تفسير المراغى الجزء ٢
0%
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
الله وسنة رسوله ؛ ثم نعود إلى موضع الحساب ، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا ، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.
( كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ) أي إنه كما أراهم العذاب ، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم ، والمراد من إراءتهم ذلك ، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم ، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله ، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء ، فالأعمال هى التي كونت هذه الحسرات في النفوس ، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقي.
( وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال ، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم ، ولا إلى الجنة ، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرافات الشرك وحب الأنداد.
( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) )
تفسير المفردات
الحلال هو ما أباحه الشارع ، والحرام ضده ، والخطوات واحدها خطوة (بالضم) وهى ما بين قدمى الماشي ، يقال اتبع خطواته ، ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته ، ومبين أي ظاهر العداوة لذوى البصائر ، والسوء ما يسوءك وقوعه أو عاقبته ، والفحشاء كل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام وهى أقبح وأشد
من السوء ، ويأمركم أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع ، وأنتم فى انقيادكم له ، كأنكم مأمورون ، ألفينا أي وجدنا ، وعقل الشيء عرفه بدليل ، وفهمه بأسبابه ونتائجه.
المعنى الجملي
بعد أن بين في الآية قبلها حال متحذى الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب ، وأن الذين اتّبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب ، وتقطع الأسباب بينهم ، وهى المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض ، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان :
(1) قسم يتّخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.
(2) قسم يعتمد عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.
بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة ، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى.
الإيضاح
( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا.
قال ابن عباس : نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرّموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام.
وقد بين ما حرم من المآكل في الآية الكريمة «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ » فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير ، وبيانه أن المحرم قسمان :
(1) محرم لذاته لا يخل إلا للمضطر.
(2) محرم لعارض ، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل ، أو يأخذه المرءوسون بجاه الرؤساء ، وكأخذ الربا والرّشوة والغصب والسرقة والغش ، فكل هذا خبيث غير طيب.
( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي ولا تتبعوا سيرته فى الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء ، فهو عدو لكم بين العداوة ، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة ، والمحرّض على ارتكاب الجرائم والآثام قال تعالى : «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » فهذا نهى عن اتباع وحي الباطل والشر ، لأنه من إغواء الشيطان ، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير ، فهمّت نفسه بالعمل ، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير ، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان. ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه فى موضع أنفع ، أو بذله لفقير أحوج.
ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال :
( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ) أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها ، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية ، والتصرف
فى الأكوان بدون اتخاذ الأسباب ـ قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان ، ومثلهم من اتخذ رأى الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله ، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل ، واتخذوا من دون الله الأنداد «ومن يضلل الله فلا هادى له».
( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية ، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم ، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة ، ففى كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع ، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان ، فإنه الأصل في إفساد العقائد ، وتحريف الشرائع.
ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه ، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم ، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سننه في خلقه ، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى ، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ويسمون مثل هذا توسلا : أي تقربا إلى الله ، وحاشى أن يتقبّل التقرب إليه بالشرك به ، ودعاء غيره معه وهو يقول «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ».
ثم سجل عليهم كمال ضلالهم وعدّد جناياتهم فقال :
( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحى ولا تتبعوا من دونه أولياء ـ جنحوا إلى التقليد ، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه السادة والكبراء والشيوخ من آبائنا ، استئناسا بما ألفوه مما ألفه آباؤهم من قبل.
ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال :
( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) أي أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم فى كل حال وفي كل شىء ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته : أي حتى لو تجردوا من دليل عقلى أو نقلى في عقائدهم وعباداتهم.
وفي الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد.
فإذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين ـ فهذا ليس بتقليد ، بل اتباع لما أنزل الله ، كما قال تعالى «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر ، وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون ، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم ، وهم لا يوصفون بإصابة الصواب ، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق ، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق ، فهو عارف بالقول فقط.
( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) )
تفسير المفردات
المثل الصفة والحال ، ونعق الراعي والمؤذن صاح ، وما لا يسمع أي لا يدرك بالاستماع إلا دعاء ونداء ، والفارق بينهما أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، والفارق بين الكافر والضال أن الأول يرى الحق ويعرض عنه ، ويصرف نفسه عن دلائله ، فهو كالحيوان يرضى بأن يقوده غيره ويصرّفه كيف شاء ، والثاني يخطئ الطريق مع طلبه أو جهله بمعرفته بنفسه أو بدلالة غيره.
