه.

مسألة ٦٧ : يعتبر في صدق الإكراه عدم إمكان التفصي عنه بغير التورية ، وهل يعتبر فيه عدم إمكان التفصي بالتورية ولو من جهة الغفلة عنها أو الجهل بها أو حصول الاضطراب المانع عن استعمالها أونحو ذلك؟ وجهان ، لا يخلو أولهما عن وجه.

مسألة ٦٨ : المراد من الضرر الذي يخافه ، على تقدير عدم الإتيان بما أكره عليه ما يعم الضرر الواقع على نفسه وماله وشأنه ، وعلى بعض من يتعلق به ممن يهمه أمره فلولم يكن كذلك فلا إكراه ، فلو باع ـ حينئذ ـ صح البيع.

٢٨

البيع الفضولي :

الرابع : من شروط المتعاقدين ـ أن يكون مالكا للتصرف الناقل ، كأن يكون مالكا للشيء من غير أن يكون محجورا عن التصرف فيه لسفه أو فلس أو غيرهما من أسباب الحجر ، أو يكون وكيلا عن المالك أو مأذونا من قبله أو وليا عليه ، فلولم يكن العاقد مالكا للتصرف لم يصح البيع بل توقفت صحته على إجازة المالك للتصرف ، فإن أجاز صح والا بطل ، فصحة العقد الصادر من غير مالك العين تتوقف على إجازة المالك ، وصحة عقد السفيه على إجازة الولي ، وصحة عقد المفلس على إجازة الغرماء ، فإن أجازوا صح والا بطل ، وهذا هو المسمى بـ ( عقد الفضولي ) والمشهور أن الإجازة بعد الرد لا أثر لها ولكنه لا يخلو عن إشكال وأما الرد بعد الإجازة فلا أثر له جزما.

مسألة ٦٩ : لو منع المالك من بيع ماله فباعه الفضولي ، فإن أجازه المالك صح ، ولا أثر للمنع السابق في البطلان.

مسألة ٧٠ : إذا علم من حال المالك أنه يرضى بالبيع فباعه لم يصح وتوقفت صحته على الإجازة.

مسألة ٧١ : إذا باع الفضولي مال غيره عن نفسه لاعتقاده أنه مالك ، أو لبنائه على ذلك ، كما في الغاصب ، فأجازه المالك لنفسه صح البيع ويكون الثمن له.

مسألة ٧٢ : لا يكفي في تحقق الإجازة الرضا الباطني ، بل لابد في تحققها من قول مثل : رضيت ، وأجزت ، ونحوهما ، أو فعل مثل : أخذ الثمن ، أو بيعه ، أو الأذن في بيعه أو إجازة العقد الواقع عليه أونحو ذلك.

مسألة ٧٣ : الظاهر أن الإجازة كاشفة عن صحة العقد من حين وقوعه كشفا انقلابيا بمعنى اعتبار الملكية من حين تحقق العقد في زمن حدوث

٢٩

الإجازة ، فنماء الثمن من حين العقد إلى حين الإجازة ملك لمالك المبيع ونماء المبيع ملك للمشتري.

مسألة ٧٤ : لو باع اعتقاد كونه وليا أو وكيلا فتبين خلافه فإن أجازه المالك صح وإن رد بطل ، ولو باع باعتقاد كونه أجنبيا فتبين كونه وليا أو وكيلا صح ، ولم يحتج إلى الإجازة ، ولو تبين كونه مالكا ففي صحة البيع ـ من دون حاجة إلى إجازته ـ إشكال والأظهر هو الصحة فيما لو كان البيع لنفسه.

مسألة ٧٥ : لو باع مال غيره فضولا ، ثم ملكه قبل إجازة المالك أما باختياره كالشراء أو بغير اختياره كالأرث. ففي صحته ـ بلا حاجة إلى الإجازة ـ أو توقفه على الإجازة أو بطلانه رأسا ـ وجوه أقواها الأخير.

