منهاج الصالحين ـ المعاملات الجزء ٣

منهاج الصالحين ـ المعاملات21%

منهاج الصالحين ـ المعاملات مؤلف:
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 374

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 374 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77166 / تحميل: 5815
الحجم الحجم الحجم
منهاج الصالحين ـ المعاملات

منهاج الصالحين ـ المعاملات الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني
العربية

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد

وآله الطيبين الطاهرين الغر الميامين.

٣

٤

كِتابُ النِكاح

٥

٦

وفيه فصول :

الفصل الاول

في استحبابه وآدابه واحكام النظر واللمس والتستر وما يلحق بها

النكاح من المستحبات المؤكدة ، وقد وردت في الحثّ عليه وذمّ تركه أخبار كثيرة ، فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : « من تزوج احرز نصف دينه » ، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : « ما استفاد امرؤٌ مسلم فائدة بعد الاسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر اليها ، وتطيعه إذا أمرها ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله » ، وعن الصادقعليه‌السلام انه قال : « ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب » ، الى غير ذلك من الاخبار.

مسألة ١ : ينبغي ان يهتم الرجل بصفات من يريد التزوّج بها ، فلا يتزوج إلاّ امرأة عفيفة كريمة الاَصل صالحة تعينه على اُمور الدنيا والآخرة ، فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : « إختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين » ، وعن الصادقعليه‌السلام لبعض أصحابه حين قال : قد هممت ان أتزوج : « انظر اين تضع نفسك ومن تشركه في مالك وتطلعه على دينك وسرك ، فان كنت لابد فاعلاً فبِكراً تنسب الى الخير والى حسن الخلق » ، وعنهعليه‌السلام : « إنما المرأة قلادة ، فانظر ما تتقلد ، وليس للمرأة خطر لا لصالحتهن ولا لطالحتهن ، فأما صالحتهن فليس خطرها الذهب والفضة ، هي

٧

خير من الذهب والفضة ، وأما طالحتهن فليس خطرها التراب ، التراب خير منها :

ولا ينبغي ان يقصر الرجل نظره على جمال المرأة وثروتها ، فعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : « من تزوج امرأة لا يتزوجها إلاّ لجمالها لم يرَ فيها ما يجب ، ومن تزوجها لمالها لا يتزوجها إلاّ له وكله الله اليه ، فعليكم بذات الدين » ، وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ايضاً انه قال : « أيها الناس إياكم وخضراء الدمن » قيل : يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال : « المرأة الحسناء في منبت السوء ».

مسألة ٢ : كما ينبغي للرجل ان يهتم بصفات من يختارها للزواج كذلك ينبغي للمرأة واوليائها الاهتمام بصفات من تختاره لذلك ، فلا تتزوج إلاّ رجلاً ديّناً عفيفاً حسن الاخلاق ، فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « النكاح رقّ فاذا انكح احدكم وليدة فقد أرقها ، فلينظر احدكم لمن يرقّ كريمته » ، وعن الصادقعليه‌السلام : « من زوّج كريمته من شارب الخمر فقد قطع رحمها » ، وعن الرضاعليه‌السلام في جواب من كتب اليه : ان لي قرابة قد خطب اليّ وفي خلقه سوء : « لا تزوجه إن كان سيّء الخلق ».

مسألة ٣ : يستحب عند ارادة التزويج صلاة ركعتين والدعاء بالمأثور وهو : ( اللهم اني اريد ان اتزوج فقدّر لي من النساء اعفهن فرجاً ، واحفظهن لي في نفسها وفي مالي ، واوسعهن رزقاً ، واعظمهن بركة ) ويستحب الاشهاد على العقد والاعلان به والخطبة امامه ، واكملها ما اشتمل على التحميد والصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة المعصومينعليهم‌السلام والشهادتين والوصية بالتقوى والدعاء للزوجين ، ويجزي : الحمد لله والصلاة على محمد وآله.

٨

ويكره ايقاع العقد والقمر في برج العقرب ، وايقاعه في محاق الشهر.

مسألة ٤ : يستحب ان يكون الزفاف ليلاً والوليمة قبله أو بعده ، وصلاة ركعتين عند الدخول ، وان يكونا على طهر ، والدعاء بالمأثور بعد ان يضع يده على ناصيتها وهو : « اللهم على كتابك تزوجتها ، وفي أمانتك أخذتها ، وبكلماتك استحللت فرجها فإن قضيت لي في رحمها شيئاً فاجعله مسلماً سوياً ولا تجعله شرك الشيطان » وأمرُها بمثله ، ويسأل الله تعالى الولد الذكر.

مسألة ٥ : تستحب التسمية عند الجماع ، وان يكون على وضوء سيما إذا كانت المرأة حاملاً ، وان يسأل الله تعالى ان يرزقه ولداً تقياً مباركاً زكياً ذكراً سوياً.

ويكره الجماع في ليلة الخسوف ، ويوم الكسوف ، وعند الزوال إلاّ يوم الخميس ، وعند الغروب قبل ذهاب الشفق ، وفي المحاق ، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس ، وفي أول ليلة من الشهر إلاّ شهر رمضان ، وفي ليلة النصف من الشهر وآخره ، وعند الزلزلة والريح الصفراء والسوداء.

ويكره مستقبل القبلة ومستدبرها ، وفي السفينة ، وعارياً ، وعقيب الاحتلام قبل الغسل ، ولا يكره معاودة الجماع بغير غسل.

ويكره النظر الى فرج الزوجة ، والكلام بغير ذكر الله وان يجامع وعنده من ينظر اليه ـ حتى الصبي والصبية ـ ما لم يستلزم محرماً والا فلا يجوز.

مسألة ٦ : ينبغي ان لا يردّ الخاطب إذا كان ممن يرضى خلقه ودينه ، فعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلاّّ تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير ».

٩

مسألة ٧ : يُستحب السعي في التزويج والشفاعة فيه وإرضاء الطرفين.

مسألة ٨ : لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين ، دواماً كان النكاح أو منقطعاً ، واما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والتقبيل والضم والتفخيذ فلا بأس بها ، ولو وطئها قبل اكمال التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الاثم على الاقوى ، ـ والافضاء هو التمزق الموجب لاتحاد مسلكي البول والحيض أو مسلكي الحيض والغائط أو اتحاد الجميع ـ ولو افضاها لم تخرج عن زوجيته ، فتجري عليها احكامها من التوارث وحرمة الخامسة وحرمة اختها معها وغيرها ، ولكن قيل : يحرم عليه وطؤها ابداً. إلاّ أن الاقوى خلافه ، ولا سيما إذا اندمل الجرح ـ بعلاج أو بغيره ـ نعم تجب عليه دية الافضاء ، وهي دية النفس ان طلقها ، بل وإن لم يطلقها على المشهور ، ولا يخلو عن وجه ، وتجب عليه نفقتها ما دامت مفضاة وإن نشزت أو طلقها ، بل وإن تزوجت بعد الطلاق على الاحوط.

ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع فأفضاها لم تحرم عليه ولم تثبت الدية ، ولكن الاحوط وجوب الاِنفاق عليها كما لو كان الافضاء قبل إكمال التسع ، ولو افضى غير الزوجة بزناء أو غيره تثبت الدية ، ولكن لا إشكال في عدم ثبوت الحرمة الاَبدية وعدم وجوب الانفاق عليها.