المعنى الجملي
بعد أن نعى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه ، أو حجة يركنون إليها.
أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم ، وسخف عقولهم ، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها ، وتنزجر بزجره ، مسخّرة لإرادته ، ولا تفهم لما ذا دعا ، ولما ذا زجر ، وهكذا شأن من يسلّمون معتقدا بلا دليل ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل ، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه ، وكالعمى فى الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها ، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق ، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال ، وأنى لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله؟ ومن ثم قالوا : من فقد حسا فقد فقد علما.
الإيضاح
( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ) أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم ، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال ، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة ، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي ، ويسوقها إلى المرعى ، ويدعوها إلى الماء ، ويزجرها عن الحمى ، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره ، وهى لا تعقل مما يقول شيئا ، ولا تفهم له معنى ، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود ، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار.
وفي الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر ، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه. ويعرفه بنفسه ، ويقتنع بصحته ، إذ ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان ، بل المقصد منه أن يرتقى عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان ، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضى الله ، ويترك الشر لأنه يضره فى دينه ودنياه.
( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي إنهم يتصامّون عن سماع الحق ، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس ، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمى ، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية ، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) )
تفسير المفردات
الإهلال رفع الصوت ، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها ، ويقولون : باسم اللات. أو باسم العزّى ، ثم قيل لكل ذابح (مهلّ) وإن لم يجهر بالتسمية ، والباغي الطالب للشىء الراغب فيه كما
ورد في الحديث (يا باغي الخير هلّم)
والعادي المتجاوز قدر الضرورة كما جاء في التنزيل «وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ » أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، والإثم الذنب والمعصية.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه ، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا ، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل.
هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأحرى بالاهتداء ، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم ، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة ، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها ، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم ، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى ، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.
الإيضاح
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجىء الإسلام فرقا وأصنافا ، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وبعض الحيوان عند غيرهم ، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات ، واحتقار الجسد وما يلزمه ، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح ، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات ، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين ، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها.
وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء ، ولا وجود لها في التوراة ، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام ، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.
وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه ، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها ، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام ، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسىّ كملة.
وقصارى ذلك ـ إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين.
وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها ، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق ، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم ، وإلا كنا مشركين به ، كافرين لنعمه ، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه ، يطلب منهم الرزق ، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.
وبعد أن ذكر إباحة الطيبات ، بين ما حرم من الأطعمة فقال :
( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها ، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن ضرره ، ولأن الطباع تستقذرها.
(والدم) أي الدم المسفوح ، لأنه قذر وضارّ كالميتة.
( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.
( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله ، لأنه من أعمال الوثنية ، وفيه إشراك واعتماد على غير الله ، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم ، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح : باسم الله الله أكبر ، يا سيد يا بدوي ، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضى حاجة صاحبه.
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) أي فمن ألجئ إلى أكل شىء مما حرم الله ، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه ، ولم يكن راغبا فيه لذاته ، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه ، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم ، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون ؛ كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا ، لم يقصد إجازة عمل الوثنية. ولا استحسانه.
وإنما ذكر قوله : غير باغ ولا عاد ، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده ، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر ، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.
( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة ، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم ، رحيم بهم ، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر ، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) )
تفسير المفردات
الضلالة : هى العماية التي لا يهتدى فيها الإنسان لمقصده ، والهدى : الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه ، والشقاق : هو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف ، وحقيقته أن يكون كل من الخصمين في شق أي جانب غير ما فيه الآخر.
المعنى الجملي
بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى ، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم ، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله ، وشرعوا لهم ما لم يشرعه ، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك ؛ فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب ، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال : «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ».
الإيضاح
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله ، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم ، فى مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرءوسين ، وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه ، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال : «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ».
( أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به ، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار ، وانتهاء مطامعهم بعذابها ، وقد يكون المعنى : إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وهذا الحكم عامّ يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم ، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل.
( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم ، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم ، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه ، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.
( وَلا يُزَكِّيهِمْ ) أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرّون على كفرهم.
( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي ولهم عذاب شديد الألم موجع.
( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم ، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه ، وهو ما جاء به الرسل
عن ربهم ، واتبعوا آراء الناس في الدين وهى لا ضابط لها ، وهى مشتبه الأعلام يضلّ بها الفهم ، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق.
( وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ ) أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة ، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة ، وكان هو الجاني على نفسه حين اغترّ بالعاجل واستهان بالآجل.
( فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) أي إنّ انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين فى الآيتين السالفتين هو مثار العجب ، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها ، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم ، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها ، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب ، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك :
ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب.
( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ) أي ذلك العذاب الذي تقرّر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق ، والحق لا يغالب ، فمن غالبه غلب.
( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) أي وإن الذين اختلفوا فى الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف ، لفى شقاق بعيد عن سبيل الحق ، فلا يهتدون إليه ، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأى ومذهب ، وينأى بجانبه عن الآخر ، فيكون الشقاق بينهما بعيدا.
وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق ، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » فلا يجوز أهل الكتاب الإلهى أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ».
فإذا وجد خلاف في الفهم (وهو ضرورى في طباع البشر) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال : «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ » وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم ، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا ، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع ، بل يسبهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه ، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه ، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) )
تفسير المفردات
البر : لغة التوسع في الخير ، وأصله من البر المقابل للبحر ، وفي لسان الشرع كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق ، قبل المشرق والمغرب أي ناحيتيهما ، وآتى المال أي أعطاه ، والمسكين هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته ، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه ، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة ، والسائل من ألجأته الحاجة إلى السؤال وتكفّف الناس ، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل ألا يتعداها ، وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب وعتقها ، وأقام الصلاة أي أداها على أقوم وجه وأحسنه ، والعهد ما يلتزم به إنسان
لآخر والبأساء من البؤس وهو الفقر والشدة ، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل ومال ، صدقوا أي في دعوى الإيمان ، والتقوى هى الوقاية من سخط الله وغضبه بالبعد عن الآثام والذنوب
المعنى الجملي
لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، طال خوض أهل الكتاب في ذلك ، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده ، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى ، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء ، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إدا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا.
من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين ، لأنه إنما شرع لتذكير المصلى بأنه يناجى ربه ، ويدعوه وحده ، ويعرض عن كل ما سواه ، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد ، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم.
الإيضاح
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر ، فهو في نفسه ليس عملا صالحا.
( وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ) أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البارّ بها وقيامه بعملها.
فالإيمان بالله أساس البر ، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس
مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة ، ولا تؤيسه نقمة ، كما قال تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ».
والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية ، ودعوى الوساطة عند الله ، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه ، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر ، وإنما يخضع لله وشرعه.
والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبى غير هذا العالم ، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد ، ولا يجعل أكبر همه لذّات الدنيا وشهواتها فحسب.
والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحى والنبوة واليوم الآخر ، فمن أنكرها أنكر كل ذلك ، لأن ملك الوحى هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى : «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » وقال : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».
والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعى امتثال ما فيها من أوامر ونواه ، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله ، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.
والإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم. وقدران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية ، مع الجهل بأخلاقه الشريفة ، وسيرته الكاملة ، والتأسى به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه ، والزيادة في شريعته ، فيها غناء لهم أيّما غناء ، وقد ضلوا ضلالا بعيدا.
فقد جاء في الصحيحين «أن جماعة من أمته صلى الله عليه وسلم يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه (يطردون دونه) فيقول أمتى فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فيقول. سحقا لمن بدّل بعدي».
( وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوى الحاجة ، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم :
(1) ذوو القربي المحتاجون ، وهم أحق الناس بالبر ، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوى رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم ، فهو يرى أن هوانه بهوانهم وعزه بعزهم ، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم ، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل ، فقد بعد عن الدين والفطرة ، وجاء في الحديث الصحيح «صدقتك على المسلمين صدقة ، وعلى ذى رحمك اثنتان» أي لأنها صدقة وصلة رحم.
(2) اليتامى ، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب ، فى حاجة إلى معونة ذوى اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم ، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس.
(3) المساكين ، الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم ، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة ، إذ هم أعضاء من جسم الأمة ، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفظا لكيانها ، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال.
(4) ابن السبيل ، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض.
(5) السائلون ، الذين اضطروا إلى تكفف الناس ، لشدة عوزهم.
(6) فى تحرير الرقاب وعتقها ، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم ، ومساعدة
الأسرى على الافتداء ، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (المكاتب هو الرقيق يشترى نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما (أقساطا).
وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين ، دليل على رغبة الشارع في فكّ الرقاب ، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضى المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا.
والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين ، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة ، بل هو موكول إلى أريحيّة المعطى وحال المعطى.
وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم ، مع ما فيها من التكافل العامّ بين المسلمين ، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم ، ولدخل كثير من الناس في الإسلام ، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء ، وأن لهم حقوقا فى أموال الأغنياء ، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.
( وَأَقامَ الصَّلاةَ ) أي أداها على أقوم وجه ، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب ، بل إنما يكون بوجود سرّ الصلاة وروحها ، ومن آثاره تحلّى المصلى بالأخلاق الفاضلة ، وتباعده من الرذائل ، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا ، كما قال تعالى مبينا فوائدها : «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضرّ ، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عزّ اسمه : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ » كما لا يخشى فى الحق لوم اللائمين ، ولا يبالى في سبيل الله ما يلقى من الشدائد ، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته.
( وَآتَى الزَّكاةَ ) أي أعطى الزكاة المفروضة ، وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهى مقترنة بالزكاة ؛ ذاك أن الصلاة تهذب الروح ، والمال قرين الروح ، فبذله
ركن عظيم من أعمال البرّ ، ومن ثمّ أجمع الصحابة على محاربة مانعى الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام ، وينقض أساس الإيمان.
وقد افتنّ الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية ، وهى ليست من الشرع في شىء ، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرّة ، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها ، فلم إذا فرض وأوجب ، ورغّب ورهّب؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية ، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته.
ومن ذلك أن يأتي المزكى قبل تمام الحول (وهو شرط في وجوب الزكاة) بيوم أو يومين ويهب ماله لامرأته على أن ترده إليه بعد ذلك الميقات المضروب ، وهو بهذا يدكّ صرح الكتاب والسنة ، ويزعم مع هذا أنه مسلم مؤمن بالله ورسوله وكتابه.
وقد بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار 1/40 من رأس المال ، وسبيل الأخذ ، وسائر أحكام الزكاة.
وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق ، فقال :
( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ) أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها ، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا ، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه ، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية.
ومثل العهود العقود ، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.
وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده ، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام ، مفسد للعمران ؛ فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد (وهو ركن الأمانة وقوام الصدق) إلا حل بها العقاب الإلهى ، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال ، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة ، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه ، إذا أمكن يده أن تصل إليه ، ومن ثمّ يضطر أفرادها إلى الاستيثاق فى عقودهم بكل ما يقدرون عليه ، ويحترس كل منهم من غدر الآخر ، فلا يكون هناك
تعاون ولا تناصر ، بل تباغض وتحاسد ، ولا سيما بين الأقارب ، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء.
( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) أي والصابرين لدى الفقر والشدة ، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال ، وفي ميادين القتال ، ولدى الضرب والطعان ومنازلة الأقران.
وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال ، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر ؛ فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر ، وكاد يفضى إلى الكفر ، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم ، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر ، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه ، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزّحف من أكبر الكبائر.
وباتباع هذه الأوامر كانت الأمة الإسلامية أعظم أمة حربية في العالم ، وما زال استبداد الحكام يفسد من بأسها ، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يضعف من قوتها ، حتى سبقتها الأمم كلها في ميادين الكفاح.
( أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) فى دعواهم الإيمان ، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية ، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا ، وعذابه في الآخرة.
وقال بعض العلماء : من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه ، ونال أقصى مراتب إيقانه.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ
بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179))
تفسير المفردات
كتب : فرض ولزم عند مطالبة صاحب الحق به ، والقصاص : لغة يفيد العدل والمساواة ، ومنه سمى المقصّ مقصا لتعادل جانبيه ، والقصة قصة لأن الحكاية تساوى المحكي ، وشرعا أن يقتل القاتل ، لأنه مساو للمقتول في نظر الشارع ، فاتباع بالمعروف : أي فمطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف ، وأداء إليه بإحسان : أي أداء بلا مماطلة ولا بخس حق ، اعتدى : أي انتقم من القاتل بعد العفو ، والألباب : واحدها لبّ وهو العقل.
المعنى الجملي
كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج ، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى ، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها ، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبي أن تقتص من القاتل ، بل تقتصّ من رئيس القبيلة ، وربما طلبوا بالواحد عشرة ، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرّا ، فإن أجيبوا فيها ونعمت ، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة ، وهذا ظلم عظيم ، وقسوة شديدة ، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم.
ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارّا وتركه لا مفسدة فيه ، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقار به لغضب فجائي اضطره إلى قتله ، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين ،