تفسير المراغى الجزء ٢
0%
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
النهى عن العضل وإجازة النكاح ، وهذا لا يكون إلا بعد انقضاء العدة ، ومن ثم أثر عن الشافعي أنه قال : دل السياق على افتراق البلوغين ، والعصل الحبس والتضييق ، والعظة النصح والتذكير بالخير على وجه يرقّ له القلب ويبعث على العمل ، والزكاء النماء والبركة.
الإيضاح
( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله. إذا طلقتم النساء وانقضت عدّتهن ، وأراد أزواجهن أو غيرهم أن ينكحوهن وأردن هنّ ذلك ، فلا تمنعوهن من الزواج ، إذا رضى كل من الرجل والمرأة بالآخر زوجا ، وكان التراضي في الخطبة بما هو معروف شرعا وعادة ، بألا يكون هناك محرّم ولا شىء يخلّ بالمعروف ويلحق العار بالمرأة وأهلها.
وفي قوله «بينهم» دليل على أنه لا مانع أن يخطب الرجل المرأة إلى نفسها ، ويتفق معها على التزوج بها ، ويحرم حينئذ على الولي أن يعضلها ويمنعها من الزواج.
كما أن في قوله «بالمعروف» دليلا على أن العضل من غير الكفء غير محرم ، كأن تريد الشريفة في قومها أن تتزوج برجل خسيس يلحقها منه عار ، ويمسّ كرامة قومها منه أذى ، وحينئذ ينبغى أن تصرف عنه بالنصح والعظة.
وأجاز بعضهم العضل إذا كان المهر دون مهر المثل ، ولكن الذي ينبغى التعويل عليه أنه إذا كان الرجل حسن السيرة يرجى منه صلاح المعيشة الزوجية ، ويعسر عليه دفع المهر الكثير والنفقات الأخرى للزواج ـ لا يجوز العضل بل يجب تزويجه.
والمدار في الكفاءة على العرف القومى لا على تقاليد بيوت ذوى الشرف والجاه وكبريائهم ، فما يعدّه جمهرة الناس إهانة للمرأة وعارا على أهلها ، فهو الذي يبيح
لأوليائها المنع منه إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أشنع منه ، كما لا يجوز إكراه المرأة على أن تتزوج بمن لا تحب ، إذ قد يجرّ هذا إلى أضرار ومفاسد ربما لا تحمد عقباها.
والخطاب هنا للأمة جميعها ، لأنها متكافلة في المصالح العامة ، ليعلم المسلمون أنه يجب على من علم منهم بوقوع المنكر من أولياء النساء أو غيرهم أن ينهوه عن ذلك حتى يفىء إلى أمر الله وأنهم إذا سكتوا عن المنكر ورضوا به يأثمون ، إذ كثيرا ما يرجّحون أهواءهم وشهواتهم على الحق والمصلحة ، ثم يقتدى بعضهم ببعض ، فيكثر الشر والمنكر فتهلك الأمة كما قال تعالى «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ».
وقد كان من عادات الجاهلية أن يتحكم الرجال في تزويج النساء ، إذ لم يكن يزوج المرأة إلا وليها ، وقد يزوجها بمن تكره ، ويمنعها من تحب لمحض الهوي.
أخرج البخاري وخلق كثير غيره عن معقل بن يسار قال : كان لى أخت فأتانى ابن عم لى فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت عدتها ، فهويها وهويته ، ثم خطبها مع الخطاب ، فقلت له : يا لكع (يا لئيم) أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبدا ، وكان رجلا لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله حاجته إليها ، وحاجتها إلى بعلها فأنزل الآية ، قال : ففىّ نزلت فكفرت عن يمينى وأنكحتها إياه. وفي رواية فلما سمع معقل الآية قال : أرغم أنفى ، وأزوّج أختى ، وأطيع ربي.
( ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) أي ذلك الذي تقدم من الأحكام المقرونة بالحكم ، مع الترغيب والترهيب ، يوعظ به أهل الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هم الذي يتقبلونه ، وتخشع له قلوبهم ، ويتحرّون العمل به. طاعة لأمر ربهم ، ورجاء لمثوبته عليه في الدارين.
وفي الآية دليل على أن المؤمن حقا لا بد أن يتعظ به ، فالذين لا يتعظون به ولا يعملون به فليسوا بمؤمنين ، بل هم يقولون آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، لأنهم لم يتلّقوا أصول الإيمان بالدليل ، فلم يقع من نفوسهم موقع التأثير في مسالك الوجدان ، فوعظهم عبث ضائع ، إذ هم لا يتبعون إلا أهواءهم ، ويقلدون ما وجدوا عليه آباءهم.
( ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) أي ذلكم النهى عن ترك العضل على الشرط الذي تقدم ، فيه بركة وصلاح لحال متبعيه ، وفيه طهر لأعراضهم وأنسابهم ، وحفظ لشرفهم وأحسابهم ، فكم كان عضل النساء مدعاة للفسوق ، مفسدة للأخلاق ، وسببا في اختلال نظم البيوت ، وشقاء الذرية.