مسألة ٩ : لا يجوز ترك وطء الزوجة الشابة أكثر من أربعة أشهر إلاّ لعذر كالحرج أو الضرر ، أو مع رضاها ، أو اشتراط تركه عليها حين العقد ، والاحوط عدم اختصاص الحكم بالدائمة فيعم المنقطعة ايضاً ، كما ان الاحوط عدم اختصاصه بالحاضر فيعم المسافر ، فلا يجوز إطالة السفر من دون عذر شرعي إذا كان يفوّت على الزوجة حقّها ، ولاسيما إذا لم يكن

١٠

لضرورة عرفية كما إذا كان لمجرد التنزّه والتفرّج.

مسألة ١٠ : يجوز العزل ـ بمعنى افراغ المني خارج القبل حين الجماع ـ عن الزوجة المنقطعة وكذا الدائمة على الاقوى ، نعم الظاهر كراهته(١) الا مع رضاها أو اشتراطه عليها حين العقد ، واما منع المرأة زوجها من الانزال في قبلها فالاظهر حرمته إلاّ برضاه أو اشتراطه عليه حين التزويج ، ولكن لا تثبت عليها دية النطفة على الاقوى.

مسألة ١١ : يجوز لكل من الزوج والزوجة النظر الى جسد الآخر ظاهره وباطنه حتى العورة وكذا لمس كل منهما بكل عضو منه كل عضو من الآخر مع التلذذ وبدونه.

مسألة ١٢ : يجوز للرجل النظر الى ما عدا العورة من مماثله ، شيخاً كان المنظور اليه أو شاباً ، حسن الصورة أو قبيحها ما لم يكن بتلذذ شهوي أو مع الريبة ، أي خوف الافتتان والوقوع في الحرام ، وهكذا الحال في نظر المرأة الى ما عدا العورة من مماثلها ، وأما العورة ـ وهي القبل والدبر والبيضتان ، كما مر في احكام التخلي ـ فلا يجوز النظر اليها حتى بالنسبة الى المماثل ، نعم حرمة النظر الى عورة الكافر والصبي المميز تبتني على الاحتياط اللزومي.

مسألة ١٣ : يجوز للرجل ان ينظر الى جسد محارمه ـ ما عدا العورة ـ

__________________

(١) هذا حكم الحرة واما الامة فيجوز العزل عنها مطلقاً من غير كراهة ، وليعلم ان الموضوع للاحكام المذكورة في هذا الكتاب هو الحر والحرة ، واما العبد والامة فيختلفان عنهما في بعض الاحكام ، وقد اهملنا - في الغالب - التعرض لاحكامهما لعدم الابتلاء بها في هذا العصر.

١١

من دون تلذذ شهوي ولا ريبة ، وكذا يجوز لهن النظر الى ما عدا العورة من جسده بلا تلذذ شهوي ولا ريبة ، والمراد بالمحارم من يحرم عليه نكاحهن أبداً من جهة النسب أو الرضاع أو المصاهرة دون غيرها كالزناء واللواط واللعان.

مسألة ١٤ : لا يجوز للرجل ان ينظر الى ما عدا الوجه والكفين من جسد المرأة الاجنبية وشعرها ، سواء أكان بتلذذ شهوي أو مع الريبة أم لا ، وكذا الى الوجه والكفين منها إذا كان النظر بتلذذ شهوي أو مع الريبة ، واما بدونهما فلا يبعد جواز النظر ، وان كان الاحوط تركه ايضاً.

مسألة ١٥ : يحرم على المرأة النظر الى بدن الرجل الاجنبي بتلذذ شهوي أو مع الريبة ، بل الاحوط لزوماً ان لا تنظر الى غير ما جرت السيرة على عدم الالتزام بستره كالرأس واليدين والقدمين ونحوها وان كان بلا تلذذ شهوي ولا ريبة ، واما نظرها الى هذه المواضع من بدنه من دون ريبة ولا تلذذ شهوي فالظاهر جوازه ، وان كان الاحوط تركه أيضاً.

مسألة ١٦ : لا يجوز لمس بدن الغير وشعره ـ عدا الزوج والزوجة ـ بتلذذ شهوي أو مع الريبة ، واما اللمس من دونهما فيجوز بالنسبة الى شعر المحرم والمماثل وما يجوز النظر اليه من بدنهما ، واما بدن الاجنبي والاجنبية وشعرهما فلا يجوز لمسهما مطلقاً حتى المواضع التي يجوز النظر اليها ـ مما تقدم بيانها آنفاً ـ فتحرم المصافحة بين الاجنبي والاجنبية إلاّ من وراء الثوب ونحوه.

مسألة ١٧ : يحرم النظر الى العضو المبان من الاجنبي والاجنبية ـ مما حرم النظر اليه قبل الابانة ـ إذا صدق معه النظر الى صاحب العضو عرفاً ،

١٢

واما مع عدمه فالاظهر هو الجواز فيما عدا العورة ، وان كان الترك في غير السن والظفر أحوط.

مسألة ١٨ : يجب على المرأة ان تستر شعرها وما عدا الوجه والكفين من بدنها عن غير الزوج والمحارم ، واما الوجه والكفان فالاظهر جواز ابدائهما إلاّ مع خوف الوقوع في الحرام أو كونه بداعي ايقاع الرجل في النظر المحرّم فيحرم الابداء حينئذٍ حتى بالنسبة الى المحارم.

هذا في غير المرأة المسنّة التي لا ترجو النكاح ، واما هي فيجوز لها ابداء شعرها وذراعها ونحوهما مما لا يستره الخمار والجلباب عادة ولكن من دون ان تتبرج بزينة.

مسألة ١٩ : لا يجب على الرجل التستر من الاجنبية وان كان لا يجوز لها ـ على الاحوط ـ النظر الى غير ما جرت السيرة على عدم الالتزام بستره من بدنه كما تقدم.

مسألة ٢٠ : يستثنى من حرمة النظر واللمس ووجوب التستر في الموارد المتقدمة صورة الاضطرار ، كما إذا توقف استنقاذ الاجنبية من الغرق أو الحرق أو نحوهما على النظر أو اللمس المحرّم فيجوز حينئذٍ ، ولكن إذا اقتضى الاضطرار النظر دون اللمس أو العكس اقتصر على ما اضطر اليه وبمقداره لا ازيد.

مسألة ٢١ : إذا اضطرت المرأة ـ مثلاً ـ الى العلاج من مرض وكان الرجل الاجنبي أرفق بعلاجها جاز له النظر الى بدنها ولمسه بيده إذا توقف عليهما معالجتها ، ومع امكان الاكتفاء باحدهما ـ أي اللمس أو النظر ـ لا يجوز الآخر كما تقدم.

١٣

مسألة ٢٢ : إذا اضطر الطبيب أو الطبيبة في معالجة المريض ـ غير الزوج والزوجة ـ الى النظر الى عورته فالاحوط ان لا ينظر اليها مباشرة بل في المرآة وشبهها ، إلاّ إذا اقتضى ذلك النظر فترة اطول أو لم تتيسر المعالجة بغير النظر مباشرة.

مسألة ٢٣ : يجوز اللمس والنظر من الرجل للصبية غير البالغة ـ ما عدا عورتها كما عرف مما مر ـ مع عدم التلذذ الشهوي والريبة ، نعم الاحوط الاولى الاقتصار على المواضع التي لم تجر العادة بسترها بالملابس المتعارفة دون مثل الصدر والبطن والفخذ والاليين ، كما ان الاحوط الاولى عدم تقبيلها وعدم وضعها في الحجر إذا بلغت ست سنين.

