تفسير المراغى الجزء ٢
0%
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
الجزء الثاني
( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) )
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير المفردات
السفه والسفاهة : اضطراب في الرأى والفكر أو الأخلاق ، ويسمى اضطراب العقل طيشا وجهلا ، واضطراب الأخلاق فسادا ، وولاه عن الشيء : صرفه ، والقبلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة ، وأصلها الحالة التي يكون عليها المقابل ، ثم خصت بالجهة التي
يستقبلها الإنسان في الصلاة ، والصراط الطريق ، والمستقيم المستوي المعتدل من الأفكار والأعمال والأخلاق ، وهو ما فيه الحكمة والمصلحة ، والوسط العدل والخيار ، والزيادة على ذلك إفراط ، والنقص عنه تفريط وتقصير ، وكلاهما مذموم ، والفضيلة في الوسط كما قيل :
ولا تغل في شىء من الأمر واقتصد |
كلا طرفى قصد الأمور ذميم |
يقال انقلب على عقبيه عن كذا إذا انصرف عنه بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين ؛ الرأفة رفع المكروه وإزالة الضرر ، والرحمة أعمّ إذ تشمل دفع الضرر ، وفعل الإحسان.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة يستقبل الصخرة التي في المسجد الأقصى ببيت المقدس في الصلاة ، كما كان أنبياء بنى إسرائيل قبله يفعلون ذلك ، ولكنه كان يحب استقبال الكعبة ويتمنى لو حوّل الله القبلة إليها ، ومن ثمّ كان يجمع بين استقبالها واستقبال الصخرة ، فيصلى جهة جنوب الكعبة مستقبلا الشمال.
فلما هاجر إلى المدينة صلى مستقبلا بيت المقدس فحسب لتعذر الجمع بينهما ، وبقي على ذلك ستة عشر شهرا كان في أثنائها يتوجه إلى الله أن يجعل الكعبة هي القبلة لأنها قبلة أبيه إبراهيم ، فأمره الله بذلك ونزل قوله : «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » إلخ فقال اليهود والمشركون والمنافقون : ما الذي دعاهم إلى تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟
وقد بدأ الكلام بما سيقع من اعتراضهم على التحويل ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به قبل وقوعه ، ولقّنه الحجة البالغة والحكمة فيه ، ليوطّن نفسه عليه ، فإن مفاجأة المكروه أشدّ إيلاما ، والعلم به قبل وقوعه يبعد القلق عن النفس ، وليعدّ
الجواب قبل الحاجة إليه ، والجواب المعدّ أقطع لحجة الخصم ، وقد قالوا في أمثالهم «قبل الرمي يراش السهم» وليكون الوقوع بعد الإخبار به معجزة له صلى الله عليه وسلم.
ويتضمن هذا الجواب سرّا من أسرار الدين كان أهل الكتاب في غفلة عنه وجهل به ، وهى أن الجهات كلها لله ، فلا فضل لجهة على أخرى ، فلله أن يأمر بالتوجه إلى أىّ جهة منها ويجعلها قبلة ، وعلى العبد أن يمتثل أمر ربه «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله».
الإيضاح
( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها؟ ) أي سيقول الذين خفّت أحلامهم ، وامتهنوا عقولهم بالتقليد والإعراض عن النظر ، والتأمل من المنكرين تغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين على جهة الإنكار والتعجب : أىّ شىء جرى لهؤلاء المسلمين ، فصرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، وهى قبلة النبيين والمرسلين من قبلهم؟
( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) أي أجبهم بأن الجهات كلها لله ، فليست صخرة بيت المقدس بأفضل من سائر الصخور في جوهرها ، وليس فيها من المنافع ما لا يوجد في غيرها ، وكذلك الكعبة والبيت الحرام ، وإنما يجعل الله تعالى للناس قبلة ، لتكون جامعة لهم فى عبادتهم ، لكن سفهاء الأحلام يظنون أن القبلة أصل في الدين من حيث هى الصخرة المعيّنة أو البناء المعين ، وقد بلغ الأمر باليهود أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم :
ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ، وما أرادوا بذلك إلا فتنته صلى الله عليه وسلم والطعن فى الدين ، ببيان أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها ، حدث بلا داع يدعو إليه ، حتى قالوا : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها ، وليرجعنّ إلى دينهم أيضا.
( يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) أي يرشد الله من يشاء إرشاده وهدايته إلى
الطريق القويم الموصل لسعادة الدارين ، ويلهمهم ما فيه الخير لهم ، وهو تارة يكون فى التوجه إلى بيت المقدس ، وأخرى في التوجه إلى الكعبة.
( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ) أي وقد جعلنا المسلمين خيارا وعدولا ، لأنهم وسط فليسوا من أرباب الغلوّ في الدين المفرطين ، ولا من أرباب التعطيل المفرّطين.
وقد كان الناس قبل الإسلام قسمين : مادّى لا همّ له إلا الحظوظ الجثمانية كاليهود والمشركين ، وقسم تحكمت فيه تقاليده الروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمية ، كالنصارى والصابئة وطوائف من وثنى الهنود أصحاب الرياضات.
فجاء الإسلام جامعا بين الحقّين حق الروح وحق الجسم ، وأعطى المسلم جميع الحقوق الإنسانية ، فالإنسان جسم وروح ، وإن شئت فقل : الإنسان حيوان وملك ، فكماله بإعطائه الحقين معا.
( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) أي لتشهدوا على الماديين الذين فرّطوا في جنب الله ، وأخلدوا إلى اللذات : وحرموا أنفسهم من المزايا الروحية ، وقالوا إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وتشهدوا على من غلا في الدين وتخلّى عن جميع اللذات الجثمانية وعذب جسمه ، وهضم حقوق نفسه ، وحرمها من جميع ما أعده الله لها فى هذه الحياة ، فخرجوا بها عن جادة الاعتدال ، وجنى على روحه بجنايته على جسمه.
تشهدون على هؤلاء وهؤلاء وتكونون سباقين للأمم جميعا باعتدالكم وتوسطكم فى جميع شئونكم ، وذلك هو منتهى الكمال الإنسانى الذي يعطى كل ذى حق حقه ، فيؤدى حقوق ربه ، وحقوق نفسه ، وحقوق جسمه ، وحقوق ذوى القربى وحقوق الناس جميعا.
( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) إذ هو المثل الأعلى لمرتبة الوسط ، فنحن إنما نستحق هذا الوصف إذا اتبعنا سيرته وشريعته ، وهو الذي يحكم على من اتبعها ، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أخرى ، وانحرف عن الجادّة ؛ وحينئذ يكون الرسول
بدينه وسيرته حجة عليه ، بأنه ليس من أمته التي وصفها الله في كتابه بقوله : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين.
( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) أي وما جعلنا القبلة فيما مضى هى الجهة التي كنت عليها إلى اليوم ، ثم أمرناك بالتحول عنها إلى الكعبة إلا ليتبين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له ، فهو عرضة لرياح الشبهات ، تطير به وتغدو وتروح.
والخلاصة ـ إن الله يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين ، وريب المرتابين ، فيثبت من فقه الدين وعرف سره وحكمته ، وتتخطف الشبهات والشكوك من أخذ الدين تقليدا من غير فقه ولا عرفان ، وهكذا سبحانه يختبر ما في القلوب بما يبتلى به الناس من الفتن كما قال : «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ».
وقد جاء في الكتاب الكريم (لنعلم ـ وليعلم) وعلم الله تعالى قديم لا يتجدد ، ومن ثم قال العلماء : المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع ، ذاك أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع ، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت ، ويترتب على ذلك الجزاء من ثواب وعقاب.
( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ) أي وكانت القبلة المحوّلة شاقة ثقيلة على من ألف التوجه إلى القبلة الأولى ، فإن الإنسان ألوف لما يتعوده ويثقل عليه الانتقال منه ، إلا على الذين هداهم الله بمعرفة أحكام دينه وسر تشريعه ، فعلموا أن التعبد باستقبالها إنما يكون بطاعة الله بها ، لا بسرّ في ذاتها أو مكانها ، وأن الحكمة في اختيار قبلة ما ، هو اجتماع الأمة عليها ، وهو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم.
( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) أي وما كانت حكمة الله ورحمته تقضى بإضاعة إيمانكم الباعث لكم على اتباع الرسول في الصلاة وفي القبلة ، فلو كان تحويل القبلة مما يضيع الإيمان بتفويت ثواب كان قبله لما حولها ، وفي هذا بشرى للمؤمنين المتبعين للرسول بأن الله يجزيهم الجزاء الأوفى ، ولا يضيع أجرهم ولا ينقصهم منه شيئا.
ثم ذكر سبب ما تقدم بقوله :
( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) أي إن الله رءوف بعباده ، لأنه ذو الرحمة الواسعة ، فلا يضيع عمل عامل منهم ، ولا يبتليهم بما يظهر صدق إيمانهم وإخلاصهم ليضيع عليهم هذا الإيمان والإخلاص ، بل ليجزيهم أحسن الجزاء.
والخلاصة ـ إنه لا يكتفى بدفع البلاء عنهم برأفته ، بل يعاملهم بعد ذلك بالرحمة الواسعة والإحسان الشامل ، ويزيدهم من فضله.
( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) )
تفسير المفردات
تقلب الوجه في السماء : تردده المرة بعد المرة فيها ، وهى مصدر الوحى وقبلة الدعاء.
نولينك ، من وليه وليا إذا قرب منه ، وتولية الوجه المكان جعله قبالته وأمامه ، والشطر هنا الجهة ، والمراد بالوجه جملة البدن ، بكل آية : أي بكل برهان وحجة ، وواحد الأهواء هوى وهو الإرادة والمحبة ، والامتراء الشكّ.
المعنى الجملي
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشوّف لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، ويقع في روعه أن ذلك كائن ، لأن الكعبة قبلة أبيه إبراهيم ، وقد جاء بإحياء ملته وتجديد دعوته ، ولأنها أقدم القبلتين ، ولأن ذلك أدعى إلى إيمان العرب ، وهم الذين عليهم المعول في إظهار هذا الدين ، لأنهم أكثر الناس استعدادا لقبوله ، ولأنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا ، ولأن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ، ولو لا ديننا لم يدر أين يستقبل القبلة ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قبلتهم حتى
روى أنه قال لجبريل : وددت لو أن الله صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي كان يرجوه ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.
الإيضاح
( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين ، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة.
( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس.
( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام ، وفي ذكر( الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها ، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه.
( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي وفي أىّ مكان كنتم فاستقبلوا جهته بوجوهكم فى الصلاة ، وهذا يقتضى أن يصلّوا في بقاع الأرض المختلفة إلى سائر الجهات ، لا كالنصارى الذين يلتزمون جهة المشرق ، ولا كاليهود الذين يلتزمون جهة المغرب.
وقد وجب لهذا أن يعرف المسلمون موقع البيت الحرام وجهته حيثما كانوا ، ومن ثمّ عنوا عناية عظيمة بعلم تقويم البلدان بقسميه الفلكي والأرضى (الجغرافية الفلكية والأرضية).
والأوامر التي جاءت في الكتاب الكريم موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هى له ولأمته ، إلا إذا دلّ دليل على أنها خاصة به كقوله : «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » وقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ ».