مسألة ٧٦ : لو باع مال غيره فضولا فباعه المالك من شخص آخر صح بيع المالك ، وبطل بيع الفضولي ولا تنفع في صحته إجازة المالك ولا المشتري.

مسألة ٧٧ : إذا باع الفضولي مال غيره ولم تتحقق الإجازة من المالك ، فإن كانت العين في يد المالك فلا إشكال ، وإن كانت في يد البائع جاز للمالك الرجوع بها عليه ، وإن كان البائع قد دفعها إلى المشتري جاز له الرجوع على كل من البائع والمشتري ، وإن كانت تالفة رجع على البائع إن لم يدفعها إلى المشتري ، أو على أحدهما إن دفعها إليه بمثلها ، إن كانت مثلية ، وبقيمتها إن كان قيمية.

مسألة ٧٨ : المنافع المستوفاة مضمونة ، وللمالك الرجوع بها على من استوفاها ، وكذا الزيادات العينية ، مثل اللبن والصوف والشعر والسرجين ونحوها ، مما كانت له مالية ، فإنها مضمونة على من استولى عليها كالعين ، أما المنافع غير المستوفاة ففي ضمانها إشكال ، ولا يبعد التفصيل فيها بين المنافع المفوتة والفائتة بثبوت الضمان في الأول دون الثانية والمقصود

٣٠

بالمنافع المفوتة ما تكون مقدرة الوجود عرفا كسكنى الدار وبالفائتة ما لا تكون كذلك كمنفعة الكتب الشخصية غير المعدة للإيجار.

مسألة ٧٩ : المثلي : ما يكثر وجود مثله في الصفات التي تختلف باختلافها الرغبات ـ والقيمي : ما لا يكون كذلك ، فالآلات والظروف والأقمشة المعمولة في المعامل في هذا الزمان من المثلي ، والجواهر الأصلية من الياقوت والزمرد والألماس والفيروزج ونحوها من القيمي.

مسألة ٨٠ : إذا تفاوتت قيمة القيمي من زمان القبض إلى زمان الأداء بسبب كثرة الرغبات وقلتها فالأظهر أن المدار في القيمة المضمون بها قيمة زمان التلف وإن كان الأحوط الأولى التراضي والتصالح فيما به التفاوت بين قيمة زمان القبض والتلف والأداء.

مسألة ٨١ : إذا لم يمض المالك المعاملة الفضولية فعلى البائع الفضولي أن يرد الثمن المسمى إلى المشتري ، فإذا رجع المالك على المشتري ببدل العين من المثل أو القيمة فليس للمشتري الرجوع على البائع في مقدار الثمن المسمى. ويرجع في الزائد عليه إذا كان مغرورا وأذا رجع المالك على البائع رجع البائع على المشتري بمقدار الثمن المسمى إذا لم يكن قد قبض الثمن ، ولا يرجع في الزائد عليه إذا كان غارا. وأذا رجع المالك على المشتري ببدل نماء العين من الصوف واللبن ونحوهما أو بدل المنافع المستوفاة أو غير ذلك ، فإن كان المشتري مغرورا من قبل البائع ، بأن كان جاهلا بأن البائع فضولي ، وكان البائع عالما فأخبره البائع بأنه مالك ، أو ظهر له منه أنه مالك رجع المشتري على البائع بجميع الخسارات التي خسرها للمالك ، وإن لم يكن مغرورا من البائع كما إذا كان عالما بالحال ، أو كان البائع أيضا جاهلا لم يرجع عليه بشيء من الخسارات المذكورة ، وأذا رجع المالك على البائع ببدل النماءات ، فإن كان المشتري مغرورا من قبل

٣١

البائع لم يرجع على المشتري ، وإن لم يكن مغرورا من قبل البائع رجع البائع عليه في الخسارة التي خسرها للمالك وكذا الحال في جميع الموارد التي تعاقبت فيها الأيدي العادية على مال المالك ، فإنه إن رجع المالك على السابق رجع السابق على اللاحق إن لم يكن مغرورا منه ، والا لم يرجع على اللاحق ، وإن رجع المالك على اللاحق لم يرجع إلى السابق إلا مع كونه مغرورا منه ، وكذا الحكم في المال غير المملوك لشخص خاص كالزكاة المعزولة ، ومال الوقف المجعول مصرفا في جهة معينة أو غير معينة ، أو في مصلحة شخص أو أشخاص فإن الولي يرجع على ذي اليد عليه ، مع وجوده ، وكذا مع تلفه على النهج المذكور.

مسألة ٨٢ : لو باع إنسان ملكه وملك غيره صفقة واحدة صح البيع فيما يملك ، وتوقفت صحة بيع غيره على إجازة المالك ، فإن أجازه صح ، والا فلا ، وحينئذ يكون للمشتري خيار تبعض الصفقة ، فله فسخ البيع بالإضافة إلى ما يملكه البائع.

مسألة ٨٣ : طريق معرفة حصة كل واحد منهما من الثمن : أن يقوم كل من المالين بقيمته السوقية ، فيرجع المشتري بحصة من الثمن نسبتها إلى الثمن نسبة قيمة مال غير البائع إلى مجموع القيمتين ، فإذا كانت قيمة ماله عشرة وقيمة مال غيره خمسة ، والثمن ثلاثة يرجع المشتري بواحد وهو ثلث الثمن ، ويبقى للبائع اثنان. وهما ثلثا الثمن ، هذا إذا لم يكن للاجتماع دخل في زيادة القيمة ونقصها ، أما لو كان الأمر كذلك وجب تقويم كل منهما في حال الانضمام إلى الآخر ثم تنسب قيمة كل واحد منهما إلى مجموع القيمتين ، فيؤخذ من الثمن بتلك النسبة. مثلا إذا باع الفرس ومهرها بخمسة ، وكانت قيمة الفرس في حال الانفراد ستة ، وفي حال الانضمام أربعة ، وقيمة المهر بالعكس فمجموع القيمتين عشرة ، فإن كانت الفرس

٣٢

لغير البائع رجع المشتري بخمسين ، وهما اثنان من الثمن ، وبقي للبائع ثلاثة أخماس ، وإن كان المهر لغير البائع رجع المشتري بثلاثة أخماس الثمن ، وهو ثلاثة وبقي للبائع اثنان.

مسألة ٨٤ : إذا كانت الدار مشتركة بين شخصين على السوية فباع أحدهما نصف الدار ، فإن قامت القرينة على أن المراد نصف نفسه ، أو نصف غيره ، أو نصف في النصفين عمل على القرينة ، وإن لم تقم القرينة على شيء من ذلك حمل على نصف نفسه لا غير.

مسألة ٨٥ : يجوز للأب والجد للأب وإن علا التصرف في مال الصغير بالبيع والشراء والإجارة وغيرها ، وكل منهما مستقل في الولاية فلا يعتبر الإذن من الآخر ، كما لا تعتبر العدالة في ولايتهما ، ولا أن تكون مصلحة في تصرفهما ، بل يكفي عدم المفسدة فيه نعم إذا دار الأمر بين الصالح والأصلح لزم اختيار الثاني إذا عد اختيار الأول ـ في النظر العقلائي ـ تفريطا من الولي في مصلحة الصغير ، كما لو اضطر إلى بيع مال الصغير ، وأمكن بيعه بأكثر من قيمة المثل ، فلا يجوز له البيع بقيمة المثل ، وكذا لو دار الأمر بين بيعه بزيادة درهم عن قيمة المثل ، وزيادة درهمين ، لاختلاف الأماكن أو الدلالين ، أونحو ذلك لم يجز البيع بالأقل ، وإن كانت فيه مصلحة إذا عد ذلك تساهلا عرفا في مال الصغير ، والمدار في كون التصرف مشتملا على المصلحة أو عدم المفسدة على كونه كذلك في نظر العقلاء ، لا بالنظر إلى علم الغيب فلو تصرف الولي باعتقاد المصلحة فتبين أنه ليس كذلك في نظر العقلاء بطل التصرف ، ولو تبين أنه ليس كذلك بالنظر إلى علم الغيب صح ، إذا كانت فيه مصلحة بنظر العقلاء.

مسألة ٨٦ : يجوز للأب والجد التصرف في نفس الصغير بإجارته لعمل ما أو جعله عاملا في المعامل ، وكذلك في سائر شؤونه مثل تزويجه نعم

٣٣

ليس لهما طلاق زوجته ، وهل لهما فسخ نكاحه عند حصول المسوغ للفسخ ، وهبة المدة في عقد المتعة وجهان ، والثبوت أقرب. ويشترط في نفوذ تصرفهما في نفس الصغير خلوه عن المفسدة وتقديم الأصلح عند دوران الأمر بينه وبين الصالح على نحو ما تقدم في تصرفهما في ماله.

مسألة ٨٧ : إذا أوصى الأب أو الجد إلى شخص بالولاية بعد موته على القاصرين نفذت الوصية ، وصار الموصى إليه وليا عليهم بمنزلة الموصي تنفذ تصرفاته مع الغبطة والمصلحة في جميع ما يتعلق بهم مما كان للموصي الولاية فيه ـ على كلام في تزويجهم يأتي في محله ـ إلا أن يعين تولي جهة خاصة وتصرفا مخصوصا فيقتصر عليه ، ويشترط في الوصي الرشد والوثاقة ، ولا تشترط فيه العدالة على الأقوى. كما يشترط في صحة الوصية فقد الآخر ، فلا تصح وصية الأب بالولاية على الطفل مع وجود الجد ، ولا وصية الجد بالولاية على حفيده مع وجود الأب ، ولو أوصى أحدهما بالولاية على الطفل ، بعد فقد الآخر لا في حال وجوده ، ففي صحتها إشكال.

مسألة ٨٨ : ليس لغير الأب والجد للأب والوصي لأحدهما ولاية على الصغير ، ولو كان عماً أوأما أو جداً للأم أو أخاً كبيراً ، فلو تصرف أحد هؤلاء في مال الصغير ، أو في نفسه ، أو سائر شؤونه لم يصح ، وتوقف على إجازة الولي.

مسألة ٨٩ : إذا فقد الأب والجد والوصي لأحدهما يكون للحاكم الشرعي ـ وهو المجتهد العادل ـ ولاية التصرف في أموال الصغار مشروطا بالغبطة والصلاح ، بل الأحوط له الاقتصار على ما إذا كان في تركه الضرر والفساد ، كما لو خيف على ماله التلف مثلا فيبيعه لئلا يتلف ، ومع فقد الحاكم أو تعذر الرجوع إليه فالولاية لعدول المؤمنين مشروطاً بما تقدم ، ولو تعذر وجود العادل لم يبعد ثبوت الولاية لسائر المؤمنين. ولو اتفق احتياج

٣٤

المكلف إلى دخول دار الأيتام والجلوس على فراشهم ، والأكل من طعامهم ، وتعذر الاستئذان من وليهم لم يبعد جواز ذلك ، إذا عوضهم عن ذلك بالقيمة ، ولم يكن فيه ضرر عليهم وإن كان الأحوط استحباباً تركه ، وأذا كان التصرف مصلحة لهم جاز من دون حاجة إلى عوض. والله سبحانه العالم.

٣٥

الفصل الثالث

شروط العوضين

يشترط في المبيع أن يكون عينا ، سواء أكان موجودا في الخارج أم في الذمة ، وسواء أكانت الذمة ذمة البائع أم غيره ، كما إذا كان له مال في ذمة غيره فباعه لشخص ثالث ، فلا يجوز بيع المنفعة ، كمنفعة الدار ، ولا بيع العمل كخياطة الثوب ولا بيع الحق كحق التحجير ـ على إشكال فيه أحوطه ذلك ـ ، وأما الثمن فيجوز أن يكون عينا أو منفعة أو عملا أو حقا كما سيأتي.