مسألة ٢٤ : يجوز النظر واللمس من المرأة للصبي غير البالغ ـ ما عدا عورته كما عرف مما مر ـ مع عدم التلذذ الشهوي ، ولا يجب عليها التستر عنه ما لم يبلغ مبلغاً يمكن ان يترتب على نظره اليها ثوران الشهوة ، وإلا وجب التستر عنه على الاحوط.

مسألة ٢٥ : الصبي والصبية غير المميزين خارجان عن احكام التستر وكذا النظر واللمس من غير تلذذ شهوي وريبة ، كما ان المجنون غير المميز خارج عن احكام التستر ايضاً.

مسألة ٢٦ : يجوز النظر الى النساء المبتذلات ـ اللاتي لا ينتهين إذا نهين عن التكشف ـ بشرط عدم التلذذ الشهوي ولا الريبة ، ولا فرق في ذلك بين نساء الكفار وغيرهن ، كما لا فرق فيه بين الوجه والكفين وبين سائر ما جرت عادتهن على عدم ستره من بقية اعضاء البدن.

مسألة ٢٧ : الاحوط وجوباً ترك النظر الى صورة المرأة الاجنبية غير

١٤

المبتذلة إذا كان الناظر يعرفها ، ويستثنى من ذلك الوجه والكفان فيجوز النظر اليهما في الصورة بلا تلذذ شهوي ولا ريبة كما يجوز النظر اليهما مباشرة كذلك.

مسألة ٢٨ : يجوز لمن يريد ان يتزوج امرأة ان ينظر الى محاسنها كوجهها وشعرها ورقبتها وكفيها ومعاصمها وساقيها ونحو ذلك ، ولا يشترط ان يكون ذلك باذنها ورضاها.

نعم يشترط : ان لا يكون بقصد التلذذ الشهوي وان علم انه يحصل بالنظر اليها قهراً. وان لا يخاف الوقوع في الحرام بسببه. كما يشترط ان لا يكون هناك مانع من التزويج بها فعلاً مثل ذات العدة واخت الزوجة. ويشترط ايضاً ان لا يكون مسبوقاً بحالها ، وان يحتمل اختيارها وإلاّ فلا يجوز ، والاحوط وجوباً الاقتصار على ما إذا كان قاصداً التزويج بها بالخصوص فلا يعم الحكم ما إذا كان قاصداً لمطلق التزويج وكان بصدد تعيين الزوجة بهذا الاختبار ، ويجوز تكرر النظر إذا لم يحصل الاطلاع عليها بالنظرة الاولى.

مسألة ٢٩ : يجوز سماع صوت الاجنبية مع عدم التلذذ الشهوي ولا الريبة ، كما يجوز لها اسماع صوتها للاجانب إلاّ مع خوف الوقوع في الحرام ، نعم لا يجوز لها ترقيق الصوت وتحسينه على نحو يكون عادة مهيجاً للسامع وان كان مَحْرماً لها.

١٥

الفصل الثاني

في عقد النكاح واحكامه

عقد النكاح على قسمين دائم ومنقطع ، والعقد الدائم هو : ( عقد لا تُعيّن فيه مدة الزواج ) وتسمى الزوجة فيه بـ ( الدائمة ). والعقد غير الدائم هو : ( عقد تعيّن فيه المدة ) كساعة أو يوم أو سنة أو أكثر أو أقل وتسمى الزوجة فيه بـ ( المتعة ) و ( المتمتع بها ) و ( المنقطعة ).

مسألة ٣٠ : يشترط في النكاح ـ دواماً ومتعة ـ الايجاب والقبول اللفظيان ، فلا يكفي مجرد التراضي القلبي ولا الكتابة ولا الاِشارة المفهمة من غير الاخرس ، والاحوط لزوماً كونهما بالعربية مع التمكن منها ، ويكفي غيرها من اللغات المفهمة لمعنى النكاح والتزويج لغير المتمكن منها وان تمكن من التوكيل.

مسألة ٣١ : الاحوط تقديم الايجاب على القبول ، وان كان الاظهر جواز عكسه ايضاً إذا لم يكن القبول بلفظ ( قبلت ) أو نحوه مجرداً عن ذكر المتعلق ، فيصح ان يقول الرجل : ( اتزوجُكِ على الصداق المعلوم ) فتقول المرأة : ( نعم ) ، أو يقول الرجل : ( قبلت التزويج بكِ على الصداق المعلوم ) فتقول المرأة : ( زوجتُكَ نفسي ).

والاحوط ايضاً ان يكون الايجاب من جانب المرأة والقبول من جانب الرجل ، وان كان الاقوى جواز العكس ، فيصح ان يقول الرجل : ( زوجتُكِ نفسي على الصداق المعلوم ) فتقول المرأة : ( قبلت ).

مسألة ٣٢ : الاحوط ان يكون الايجاب في النكاح الدائم بلفظ النكاح

١٦

أو التزويج ، وان كان لا يبعد جواز انشائه بلفظ المتعة ايضاً إذا اقترن بما يدل على إرادة الدوام ، كما ان الاحوط ان يكون الايجاب والقبول بصيغة الماضي ، وان كان الاظهر عدم اعتبارها.

مسألة ٣٣ : يجوز الاقتصار في القبول على لفظ ( قبلت ) أو ( رضيت ) بعد الايجاب من دون ذكر المتعلقات التي ذكرت فيه ، فلو قال الموجب ـ الوكيل عن الزوجة ـ للزوج : ( انكحتُكَ موكلتي فلانة على المهر المعلوم ) فقال الزوج : ( قبلت ) من دون ان يقول : ( قبلتُ النكاح لنفسي على المهر المعلوم ) صحّ.

مسألة ٣٤ : إذا باشر الزوجان العقد الدائم وبعد تعيين المهر قالت المرأة مخاطبة للرجل : ( انكحتُكَ نفسي ، أو انكحتُ نفسي منك ، أو لك ، على الصداق المعلوم ) فقال الرجل : ( قبلتُ النكاح ) صح العقد ، وكذا إذا قالت المرأة : ( زوجتُكَ نفسي ، أو زوجتُ نفسي منكَ ، أو بكَ ، على الصداق المعلوم ) فقال الرجل : ( قبلتُ التزويج ).

ولو وكّلا غيرهما وكان إسم الرجل أحمد وإسم المرأة فاطمة مثلاً فقال وكيل المرأة : ( انكحتُ موكِّلَكَ أحمد موكِّلَتي فاطمة ، أو انكحتُ موكِّلَتي فاطمة موكِّلَكَ ، أو من موكِّلِكَ ، أو لموكِّلِكَ أحمد ، على الصداق المعلوم ) فقال وكيل الزوج : ( قبلتُ النكاح لموكِّلِي أحمد على الصداق المعلوم ) صح العقد ، وكذا لو قال وكيلها : ( زوجتُ موكِّلَكَ أحمد موكِّلَتي فاطمة ، أو زوجتُ موكِّلَتي فاطمة موكِّلَكَ ، أو من موكِّلِكَ ، أو بموكِّلِكَ أحمد ، على الصداق المعلوم ) فقال وكيله : ( قبلتُ التزويج لموكِّلِي أحمد على الصداق المعلوم ).

١٧

ولو كان المباشر للعقد وليّهما فقال وليّ المرأة : ( انكحتُ ابنَكَ أو حفيدَكَ أحمد ابنتي أو حفيدتي فاطمة ، أو انكحتُ ابنتي أو حفيدتي فاطمة ابنَكَ أو حفيدَكَ ، أو من ابنِكَ أو حفيدِكَ ، أو لابنِكَ أو حفيدِكَ أحمد ) أو قال وليّ المرأة : ( زوجتُ ابنَكَ أو حفيدَكَ أحمد ابنتي أو حفيدتي فاطمة ، أو زوجتُ ابنتي أو حفيدَتي فاطمة ابنَكَ أو حفيدَكَ ، أو من ابنِكَ أو حفيدِكَ أو بابنِكَ أو حفيدِكَ أحمد على الصداق المعلوم ) فقال ولّي الزوج : ( قبلت النكاحَ أو التزويجَ لابني أو لحفيدي أحمد على الصداق المعلوم ) صحّ العقد ، وتعرف كيفية ايقاع العقد لو كان المباشر له في أحد الطرفين اصيلاً وفي الطرف الآخر وكيلاً أو ولياً ، أو في أحد الطرفين ولياً وفي الآخر وكيلاً مما تقدم فلا حاجة الى التفصيل.

مسألة ٣٥ : لا يشترط في لفظ القبول مطابقته لعبارة الايجاب ، بل يصح الايجاب بلفظ والقبول بلفظ آخر ، فلو قال : ( زوجتُكَ ) فقال : ( قبلت النكاح ) أو قال : ( انكحتُكَ ) فقال : ( قبلت التزويج ) ، صحّ وان كان الاحوط المطابقة.

مسألة ٣٦ : إذا لحن في الصيغة بحيث لم تكن معه ظاهرة في المعنى المقصود لم يكف وإلاّ كفى وان كان اللحن في المادة ، فيكفي ( جوزتك ) في اللغة الدارجة بدل ( زوجتك ) إذا كان المباشر للعقد من أهل تلك اللغة.

مسألة ٣٧ : يعتبر في العقد القصد الى ايجاد مضمونه ، وهو متوقف على فهم معنى لفظ ( زوجت ) أو ما يقوم مقامه ولو بنحو الاجمال ، ولا يعتبر العلم بخصوصياته ولا تمييز الفعل والفاعل والمفعول مثلاً ، فإذا كان الموجب بقوله ( زوجت ) قاصداً ايجاد العُلْقة الخاصة المعروفة التي يطلق

١٨

عليها الزواج في اللغة العربية وكان الطرف الاخر قابلاً لذلك المعنى كفى.

مسألة ٣٨ : تشترط الموالاة بين الايجاب والقبول على المشهور ، وتكفي العرفية منها فلا يضر الفصل في الجملة بحيث يصدق معه ان هذا قبول لذلك الايجاب ، كما لا يضر الفصل بمتعلقات العقد من القيود والشروط وغيرهما وان كثرت.

مسألة ٣٩ : يشترط في صحة النكاح التنجيز ، فلو علّقه على امر مستقبل معلوم الحصول أو متوقع الحصول بطل ، وهكذا اذا علّقه على امر حالي محتمل الحصول اذا كان لا تتوقف عليه صحة العقد ، واما اذا علّقه على امر حالي معلوم الحصول أو على امر مجهول الحصول ولكنه كان مما تتوقف عليه صحة العقد لم يضر ، كما إذا قالت المرأة في يوم الجمعة وهي تعلم انه يوم الجمعة : ( انكحتُكَ نفسي إن كان اليوم يوم الجمعة ) أو قالت : ( انكحتك نفسي إذا لم اكن اختَكَ ).

مسألة ٤٠ : يشترط في العاقد المجري للصيغة ان يكون قاصداً للمعنى حقيقة ، فلا عبرة بعقد الهازل والساهي والغالط والنائم ونحوهم ، ولا بعقد السكران وشبهه ممن لا قصد له معتداً به. كما يشترط فيه العقل فلا عبرة بعقد المجنون وان كان جنونه أدوارياً إذا أجرى العقد في دور جنونه. وكذلك يشترط فيه البلوغ فلا يصح عقد الصبي المميز لنفسه ـ وان كان قاصداً للمعنى ـ إذا لم يكن باذن الولي ، بل وان كان باذنه إذا كان الصبي مستقلاً في التصرف ، وأمّا إذا كان العقد من الولي وكان الصبي وكيلاً عنه في انشاء الصيغة ، أو كان العقد لغيره وكالة عنه أو فضولاً فاجازه ، أو كان لنفسه فاجازه الولي ، أو اجازه هو بعد البلوغ ففي صحته اشكال ، فلا يترك مراعاة

١٩

مقتضى الاحتياط في مثله.

مسألة ٤١ : يشترط في صحة العقد رضا الزوجين واقعاً ، فلو أذنت الزوجة متظاهرة بالكراهة مع العلم برضاها القلبي صح العقد ، كما انه إذا عُلمت كراهتها واقعاً وان تظاهرت بالرضا بطل العقد.

مسألة ٤٢ : لو اُكره الزوجان على العقد ثم رضيا بعد ذلك واجازا العقد صح ، وكذلك الحال في اكراه احدهما ، والاولى إعادة العقد في كلتا الصورتين.

مسألة ٤٣ : يشترط في صحة العقد تعيين الزوجين على وجه يمتاز كل منهما عن غيره بالاِسم أو الوصف أو الاِشارة ، فلو قال : ( زوجتُكَ إحدى بناتي ) بطل ، وكذا لو قال : ( زوجتُ بنتي أحدَ إبنيكَ أو أحد هذين ).

نعم لو كانا معينين بحسب قصد المتعاقدين ، متميزين في ذهنهما وان لم يعيناهما عند اجراء الصيغة بالاِسم أو الوصف أو الاِشارة الخارجية ، كما لو تقاولا على تزويج بنته الكبرى من ابنه الكبير ولكن في مقام إجراء الصيغة قال : ( زوجتُ بنتي من ابنك ) وقبل الآخر ، فالظاهر الصحة.

مسألة ٤٤ : لو اختلف الاِسم مع الوصف أو اختلفا أو احدهما مع الاِشارة يتبع العقد ما هو المقصود ويلغى ما وقع غلطاً وخطأً ، فاذا كان المقصود تزويج البنت الكبرى وتخيل ان اسمها فاطمة وكانت المسماة بفاطمة هي الصغرى وكانت الكبرى مسماة بخديجة وقال : ( زوجتُكَ الكبرى من بناتي فاطمة ) وقع العقد على الكبرى التي اسمها خديجة ويلغى تسميتها بفاطمة ، وان كان المقصود تزويج فاطمة وتخيل انها كبرى فتبين انها صغرى وقع العقد على المسماة بفاطمة والغي وصفها بانها الكبرى ،

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين، ثمّ كانت عند أبي) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة من رسول الله ومن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم قال: أو ذاك) (2) .

ويُستفاد من مجموع الأحاديث أنّ سيّدنا محمّداً (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قد عمل على تدوين كتاب يضمّ مسائل الحلال والحرام ليكون ميراثاً للمسلمين، وأنّه أودعه لدى أوصيائه من بعده؛ لأنّهم ورثة علمه ومراجع المسلمين في قابل الأيّام، وأنّه قام بتربية علي وإعداده لتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة؛ امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، ومن هنا فإنّ هذه الكتب هي ميراث الأئمّة الأطهار عن جدّهم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فكلّ ما يحدّثون به هو في الواقع لا يمثّل آراءهم الخاصّة، بل هو من العلم الذي ورثوه عن صاحب الرسالة صلوات الله عليه.

عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين, وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلَّى الله عليه وآله، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجل) (3) .

____________________

(1) المصدر السابق: 141.

(2) إثبات الهداة: ج1 ص248.

(3) أصول الكافي: ج1 ص53.