انظر إلى ولىّ يمنع من له الولاية عليها من الزواج بمن تحب ، ويزوجها بمن تكره ، اتباعا لهواه أو لعادات قومه ، كما كانت تفعل العرب من قبل ، أيرجى لمثل هذه صلاح أو أن تقيم حدود الله ، أم يخشى أن يغويها الشيطان بمن تحب ، ويمد لها حبل الغواية حتى لا تقف عند حد؟.
ولجهل الناس بوجوه المصالح الاجتماعية كانوا لا يرون للنساء شأنا في إصلاح حال البيوت ولا فسادها ، حتى جاء الإسلام وعلمهم من ذلك ما هم في أشد الحاجة إليه من حسن معاملة النساء والرفق بهن ومعاملتهن بالحسنى «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ » لكنّ المسلمين نسوا أوامر دينهم وساروا سيرة جاهلية مع نسائهم فكان لذلك أسوأ الأثر في فساد الاسر والبيوت جزاء وفاقا لتركهم عظات شريعتهم وتناسيهم أوامر دينهم.
( وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) أي والله يعلم ما لكم في ذلك من النفع والصلاح ، إذ هو العليم بوجوه الفائدة في هذه الأحكام ، والسر فيما به أمر ، وعنه نهي ، وأنتم لا تعلمون ذلك علما صحيحا خاليا من الأهواء والأوهام.
فالبشر جميعا لم يهتدوا إلى هذه الأحكام مع اختبارهم وتجاربهم الطويلة ، بل عزبت حكمتها عن نفوس الكثيرين منهم ، بعد أن نزل بها الوحى ، وجاء بها الدين
فلم يعملوا بها ، وكان يجب عليهم أن يقيموها على وجهها ملاحظين مالها من فوائد ومنافع أرشد إليها العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) )
تفسير المفردات
الحول والعام يقعان على صيفة وشتوة كاملتين ، والسنة تبتدئ من أىّ يوم عددته من العام إلى مثله ، والمولود له هو الوالد ، والتكليف الإلزام ، والوسع ضد الضيق وهو ما تتسع له القدرة ولا يبلغ آخر مداها ، والطاقة آخر درجات القدرة ، فليس بعدها إلا العجز التام ، مأخوذة من آخر طاقة (فتلة) من الطاقات التي يتألف منها الحبل ، والمضارة مشاركة كل من الوالدين للآخر في الضرر ، فتفيد أن كل إضرار من أحدهما للآخر بسبب الولد إضرار بنفسه ، إذ هذا يستلزم ضر الولد وكيف تحسن تربية ولد بين أبوين همّ كل منهما إيذاء الآخر وضرره ، والفصال
الفطام لأنه يفصل الولد من أمه ، ويفصلها منه فيكون مستقلا في غذائه دونها ، والتشاور والمشاورة والمشورة استخراج الرأى من المستشارين ، ولا جناح عليهما أي لا حرج ، واسترضعت المرأة الطفل أي اتخذتها مرضعا له ، ما آتيتم أي ما ضمنتم والتزمتم ، بالمعروف أي على الوجه المتعارف المستحسن شرعا وعادة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحكام الطلاق في الآيات السالفة ، وبين حرمة العضل على الأولياء ـ ذكر هنا أحكام الرضاعة وكيفية التعامل بين الأزواج من المعاشرة بالمعروف ، وتربية الأطفال والعناية بشئونهم بطريق التشاور والتراضي بين الوالدين.
الإيضاح
( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) أي على جميع الوالدات مطلقات كن أو غير مطلقات أن يرضعن أولادهن مدى حولين كاملين لا زيادة عليهما ، وقد تنقص المدة إذا رأى الوالدان أن في ذلك مصلحة ، والأمر موكول إلى اجتهادهما.
وإنما وجب ذلك على الأم لأن لبنها أفضل لبن باتفاق الأطباء ، فالولد قد تكوّن من دمها وهو في أحشائها ، فلما برز إلى الوجود تحول الدم إلى لبن يتغذى منه وهو منفصل منها ، فهو الذي يلائمه في التغذية وهو سائر معه بحسب سنه ، ولا يخشى على الولد منه من علة بدنية أو خلقية تكون فيه ، فما أخذه وهو في الرحم فاللبن لا يزيده شيئا ، فإذا أرضعته مرضع لضرورة وجب التدقيق في صحتها ومعرفة أخلاقها وبذل الجهد فى اختيارها ، لأن لبنها يؤثر في جسم الطفل وأخلاقه وآدابه ، إذ هو يخرج من دمها ويمتصه الولد ، فيكون دما له ينمو به اللحم وينشز العظم ، فيؤثر فيه جسميا وخلقيا ، وقد لوحظ أن تأثير انفعالاتها النفسية والعقلية في الرضيع أشد من تأثير صفاتها البدنية فيه حتى لقد يؤثر صوتها في صوته ، فما بالك بآثار عقلها وشعورها وملكاتها النفسية ،
وقد فطن علماء التربية والتهذيب في الأمم الراقية ، حتى كانت قيصرة روسيا ترضع أولادها وتحرم عليهم المراضع.
فأين هذا مما نراه اليوم من التهاون في رضاعة الأولاد وسائر شئونهم ، فقد رغب نساء الأغنياء عنها ترفعا وطمعا في بقاء الجمال وحفظ الصحة وسرعة الحمل ، وكل هذا مقاوم لسنة الفطرة ومفسد لتربية الأولاد.
وقد كان للمسلمين من دينهم وازع أيما وازع ، فقد هداهم إلى ما فيه المصلحة في تربية الطفل وتهذيبه ، ولم نردينا تعرّض لمحاسن تربية النشء ومساويها مثل ما تعرض له الدين الإسلامى ، فاللهم وفق المسلمين إلى الاهتداء بهديه ، والتحلي بآدابه.
ويرى جمع من العلماء أنه يجمل بالأم أن ترضع ولا يجب عليها ذلك إلا إذا تعينت للإرضاع بأن كان الولد لا يقبل غير ثديها كما يشاهد ذلك من بعض الأطفال ، أو كان الأب عاجزا عن استئجار ظئر ترضعه ، أو كان قادرا ولم يجد من ترضع.
وقوله كاملين تأكيد لذلك ؛ إذ قد جرت العادة أن يتسامح في مثل هذا فيقال : أقمت عند فلان حولين بمكان كذا ، ويكون قد أقام حولا وبعض الحول.
والحكمة في تحديد هذه المدة في الرضاع العناية بشئون الطفل ، فإن اللبن هو الغذاء الموافق له في هذه السن ، إلى أنه محتاج إلى شفقة وعناية تامة لا تتوافران عند غير الأم ، إلا إذا رأى الوالدان المصلحة في أقل من ذلك ، فهما اللذان يراعيان صحة الطفل فمن الولدان من يستغنى عن اللبن بالطعام اللطيف قبل تمام الحولين.
وقد استنبط العلماء من هذه الآية ومن قوله : «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » أقل مدة الحمل ، فإنه إذا أسقطت مدة الرضاع من ثلاثين شهرا يكون الباقي ستة أشهر وهى أقل المدة.
وقد روى هذا عن على وابن عباس رضى الله عنهما.
( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي وعلى الوالد كفاية المرضع من طعام وكسوة لتقوم بخدمته حق القيام ، وتحفظه من عاديات الأيام.
وإنما عبر بالمولود له ، ولم يعبر بالوالد للإشارة إلى أن الأولاد لآبائهم ، فإليهم ينسبون ، وبهم يدعون ، والأمهات مستودعات لهم كما قال المأمون :
لا تزرين بفتى من أن يكون له |
أمّ من الروم أو سوداء دهجاء |
|
فإنما أمهات الناس أوعية |
مستودعات وللأبناء آباء |
والخلاصة ـ إن الوالدات قد حملن للوالد ، وأرضعن له ، فعليه أن ينفق عليهن ما فيه الكفاية من طعام وشراب وكسوة ليقمن بخدمته ، ويحفظنه ويرعين شئونه ، وأن يكون ذلك الإنفاق بحسب المعروف اللائق بحال المرأة في البيئة التي تعيش فيها ، ولا تلحقها بها غضاضة في نوعه ، ولا في طرق أدائه.
( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ) أي لا تلزم نفس إلا بما تتسع له قدرتها بحيث لا ينتهى إلى الضيق ، وقد فسر هذا في سورة الطلاق بقوله : «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ ، لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ، سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ».
ثم بين العلة في تشريع الأحكام السابقة بقوله :
( لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) أي إن العلة في تشريع ما تقدم منع الضرار من الجانبين بإعطاء كل ذى حق حقه بالمعروف ، فيحرم أن يأتى من أحد الوالدين إضرار بالآخر بسبب الوالد ، فلا ينبغى أن تمتنع الأم من إرضاعه تعجيزا للوالد بالتماس الظئر ، أو تكلفه من النفقة فوق وسعه ، أو تقصّر في تربية الولد تربية بدنية أو خلقية أو عقلية لتغيظ الرجل ، كذلك لا يليق به أن يمنعها من إرضاع ولدها ، وهى له أرأم ، وبه أرأف ، وعليه أحنى وأعطف ، أو يضيّق عليها في النفقة مع الإرضاع ، أو يمنعها من رؤيته ولو بعد مدة الرضاع والحضانة.
( وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ) أي وعلى وارث الصبى وهو قريبه الذي لا يجوز له أن
يتزوجه على تقدير أن يكون أحدهما ذكرا والثاني أنثى ، مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة وأجرة الرضاع.
