تفسير المراغى الجزء ١
0%
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 232
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 232
( وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) أي ولقد اجتبيناه من بين خلقنا ، وجعلنا في ذريته أئمة يهدون بأمرنا ، وجعلناه في الآخرة من المشهود لهم بالخير والصلاح وإرشاد الناس للعمل بهذه الملة.
ولا شكّ أن ملة هذا شأنها ، وبها كانت له المكانة عند ربه ، لا يرغب عنها إلا سفيه يعرض عن التأمل في ملكوت السموات والأرض ، ورؤية الآثار الكونية والنفسية الدالة على وحدانية الله تعالى وعظيم قدرته.
وفي الآية بشارة لإبراهيم بصلاح حاله في الآخرة وعدة له بذلك.
( إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ) أي اصطفاه إذ دعاه إلى الإسلام بما أراه من الآيات ونصب له من الأدلة على وحدانيته ، فلبّى الدعوة.
( قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) أي قال أخلصت دينى لله الذي فطر الخلق جميعا ، ونحو هذا قوله :( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
وقد نشأ إبراهيم في قوم عبدة أصنام وكواكب ، فأنار الله بصيرته ، وألهمه الحق والصواب ، فأدرك أن للعالم ربّا واحدا يدبره ويتصرف في شئونه وإليه مصيره ، وحاجّ قومه في ذلك وبهرهم بحجته فقال :( أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ) إلى آخر الآيات التي جاءت في سورة الأنعام.
( وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ ) أي ووصّى بهذه الملة التي ذكرت في قوله :( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ ) إبراهيم أولاده ووصّى بها يعقوب من بعده أولاده أيضا ، قائلين لهم : إن الله اصطفى لكم دين الإسلام الذي لا يتقبل الله سواه.
( فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) أي فحافظوا على الإسلام لله ولا تفارقوه برهة واحدة ، فربما تأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم.
وفي هذا النهى إيماء إلى أنّ من كان منحرفا عن الجادّة لا ييأس ، بل عليه أن يبادر بالرجوع إلى الله ويعتصم بحبل الدين ، خيفة أن يموت وهو على غير هدى ، فالمرء مهدّد في كل آن بالموت.
دقات قلب المرء قائلة له |
إن الحياة دقائق وثوانى |
ثم أكد أمر الوصية وزاده تقريرا ، وأقام الحجة على أهل الكتاب فوجه إليهم الخطاب وقال :
( أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ) أي أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذبين محمدا الجاحدين نبوّته ـ شهودا حين حضر يعقوب الموت ، فتدّعون أنه كان يهوديّا أو نصرانيّا ، فقد روى أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية؟
وخلاصة ذلك ـ أنتم لم تحضروا ذلك فلا تدّعوا عليه الأباطيل وتنسبوه إلى اليهودية أو النصرانية ، فإني ما أرسلت إبراهيم وبنيه إلا بالحنيفية المسلمة ، وبها وصّوا بنيهم وعهدوا إلى أولادهم من بعدهم.
( إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي ) أي أكنتم شهداء حين قال لبنيه : أىّ معبود تعبدون من بعدي؟ ومراده من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بثباتهم على الإسلام والتوحيد ، وأن يكون مقصدهم في جميع أعمالهم وجه الله ومرضاته ، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان ، كما قال في دعائه :( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) .
( قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) أي قالوا : نعبد الإله الذي قامت الأدلة العقلية والحسية على وجوده ووجوب عبادته لا نشرك به سواه ، ونحن له منقادون خاضعون معترفون له بالعبودية متوجهون إليه عند الملمّات ، وقد كانوا في عصر فشت فيه عبادة الأصنام والكواكب ، والحيوان وغيرها.
وجعلوا إسماعيل (وهو عمه) أبا تشبيها له بالأب ، وقد روى الشيخان قوله عليه السلام «عم الرجل صنو أبيه».
وقد أرشدت الآية الكريمة إلى أن دين الله واحد في كل أمة ، وعلى لسان كلّ نبىّ ، وروحه التوحيد والاستسلام لله ، والإذعان لهدى الأنبياء ، وبهذا كان يوصى النبيون أممهم كما قال :( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) .
فالقرآن يحثّ الناس على الاتفاق في الدين الذي أساسه أمران : أولهما التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه ، وثانيهما الاستسلام لله والخضوع له في جميع الأعمال ، فمن لم يتصف بذلك فليس بالمسلم أي ليس على الدين القيم الذي كان عليه الأنبياء.
والناس يطلقون الإسلام اليوم لقبا على طوائف من الناس لهم ميزات دينية ، وعادات تميزهم من سائر الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى ، وقد يكون من بعض أهله من لم يكن مستسلما مخلصا لله في أعماله ، بل قد يكون مبتدعا ما ليس منه ، أو فاسقا عنه قد اتخذ إلهه هواه.
والإسلام الذي دعا إليه القرآن هو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدع إلى الإسلام بمعنى ذلك اللقب المعروف اليوم.
( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن سنة الله في عباده ألا يجزى أحد إلا بكسبه وعمله ، ولا يسأل إلا عن كسبه وعمله كما جاء في قوله :( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ، أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) وجاء في الحديث : «يا بنى هاشم ، لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم».
وقال الغزالي : إذا كان الجائع يشبع إذا أكل والده دونه ، والظمآن يروى بشرب والده وإن لم يشرب ، فالعاصى ينجو بصلاح والده.
ومن هذا تعلم أن من يخاطب أصحاب القبور حين الاستغاثة بهم بنحو قوله : (المحسوب منسوب) فقد ضلّ ضلالا بعيدا ، وخالف ما تظاهر من نصوص الدين التي تدلّ على خلاف ما يقول :
( وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) )
تفسير المفردات
الحنيف : المائل ، وأطلق على إبراهيم لأنه خالف الناس جميعا ، ومال عن الكفر إلى الإيمان ، والأسباط : واحدهم سبط ، وسبط الرجل ولد ولده ، والأسباط : من بنى إسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم ، وما أوتى موسى : هو التوراة ، وما أوتى عيسى : هو الإنجيل ، والشقاق : مأخوذ من الشّق وهو الجانب ، فكأن كل واحد في شقّ غير شق صاحبه لما بينهما من عداوة ، والصبغة : فى اللغة اسم لهيئة صبغ الثوب وجعله بلون خاص.
المعنى الجملي
بعد أن دعا سبحانه العرب إلى الإسلام وأشرك معهم أهل الكتاب ، لأنهم أجدر بإجلال إبراهيم واتباعه ، وفي أثناء ذلك بين حقيقة ملة إبراهيم على الوجه الحقّ لا كما يعتقده اليهود والنصارى ، ثم بيّن أن دين الله واحد على لسان النبيين جميعا ، والفوارق فى الجزئيات والتفاصيل لا تغيّر من جوهر الدين في شىء ، وقد جهل أهل الكتاب هذه الحقيقة ، فقصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين من التفاصيل والتقاليد التي أضافوها إلى التوراة والإنجيل ، فبعد كل من الفريقين من الآخر أشدّ البعد ، وصار كل منهما يحتكر الإيمان لنفسه ، ويرمى الآخر بالكفر والإلحاد.
الإيضاح
( وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ) أي وقالت اليهود : لا دين إلا اليهودية ولا يتقبل الله سواها ، لأن نبيهم موسى أفضل الأنبياء ، وكتابهم أفضل الكتب ، ودينهم خير الأديان ، ويكفرون بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن ، وقالت النصارى : لا يتقبل الله إلا النصرانية لأن الهداية خاصة بها ، إذ عيسى أفضل الأنبياء وكتابهم أجلّ الكتب ، ودينهم خير الأديان ، وقد كفروا بموسى والتوراة ومحمد والقرآن ، ولو صحّ ما تقولون : لما كان إبراهيم مهتديا لأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ، وأنتم جميعا متفقون على أنه سيد المهتدين وإمامهم ، ومن ثمّ ردّ الله عليهم بقوله :
( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) أي قل لهم : بل نتبع ملة إبراهيم الذي لا تنازعون فى هداه ، فهى الملة التي لا انحراف فيها ولا زيغ.
( وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي ولم يكن إبراهيم ممن يشرك بالله سواه من وثن أو صنم.
وفي هذا تعريض بأهل الكتاب وبيان بطلان دعواهم اتباع إبراهيم مع إشراكهم لقولهم عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله.
ودين إبراهيم الحنيف هو الدين الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه المؤمنون به.
وبعد أن أمر الله نبيّه أن يدعو الناس إلى اتباع ملة إبراهيم ، أمر المؤمنين بمثل ذلك فقال :
( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي قولوا آمنا بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الخضوع والطاعة لرب العالمين ، فلا نكذّب أحدا منهم فيما ادّعاه ودعا إليه في عصره ، بل نصدق بذلك تصديقا جمليا ولا يضيرنا تحريف بعض وضياع بعض ، فإن التصديق التفصيلي إنما يكون لما أنزل إلينا فحسب.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية للمسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن معقل مرفوعا «آمنوا بالتوراة والإنجيل وليسعكم القرآن».
( لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) أي لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض ، كما تبرأت اليهود من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء ، وتبرّأت النصارى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره ، بل نشهد أن الجميع رسل الله بعثوا بالحقّ والهدى.
( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) أي ونحن خاضعون له بالطاعة مذعنون له بالعبودية ، وذلك هو الإيمان الصحيح ، وأنتم لستم كذلك ، بل أنتم متبعون أهواءكم لا تحولون عنها.
( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا ) أي فإن آمنوا الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين ، كما نؤمن به نحن وتركوا ما هم عليه من ادّعاء حلول الله فى بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن إله ، فقد اهتدوا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم.
ذاك أنه قد طرأ على إيمانهم بالله نزعات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس ، وتمسكوا برسوم العبادات ونقصوا منها وزادوا عليها مما بعدوا به عن مقاصد الأديان من حيث يدعون العمل بها كاملة غير منقوصة.
( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ ) أي وإن أعرضوا عما تدعوهم إليه من الرجوع إلى أصل الدين ولبّه ، وفرّقوا بين رسل الله فصدّقوا ببعض وكفروا ببعض ، فإن أمرهم يكون محصورا في المشاقّة والعداوة وكل ما يوسع مسافة الخلف بينكم وبينهم.
( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي فسيكفيك الله إيذاءهم وسيّئ مكرهم ويؤيد دعوتك وينصرك عليهم نصرا مؤزرا.
وقد أنجز الله وعده للنبى والمؤمنين ، فقتل وسبى بنى قريظة ، ونفى بنى النّضير إلى الشام ، وضرب الجزية على نصارى نجران ، وهو سميع لما يقولون بألسنتهم ويبدو بأفواههم من الدعوة إلى الكفر والضلال ، عليم بما يبطنون لك ولأصحابك المؤمنين من الحسد والبغضاء.
( صِبْغَةَ اللهِ ) أي صبغنا الله وفطرنا على الاستعداد للحق والإيمان بما جاء به الأنبياء والمرسلون ، ولا نتبع آراء الرؤساء وأهواء الزعماء وتقاليدهم الوضعية ، وهو زينتنا التي بها نتحلى كما يتحلى الثوب بالصبغ.
( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) أي لا أحد تكون صبغته أحسن من صبغة الله ، فإنه هو الذي يصبغ عباده بالإيمان ، ويطهرهم به من أدران الكفر ، وينجيهم من
الشرك ، فهى جماع كل خير وبها تتآلف القلوب والشعوب ، وتزكو النفوس.
أما ما أضافه الأحبار والرهبان من أهل الكتاب إلى الدين ، فهو من الصبغة البشرية ، والصبغة الإنسانية ، التي تجعل الدين الواحد مذاهب متفرّقة ، والأمة شيعا متنافرة.
( وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ) ولا نعبد سواه ، فلا نتخذ الأحبار والرهبان أربابا يزيدون فى ديننا وينقصون ، ويحلون ويحرّمون ، ويمحون من نفوسنا صبغة التوحيد ويثبتون مكانها صبغة البشر التي تفضى إلى الإشراك بالله واتخاذ الأنداد له.
وفي الآية إيماء إلى أن الإسلام لم يشرع أعمالا خاصة يتميز بها المسلم من سواه ، كما شرع النصارى المعمودية ، بل المعوّل عليه ما صبغ الله به الفطرة السليمة من الإخلاص وحبّ الخير والاعتدال كما قال تعالى :( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .
( قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) )
تفسير المفردات
المحاجة : المجادلة بدعوى الحق لدى كل من المتخاصمين مع إقامة الحجة على ذلك ، في الله : أي في دينه.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه في الآيات السابقة أن الملة الصحيحة هى ملة إبراهيم وليست هى باليهودية ولا النصرانية ، بل هى صبغة الله التي لا دخل لأحد فيها ، وهى بعيدة عن اصطلاحات الناس وأوضاعهم ، ولكن نشأت بعد ذلك أوضاع الرؤساء فطمست ما جرى عليه الأنبياء حتى خفيت أوامرهم فيها إلى أن أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى الرجوع إليها ، وأرشد إلى الحق الذي عليه صلاح المجتمع في دينه ودنياه شرع هنا يبطل الشبهات التي تعترض سبيل الحق ، فلقّن نبيه الحجج التي يدفع بها تلك المفتريات.
روى أن سبب نزول هذه الآيات أن اليهود والنصارى قالوا : يجب أن يكون الناس لنا تبعا في الدين ، لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع ، فردّ الله عليهم بما ستعلم بعد.
الإيضاح
( قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ، وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ؟ ) أي أتدّعون أن الدين الحق هو اليهودية والنصرانية ، وتقولون حينا :
( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ) وحينا آخر تقولون :( كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ) ومن أين جاءكم هذا القرب من الله دوننا ، والله ربنا وربكم وربّ العالمين ، فهو الخالق وجميعنا خلقه ، وإنما يتفاضل الناس بأعمالهم ، وآثار أعمالنا عائدة إلينا خيرا كانت أو شرّا ، وآثار أعمالكم كذلك لكم على هذا النحو ، ونحن له مخلصون في أعمالنا لا نبتغى إلا وجهه ، أما أنتم فقد اتكلتم على أسلافكم من الصالحين ، وزعمتم أنهم شفعاء لكم عند ربكم مع انحرافكم عن سيرتهم ، إذ هم ما كانوا يتقربون إلا بصالح العمل وصادق الإيمان ، فاجعلوهم رائدكم وانهجوا نهجهم تنالوا الفوز والسعادة.
وخلاصة ما سبق ـ إن روح الدين التوحيد ، وملاك أمره الإخلاص المعبّر عنه بالإسلام ، فإذا زال هذا المقصد وحفظت الأعمال الصورية لم يغن ذلك شيئا ، وأهل الكتاب أزهقوا هذا الروح وحفظوا الرسوم والتقاليد ، فهم ليسوا على شىء من الدين ، ولكنّ محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بما أحيا ذلك الروح الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين ، فهو الذي كمّل شريعتهم بشريعته التي تصلح لجميع البشر في كلّ زمان ومكان.
( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى ) أي أتقولون : إن اختصاصكم بالقرب من الله دوننا هو من الله وهو ربنا وربكم ، أم تقولون إن امتيازكم باليهودية أو النصرانية التي أنتم عليها إنما كان بأن هؤلاء الأنبياء كانوا عليها ، فإن كان هذا ما تدّعون فأنتم كاذبون فيما تقولون ، فإن هذين الاسمين إنما حدثا فيما بعد ، فما حدث اسم اليهودية إلا بعد موسى ، وما حدث اسم النصرانية إلا بعد عيسى ، فكيف تزعمون أن إبراهيم كان يهوديا أو نصرانيا ، وقضية العقل شاهدة بكذبكم؟
( قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ؟ ) أي أأنتم أعلم بالمرضىّ عند الله ، أم الله أعلم بما يرضيه وما يتقبله؟ لا شكّ أن الله هو العليم بذلك دونكم ، وقد ارتضى للناس ملة إبراهيم وأنتم تعترفون بذلك ، وكتبكم تصدّقه قبل أن تجىء اليهودية والنصرانية ، فلما ذا لا ترضون لأنفسكم هذه الملة؟
( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ ) أي لا أحد أشدّ ظلما ممن يكتم شهادة مثبتة في كتاب الله تبشر بأن الله يبعث فيهم نبيّا من بنى إخوتهم وهم العرب أبناء إسماعيل.
وهم لا يزالون يكتمون ذلك ، فينكرون على غير المطّلع على التوراة ، ويحرّفون على المطلع عليها.
وخلاصة ما سلف ـ أنه أقام ثلاث حجج تدحض ما ادّعوا :
(1) قوله :( وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ ) .
(2) قوله :( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ ) إلخ.
(3) قوله :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ) إلخ.
( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي إن الله لا يترك أمركم سدى ، بل يعذبكم أشدّ العذاب ، وهو محيط بما تأتون وما تذرون.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد عقب التقريع والتوبيخ.
( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن جماعة الأنبياء قد مضت بالموت ، ولها ما كسبت من الأعمال ، ولكم ما كسبتم منها ، ولا يسأل أحد عن عمل غيره ، بل يسأل عن عمل نفسه ويجازى به ، فلا يضره ولا ينفعه سواه ، وهذه قاعدة أقرتها الأديان جميعا وأيّدها العقل كما قال :( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) .
لكن غلبة الجهل جعلت الناس يعتمدون في طلب سعادة الآخرة ، وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين ، وساعدهم على ذلك رؤساء الأديان فأوّلوا لهم نصوص الدين اتباعا للهوى ، ومن ثمّ جاء القرآن يقرّر ارتباط السعادة بالكسب والعمل ، وينفى الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يقتد بهم في صالح أعمالهم ، وقد حاجّ بذلك أهل الكتاب الذين يفتخرون بأسلافهم ويعتمدون على شفاعتهم وجاههم ليقطع أطماعهم في تلك الشفاعة.
وعلينا معشر المسلمين أن نجعل نصب أعيننا ورائدنا في أعمالنا تلك القاعدة ـ الجزاء على العمل ـ ولا نغتر بشفاعة سلفنا الصالح ، ونجعلها وسيلة لنا في النجاة إذا نحن قصّرنا في عملنا ، فكل من السلف والخلف مجزىّ بعمله ، ولا ينفع أحدا عمل غيره.
وفّقنا الله تعالى لما يحبه ويرضاه :( يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً ، وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تمّ تصنيف هذا الجزء في الثامن والعشرين من صفر سنة إحدى وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان. فى مدينة حلوان من أرباض القاهرة بالديار المصرية.
فهرس
أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
مقدمة....................................................................... 4
1 ـ التفسير فى عصر الصحابة :.............................................. 7
2 ـ التفسير في عهد التابعين.................................................. 8
6 ـ عصر المعرفة الإسلامية :............................................... 11
(6) أسلوب المفسرين :................................................... 18
(7) ميزة العصر الحاضر في وسائل التفاهم :................................ 19
(8) تمحيص روايات كتب التفسير :........................................ 20
سورة الفاتحة.............................................................. 24
سورة البقرة................................................................ 40
فهرس................................................................... 232