٢٠١

القرآن المصدر الثاني

اقترن ذِكْر أهل البيت (عليهم السلام) بالقرآن الكريم، فلا غرو أنْ نرى القرآن في حجورهم يدورون معه حيث دار، فهو نبعهم الصافي ينهلون منه أخلاقهم وعلومهم.

وقد حبا الله الأئمّة بالأُذُن الواعية، فسمعوه ووعَوه، وغاصوا في لُجَجِ بَحْرِهِ، واستخرجوا لآلئ علمه ومكنونات سِرِّه.

- عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (ما من أمر يَختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجل، ولكن لا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرجال) (1) .

- وعن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إذا حدّثْتُكم بشيء فسلوني من كتاب الله.

ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال.

فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟

قال: إنّ الله عزّ وجل يقول: ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) (2) .

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص60.

(2) المصدر السابق.

٢٠٢

- وعن سماعة قال عن أبي الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) قال: قلت له: أَكُلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؟ أَوَ تقولون فيه؟ قال: (بل كلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه) (1) .

- وعن علي أمير المؤمنين قال: (ذلك القرآن فاستنطقوه ولنْ ينطق لكم، أُخْبِرُكُم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحُكْم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتُمُوني عنه لعلّمْتُكم) (2) .

- وعن سلمة بن محرز قال: سمعتُ الباقر (عليه السلام) يقول: (إنّ مِن عِلْم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه، وعلم تغيير الزمان وحدثانه، إذا أراد الله بقوم خيراً أسمعهم، ولو أسمع مَن لم يسمع لولّى مُعْرِضَاً كأنْ لم يسمع، ثمّ أمسك هُنَيْئَة ثم قال: ولو وجدنا أوعية لقلنا والله المستعان) (3) .

- وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (والله إنّي لأَعْلَمُ كتاب الله من أوّله إلى آخره، كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله عزّ وجل: فيه تبيان كلّ شيء) (4) .

- وعن بريد بن معاوية قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ؟ قال: (إيّانا عنى، وعلي أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي صلَّى الله عليه وآله) (5) .

____________________

(1) المصدر السابق: ص62.

(2) المصدر السابق: ص61.

(3) أصول الكافي: ج1 ص229.

(4) المصدر السابق: ص229 / ينابيع المودّة: ص26.

(5) أصول الكافي: ج1 ص229 / ينابيع المودّة: ص119.

٢٠٣

- وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخَبَر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه) (1) .

- وعن جابر قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (ما ادّعى أحدٌ مِن الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمّة من بعده) (2) .

وفي النتيجة:

فإنّ الأخبار والروايات التي ذكرنا أمثلة منها تشير إلى أنّ الأئمّة الطاهرين كانوا ينهلون علومهم من القرآن الكريم (3) ؛ لأنّه نزل ( تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) . وهم أعلم الناس بعلوم القرآن:

- ناسخه ومنسوخه.

- محكمه ومتشابهه.

- الخاص منه والعام المطلق والمقيّد، ومن أجل هذا تواتر الحديث عن سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والمعروف بحديث الثقلين: (إنّي تارك فيكم ما إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لَنْ تَضِلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لَنْ يَفْتَرِقَا).

لقد كان النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) يرمي من وراء ذلك إلى جعل الأئمّة مِن بعده مراجع للمسلمين؛ لأنّهم الامتداد الطبيعي له، وقد اصطفاهم الله لذلك وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وأخيراً نؤكّد مرّة أُخرى - ومن خلال ما ورد من النصوص النبويّة الشريفة - أنّ طاعة الأئمّة واجبةٌ على كلّ المسلمين، وهي تشمل حتّى أولئك الذين لا يعتقدون بإمامتهم؛ لأنّ أقوالهم حجّة على الجميع.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص61.

(2) المصدر السابق: ص228.

(3) وفي ضوء ذلك نفهم المعنى المنشود من الآية الكريمة حول القرآن الكريم ( لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) ، خاصّةً إذا أَخَذْنا بنظر الاعتبار المعنى الحقيقي لكلمة (المسّ). المترجم.

٢٠٤

عالم الغيب المصدر الثالث

ولا تنحصر علوم الأئمّة بالمصدرَين السابقين فهناك مصدر ثالث يتمثّل بالارتباط بعالم الغيب، فالإلهام والفيض الإلهي لطف من الله سبحانه خصّ به عباده المطهّرين، فالعلم جذوة تتوقّد في أعماق الإمام، تنير له رؤيته وتطلّعه على حقائق العالم، وفي هذا جاءتْ الروايات.

* ومنها:

- عن الإمام موسى بن جعفر قال: (مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماضٍ، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمفسّر، وأمّا الغابر فمزبور (مكتوب) وأمّا الحادث فقذْف في القلوب ونقْر في الأسماع) (1) .

- عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ: أخبرني عن علم عالمكم؟ قال: (وراثة مِن رسول الله ومِن علي، قال: قلتُ: إنّا نتحدّث أنّه يقذف في قلوبكم وينكت في آذانكم؟ قال: أو ذاك) (2) .

- وعن المفضل بن عمر قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): روينا عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: (إنّ علمنا غابر، ومزبور، ونكْت في القلوب، ونقْر في الأسماع، فقال: أمّا الغابر فما تقدّم مِن عِلْمِنَا، وأمّا المزبور فما يأتينا،

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص264.

(2) المصدر السابق.

٢٠٥

وأمّا النكْت في القلوب فإلهام، وأمّا النقْر في الأسماع فأمر الملك) (1) .

- عن صفوان بن يحيى قال: سمعتُ أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (كان جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (2) .

- وعن ذريح المحاربي قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (يا ذريح لولا أنّا نزداد لأنفدنا) (3) .

- عن زرارة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لولا أنّا نزداد لأنفذنا.

قال: قلتُ: تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول الله؟

قال: أمّا أنّه إذا كان ذلك عُرض على رسول الله ثمّ على الأئمّة، ثمّ انتهى الأمر إلينا) (4) .

- وعن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس يخرج شيء من عند الله حتّى يبدأ برسول الله، ثمّ بأمير المؤمنين، ثمّ بواحد بعد واحد؛ لكيلا يكون آخرنا أعلم مِن أوّلنا) (5) .

- وعن أبي يحيى الصنعائي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: (يا أبا يحيى، إنّ لنا في ليالي الجمعة لشأناً من الشأن.

قال: قلتُ: جُعلتُ فداك وما ذاك الشأن؟

قال: يُؤذَنْ لأرواح الأنبياء الموتى، وأرواح الأوصياء الموتى، وروح الوصيّ الذي بين ظهرانيكم يعرج بها إلى السماء حتّى توافي عرش ربّها، فتطوف به أُسبوعاً وتصلّي عند كلّ قائمة من قوائم العرش ركعتَين، ثمّ تُرَدُّ إلى الأبدان التي كانت فيها فتصبح الأنبياء والأوصياء قد ملئوا سروراً، ويُصبح الوصي

____________________

(1) المصدر السابق.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) المصدر السابق.

(4) أصول الكافي: ج1 ص255.

(5) المصدر السابق.

٢٠٦

الذي بين ظهرانيكم وقد زيد في علمه مثل جَمّ القفير) (1) .

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ذات يوم وكان لا يُكنِّيني قبل ذلك: (يا أبا عبد الله .

قال: قلتُ لبَّيك.

قال: إنّ لنا في كلّ ليلة جمعة سروراً .