وإنما أكد الأمر باستقباله ، ووجّهه إلى المؤمنين بعد أن أمر به نبيه ، وشرفهم بالخطاب بعد خطاب رسوله ، لتشتدّ عزيمتهم وتطمئنّ قلوبهم ، ويتلقوا تلك الفتنة التي أثارها المنافقون وأهل الكتاب واليهود بعزيمة صادقة وثبات على اتباع الرسول ، ثم عاد إلى بيان حال السفهاء مثيرى الفتنة في تحويل القبلة فقال :
( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أي وإن أهل الكتاب يعلمون أن ذلك التولي شطر المسجد الحرام ، هو الحق المنزل من الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهم مع هذا يفتنون ضعاف المؤمنين في دينهم ويتقبلون ذلك منهم ، إذ يذكرون للناس أقوالا على أنها من كتبهم ، وما هى من كتبهم ، ولكن يريدون بذلك الخداع والفتنة والتهويش على الذين في قلوبهم مرض ، بإثارة الشكوك فى نفوسهم ، ومن ثمّ كذب الله هؤلاء المخادعين ، وبيّن أنهم يقولون ما لا يعتقدون ،
إذ هم يعلمون أن أمر القبلة كغيره من أمور الدين ـ حقّ لا محيص عنه ، إذ جاء به الوحى الذي لا شك في صدقه.
( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) فهو العليم بالظاهر والباطن ؛ والمحاسب على ما في السرائر ، والرقيب على الأعمال ، فيجازي كل عامل بما عمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الشديد لليهود على عنادهم ، وإيقادهم نار الفتنة بين المؤمنين.
( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) أي ولئن جئت اليهود والنصارى بكل برهان وحجة ، على أن الحق هو ما جئتهم به من وجوب التحوّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة إلى قبلة المسجد الحرام ـ ما صدّقوا به ولا اتبعوك عنادا منهم ومكابرة.
وقصارى ذلك ـ إنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة ، بل خالفوك عنادا وصلفا ، فلا يجدي معهم برهان ؛ ولا تقنعهم حجة. وكما أيأسه من اتباعهم قبلته ، أيأسهم من اتباعه قبلتهم فقال :
( وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) أي إن ذلك لا يكون منك ، فإنك على قبلة إبراهيم الذي يجلّونه جميعا ، فهى الأجدر بالاتباع. وإذا كان إتباع ابراهيم لا يزحزحهم عن تعصبهم لما ألفوا والتقليد يحول بينهم وبين النظر في حكمة القبلة ، وسرّ اجتماع الناس عليها ، وكون الجهات كلها لله ـ فأى آية ترجعهم عن قبلتهم؟ وأي فائدة ترجى من موافقتك إياهم عليها؟
( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) أي إن اليهود لا تترك قبلتها وتتجه إلى المشرق ، والنصارى لا تغيّر قبلتها وتتجه إلى المغرب ، لأن كلا منهما متمسك بما هو فيه ، محقّا كان أو مبطلا ، ولا ينظر إلى حجة وبرهان ، إذ التقليد أعمى بصيرته ، فلا يبحث فى فائدة ما هو فيه ، ولا يوازن بينه وبين غيره ، ليتّبع أصلح الأمور وأكثرها نفعا.
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) أي ولئن وافقتهم فيما يريدون ، فصليت إلى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على اتباعك والإيمان بك ، بعد ما جاءك الحق اليقين ، والعلم الذي لا شكّ فيه ـ لتكونن من جملة الظالمين ـ وحاشاك أن تفعل ذلك.
وتقدم أن مثل هذا من باب (إيّاك أعنى واسمعي يا جاره) فالمراد أنه لا ينبغى لأحد من أتباعك المؤمنين أن يفكر في اتباع أهواء القوم استمالة لهم ، فإن الحقّ قوىّ بذاته ، فمن عدل عنه وجارى أهل الأهواء ، رجاء منفعة أو اتقاء مضرّة فهو ظالم لنفسه ، ولمن سلك بهم هذا السبيل الجائر.