مسألة ٩٠ : المشهور على اعتبار أن يكون المبيع والثمن مالا يتنافس فيه العقلاء ، فكل ما لا يكون مالا كبعض الحشرات لا يجوز بيعه ، ولا جعله ثمنا ، ولكن هذا لا يخلو عن إشكال وإن كان هو الأحوط.

مسألة ٩١ : إذا كان الحق قابلا للنقل والانتقال كحق التحجير جاز جعله ثمنا على الأظهر ، كما يجوز جعل متعلقه بما هو كذلك ثمنا ، ويجوز جعل شيء بإزاء رفع اليد عن الحق ، حتى فيما إذا لم يكن قابلا للنقل والانتقال ، وكان قابلا للإسقاط ، كما يجوز جعل الإسقاط ثمنا ، بأن يملك البائع عليه فعل الإسقاط فيجب عليه الإسقاط بعد البيع.

مسألة ٩٢ : يشترط في كل من العوضين أن يكون معلوما مقداره المتعارف تقديره به عند البيع من كيل أو وزن أو عد أو مساحة ، فلا تكفي المشاهدة في مثله ، ولا تقديره بغير المتعارف فيه عند البيع كبيع المكيل بالوزن أو بالعكس وكبيع المعدود بالوزن أو بالكيل أو بالعكس ، نعم لا بأس بجعل الكيل وسيلة لاستعلام الوزن أو العدد ونحو ذلك ، كأن يجعل كيل

٣٦

يحوي كيلو غراما من السكر مثلا فيباع السكر به ، وأذا كان الشيء مما يباع في حال بالمشاهدة ، وفي حال أخرى بالوزن أو الكيل ، كالثمر يباع على الشجر بالمشاهدة وفي المخازن بالوزن ، والحطب محمولا على الدابة بالمشاهدة وفي المخزن بالوزن ، واللبن المخيض يباع في السقاء بالمشاهدة وفي المخازن بالكيل فصحة بيعه مقدراً أو مشاهداً تابعة للمتعارف.

مسألة ٩٣ : يكفي في معرفة التقدير إخبار البائع بالقدر ، كيلاً أو وزناً ، أو عداً ، ولا فرق بين عدالة البائع وفسقه ، والأحوط وجوباً اعتبار حصول اطمئنان المشتري بإخباره ، ولو تبين الخلاف بالنقيصة كان المشتري بالخيار في الفسخ والإمضاء ، فإن فسخ يرد تمام الثمن وإن أمضاه ينقص من الثمن بحسابه ، وإن تبين الزيادة كانت الزيادة للبائع وكان المشتري بالخيار بين الفسخ والإمضاء بتمام الثمن.

مسألة ٩٤ : لابد في مثل القماش والأرض ونحوهما ـ مما يكون تقديره بالمساحة دخيلاً في زيادة القيمة ـ معرفة مقداره ، ولا يكتفى في بيعه بالمشاهدة إلا إذا تعارف بيعه بها كما في بيع بعض الدور والفرش ونحوهما.

مسألة ٩٥ : إذا اختلفت البلدان في تقدير شيء ، بأن كان موزوناً في بلد ، ومعدوداً في آخر ، ومكيلاً في ثالث ، فالظاهر أن المدار في التقدير بلد المعاملة.

مسألة ٩٦ : قد يؤخذ الوزن شرطاً في المكيل أو المعدود ، أو الكيل شرطاً في الموزون ، مثل أن يبيعه عشرة أمنان من الدبس ، بشرط أن يكون كيلها صاعاً ، فيتبين أن كيلها أكثر من ذلك لرقة الدبس ، أو يبيعه عشرة أذرع من قماش ، بشرط أن يكون وزنها ألف مثقال ، فيتبين أن وزنها تسعمائة ، لعدم إحكام النسج ، أو يبيعه عشرة أذرع من الكتان ، بشرط أن يكون وزنه مائة مثقال ، فيتبين أن وزنه مائتا مثقال لغلظة خيوطه ونحو ذلك مما كان

٣٧

التقدير فيه ملحوظاً صفة كمال للمبيع لا مقوماً له ، والحكم أنه مع التخلف بالزيادة أو النقيصة يكون الخيار للمشتري ، لتخلف الوصف ، فإن أمضى العقد كان عليه تمام الثمن ، والزيادة إن كانت فهي له.

مسألة ٩٧ : يشترط معرفة جنس العوضين وصفاتهما التي تختلف القيمة باختلافها ، كالألوان والطعوم والجودة والرداءة والرقة والغلظة والثقل والخفة ونحو ذلك ، مما يوجب اختلاف القيمة ، أما ما لا يوجب اختلاف القيمة منها فلا تجب معرفته ، وإن كان مرغوباً عند قوم ، وغير مرغوب عند آخرين ، والمعرفة أما بالمشاهدة ، أو بتوصيف البائع ، أو بالرؤية السابقة.

مسألة ٩٨ : يشترط أن يكون كل واحد من العوضين ملكاً ، مثل أكثر البيوع الواقعة بين الناس ، أو ما هو بمنزلته ، كبيع الكلي في الذمة فلا يجوز بيع ما ليس كذلك ، مثل بيع السمك في الماء والطير في الهواء ، وشجر البيداء قبل أن يصطاد أو يحاز ، ولا فرق في ما يكون ملكا بين أن يكون ملكا لشخص أو لجهة فيصح بيع ولي الزكاة بعض أعيان الزكاة وشراؤه العلف لها.

مسألة ٩٩ : يشترط أن يكون كل من العوضين طلقاً ، بأن لا يتعلق به لأحد حق يقتضي بقاء متعلقه في ملكية مالكه ، والضابط فوت الحق بانتقاله إلى غيره ، ومن هذا القبيل حق الرهانة على الأظهر ، فلا يجوز بيع العين المرهونة إلا إذا أذن المرتهن أو أجاز أو فك الرهن فإنه يصح بيعها حينئذ.

مسألة ١٠٠ : لا يجوز بيع الوقف إلا في موارد :

منها : أن يخرب بحيث لا يمكن الانتفاع به في جهة الوقف مع بقاء عينه ، كالحيوان المذبوح ، والجذع البالي ، والحصير المخرق.

ومنها : أن يخرب على نحو يسقط عن الانتفاع المعتد به ، مع كونه ذا منفعة يسيرة ملحقة بالمعدوم عرفا.

ومنها : ما إذا اشترط الواقف بيعه عند حدوث أمر ، من قلة المنفعة أو

٣٨

كثرة الخراج ، أو كون بيعه أنفع ، أو وقوع خلاف بين الموقوف عليهم أو احتياجهم إلى عوضه ، أونحو ذلك.

ومنها : ما إذا طرأ ما يستوجب أن يؤدي بقاؤه إلى الخراب المسقط له عن المنفعة المعتد بها عرفا ، واللازم حينئذ تأخير البيع إلى آخر أزمنة إمكان البقاء.

مسألة ١٠١ : إذا وقع الاختلاف الشديد بين الموقوف عليهم بحيث لا يؤمن من تلف النفوس والأموال ففي صحة بيع الوقف حينئذ إشكال فلا يترك مراعاة مقتضى الاحتياط فيه.

مسألة ١٠٢ : ما ذكرناه من جواز البيع في الصور المذكورة لا يجري في المساجد ، فإنها لا يجوز بيعها على كل حال. نعم يجري في مثل الخانات الموقوفة للمسافرين ، وكتب العلم والمدارس والرباطات الموقوفة على الجهات الخاصة.

مسألة ١٠٣ : إذا جاز بيع الوقف فإن كان له متول خاص قد عهد إليه الواقف بجميع شؤونه فله بيعه من دون حاجة إلى إجازة غيره ، والا فاللازم ـ مطلقا على الأحوط ـ مراجعة الحاكم الشرعي والاستئذان منه في البيع.

وإذا بيع الوقف لطرو الخراب عليه أو ترقب طروه فالأحوط لزوماً أن يشتري بثمنه ملك ويوقف على نهج وقف الأول ـ بل الأحوط أن يكون الوقف الجديد معنوناً بعنوان الوقف الأول مع الإمكان والا فيما هو أقرب إليه فالأقرب ـ نعم لو خرب بعض الوقف جاز بيع ذلك البعض وصرف ثمنه في مصلحة المقدار العامر إن أمكن والا ففي وقف آخر إذا كان موقوفاً على نهج وقف الخراب ، وأذا خرب الوقف ولم يمكن الانتفاع به في الجهة الموقوف عليها وأمكن بيع بعضه وتعمير الباقي بثمنه فالأحوط الاقتصار على بيع بعضه فيعمر الباقي بثمنه.

٣٩

مسألة ١٠٤ : لا يجوز بيع رقبة الأرض الخراجية. وهي : الأرض المفتوحة عنوة العامرة ـ لا بالأصالة ـ حين الفتح ، فإنها ملك للمسلمين من وجد ومن يوجد ٠ ولا فرق بين أن تكون فيها آثار مملوكة للبائع من بناء أو شجر أو غيرهما ، وإن لا تكون. بل الظاهر عدم جواز التصرف فيها إلا بإذن الحاكم الشرعي ، ولو ماتت فلا يبعد بقاؤها على ملك المسلمين وعدم تملكها بالإحياء ، وأما الأرض العامرة بالأصالة حين الفتح فهي ملك للإمامعليه‌السلام ، وأذا حازها أحد كان أولى بها من غيره ما لم يمنع عنه مانع شرعي وأذا كان مؤمنا لم يجب عليه دفع عوض إزاء ذلك ، وكذا الأرض الميتة في زمان الفتح فإنها ملك للإمامعليه‌السلام ، وأذا أحياها أحد كان أحق بها من غيره ـ لولا طرو عنوان ثانوي يقتضي خلافه ـ مسلماً كان المحيي أو كافراً ، وليس عليه دفع الخراج وأجرة الأرض إذا كان مؤمناً ، وأذا تركها لمنع ظالم ونحوه حتى ماتت فهو على أحقيته بها ، ولكنه إذا ترك زرعها وأهملها ولم ينتفع بها بوجه ، جاز لغيره زرعها ، فيكون أحق بها منه وإن كان الأحوط استحباباً عدم زرعها بلا إذن من الأول إذا عرفه أو تمكن من معرفته ، إلا إذا علم أنه قد أعرض عنها ، وأذا أحياها السلطان المدعي للخلافة على أن تكون للمسلمين لحقها حكم الأرض الخراجية.

مسألة ١٠٥ : في تعيين أرض الخراج إشكال ، وقد ذكر العلماء والمؤرخون مواضع كثيرة منها. وأذا شك في أرض أنها كانت ميتة أو عامرة ـ حين الفتح ـ تحمل على أنها كانت ميتة ، فيجوز إحياؤها وحيازتها إن كانت حية ، كما يجوز بيعها من حيث كونها متعلقة لحقه وكذا نحوه من التصرفات.

مسألة ١٠٦ : يشترط في كل من العوضين أن يكون مقدوراً على تسليمه فلا يصح بيع الجمل الشارد ، أو الخاتم الواقع في البحر مثلاً ولا فرق بين العلم بالحال والجهل بها ، نعم لو كان من انتقل إليه قادراً على تسلمه

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491