قلتُ: زادك الله وما ذاك؟

قال: إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلَّى الله عليه وآله العرش، ووافى الأئمّة معه ووافينا معهم، فلا تُرَدُّ أرواحنا إلى أبداننا إلاّ بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا) (2) .

- وعن الإمام الرضا (عليه السلام) في حديث له قال: (وإنّ العبد إذا اختاره الله عزّ وجل لأمور عباده شرح صدرَه لذلك، وأودع قلبَه ينابيعَ الحكمة، وأَلْهَمَهُ العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيَّد، موفَّق مُسَدَّد، قد أَمِنَ من الخطايا والزَلَل والعثار، يخصّه الله بذلك؛ ليكون حجّته على عباده وشاهده على خَلْقه، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (3) .

وأحاديث أُخرى:

- عن المفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله: (إنّ سليمان وَرِثَ داود، وإنّ محمّداً وَرِثَ سليمان، وإنّا وَرِثْنَا محمّداً، وإنّ عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور، وتبيان ما في الألواح.

قال: قلتُ: إنّ هذا لهو العلم؟

قال: ليس هذا هو العلم، إنّ العلم الذي يحدث يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة) (4) .

- عن ضريس الكناسي قال: كنتُ عند أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده أبو

____________________

(1) المصدر السابق: ص253.

(2) المصدر السابق: ص254.

(3) أصول الكافي: ج1 ص202.

(4) المصدر السابق: ص224.

٢٠٧

بصير، فقال أبو عبد الله: (إنّ داود وَرِثَ علم الأنبياء، وإنّ سليمان ورث داود وإنّ محمّداً (صلَّى الله عليه وآله) ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً(صلَّى الله عليه وآله) وإنّ عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إنّ هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمّد ليس هذا هو العلم، إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يوماً بيوم وساعة بساعة) (1) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكر المحدّث عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى الشخص.

فقلتُ له: جُعلتُ فداك كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطي السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه كلام الملك) (2) .

- وعن حمران بن أعين عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: قال أبو جعفر: (إنّ عليّاً عليه السلام كان محدَّثاً.

فخرجتُ إلى أصحابي فقلتُ: جئتُكم بعجيبة.

فقالوا: وما هي؟

فقلتُ: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كان عليٌّ محدَّثاً.

فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سَأَلْتَهُ مَن كان يُحَدِّثُهُ؟

فرجعتُ إليه فقلتُ: إنّي حدّثتُ أصحابي بما حدّثْتَنِي، فقالوا: ما صنعتَ شيئاً، أَلاَ سألتَهُ مَنْ كان يُحَدِّثُهُ؟

فقال لي: يُحدِّثه مَلَك.

قلتُ: تقول: إنّه نبي؟

قال: فَحَرَّكَ يَدَهُ - هكذا (أي نافياً) - أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كَذِي القرنين، أَوَ مَا بَلَغَكُم أنّه قال: وَفِْيُكم مِثْلُه) (3) .

- وكتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (عليه السلام) قال: جعلتُ فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟

قال: فكتب أو قال: (الفرق بين الرسول والنبي والإمام: إنّ الرسول الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع

____________________

(1) المصدر السابق: ص225.

(2) المصدر السابق: ص271.

(3) المصدر السابق.

٢٠٨

كلامه، وتنَزَّل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم. والنبي: ربّما سمع الكلام، وربّما رأى الشخص ولم يسمع. والإمام: هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص) (1) .

- وعن الأحول قال: سألتُ أبا جعفر(عليه السلام) عن الرسول والنبي والمحدّث قال: (الرسول: الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيراه ويكلّمه فهذا الرسول، وأمّا النبي: فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان من عند الله بالرسالة، وكان محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) حين جمع له النبوّة وجاءتْهُ الرسالة من عند الله يجيئه بها جبريل ويكلّمه بها قبلاً، ومن الأنبياء مَن جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه، من غير أنْ يكون يرى في اليقظة، وأمّا المحدَّث فهو الذي يُحدَّث، ولا يُعايِن ولا يرى في منامه) (2) .

- وعن جماعة بن سعد قال: كان المفضّل عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له المفضّل: جُعلتُ فداك، يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟

قال: (لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده مِن أنْ يفرض طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساءً) (3) .

وأحاديث أُخرى أيضاً:

- عن أبي حمزة قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: (لا والله لا يكون عالم جاهلاً أبداً، عالماً بشيء جاهلاً بشيء.

ثمّ قال: الله أجلّ وأعزّ وأكرم مِن أَنْ يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه وأرضه.

ثمّ قال: لا يُحجب

____________________

(1) أصول الكافي: ج1، ص176.

(2) المصدر السابق.

(3) أصول الكافي: ج1 ص261.

٢٠٩

ذلك عنه) (1) .

- وفي خطبة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) جاء فيها: ولقد كان (سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلّم) يجاور في كلّ سنة بحراء، فأَرَاهُ ولا يراه غيري، ولم يَجمع بيتٌ واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلَّى الله عليه وآله وخديجة وأَنَا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشمّ رِيْح النبوّة، ولقد سمعتُ رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). فقلتُ يا رسول الله ما هذه الرنّة؟

فقال: (هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنّك تَسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بِنَبِي ولكنّك لَوَزِيْرٌ، وإنّك لعلى خير) (2) .

- عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (إنّا نُزَادُ في الليل والنهار ولولا أنّا نُزَادُ لنفد ما عندنا.

فقال أبو بصير: جُعلتُ فداك مَن يأتيكم؟

قال: إنّ منّا لَمَنْ يُعَايِن معاينة، ومنّا مَن يُنقر في قلبه كيت وكيت، ومنّا مَن يَسمع بإذنه وقعاً كوقع السلسلة في الطست.

قال: قلتُ: جَعلني الله فداك مَن يأتيكم؟

قال: هو خلق أكبر من جبرائيل وميكائيل) (3) .

- عن الباقر (عليه السلام) قال: (كان علي (عليه السلام) يعمل بكتاب الله وسُنّة نبيّه، فإذا ورد عليه الشيء الحادث الذي ليس في الكتاب ولا في السُنّة أَلْهَمَهُ الله الحقّ فيه إلهاماً، وذلك والله من المعضلات) (4) .

- وعن عيسى بن حمزة الثقفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّا

____________________

(1) المصدر السابق: ص262.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 187.

(3) بحار الأنوار: ج26 ص54.

(4) المصدر السابق: ص55.

٢١٠

نسألك أحياناً تتسرّع في الجواب وأحياناً تطرق ثمّ تجيبنا؟

قال: (نعم، إنّه ينكت في آذاننا وقلوبنا، فإذا نكت نطقنا، وإذا أمسك أمسكنا) (1) .

- عن الحسن بن يحيى المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلتُ له: أخبرني عن الإمام إذا سُئل كيف يُجيب؟

فقال: (إلهام وسماع وربّما كان جميعاً) (2) .

- وعن الحارث بن المغيرة قال: قلتُ لأبي عبد الله: هذا العلم الذي يعلمه عالِمكم أَشَيء يُلقَى في قلبه أو ينكت في أُذُنِهِ؟

فسكت حتّى غفل القوم، ثمّ قال: (ذاك وذاك) (3) .

- عن سليمان الديلمي قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نزاد لأنفدنا).

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد والله أنزله الله على نبيّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بكماله، وما يزاد الامام في حلال ولا حرام) (4) .