وإذا كان هذا الوعيد توجه لأعلى الناس مقاما عند ربه لو حاول اتباع الهوى استرضاء للناس بمجاراتهم على الباطل ، فما ظنك بغيره ممن يتبع الهوى ويجارى الناس على شىء نهاهم الله عنه ، فليعلم المؤمنون أن اتباع أهواء الناس ولو لغرض صحيح من الظلم العظيم الذي يوقع في مهاوى الهلاك ، فكأنه قيل : إن هذا ظلم عظيم لا هوادة فيه مع أحد ، فلو فرض وقوعه من أكرم الناس على الله لسحل عليه الظلم «وما للظّالمين من أنصار» فكيف بمن دونه ممن لا يقار به منزلة عند ربه؟
ولا شكّ أن سماع هذا الوعيد وأشباهه يوجب على المؤمن أن يفكر طويلا ويتأمل فيما وصل إليه حال المسلمين اليوم ، وكيف إن علماءهم يجارون العامة في بدعهم وضلالاتهم وهم يعترفون ببعدها عن الدين ، ولا يكون لهم وازع من نواهيه ، وقوارعه الشديدة ، وزواجره التي تخرّ لها الجبال سجّدا.
وأعجب من هذا مجاراتهم لأهواء الملوك والأمراء ، حتى إنهم ليلفّقون لهم من الحيل والفتاوى ما يسترضونهم به ، ويكون فيه إشباع لشهواتهم واتباع لأهوائهم.
( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) هذا كالدليل لما ذكر فى قوله : «لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ » فكأنه قال : إن سبب العلم بأنه الحق ،
أنهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بما في كتبهم من البشارة به ومن نعوته وصفاته التي لا تنطبق على غيره ، كما يعرفون أبناءهم الذين يربّونهم ويحوطونهم بعنايتهم ، فلا يفوتهم شىء من أمرهم ، حتى لقد قال عبد الله بن سلام رضى الله عنه ـ وقد كان من أحبار اليهود ـ ثم أسلم : أنا أعلم به منى بابني ، فقال له عمر رضى الله عنه : ولمه؟ قال : لأني لست أشكّ في محمد أنه نبىّ ، أما ولدي فلعلّ والدته خانت ، فقبّل عمر رضى الله عنه رأسه ، فهذا اعتراف من حبر من أحبارهم هداه الله ، كما اعترف بمثله تمنيم الداري من علماء النصارى.
( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أي وإن فريقا منهم عاندوا وكتموا الحق الذي يعرفونه ، من أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبىّ ، وأن الكعبة قبلة ، وأضاف الكتمان إلى فريق منهم ، لأنهم لم يكونوا كلهم كذلك ، إذ منهم من اعترف بالحق وآمن به واهتدى ، ومنهم من كان يجحده عن جهل ، لأنهم كفروا به تقليدا ، ولو علموا به حق العلم لجاز أن يقبلوه.
( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) أي إن الحق هو ما أتاك من ربك من الوحى ، لا ما يقول لك اليهود والنصارى ، فالقبلة التي وجهك نحوها هى القبلة الحق التي كان عليها إبراهيم ومن بعده من الأنبياء ، فاعمل بما أمرك ربك ولا تلتفت إلى أوهام الجاحدين ، فتمترى في الحق بعد ما تبين.
والنهى في هذه الآية كالوعيد في الآية السابقة ، موجه فيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد من كانوا غير راسخى الإيمان من أمته ، ممن يخشى عليهم أن يغترّوا بزخرف القول من أولئك المخادعين الذين جعلوا همهم إشعال نار الفتنة بين المؤمنين.
( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152))
المعنى الجملي
بعد أن أقام سبحانه الحجة على أهل الكتاب ، فذكر أنهم يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبى حقّا ، وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وأن جحدهم لتحويل القبلة عناد ومكابرة ، لأنه متى ثبتت نبوّته كان كل ما يفعله إنما هو عن وحي من ربه ـ ذكر هنا أن كل أمة لها قبلة خاصة تتوجه إليها ، والواجب التسليم فيها لأمر الوحى ، وإن لم تظهر حكمة التخصيص للناس ، وأن الواجب التسابق إلى فعل الخيرات ، والله يجازى كل عامل بما عمل ، وأن استقبال الكعبة واجب في الصلاة في أي جهة كان المصلى ، فى البر أو في البحر ، وأنه ينبغى لكم ألا تخشوا محاجة المشركين في القبلة ، بل اخشوا الله ولا تعصوا له أمرا.