وقيل المراد بالوارث وارث الصبى من الوالدين أي إذا مات أحد الوالدين فيجب على الآخر ما كان يجب عليه من إرضاعه والنفقة عليه.
( فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما ) أي : فإن للوالدين صاحبى الحق المشترك في الولد ، الراغبين في تربيته تربية قويمة في جسمه وعقله ـ أن يفطماه قبل الحولين الكاملين أو بعدهما إذا اتفق رأيهما على ذلك بعد التشاور والتراضي بينهما ، لأن هذا التحديد إنما هو للمصلحة ودفع الضرر ، فمتى رأيا الفائدة في الأقل أو في الأكثر فعلاه ، أما إذا أقدم أحدهما على ما يضر بالولد كأن ملّت الأم الإرضاع ، أو بخل الأب بإعطاء الأجرة بقية الأجل المضروب فلا حق له في ذلك ، وإنما اعتبر رضا الأم مع أن ولىّ الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره ، مراعاة لمصلحة الطفل ، إذ هى لكمال شفقتها عليه لا تفكر إلا فيما له فيه خير وفائدة.
وهأنت ذا ترى إرشاد القرآن إلى استعمال المشورة في أدنى الأعمال لتربية الولد ، ولم يبح لأحد الوالدين الاستبداد بذلك دون الآخر ـ فما بالك بأجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة ، فهل بعد هذا من شك في حاجة الملوك والأمراء إليها في تربية الأمم وتدبير شئونها؟ ومن ثم طلبها القرآن الكريم من الرسول صلوات الله عليه بقوله : «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » ومدح المؤمنين بقوله تعالى : «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ».
( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ) أي وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم المراضع الأجنبيات فلا ضير في ذلك إذا أعطيتم لهن الأجور المتعارفة لأمثالهن ، لما في ذلك من مصلحة للمرضع ومصلحة للولد والوالد ، فإن المرضع إذا لم تعامل معاملة حسنة ترضيها بأن تأخذ أجرها كاملا غير منقوص ، وتمنح الهبات والعطايا ـ لا تهتم بالطفل ولا تعنى بإرضاعه ، ولا بنظافته ولا بسائر
شئونه ، وإذا هى أوذيت تغير لبنها فيكون ضارا بالطفل مؤذيا له ، ويتبع هذا إيذاء الوالد حين يرى ابنه على غير ما يحب ويهوى.
( وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أي واخشوا الله فلا تفرطوا في شىء من هذه الأحكام مع توخّى الحكمة فيها ، واعلموا أن الله بصير بأعمالكم فهو يجازيكم عليها ، فإذا قمتم بحقوق الأطفال بتراض وتشاور واجتنبتم المضارّة كان الأولاد قرة أعين لكم في الدنيا وسبب المثوبة في الآخرة ، وإن أنتم اتبعتم أهواءكم وعمل كل منكم على مضارة الآخر كان الأولاد بلاء وفتنة لكم في الدنيا واستحققتم عذاب الله في الآخرة.
فما أشد هذا التهديد والوعيد على ترك العناية بالأطفال ومضارة كل من الوالدين للآخر من أجل أولادهما ، فليعتبر بذلك المسلمون ولا يجعلوا تربية الأولاد موكولة إلى المصادفة ، والعناية بها دون العناية بسلعة التاجر ، وأدوات الصانع ، وماشية الزارع ، وما أبعد المسلمين اليوم عن اتباع مناهج دينهم واتباع وصاياه ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) ) .
تفسير المفردات
يتوفون منكم : أي يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم ، ويذرون : أي يتركون ، والزوج يطلق على الذكر والأنثى كما قال تعالى : «وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ » وأصله العدد المكوّن من شيئين اتحدا وصارا شيئا واحدا في الباطن وإن كانا شيئين في الظاهر ، وسمى به كل من الرجل والمرأة للدلالة على أن من مقتضى الفطرة أن يتحد الرجل بامرأته والمرأة ببعلها ، بتمازج النفوس ووحدة المصلحة ، حتى يكون كل منهما كأنه عين الآخر ، ويتربصن : أي ينتظرن ، وبلغن أجلهن : أي أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار ، والتعريض في الكلام أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح بدون تصريح ، والخطبة (بكسر الخاء) هى طلب الرجل المرأة للزواج بالوسائل المعروفة بين الناس ، والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة ، والقول المعروف ما لا يستحيا منه في المجاهرة كذكر حسن المعاشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
وعزم الشيء وعزم عليه واعتزمه : إذا صمم على تنفيذه ، والكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض ، وأجله : أي نهايته.
المعنى الجملي
كان الكلام قبل هذا في أحكام الطلاق من جهة عدده وكيفيته ، وأن للزوج المراجعة والإمساك بالمعروف ، كماله التسريح والتطليق بالإحسان ، ثم ذكر بعده حكم الإرضاع وما للوالدة من حقوق فيه ، وما على الوالد من واجبات قبل ولده من رزق وكسوة ونحو ذلك ـ وهنا ذكر أحكام من يموت بعولتهن من وجوب الحداد عليهم ، ومن وجوب العدة ، ومن جواز خطبتهن ، ومن صحة العقد عليهن.
الإيضاح
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) أي إن الرجال الذين يموتون ويتركون زوجات يردن الزواج ، لا يحل لزوجاتهم أن يتعرضن لخطبة ولا زواج ولا خروج من المنزل إلا لعذر شرعى مدة أربعة أشهر وعشرة أيام.
وخلاصة المعنى ـ إن عدة النساء اللاتي يموت أزواجهن أربعة أشهر وعشرة أيام لا يتعرضن فيها للزواج بزينة ولا خروج من المنزل إلا للأعذار المبيحة لذلك ، ولا يواعدن الرجال بالزواج ، اهتماما بحقوق الزوجية وتعظيما لشأنها.
وقد حرمت السنة الحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام.
وهذا الحكم خاص بغير الحوامل ، فإن الحامل التي يموت زوجها تنقضى عدتها بوضع الحمل ولو بعد الموت بساعة كما قال تعالى : «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ » سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن.
روي أبو داود حديث سبيعة الأسلمية قالت : إن النبي صلى الله عليه وسلم أفتاها بأنها حلّت حين وضعت حملها ، وكانت ولدت بعد موت زوجها بنصف شهر.
ولا نبحث عن الحكمة في تحديد هذه المدة فهى كأعداد الركعات ومقدار الواجب فى الزكاة ، وقال بعضهم في بيانها : إن تعرف براءة الرحم احتاجت إلى ثلاثة قروء أو ستين يوما ، فبراءة النفس من الحزن والكآبة تحتاج إلى مدة أطول من هذه لعظم الكارثة وفداحة الخطب ، إلى أن التعجيل بالزواج مما يسىء أهل الزوج ويفضى إلى الخوض في شأن المرأة ، إذ يقولون إنها لم تكن على ما ينبغى من الوفاء للزوج والحزن عليه إلى أنه كان من المعروف عند العرب أن المرأة تصبر على البعد عن الرجل أربعة أشهر بلا حرج ولا مشقة وتتوق إليه بعد ذلك ، حتى إن عمر أمر ألا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر بعد أن سأل أهل بيته.
وإذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام.
وهذا التحديد لعدة الوفاة يشمل الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض واليائسة.
( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) أي فإذا أتممن عدتهن وانتهت مدة التربص والانتظار فلا إثم عليكم أيها المسلمون أن تفعل المرأة ما كان محظورا عليها قبل ذلك من التزين والتعرض للخطّاب والخروج من المنزل على الوجه المعروف شرعا وعرفا.
فإن فعلن شيئا من ذلك قبل انقضاء الأجل كن قد أتين بمنكر فيجب على أوليائهن وخيار المسلمين أن يمنعوهن ، فإن لم يستطيعوا ذلك استعانوا بالحاكم لإزالة هذا المنكر.
وقد بينت السنة والأخبار الصحيحة ما يحظر على المرأة أن تفعله ، فقد روى الشيخان من حديث حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة حين توفى أبو سفيان (والدها) فدعت بطيب فيه صفرة خلوق وغيره ، فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ، ثم قالت والله ما بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا».
وقالت زينب : سمعت أمّى أمّ سلمة تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفى زوجها وقد اشتكت عينها ، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا) مرتين أو ثلاثا ـ كل ذلك يقول (لا) ثم قال : إنما هى أربعة أشهر وعشر.
وقد كانت المرأة في الجاهلية تحدّ على زوجها شر حداد وأقبحه ، فكانت تمكث سنة كاملة لا تمسّ طيبا ولا زينة ، ولا تبدو للناس في مجتمعهم ، ثم تخرج بعد ذلك ، وكان لهم في ذلك عادات سخيفة وخرافات شائنة.
إلى أن جاء الإسلام فأصلح من ذلك ، فجعل العدة على نحو الثلث مما كانت عليه ، ولم يحرم فيها إلا الزينة والطيب والتعرض لأنظار الخاطبين من مريدى الزواج ، وما منع النظافة ولا الجلوس في كل مكان في البيت مع النساء والمحارم من الرجال ، والكحل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم هو كحل الزينة لا كحل التداوى بدليل حديث الموطأ عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار».
والمسلمات اليوم لا يسرن على طريق واحدة في الحداد ، فمنهن من يغلون في الحداد ويغرقن في النّوح والندب والخروج من مألوف العادات في المعيشة ، حتى يزدن على ما كان عليه نساء الجاهلية ، ولا يخصصن الزوج بما خصه به الشرع ، بل ربما حددن على الولد السنة والسنتين ، وربما تركن الحداد على الزوج بعد الأربعين.
فالخير كل الخير للمسلمين أن يصلحوا هذه العادات الرديئة في الحداد ، إذ لا فائدة فيها إلا إفناء المال في تغيير اللباس والأثاث والرياش والماعون ، وفساد آداب المعاشرة والشقاء في أحوال المعيشة ، وما ينجم عن ذلك من الأمراض ، ولا سيما لدى ضعفاء الأمزجة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعودة إلى أحكام الشرع من الحداد ثلاثة أيام على القريب وأربعة أشهر وعشرا على الزوج ، وجعل الحداد مقصورا على ترك الزينة والطيب وعدم الخروج من المنزل إلا لضرورة.
( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) فهو محيط بدقائق أعمالكم لا يخفى عليه شىء منها ، فإذا جعلتم نساءكم تسير على نهج الشرع وحدوده صلحت أحوالكم ، وسعدتم في دنياكم ، وأحسن الله جزاءكم في أخراكم ، وإن أسأتم السيرة وحدتم عن السّنن السوىّ أخذكم أخذ عزيز مقتدر.
( وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ ، أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ )
أي ولا إثم ولا حرج على الرجل أن يعرّض للمرأة ويلوّح لها في أثناء عدة الزواج ، أو عدة الطلاق البائن بأمر الزواج ، لا في أثناء عدة الطلاق الرجعى ، لأنها لا تزال فى عصمة زوجها.
وللناس في كل عصر كنايات يستعملونها في مثل هذا ، كأن يقول : إني أحب امرأة من صفتها كيت وكيت ، أو يقول وددت لو أن الله وفّقنى لامرأة صالحة مثلك أو يقول : إنى حسن الخلق ، كثير الإنفاق ، جميل العشرة ، محسن إلى النساء ، إلى نحو ذلك.
كذلك لا حرج عليه فيما يكتمه في نفسه ويعزم عليه من الزواج بها بعد انتهاء أجل العدة ، لأن مثل هذا مما يتعسر الاحتراز منه ، ومن ثم ذكره الله تعالى على وجه الترخيص بقوله :
( عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ) فى أنفسكم ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن أن تبوحوا لهن بما انطوت عليه جوانحكم ، ومن ثم رخص لكم في التعريض دون التصريح ، فعليكم أن تقفوا عند حدّ الرخصة ولا تتجاوزوها.
( وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا ) أي ولكن لا تواعدوهن على الزواج في السر ، فإن المواعدة على هذه الحال مدرجة للفتنة ، ومظنّة للقيل والقال ، بخلاف التعريض فإنه يكون على ملأ من الناس ، فلا عار فيه ولا عيب ، ولا يكون وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه.
وذهب جمهرة العلماء إلى أن السر هنا يراد به النكاح ، أي لا تتّعدوا معهن وعدا صريحا على التزوّج بهن.
( إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً ) أي لا تواعدوهن بالمستهجن ، ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في الجهر ، كذكر حسن العشرة وسعة الصدر للزوجات إلى نحو ذلك.
والخلاصة ـ إنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في امر
الزواج سرّا ، أو يتواعدوا معهن عليه ، ولكن رخص لهم في التعريض الذي لا ينكر الناس مثله على مسمع منهن ، ولا يعدّونه خارجا من الاحتشام معهن.
وفائدة ذلك ـ أن يكون تمهيدا لهن ، حتى إذا أتمت إحداهن العدة كانت عالمة بمن يرغب فيها ، فإذا سبق المفضول ردته إلى أن يأتي الأفضل.
( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ ) أي ولا تصمموا تصميما جازما على الارتباط الشرعي مع معتدة الوفاة حتى تنتهى عدتها.
والخلاصة ـ إن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا ، بل الخطبة فيها محرّمة ، والعقد فيها باطل بإجماع المسلمين.
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ) أي واعلموا أن الله يعلم ما تضمرونه فى قلوبكم من العزم على ما لا يجوز ، فاحذروا أن تعزموا على ما حظر عليكم من قول أو فعل.
وقد جاء هذا التحذير عقب ذكر الأحكام المتقدمة على سنن القرآن من قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا ، ليكون ذلك آكد في المحافظة عليها والعناية بها.
( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) أي واعلموا أن الإنسان إذا تعدى حدود الله وأراد الرجوع إليه بالتوبة يغفر له ، وهو الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل عباده ليصلحوا بصالح أعمالهم ما أفسدوا بما سبق من زلّاتهم ، فعليكم أن تجتنبوا أسباب العقوبة ، وتعملوا بما أمرتم به ، وتغتنموا زمان الحياة القصيرة حتى لا تأسوا على ما فاتكم.
( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ
أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237))
تفسير المفردات
الجناح هنا التبعة (المسئولية) كالتزام بمهر وغيره ، والمسيس : اللمس باليد من غير حائل ، ويراد به في لسان الشرع ما يراد بالمماسة والملامسة والمباشرة وهو غشيان المرأة ، والفريضة : المهر ، وفرضها : تسميتها ، والمتعة والمتاع ما ينتفع به مع سرعة انقضائه ومن ثمّ يسمى التلذذ بالشيء تمتعا لسرعة انقطاعه ، وأوسع الرجل إذا صار ذا سعة فى المال وبسطة وغنى ، وأقتر : إذا قلّ ماله وافتقر ، وأقتر على عياله وقتّر إذا ضيق عليهم فى النفقة ، والقدر (بفتح الدال وسكونها) قدر الإمكان والطاقة ، ومتاعا : أي حقّا ثابتا واجبا ، والمعروف : ما يتعارفه الناس بينهم ويليق بهم بحسب اختلاف أصنافهم ومعايشهم وبيئاتهم ، والمحسنون : هم الذين يحسنون في معاملة المطلقات ، والذي بيده عقدة النكاح هو الزوج المالك لعقد النكاح وحله ، وعفوه : تركه ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها كاملا تكرما منه ، والفضل : المودة والصلة.
الإيضاح
( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) أي لا يلزمكم شىء من المهر وغيره عند طلاقكم للنساء قبل الدخول بهن إلا إذا سميتم لهن مهرا ، فإن حصل المساس فعليه تمام المسمى في حال التسمية ، ومهر مثلها إن لم يسمّ لها مهرا ، وفي حال الطلاق قبل المسيس مع الفرض ، عليه نصف ما فرض وسمى.
( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) أي وأعطوا المطلقات شيئا من مالكم يتمتعن به بحسب حالكم في الثروة والغنى ، ولم يحدده الله تعالى ، بل وكله إلى اجتهاد
المرء لأنه أدرى بثروته ، إلا أن الشارع حبب في بسط الكف والسخاء للمطلقة تطييبا لنفسها وعوضا عما لحقها من الضرر.
( مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) أي وجعل هذه المتعة حقا واجبا على من يريد الإحسان في معاملة المرأة بما يتعارفه الناس بينهم.
وهذه المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر وهى المذكورة في الآية ، ومستحبة لسائر المطلقات.
والحكمة في شرعها أن في الطلاق قبل الدخول امتهانا وسوء سمعة لها ، لأن فيه إيهاما للناس بأن الزوج ما طلقها إلا وقد رابه شىء من أخلاقها ، فإذا هو متعها متاعا حسنا تزول هذه الغضاضة ، ويكون ذلك شهادة لها بأن سبب الطلاق كان من قبله لا من قبلها ولا علة فيها ، فتحتفظ بما كان لها من صيت وشهرة طيبة ، ويتسامع الناس ويقولون إن فلانا أعطى فلانة كذا وكذا فهو لم يطلقها إلا لعذر وهو معترف بفضلها ، لا أنه رأى فيها عيبا ، أو رابه من أمرها شىء ، فيكون ذلك كالمرهم لجرح القلب ، وجبر وحشة الطلاق.
وقد أثر عن الحسن السبط أنه متّع إحدى زوجاته بعشرة آلاف درهم فقالت : متاع قليل من حبيب مفارق.
( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) أي وإن حصل الطلاق قبل المسيس وقد سمى لهن مهر فلهن نصف المسمى المفروض ، ويرجع إلى الزوج النصف الثاني.
وهذا جار على ما كان يعمله الناس من سوق المهر كله للمرأة حين العقد ، لا على ما استحدثوه من تأخير ثلث المهر أو أكثر منه أو أقلّ لرغبتهم في حبّ الظهور والتفاخر بكثرة المهر مع اجتناب إرهاق الزوج بدفعه كله.
وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول وجب المهر كله للزوجة إذا مات الزوج ،
أو لوارثها إذا ماتت هى ، لأن الموت كالدخول بها يوجب المهر كله ، إن كان هناك مهر مسمى ، أو مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر.
( إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ ) أي إلا أن يعفو المطلقات عن أخذ النصف كله أو بعضه ، فتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ، ولا استمتع بي ، فكيف آخذ منه شيئا؟ فيسقط حينئذ ما وجب عليه ، وحق الإسقاط إنما يكون للمرأة البالغة الرشيدة.
( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) أي أو يعفو الزوج ويترك ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها تكرما منه ، وحينئذ تأخذ الصداق كاملا ، النصف الواجب عليه ، والنصف الساقط العائد إليه بالتنصيف ، وعبر بقوله : بيده عقدة النكاح للتنبيه إلى أن الذي ربط المرأة وأمسك العقدة بيده ، لا يليق به أن يحلها ويدعها بدون شىء ، بل يستحب له العفو والسماح بكل ما كان قد أعطى ، وإن كان الواجب المحتّم نصفه ، وإلى هذا أشار بقوله :
( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) أي إن من عفا من الرجال والنساء فهو المتّقى ، فأحيانا تكون المصلحة في عفو الرجل عن النصف الآخر ، وأحيانا في عفو المرأة عن النصف الواجب لها ، لأن الطلاق قد يكون من قبله بلا سبب داع منها ، وقد يكون بالعكس.
والمراد بالتقوى هنا تقوى الله المطلوبة في كل أمر ، إذ العفو أكثر ثوابا وأجرا ، أو المراد تقوى الريبة بما يترتب على الطلاق من التباغض ، إذ السماح بالمال يذهب هذا الأثر ويعيد الصفاء إلى القلوب ، وهذا ما بينه سبحانه بقوله :
( وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) أي ينبغى لمن تزوج من أسرة ثم طلق ، ألا ينسى مودة أهل ذلك البيت وصلتهم ، ولكن المسلمين نسوا دينهم أو تناسوه ، وجروا على عكس هذا ، فصارت روابط الصهر وسائر أنواع القرابة واهنة ضعيفة ، وإنك لو رأيت ما يجرى بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات وما يكيد به بعضهم لبعض ، لوجدت أنهم تجافوا أوامر شريعتهم وجعلوا إلههم هواهم ، فالرجال يتركون نساءهم بلا نفقة حتى يضطررن
أحيانا إلى بيع أعراضهن ، أو يذرونهن كالمعلقات ، فلا هم يمسكونهن بمعروف ولا يسرحونهن بإحسان حتى يفتدين منهم بالمال.
والمطلقات المعتدات بالأقراء يزعمن أن الحيض قد حبس عنهن ، فتمضى السنة أو أكثر منها ولا تنقضى عدتهن بزعمهن ، وما الغرض من هذا إلا إلزام المطلق النفقة طول هذه المدة انتقاما منه ، ولكن العمل الآن في المحاكم المصرية على أن نفقة العدة لا تزيد على سنة قمرية (354 يوما).
وإذا حدث طلاق ـ كان بين أسرتي الزوجين حرب عوان ونصبت كل منهما للأخرى الحبائل والأشراك ، لتوقعها في مهاوى الهلاك ، فأين هؤلاء من كتاب الله وشرعه ، إنهم ليسوا منه في شىء ، فقد عميت أبصارهم وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
( إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ختم سبحانه الآية بالتذكير باطلاعه تعالى وإحاطة بصره بما يعامل به الأزواج بعضهم بعضا ، ترغيبا في المحاسنة والفضل ، وترهيبا لأهل المخاشنة والجهل ، لتكون مقرونة بالموعظة التي تغذّى الإيمان وتبعث على الامتثال.
( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) )
تفسير المفردات
حافظ على الشيء وداوم عليه وواظب عليه : فعله المرة بعد المرة ، وحفظ الصلاة المرة بعد الأخرى الإتيان بها كاملة الشرائط والأركان بالخشوع والخضوع القلبي ، والصلوات : هى الخمس المعروفة بالبيان العملي من النبي صلى الله عليه وسلم والتي أجمع
عليها المسلمون من جميع الفرق ، حتى إن من جحدها أو شيئا منها لا يعدّ مسلما ، وقد استنبطوا عددها من آيات أخرى كقوله تعالى : «فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ » والصلاة الوسطى : هى إحدى هذه الخمس ، والوسطى : إما بمعنى المتوسطة بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان ، وإما بمعنى الفضلى ، وبكل من المعنيين قال جماعة من العلماء ، ومن ثم اختلفوا أىّ الصلوات أفضل؟ وأيتها المتوسطة؟ وأرجح الأقوال أنها صلاة العصر لما رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن على مرفوعا(شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) يعنى يوم الأحزاب ، وروى أحمد والشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى هذا اليوم «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس» ولم يذكر العصر ، وفي رواية عن علىّ عن عبد الله بن أحمد في سند أبيه : كنا نعدها الفجر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هى العصر».
والقنوت : الانصراف عن شئون الدنيا إلى مناجاة الله والتوجه إليه لذكره ودعائه ، والرجال : واحدهم راجل ، وهو الماشي ، والركبان : واحدهم راكب.
المعنى الجملي
تقدم هاتين الآيتين آيات في الأحكام بعضها في العبادات وبعضها في المعاملات وكان آخرها ما بينه من السبيل القويم في معاملة الأزواج ، وقد جرت سنة القرآن أن يأتى عقب الحكم والأحكام بالأمر بتقوى الله ، والتذكير بعلمه بحال عباده ، وما أعدّ لهم من جزاء على العمل ، حتى يقوى الوازع الديني في النفوس ويحفزها على الإخلاص فيه.
لكن النفوس قد تغفل عن هذا التذكير بانهما كها في مشاغل الحياة ، أو في تمتعها باللذات ، فتتنكّب عن جادة الهدى ، وتتفرّق بها السبل ، ومن ثم كانت