وهذا غيض من فيض الروايات والأحاديث التي تُشير إلى أنّ الأئمّة من أهل البيت - وبما حَبَاهُم الله من الطهر، وجبلهم عليه من عصمة - كانوا محلاًّ لفيوضات الغيب، يستلهمون الحقائق وتتدفّق في قلوبهم ينابيع الحكمة والكمال والحقيقة.

____________________

(1) المصدر السابق: ص57.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص58.

(3) المصدر السابق.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص92.

٢١١

الفرق بين الإمام والنبي

* إشكال:

قد يُثار إشكال مفاده: أنّه لا فرق إذن بين الإمام والنبي مادام كلاهما على ارتباط بعالم الغيب، وإذا كان هناك مِن فرق فما هو؟

وما هو موقفنا إزاء الروايات التي تؤكِّد انقطاع الوحي بوفاة سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله)؟

فعن علي (عليه السلام) قال: (أرسله على حين فترة من الرسل وتنازع من الألسن، فقضى به الرسل وختم به الوحي) (1) .

وقال في مناسبة أُخرى: (بأبي أنت وأُمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء) (2) .

* الجواب:

هناك من الروايات ما يؤكِّد ظاهرة الإلهام، وأنّه من أشكال الارتباط بالغيب، خصّ الله الأئمّة المعصومين المطهّرين، وهي تؤكّد أيضاً الفوارق بين الإمام والنبي.

____________________

(1) نهج البلاغة: ج2 ص22.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 230.

٢١٢

الفارق الأوّل:

إنّ الروايات والأخبار تؤكّد على أنّ الإمام ليس مشرِّعاً، ومعنى هذا أنّه أخذ الشريعة عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فلقد أولى سيّدنا محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً اهتماماً خاصّاً، وراح يعدّه خَلَفَاً من بعده، فعلّمه التنزيل والتأويل وفتح له آفاق المعرفة وفجّر له ينابيع العلم والحكمة.

وإذن، فقد أخذ عليٌّ علومَه عن رسول الله، ثمّ أورثها الأئمّة من بعده، فالأئمّة تابعون لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) في كلّ ما جاء به من الحلال والحرام؛ ولذا كانوا يقولون: إنّا خزّان علم الرسالة وورثة علوم الوحي، ولقد كان رسول الله يُمْلِي وكان علي يخطّ بيده؛ ليكون ذلك ميراثاً للأئمّة عن صاحب الرسالة (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ولذا كانوا أعلم الناس بـ:

- الناسخ والمنسوخ.

- والمحكم والمتشابه.

- والتأويل والتنزيل من آي الذكر الحكيم.

وكانوا يؤكّدون أنّ أحاديثهم إنّما هي أحاديث الآباء والأجداد عن علي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

الفارق الثاني:

بالرغم من أنّ الأحاديث تؤكّد حالة الوحي والإلهام للأئمّة (عليهم السلام)، ولكنّ هذه الحالة تختلف تماماً مع وحي الأنبياء:

فالنبي: مرتبط بالغيب بشكلٍ مباشر وهو يُشاهد الملك ويسمع صوته.

أمّا الإمام: فلا يرى الملك ولكن ما يحدث هو قذف في القلب، وإلقاء في النفس، أو وقع في الأُذُن.

وبتعبير الأئمّة نقر في الأذن ، وبهذه الوسيلة كانوا يطّلعون على عالم الحقائق، ومن هنا فوحي الأئمّة يشبه الوحي لـ (أُم موسى) و (ذي القرنين) وجليس سليمان (عليه السلام).

الفارق الثالث:

إنّ الأنبياء - وكما قلنا - على ارتباط مباشر بعالم الغيب ولم

٢١٣

يكونوا يحتاجون في ذلك إلى أحد، غير أنّ الأئمّة يستندون إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فَعَنْهُ أخذوا علوم الرسالة وأسرار الوحي والنبوّة، وهو الذي فجّر لهم ينابيع العلم والحكمة والمعرفة، فكل ما يفيض عن الإمام هو من النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل وكلّ ما يُلقى في روعه ويقذف في قلبه وفؤاده يُعرض على النبي أوّلاً ثمّ الإمام.

شواهد:

وهذا ما تؤكّده الأحاديث المرويّة، وهذه أمثلة:

- عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (إنّما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأمّا النبوّة فلا) (1) .

- وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إنّ عليّاً كان محدَّثاً . فقلتُ [الرواي]: فتقول إنّه نبي؟ قال: فحرّك بيده هكذا (نافياً) ثمّ قال: أو كصاحب موسى أو كذي القرنين. أَوَمَا بَلَغَكُم أنّه قال وفيكم مِثْلُه؟) (2) .

- وعن بريد بن معاوية عن أبي جعفر أو أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قلتُ له: ما منزلتكم ومَن تشبهون مِمَّن مضى؟

قال: (صاحب موسى وذو القرنين. كانا عالمين ولم يكونا نبيّين) (3) .

- عن محمّد بن مسلم قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: (الأئمّة بمنزلة رسول الله إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء، ولا يحلّ لهم مِن النساء ما يحلّ للنبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأمّا ما خلا ذلك فهم فيه بمنزلة رسول الله صلَّى الله

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص268.

(2) المصدر السابق: 269.

(3) المصدر السابق.

٢١٤

عليه وآله) (1) .

- عن محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) فقلتُ: جُعلتُ فداك سمعتُك وأنت تقول غير مرّة: (لولا أنّا نُزاد لأنفدنا.

قال: (أمّا الحلال والحرام فقد - والله - أنزله الله على نبيّه بكماله، وما يُزاد الإمام في الحلال والحرام) (2) .

- عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

قال: (هي في علي، والأئمّة جعلهم الله مواضع الأنبياء، غير أنّهم لا يحلّون شيئاً ولا يحرّمونه) (3) .

- عن سدير الصيرفي قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ قوماً يزعمون أنّكم آلهة، يتلون علينا قرآناً: ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبَرِئَ الله منهم، ما هو على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: وعندنا قوم يزعمون أنّكم رسل يقرؤون علينا بذلك قرآناً: ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ؟

فقال: يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وَبَرِئَ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلاّ وهو ساخط عليهم.

قال: قلتُ: فما أنتم؟

قال: نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على مَنْ دون

____________________

(1) المصدر السابق: ص270.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) إثبات الهداة: ج3 ص48.

٢١٥

السماء وفوق الأرض) (1) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (ليس شيء يخرج من الله حتّى يبدأ برسول الله صلَّى الله عليه وآله، ثمّ بأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثمّ واحداً بعد واحد؛ لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا) (2) .

- عن محمّد بن مسلم قال: ذكرتُ المحدَّث عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: (إنّه يسمع الصوت ولا يرى.

فقلت: أصلحك الله، كيف يعلم أنّه كلام الملك؟

قال: إنّه يعطى السكينة والوقار حتّى يعلم أنّه ملك) (3) .

- عن الصادق (عليه السلام) قال: (علّم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عليّاً ألف باب يُفتح من كلّ باب ألف باب) (4) .

ومن خلال هذه الأحاديث ينبغي أنْ نفهم أنّ كيفية التعليم تختلف في طريقتها عمّا هو متعارف بين الناس في أخذ العلوم واكتساب المعرفة، وإلاّ كيف يمكن أنْ نتصوّر أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) - وخلال زمن ربّما لم يستغرق ساعة - قد علّم عليّاً ألفَ باب من العلم، ينفتح عن كلّ بابٍ ألفُ باب؟

وإذن، فهناك طرق أخرى ربّما كانت تكوينيّة وهداية باطنيّة، ولعلّها طاقة النبوّة وفيض من الوحي انعكس عن قلب الرسول فأضاء قلب علي خليفته ووصيّه.

____________________

(1) أصول الكافي: ج1 ص269.

(2) بحار الأنوار: ج26 ص92.

(3) المصدر السابق: ص68.

(4) بحار الأنوار: ج26 ص28.

٢١٦

عالم الغيب

عالم الشهادة:

* الغيب:

هو عكس الشهود، وعالم ما وراء الحواس الخمس، فكلّ ما تدركه الحواس يُعَدّ شهوداً، فالمادّة وخواصّها وكلّ ما هو قابل للإدراك من الموادّ ذاتها أو خواصّها وصفاتها تنطوي تحت عالم الشهادة، وهي:

- إمّا مرئيّة تُدرَك بالأبصار.

- أو سمعيّة تُدرَك من خلال الأسماع.

- أو رائحة تُدرَك بحاسّة الشمّ.

- أو لها طعم تُدرَك من خلال حاسّة الذوق.

- أو لَمِْسيّة تُدرَك باللمس، حتّى الطاقة الكهربائيّة والذرّة والجراثيم وغيرها هي الأُخرى تُعَدّ من عالم الشهادة، حتّى وإنْ تعذّرتْ الحواس من الإحاطة بها؛ لأنّها قابلة للرؤية وإنْ تعذّرتْ بسبب صغرها المتناهي، فلو أمكننا صُنْع أجهزة تكبير فائقة لأمكن رؤيتها، وإذن فهي قابلة للرؤية.

ومن هنا فإنّ بعض الموادّ وإنْ تعذّرتْ رؤيتها أو الإحاطة بها من خلال إحدى الحواس، إلاّ أنّها لا تُعَدّ جزءاً من عالم الغيب؛ لأنّ الإنسان مركّب بطريقة محدودة، أي إنّ لحواسّه قابليّات محدودة، ومن المحتمل جدّاً وجود حيوانات تفوق الإنسان في قابليّتها للسمع والرؤية والشمّ.

كما أنّ إدراك آثار تلك الأشياء وصفاتها يجعلها بالتالي ضمن عالم الشهود.

٢١٧

عالم الغيب:

وتنطوي فيه كلّ ما لا تدركه الحواس بذاته أو صفاته من قبيل يوم المعاد والقيامة، الجنّة، الجحيم، الثواب، والجزاء في الآخرة، صفات الله، والملائكة، فكلّ هذه الأشياء وغيرها ممّا لا تُدركه الحواس هو جزء من الغيب.

إنّنا لا يمكننا رؤية الملائكة؛ لأنّها خارجة عن حواسنا، لا لأنّها صغيرة متناهية الصغر، ولا لأنّها شفّافة بَالِغَة الشفافية، بل لأنّها موجودات أسمى من الحواس، وهي خارج إدراكاتنا المحدودة؛ لأنّنا موجودات زمانيّة وهي موجودات خارج الزمان، وإذن، فكلّ الموجودات التي لا يمكن للحواس البشريّة إدراكها هي جزء من عالم الغيب، ولا طريق لإدراكها إلاّ بالعقل وإرشاد من اطّلع على عالم الغيب ومن خلال الإيمان والعقيدة الدينيّة، وما نحصل عليه من معارف وعلوم هو ليس علم حضوري ولا شهودي، وهو من قبيل الإيمان بالجنّة والاعتقاد بالجحيم.

فنحن لا نملك عن عالم الغيب سوى سلسلة من المفاهيم والصور العلميّة التي لا يمكن تصوّرها والإحاطة بها، لا لقصور ذاتي فيها، بل لعجز حواسّنا عن إدراكها، وإذن يمكن القول إنّنا نحن الذين نعيش حالة الغياب عن حقائق العالم وحقيقته.

على أنّ إدراكنا للأجسام وخواصّها يأتي بسبب التناسب بينها وبين حواسنا، وبتعبير آخر بسبب توحّد سنخيَّتها.

فمثلاً:

إنّنا لا ندرك ظاهرة مادّية ما إلاّ في ذات الزمن الذي توجد فيه، فحادثة وقعتْ قبل ألفَي سنة أو بعد ألفَي سنة لا يمكن لحواسّنا إدراكها، كما إنّنا لا ندرك بصريّاً الأشياء التي تقع خارج مدياتالرؤية.

٢١٨

وقد نرى أشياء بعيدة جدّاً باستخدام النواظير المقرِّبة: وهي آلات تعزّز من قدرة الرؤية لدينا؛ أو إنّنا لا نُدرِك وجود الأشياء مع قربها؛ لوجود حواجز بيننا وبينها، وقد يمكننا اختراع آلات معيَّنة من شأنها رفع هذا الحاجز وتجعله عديم التأثير.

والخلاصة: فإنّ مديات الحواس وطبيعة إدراكاتها هي الأُخرى محدودة ومشروطة وخاضعة لدائرة معيَّنة، لا يمكنها أنْ تتجاوزها إلى نطاق مطلق أو بلا قيد أو شرط.

الغيب والشهود:

إنّ الحوادث التي تعدّ غيباً بالنسبة لحواسّنا، هي بالنسبة لخالق العالَم شهادة وحضور؛ ذلك أنّ وجوده لا تحدّه حدود بل هو محيط بما خَلَقَ، خارج عن إطار الزمان؛ لأنّه خالق الزمان والمكان، ولا معنى عنده للماضي والحاضر والمستقبل.

وإذن، فالطوفان الذي أغرق العالم زمن نوح هو بالنسبة لدينا من عالم الغيب، ولكنّه بالنسبة لله حضور وشهود، والحوادث التي ستقع بعد مئة ألف سنة هي غيب بالنسبة لنا وحضور بالنسبة لله، وكذا الجنّة والجحيم.

والخلاصة: فإنّ العلوم التي نكتسبها من خلال الحواس الخمس لا تُعدّ جزءاً من العلم بالغيب، أمّا المعارف التي نحصل عليها خارج إطار الحواس فهي من عالم الغيب.

وبتعبير آخر: إنّ البراهين العقليّة أثبتتْ في محلّها أنّ كل الحوادث والظواهر

٢١٩

في عالم المادّة لا تُفْنَى، وأنّها تحقّق بشكل أكمل في عالم آخر، عالم غير مرئي، عالم هو أسمى من العالم الذي نحيا فيه، وإذنْ، فالإنسان الذي يستخدم حواسّه حتّى يمكنه إدراك ظواهر الأشياء ويجد طريقه إلى عالم الواقع، فإنّ هذا العِلْم لا يُعدّ عِلْمَاً للغيب، أمّا إذا أعمل بصيرته وشاهد الملكوت وحقائق الأشياء، وطوى طريق الباطن ومرحلة الكمال ولم يكن لحواسّه في ذلك من دور، فإنّ عِلْمَاً كهذا هو علم للغيب.

الغيب والشهادة في القرآن:

* استخدم القرآن مصطلح الغيب في مقابل الشهادة كما في قوله تعالى:

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (1) .

- ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (2) .

- ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (3) .

- ( عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ ) (4) .

* كما أشار إلى مرتبتَين وجوديَّتَين، حيث مرحلة الباطن هي الغيب، وهو من مختصّات الله سبحانه:

- ( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (5) .

- ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) (6) .

____________________

(1) الأنعام: الآية 73.

(2) الرعد: الآية 9.

(3) الجمعة: الآية 8.

(4) الزمر: الآية 46.

(5) هود: الآية 123.

(6) الحجرات: الآية 18.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374