الإيضاح
( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) أي ولكل أمة جهة توليها في صلاتها ، فإبراهيم وإسماعيل كانا يوليان نحو الكعبة ، وبنو إسرائيل كانوا يستقبلون صخرة بيت المقدس ،
والنصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فأىّ شبهة تتجه من المشاغبين في أمر تحويل القبلة وكيف يكون ذلك مسوّغا للطعن في النبي وشرعه ، فالقبلة إذا من المسائل التي اختلفت باختلاف الأمم ، فليست الجهة أسّا من أسس الدين كتوحيد الله والإيمان بالبعث والجزاء ، فالواجب فيها التسليم لأمر الوحى كما هو الشأن في أمثالها كعدد الركعات ، ومقدار النصيب الواجب في الزكاة.
( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) أي فبادروا إلى فعل كل نوع من أنواع الخير ، وليحرص كل منكم أن يكون سباقا إليه ، وأن يتبع أمر المرشد لا أمر المكابر المستكبر الذي يتبع الهوى ، ويلقى الحق وراءه ظهريا ، فإنه إنما يستبق إلى الشرّ والضلال «وماذا بعد الحقّ إلّا الضّلال».
( أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) أي ففى أي مكان تقيمون فيه ، فالله يأتي بكم ويجمعكم للحساب ، فعليكم أن تستبقوا إلى فعل الخيرات ، فالبلاد والجهات لا شأن لها فى أمر الدين ، وإنما الشأن لعمل البر ، وفي هذا وعد لأهل الطاعة ، ووعيد لأهل المعصية.
ثم أقام الدليل على ما قبله بقوله :
( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فهو لا يعجزه أن يحشر الناس يوم الجزاء مهما بعدت بينهم المسافات. وتناءت بهم الديار والجهات.
والأمر باستباق الخيرات هنا مجمل يفصله ذكر أنواع البر التي ذكرت في آية «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ، وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ، وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ ، وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ » وستأتى ، وكأنه يقول للفاتنين والمفتونين في مسألة القبلة : إن جوهر الدين ولبه في المسارعة إلى الخيرات ، فهل رأيتم محمدا صلى الله عليه وسلم وأتباعه قصّروا في ذلك أو كانوا السباقين
إلى كل مكرمة ، المتصفين بكل فضيلة ، فدعوا الجدل والمراء واتبعوا فضائل الدين ، فالدين هو السبيل الموصل إلى السعادة المنجّى من كل سوء.
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) أي ومن أىّ مكان خرجت ، وفي أي بقعة حللت ، فول وجهك في صلاتك شطر المسجد الحرام ، وقد أعاد الأمر مرة أخرى ليبين أن هذا التولي عام في كل زمان ومكان ، ولا يختص ببلاد دون أخرى ، ولا بحضر دون سفر ، ولا بالصلاة التي كان يصليها وقد نزل عليه التحويل فيها ، بل هو شريعة عامة في كل حين وفي كل مكان.
وأصحاب هذه القبلة يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها في بقاع الأرض المختلفة شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا.
ثم وثّق ذلك ووكده بقوله :
( وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) أي وإن توليك إياه لهو الحق الثابت الموافق للحكمة والمصلحة.
( وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي فالله ليس بغافل عن أعمالكم وإخلاصكم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يجىء به من أمر الدين ، وسيجازيكم بذلك خير الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعد والبشارة للمؤمنين بنيل المكافأة على ما يفعلون.
( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي ومن حيث خرجت في أسفارك في المنازل القريبة أو البعيدة ، فولّ وجهك جهة المسجد الحرام ، وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين وصليتم فولوا وجوهكم شطره.
وأعاد الأمر( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) مرة ثالثة عناية بأمر هذا التولي ، وليرتب عليه الحكم والمنافع الثلاث الآتية :
1 ـ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) أي لئلا يكون لأولئك المحاجين في أمر القبلة وهم أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون ـ حجة وسلطان عليكم.
ووجه انتفاء حجتهم على طعنهم في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أن أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد إسماعيل يكون على قبلته وهى الكعبة ؛ فبقاء بيت المقدس قبلة دائمة له ، حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به ، فلما جاء هذا التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم.
وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم جاء لإحياء ملة أبيه ، ينبغى ألا يستقبل غير بيت ربه الذي كان أبوه قد بناه ، وكان يصلى هو وإسماعيل إليه ، وبذلك دحضت حجة الفريقين ، ومن ورائهم المنافقون.
( إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) أي لكن الذين ظلموا منهم بالعناد ، فإن لهم عليكم حجة ، إذ يقول اليهود : ما تحوّل إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه ، وحبّا لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء قبله ، ويقول المشركون : رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا ، ويقول المنافقون : إنه متردد مضطرب لا يثبت على قبلة ، إلى نحو هذا من الآراء التي سداها ولحمتها الهوى ، ولا مرجع فيها لحجة وبرهان ، بل هى جدل في دين الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير ، ومثل هؤلاء لا يقام لقولهم وزن.
( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) أي فلا تخشوا الظالمين في توجهكم إلى الكعبة ، لأن كلامهم لا يستند إلى حجة من برهان عقلى ولا هدى سماوى.
( وَاخْشَوْنِي ) فلا تخالفوا ما جاءكم به رسولى عنى ، فأنا القادر على جزائكم بما وعدتكم.
وفي هذا إيماء إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه ، وأن المبطل ينبغي ألا يؤبه له ، فإن الحق دائما يعلو ، وما آفة الحق إلا ترك أهله له ، وخوفهم من أهل الباطل.
2 ـ( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ) بإعطائكم قبلة مستقلة في بيت ربكم الذي وضع قواعده جدكم ، وجعل الأمم الأخرى تبعا لكم فيه ، وطهره من عبادة الأوثان والأصنام ، ووجّه شعوب العالم جميعا إلى بلادكم ، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما يجلّ حصره وفي الحق أن كل أمر من الله فامتثاله نعمة ، وتكون النعمة أتمّ ، والمنة أكمل ، إذا كان فيه حكمة ظاهرة ، وشرف للأمة ، وأثر حميد نافع لها.
3 ـ( وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي وليعدّكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق ، فإن الفتن التي أثارها السفهاء على المؤمنين في أمر القبلة أظهرت قوة الحق وثباته ، وضعف الباطل وخنوعه ، ومحّصت المؤمنين ، ومحقت الكافرين «ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقوىّ عزيز».
( كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا ) أي ولأتمّ نعمتى عليكم باستيلائكم على البيت الذي جعلته قبلة لكم ، وتطهيركم له من عبادة الأصنام ، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فالقبلة في بلادكم ، والرسول من أمتكم ، وهو يتلو عليكم آياتنا التي ترشدكم إلى الحق ، وتهديكم إلى سبيل الرشاد ، وهى تشمل آيات الكتاب الكريم وغيرها من الدلائل والبراهين التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته ، وبديع تصرفه في السموات والأرض.
ووجه المنة في ذلك ، أنه يهديهم إلى الحق مصحوبا بالدليل والبرهان ، دون التقليد والتسليم بلا تبصر وفهم ، وبذا يكون العقل مستقلا ، والدين له مرشدا وهاديا.
( وَيُزَكِّيكُمْ ) أي يطهر نفوسكم من أدران الرذائل التي كانت فاشية في العرب من وأد البنات ، وقتل الأولاد تخلصا من النفقة ، وسفك الدماء لأوهن الأسباب ، ويغرس فيها فاضل الأخلاق وحميد الآداب.
وبهذه الزكاة التي زكّوا بها أنفسهم فتحوا الممالك الكبرى ، وكانوا أئمة الأمم
التي كانت تحتقر هذا الجنس ، وعرفوا لهم فضلهم بعدلهم وسياستهم للأمم سياسة حكيمة أنستهم سياسة الأمم التي قبلهم ، وجعلت لذلك الدين أثرا عميقا في نفوسهم ، فدانوا لحكمه خاضعين ، واهتدوا بهديه راشدين.
( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ ) أي ويعلمكم القرآن الكريم ويبين لكم ما انطوى عليه من الحكم الإلهية ، والأسرار الربانية التي لأجلها وصف بأنه هدى ونور ، فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه ، حتى يبقى مصونا من التحريف والتصحيف ، ويرشدهم إلى ما فيه من أسرار وحكم ليهتدوا بهديه ، ويستضيئوا بنوره.
( وَالْحِكْمَةَ ) وهى العلم المقترن بأسرار الأحكام ومنافعها ، الباعث على العمل بها.
ذاك أن سنة الرسول العملية وسيرته صلى الله عليه وسلم في بيته ، ومع أصحابه في السلم والحرب ، والسفر والإقامة ، فى القلة والكثرة ، جاءت مفصلة لمجمل القرآن ، مبيّنة لمبهمه ، كاشفة لما في أحكامه من الأسرار والمنافع.
ولو لا هذا الإرشاد العملي لما كان البيان القولى كافيا في انتقال الأمة العربية من طور الشتات والفرقة والعداء ، والجهل إلى الائتلاف والاتحاد ، والتآخى والعلم ، وسياسة الأمم.
فالنبى صلى الله عليه وسلم وقف أصحابه على فقه الدين ، ونفذ بهم إلى سرّه ، فكانوا حكماء علماء عدولا أذكياء ، حتى إن أحدهم كان يحكم المملكة العظيمة ويقيم فيها العدل ويحسن السياسة ، وهو لم يحفظ من القرآن إلا بعضه ، لكنه فقهه وعرف أسرار أحكامه.
( وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) أي ويعلمكم مع الكتاب والحكمة ما ليس مصدر علمه النظر والفكر ، بل طريق معرفته الوحى كأخبار عالم الغيب وسير الأنبياء وأحوال الأمم التي كانت مجهولة عندكم ، وأكثرها كان مجهولا عند أهل الكتاب أيضا ، وقد بلغوا في هذا النوع من العلم مبلغا فاقوا به سائر الأمم.
( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) أي اذكروني بالطاعة بألسنتكم بالحمد والتسبيح ، وقراءة كتابى الذي أنزلته على عبدى ، وبقلوبكم بالفكر في الأدلة التي نصبتها في الكون لتكون علامة على عظمتى ، وبرهانا على قدرتي ووحدانيتي ، وبجوارحكم بالقيام بما أمرتكم به ، واجتنابكم ما نهيتكم عنه ، أجازكم بالثواب والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادة ودوام النصر والسلطان.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضى الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل : «أنا عند ظن عبدى وأنا معه ، إذا ذكرنى في نفسه ذكرته فى نفسى ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، وإن تقرّب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا» الحديث.
وهذه أفضل تربية من الله لعباده ، إذا ذكروه ذكرهم بإدامة النعمة والفضل ، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل.
وبعد أن أعلمهم ما يحفظ النعم ، أرشدهم إلى ما يوجب المزيد منها بمقتضى الجود والكرم فقال :
( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) أي واشكروا لى هذه النعم بالعمل بها وتوجيهها إلى ما وجدت لأجله ، والثناء علىّ بالقلب واللسان ، والاعتراف بإحساني إليكم ، ولا تكفروا هذه المنن التي أو ليتكموها بصرفها في غير ما يبيحه الشرع والسنن الإلهية وهذا تحذير من الله لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقعت فيه الأمم السابقة ، إذ كفرت بأنعم الله فلم تستعمل العقل والحواس فيما خلقت لأجله ، فسلبها ما كان قد وهبها تأديبا لها ولغيرها.
وقد امتثل المسلمون هذه الأوامر حينا من الدهر ثم تركوها بالتدريج فحلّ بهم ما ترى من النكال والوبال ، كما قال تعالى : «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ».