تفسير المراغى الجزء ٢
0%
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 228
بل قد يكون في قتل القاتل مفاسد ومضارّ ، وإن كان القاتل أجنبيا من المقتول فيكون من الخير لوليّه عدم قتله دفعا للضرر أو استفادة للدية ، ففى أمثال هذه الحالات يجوز لأولياء المقتول العفو مع أخذ الدية أو تركها.
وإذا ارتقت عاطفة الرحمة لدى شعب أو بلد وصار يستنكر القتل ويرى أن العفو أفضل ، فالأمر موكول إليهم والشريعة ترغبهم فيه ، وهذا هو الإصلاح الكامل الذي جاء به الكتاب الكريم في القصاص.
وقد يجول بخاطر بعض الناس ولا سيما في عصرنا الحاضر ، أن عقوبة القاتل بالقتل انتقام لا تربية ، والواجب أن تعلّم الحكومة الجمهور التراحم في العقوبات ، لأنهم ما ارتكبوا هذه الجريمة إلا لمرض في عقولهم ، فيجب أن يوضعوا في المستشفيات حتى يبرءوا إلى كلام كثير كهذا وأشباهه ، ولو أنا دققنا النظر وتأملنا لعلمنا أن مثل هذا إن ساغ في التشريع فلن يكون إلا في الأمم الراقية التي قطعت شوطا بعيدا في الحضارة ، وكان أفرادها على حظ عظيم من الأخلاق الفاضلة ، ولا يصلح أن يكون تشريعا عاما ، فالقصاص بالعدل والمساواة هو الذي يربّى الأمم والشعوب ، وتركه يغرى الأشقياء ، ويجرئهم على سفك الدماء ، فإن عقوبة السجن لا تزجر كثيرا من الناس ، بل يرون السجون خيرا لهم من بيوتهم
الإيضاح
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ) أي فرض عليكم المساوات ، والعدل في القصاص ، لا كما كان يفعله الأقوياء مع الضعفاء من المغالاة في قتل الكثير بالقليل ، وقتل السيد البريء بالمسود تعنتا وظلما.
ثم فسر هذه المساواة بقوله :
( الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ) أي يؤخذ الحر ويقتل بقتل الحر بلا إبطاء ولا جور ، فإذا قتل حرّ حرّا قتل هو به لا غيره من سادة القبيلة ، ولا عدد كثير منها ،
وإذا قتل عبد عبدا قتل به لا سيده ولا أحد الأحرار من قبيلته ، وكذلك تقتل المرأة إذا قتلت ولا يقتل أحد فداء منها.
والخلاصة ـ إن القصاص على القاتل أيا كان لا على أحد من قبيلته ، ولا فرد من أفراد عشيرته.
قال البيضاوي في تفسيره : كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية ، وكان لأحدهما طول (فضل وشرف) على الآخر ، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد والذكر بالأنثى ، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وأمرهم أن يتبارءوا (يتساووا).
وقد جرى العمل من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الرجل بالمرأة ، والحر بالعبد إذا لم يكن سيده ، فإن كان هو عزّر بشدة تمنع أمثال هذا الاعتداء ، ولا يقتل الوالد بولده ، لأن المقصد من القصاص ردع الجاني عن الاستمرار في مثل هذه الجناية ، والوالد بفطرته مجبول على الشفقة على ولده حتى ليبذل ماله وروحه في سبيله ، وقلما يقسو عليه ، ولكن كثيرا ما يقسو الولد على والده ، وللحاكم أن يعزر قاتل ولده بما يراه زاجرا لأمثاله ومربّيا لهم.
وبعد أن ذكر وجوب القصاص وهو أساس العدل ، ذكر هنا العفو وهو مقتضى التراحم والفضل قال :
( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) أي فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه ولىّ الدم ، ولو كان العافي واحدا إن تعددوا وجب اتباعه وسقط القصاص ، وقد جعل هذا الحق لأولياء المقتول وهم عصبته الذين يعتزون بوجوده ، ويهانون بفقده ، ويحرمون من رفده وعونه ، فمن أزهق روحه كان لهم أن يطلبوا إزهاق روحه ، إذ تحفزهم إلى ذلك النّعرة القومية والمصلحة ، فإذا طلبوا ولم يقتصّ الحاكم ، فربما احتالوا للانتقام ، وفشا التشاحن والخصام ، ولكن إن جاء العفو من جانبهم أمنت الفتنة ، وليس للحاكم أن يمتنع من العفو إذا رضوا به ، ولا أن يستقلّ بالعفو إذا
طلبوا القصاص حتى لا تحملهم الضغينة على الانتقام بأيديهم إذا قدروا. ، فيكثر الاعتداء ويعيشون في تباغض وفوضى تستباح فيها الدماء.
( فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ) أي فاتباع العفو بالمعروف واجب على العافي وغيره ، وعليه ألا يرهق القاتل من أمره عسرا ، بل يطلب منه الدية بالرفق والمعروف الذي لا يستنكره الناس ، وكذلك لا يمطل القاتل ولا ينقص ولا يسىء في كيفية الأداء ، ويجوز العفو عن الدية أيضا كما قال : «ودية مسلّمة إلى أهله إلّا أن يصّدّقوا».
( ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) أي ذلك الحكم الذي شرعناه لكم من العفو عن القاتل والاكتفاء بقدر من المال ، تخفيف ورخصة من ربكم ورحمة لكم ، وأي رحمة أفضل من العطف والعفو والامتناع عن سفك الدماء.
( فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي فمن اعتدى وانتقم من القاتل بعد العفو والرضى بالدية ، فله عذاب أليم من ربه يوم القيامة ، يوم لا تغنى نفس عن نفس شيئا.
وبعد أن ذكر حكمة العفو والرغبة فيه ، وذكر الوعيد على الغدر ، أرشد إلى بيان الحكمة في القصاص ، إذ أن ذلك أدعى إلى ثبات الحكم في النفس ، وأدعى إلى الرغبة فى العمل به فقال :
( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) أي إن في القصاص الحياة الهنيئة ، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض ، إذ من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها ، يرتدع عن القتل فيحفظ حياة من أراد قتله وحياة نفسه ، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع ، إذ من الناس من يبذل المال الكثير للإيقاع بعدوه.
وقد أثر عن العرب كلمات تفيد معنى الآية كقولهم : القتل أنفى للقتل ، وقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقولهم : أكثروا القتل ليقلّ القتل ، ولكن الآية أخصر
من هذا كله ، وفيها من الفوائد ما لا يوجد فيما أثر عنهم ، إذ أن القتل ظلما لا يكون نافيا للقتل بل هو سبب في زيادته ، وإنما النافي للقتل هو القتل قصاصا ، وأمرهم بالقتل ليقلّ القتل أو ينتفى ، يصدق باعتداء قبيلة على أخرى والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على الأخذ بالثأر ، ويكون المراد أن قتلنا لعدوّنا إحياء لنا وتقليل أو نفى لقتله إيانا.
( يا أُولِي الْأَلْبابِ ) وخصّ أرباب العقول بالنداء للدلالة على أن الذي يفهم قيمة الحياة ويحافظ عليها هم العقلاء ، كما أنهم هم الذين يفقهون سرّ هذا الحكم وما اشتمل عليه من المصلحة والحكمة ، فعليكم أن تستعملوا عقولكم في فهم دقائق الأحكام.
( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أي ولما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم لعلكم تتقون الاعتداء وتكفّون عن سفك الدماء ، إذ العاقل يحرص على الحياة ، ويحترس من غوائل القصاص.
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) )
تفسير المفردات
كتب : أي فرض ، وخيرا : أي مالا كثيرا ، والوصية : الإيصاء والتوصية ، وتطلق على الموصى به من عين أو عمل ، والمعروف : ما لا يستنكره الناس لقلته بالنسبة إلى
ذلك الخير أو لكثرته التي تضرّ الورثة ، وتقدر الكثرة باعتبار العرف ففى القرى غيرها فى الأمصار ، فهى تقاس بحسب حال الشخص لدى الناس ، وإنما يكون ذلك بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين ، وخاف : أي علم ، والجنف : الخطأ ، والإثم : تعمّد الإجحاف والظلم.
المعنى الجملي
كان الكلام في الآية السابقة في القصاص في القتل ، وهو ضرب من ضروب الموت ، فناسب أن يذكر ما يطلب ممن يحضره الموت من الوصية ، والخطاب عام موجه إلى الناس كلهم ، بأن يوصوا بشىء من الخير ، ولا سيما في حال حضور أسباب الموت وظهور أماراته ، لتكون خاتمة أعمالهم خيرا ، وقد تقدم أن قلنا إن الأمة متكافلة يخاطب المجموع منها بما يطلب من الأفراد ، وقيام الأفراد بحقوق الشريعة لا يتمّ إلا بالتعاون والتكافل والائتمار بأوامرها والتناهى عن نواهيها ، فإن لم يأتمر البعض وجب على الباقين حمله على ذلك.
الإيضاح
( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ) أي فرض عليكم معشر المؤمنين إذا حضرت أسباب الموت وعلله والأمراض المخوفة ، وتركتم مالا كثيرا لورثتكم ، أن توصوا للوالدين وذوى القربى بشىء من هذا الخير لا يعدّ في نظر الناس قليلا ولا كثيرا ، وقد قدروه بعدم الزيادة على ثلث المتروك للوارثين ، وجمهرة العلماء وأئمة السلف. وروى عن بعض الصحابة أن هذه الوصية إنما تكون لهم ما لم يكونوا وارثين لقوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله أعطى كل ذى حقّ حقه ، ألا لا وصية لوارث».
وجوّز بعض الأئمة الوصية للوارث ، بأن يخص بها بعض من يراه أحوج من الورثة
كأن يكون بعضهم غنيا وبعضهم فقيرا عاجزا عن الكسب ، فمن الخير والمصلحة ألا يسوّى بين الغنى والفقير ، والقادر على الكسب ومن يعجز عنه.
وإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران فله أن يوصى لهما بما يؤلّف به قلوبهما ، وقد أوصى الله بحسن معاملتهما وإن كانا كافرين ، كما قال : «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ».
( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) أي أوجب ذلك حقا على المتقين لى المؤمنين بكتابي.
( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ) أي فمن غيّر الإيصاء من شاهد ووصىّ ، فإنما إثم التبديل على من بدّل ، وقد برئت منه ذمة الموصى وثبت له الأجر عند ربه.
والتغيير إما بإنكار الوصية ، أو بالنقص فيها بعد أن علمها حق العلم.
( إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي إنه سميع لأقوال المبدّلين والموصين ، ويعلم نياتهم ويجازيهم وفقها.
ولا يخفى ما في هذا من شديد الوعيد للمبدّلين ، والوعد بالخير للموصين.
وهذه الوصية واجبة عند بعض علماء السلف كما ترشد إلى ذلك هذه الآية والحديث «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شىء يريد أن يوصى به إلا ووصيته عند رأسه» وعند جمهور العلماء مندوبة.
ثم استثنى من إثم التبديل حالة ما إذا كان للإصلاح وإزالة التنازع فقال :
( فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) أي إذا خرج الموصى في وصيته عن نهج الشرع والعدل خطأ أو عمدا ، فتنازع الموصى لهم في المال أو تنازعوا مع الورثة ، فتوسط بينهم من يعلم بذلك ، وأصلح بتبديل هذا الجنف
والحيف ، فلا إثم عليه في هذا التبديل ، لأنه تبديل باطل بحق ، وإزالة مفسدة بمصلحة ، وقلما يكون إصلاح إلا بترك بعض الخصوم شيئا مما يرونه حقا لهم.
( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي فمن خالف وبدل للإصلاح ، فالله يغفر له ويثيبه على عمله.
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) )
تفسير المفردات
الصيام في اللغة : الإمساك والكفّ عن الشيء ، وفي الشرع الإمساك : عن الأكل والشرب وغشيان النساء من الفجر إلى المغرب احتسابا لله ، وإعدادا للنفس وتهيئة لها لتقوى الله بمراقبته في السرّ والعلن ، والإطاقة : القدرة على الشيء مع تحمل المشقة الشديدة والفدية : هى طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة عن كل يوم يفطرونه ، واليسر : السهولة والتخفيف ، وضده العسر.
المعنى الجملي
فرض الله علينا الصوم كما فرضه على من قبلنا ، لأنه من أعظم الذرائع لتهذيب النفوس ، وأقوى العبادات في كبح جماع الشهوات ، ومن ثم كان مشروعا في جميع الملل حتى الوثنية ، فهو معروف لدى قدماء المصريين ، ومنهم انتقل إلى اليونان والرومان ، ولا يزال الهنود الوثنيون يصومون إلى الآن ، وفي التوراة مدحه ومدح الصائمين ، وليس فيها ما يدل على أنه فرض ، وثبت أن موسى صام أربعين يوما كما أنه ليس في الإنجيل نص على الفريضة ، بل فيها مدحه وعدّه عبادة ، وأشهر صيام النصارى وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح ، وهو الذي صامه موسى وكان يصومه عيسى والحواريون ، وقد وضع رؤساء الكنيسة ضروبا أخرى من الصيام تختلف فيها المذاهب والطوائف.
الإيضاح
( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي فرض عليكم الصيام كما فرض على المؤمنين من أهل الملل قبلكم من لدن آدم عليه السلام.
وفي هذا تأكيد له وترغيب فيه ، وتطييب لأنفس المخاطبين فإنه عبادة شاقة ، والأمور الشاقة إذا عمّت كثيرا من الناس سهل تحملها ورغب كل أحد في عملها.
ثم بين فائدة الصوم وحكمته فقال :
( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أي إنه فرضه عليكم ليعدّكم لتقوى الله بترك الشهوات المباحة الميسورة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده ، فتتربي بذلك العزيمة والإرادة على ضبط النفس وترك الشهوات المحرّمة والصبر عنها ، وقد جاء في الحديث : «الصيام نصف الصبر» وبهذا نعلم أنه ما كتب علينا الصوم إلا لمنفعتنا ، لا كما يعتقد الوثنيون من أن القصد منه تسكين غضب الآلهة إذا عملوا ما يغضبهم ، أو استمالتهم في بعض
الشئون والأغراض ، لأن الآلهة لا ترضى إلا بتعذيب النفس وإماتة حظوظ الجسد ، وشاع هذا الاعتقاد بين أهل الكتاب فجاء الإسلام ومحاكل هذا.
وإعداد الصوم لتقوى الله يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنا :
(1) أنه يعوّد الإنسان الخشية من ربه في السرّ والعلن ، إذ أن الصائم لا رقيب عليه إلا ربه ، فإذا ترك الشهوات التي تعرّض له من أكل نفيس ، وشراب عذب ، وفاكهة يانعة ، وزوجة جميلة ، امتثالا لأمر ربه ، وخضوعا لإرشاد دينه مدة الصيام شهرا كاملا ، ولولا ذلك لما صبر عليها وهو في أشدّ الشوق إليها ، لا جرم أنه بتكراره ذلك يتعوّد الحياء من ربه ، والمراقبة له في أمره ونهيه ، وفي ذلك تكميل له وضبط للنفس عن شهواتها ، وشدة مراقبتها لبارئها.
ومن كملت لديه هذه الخلّة لا يقدم على غشّ الناس ومخادعتهم ، ولا على أكل أموالهم بالباطل ، ولا على هدم ركن من أركان الدين كالزكاة ، ولا على اقتراف المنكرات ، واجتراح السيئات ، وإذا ألمّ بشىء منها يكون سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة الصحيحة كما قال تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ ».
ولما للصوم من جليل الأثر في تهذيب النفس جاء في الحديث : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» أي من صغائر ذنوبه وكبائرها إذا تاب منها قبل الصوم ، وجاء في الحديث القدسي : «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى ، وأنا أجزى به».
(2) أنه يكسر حدّة الشهوة ، ويجعل النفس مصرّفة لشهواتها بحسب الشرع ، كما جاء في الحديث : «يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» والوجاء : رضّ الأنثيين ، وهو كالخصاء مضعف للشهوة الزوجية
(3) أنه يعوّد الشفقة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة ، فهو عند ما بجوع يتذكر من لا يجد قوتا من أولئك البائسين ، فيرقّ قلبه لهم ويشفق عليهم ، وفي ذلك تكافل للأمة وشعور بالأخوة الدينية.
(4) أن فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء ، والملوك والسوقة ، فى أداء فريضة دينية واحدة.
(5) تعويد الأمة النظام في المعيشة ، فهم يفطرون في وقت واحد ، لا يتقدم واحد على آخر.
(6) أنه يفنى المواد الراسبة في البدن ، ولا سيما في أجسام المترفين أولى النّهم قليلى العمل ، ويجفف الرطوبات الضارة ، ويطهر الأمعاء من السموم التي تحدثها البطنة ، ويذيب الشحم الذي هو شديد الخطر على القلب ، وقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «صوموا تصحّوا» وقال بعض علماء أوربا : إن صيام شهر واحد في السنة يذهب الفضلات الميتة في البدن مدة سنة. ومن يصم على هذا الوجه يكن راضيا مرضيّا مطمئنّا لا يجد في نفسه اضطرابا ولا قلقا من مزعجات الحوادث ، ولا عظيم المصايب والكوارث ، نعم إن وجد شىء من هذا كان جثمانيّا لا روحانيّا.
وأين هذا من الصوم الذي عليه أكثر المسلمين اليوم من إثارته للسخط والغضب لأدنى سبب حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعى للصوم ، وهو وهم استحوذ على النفوس حتى صار كأنه حقيقة واقعة.
وهذا الأثر في نفوسهم مناف للتقوى التي شرع الصيام لأجلها ، ومخالف لما جاء من الآثار من نحو قوله صلى الله عليه وسلم : «الصيام جنّة» أي ستر ووقاية من المعاصي والآثام.
ويرى الأوزاعى أن الغيبة تفطر الصائم ، وقال ابن حزم يبطله كل معصية من متعمّد لها ذاكر لصومه ، وقال الغزالي : من يعصى الله وهو صائم كمن يبنى قصرا ، ويهدم مصرا.
وأين هذا مما نرى عليه الناس من الاستعداد لمآكل رمضان وشرابه ، حتى لينفقون فيه ما يكاد يساوى نفقة السنة كلها ، فكأنّ رمضان موسم أكل ، وكأنّ الإمساك عن الطعام في النهار لأجل الاستكثار منه في الليل.
( أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) أي أياما معيّنات بالعدد وهى أيام رمضان ، فالله لم يفرض علينا صوم الدهر كله ولا أكثره تخفيفا ورحمة بالمكلفين.
( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي فمن كان على إحدى الحالين فالواجب عليه ـ إذا أفطر ـ القضاء بقدر عدد الأيام التي لم يصمها لأن كلتيهما عرضة لاحتمال المشقة بالصوم ، وأكثر الأئمة على اشتراط أن يكون المرض شديدا يصعب معه الصوم بدليل قوله : «يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ».
ويرى جماعة منهم ابن سيرين وعطاء والبخاري أن أىّ مرض هو رخصة في الإفطار فربّ مرض لا يشقّ معه الصوم يضرّ فيه الصوم المريض ، ويكون سببا في زيادة مرضه وطول مدته ، وضبط المشقة عسر ، ومعرفة الضرر أعسر.
والسفر الذي يباح فيه الفطر هو الذي يباح فيه قصر الصلاة ، روى أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين ـ يريد أنه يقصر الصلاة ـ وهذه المسافة وإن قطعت الآن في دقائق معدودات مبيحة للفطر ، إذ العبرة بقطع مثل هذه المسافة لا بالزمن الذي تقطع فيه.
ومن صام رمضان وهو مريض أو مسافر فقد أدى الفريضة ، ومن أفطر وجب عليه القضاء ، وبذلك كان عمل الصحابة ، فقد ورد في الصحيح أنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم المفطر ومنهم الصائم لا يعيب أحد على الآخر ، وأنه كان يأمرهم بالإفطار عند توقع المشقة فيفطرون جميعا ، روى أحمد ومسلم عن أبي سعيد قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام فنزلنا منزلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنكم قد دنوتم من عدوّكم والفطر أقوى لكم» فكانت
رخصة ، فمنا من صام ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلا آخر فقال : «إنكم مصبّحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطرنا» فكانت عزمة فأفطرنا.
وروى عن عائشة أن حمزة الأسلمى قال للنبى صلى الله عليه وسلم : أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام ، فقال له : «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» وفي رواية مسلم أنه أجابه بقوله : «هى رخصة من الله ، فمن أخذ بها فحسن ، ومن أحبّ أن يصوم فلا جناح عليه» وأكثر الأئمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي على أن الصوم أفضل لمن قوي عليه ولم يشقّ ، ويرى أحمد والأوزاعى أن الفطر أفضل عملا بالرخصة.
( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) والذين يطيقون هم الشيوخ الضعفاء والزّمنى الذين لا يرجى برء أمراضهم ، والعمال الذين جعل الله معاشهم الدائم بالأشغال الشاقة كاستخراج الفحم من المناجم ، والمجرمون الذين يحكم عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا كان الصيام يشق عليهم ، والحبلى والمرضع إذا خافتا على ولديهما ، فكل هؤلاء يفطرون وعليهم الفدية ، وهى طعام مسكين من أوسط ما يطعمون منه أهليهم بقدر كفايته أكلة واحدة بقدر شبع المعتدل الأكل ، عن كل يوم يفطرونه.
وخلاصة ما تقدم : أن المؤمنين في صيامهم أقسام ثلاثة :
1 ـ المقيم الصحيح القادر على الصيام بلا ضرر ولا مشقة ، والصوم حتم واجب عليه ، وتركه من الكبائر.
2 ـ المريض والمسافر ويباح لهما الإفطار مع وجوب القضاء ، لما في المرض والسفر من التعرض للمشقة ، فإذا علما أو ظنا ظنّا قويّا أن الصوم يضرهما وجب الإفطار.
3 ـ من يشقّ عليه الصوم لسبب لا يرجى زواله كهرم وضعف بنية ومرض مزمن لا يرجى برؤه ، وأشغال شاقة دائمة ، وحمل وإرضاع ، وهؤلاء لهم أن يفطروا ويطعموا مسكينا عوضا من كل يوم بقدر ما يشبع الرجل المعتدل الأكل.
( فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ) أي فمن زاد في الفدية فذلك خير له ، لأن ثوابه عائد إليه ومنفعته له ، وهذا التطوع شامل لأصناف ثلاثة :
1 ـ أن يزيد في الإطعام على مسكين واحد ، فيطعم بدل كل يوم مسكينين أو أكثر.
2 ـ أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب.
3 ـ أن يصوم مع الفدية.
( وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) أي وصومكم أيها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه ، خير لكم من الفدية ، لما فيه من رياضة الجسد والنفس وتفدية الايمان بالتقوى ومراقبة الله ، روى أن أبا أمامة قال للنبى صلى الله عليه وسلم : مرني بأمر آخذه عنك قال : «عليك بالصوم فإنه لا مثل له».
( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) وجه الخيرية فيه وكونه لمصلحة المكلفين ، لأن الله غنى عن العالمين ، وما روى من قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس من البر الصوم في السفر» فقد خصّص بمن يجهده الصوم ويشقّ عليه حتى يخاف عليه الهلاك.
ثم بين الأيام المعدودات التي كتبت علينا فقال :
( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ ) أي هذه الأيام هى شهر رمضان الذي بدئ فيه بإنزال القرآن ، ثم نزل منجّما في ثلاث وعشرين سنة ، لهداية الناس إلى الصراط السوىّ والنهج المستقيم ، مع وضوح آياته وإرشادها إلى الحق ، وجعلها فارقة بين الحق والباطل ، والفضائل والرذائل.
ومن التذكر لهدايته أن يعبد في هذا الشهر ما لا يعبد في غيره ، ليكون ذلك كفاء فيضه الإلهى بالإحسان ، وتظاهر نعمه على عباده ، فهو من شعائر ديننا ، ومواسم عبادتنا.
( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي فمن شهد منكم دخول الشهر بأن لم يكن مسافرا فليصمه ، وشهوده برؤية هلاله ، فعلى كل من رآه أو ثبتت عنده رؤية غيره أن يصومه ، والأحاديث في هذا ثابتة في الصحاح والسنن ، وجرى عليها العمل من الصدر الأول إلى اليوم.
ومن لم يشهدوا الشهر كسكان البلاد القطبية ـ التي يكون فيها الليل نصف سنة فى القطب الشمالي ، بينما يكون نهارا في القطب الجنوبي والعكس بالعكس ـ فعليهم أن يقدروا مدة تساوى مدة شهر رمضان ، والتقدير على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة ، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم.
( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أعيد ذكر رخصة الإفطار مرة أخرى ، لئلا يظن أن صوم هذا الشهر محتم لا تتناوله رخصة ، أو تتناوله ولكنها غير محمودة ، ولا سيما بعد تعظيم أمر الصوم فيه ، لما له من المناقب والمزايا التي سبق ذكرها ، حتى روى أن بعض الصحابة رضى الله عنهم مع علمهم بالرخصة في القرآن كانوا يتحامون الفطر في السفر ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم به في بعض الأسفار فلا يمتثلون حتى يفطر هو.
( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) أي يريد الله في هذه الرخصة في الصيام وفي كل ما شرعه لكم من الأحكام ، أن يجعل دينكم يسرا لا عسر فيه.
وفي هذا إيماء إلى أن الأفضل الصيام إذا لم يلحق الصائم مشقة أو عسر ، لانتفاء علة الرخصة حينئذ ، وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة ، منها حديث أنس : «يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا».
( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) أي رخص لكم في الإفطار في حالى المرض والسفر ، لأنه يريد بكم اليسر ، وأن تكملوا العدة ، فمن لم يكملها أداء لعذر المرض أو السفر أكملها قضاء بعده ، وبذا تحصّلون خيراته ، ولا يفوتكم شىء من بركاته.
( وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ ) إليه من الأحكام التي فيها سعادتكم في الدنيا والآخرة ، وذلك بذكر عظمته وحكمته في إصلاح حال عباده ، بتربيتهم بما يشاء من الأحكام ، ويتفضل عليهم عند ضعفهم بالرخص التي تليق بحالهم.
( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) له نعمه كلها ، فتعطوا كلا من العزيمة والرخصة حقها ، فيكمل إيمانكم ويرضى عنكم ربكم.
( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) )
المعنى الجملي
لما طالب الله عباده في الآية السابقة بصوم الشهر وإكمال العدّة ، وحثهم على التكبير ليعدّوا أنفسهم للشكر ، عقب بهذه الآية للدلالة على أنه خبير بأحوالهم ، سميع لأقوالهم ، فيجيب دعوة الداعين ويجازيهم بأعمالهم ، وفي هذا حثّ لهم على الدعاء ، وقد روى أن سبب نزول الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع المسلمين يدعون الله بصوت رفيع فى غزوة خيبر فقال لهم : «أيها الناس اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم».
ويستفاد من هذه الآية أنه لا ينبغى رفع الصوت في العبادات إلا بالمقدار الذي حدده الشرع في الصلاة الجهرية ، وهو أن يسمعه من بالقرب منه ، فمن تعمد المبالغة في الصياح حين الدعاء ، كان مخالفا لأمر ربه وأمر نبيه.
( وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) قرب الله من عباده إحاطة علمه بكل شىء ، فهو يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم ، أي ذكّر أيها الرسول عبادى بما يجب أن يراعوه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص والتوجه إلىّ وحدي بالدعاء ، وأخبرهم بأني قريب منهم ليس بينى وبينهم حجاب ، ولا ولىّ ولا شفيع يبلغنى دعاءهم وعبادتهم ، أو يشاركنى في إجابتهم وإثابتهم ، وأجيب دعوة من يدعونى بلا وساطة أحد إذا هو توجه إلىّ وحدي في طلب حاجته ، لأننى أنا الذي خلقته وأعلم ما توسوس به نفسه والعارف بالشريعة وبسنن الله في خلقه ، لا يقصد بدعائه إلا هدايته إلى الأسباب التي توصله إلى تحصيل رغباته ونيل مقاصده ، فهو إذا سأل الله أن يزيد في رزقه ، فهو لا يقصد أن تمطر له السماء ذهبا وفضة ، وإذا سأله شفاء مريضه الذي أعياه علاجه ، فإنه
لا يريد أن يخرق العادات ، بل يريد توفيقه إلى العلاج الذي يكون سبب الشفاء ، ومن ترك السعى والكسب وطلب أن يؤتي مالا فهو غير داع بل جاهل ، وكذا المريض الذي لا يراعى الحمية ولا يتخذ الدواء ويطلب الشفاء والعافية ، لأن مثل هذين يطلبان إبطال السنن التي سنها الله في الخليقة.
والدعاء المطلوب هو الدعاء بالقول مع التوجه إلى الله بالقلب ، وذلك أثر الشعور بالحاجة إليه ، والمذكّر بعظمته وجلاله ، ومن ثم سماه النبي صلى الله عليه وسلم مخّ العبادة ، وإجابة الدعاء : تقبّله ممن أخلص له وفزع إليه ، سواء وصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل ، ونحو الآية قوله في سورة ق : «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » وعلى هذا فلا داعى لرفع الصوت في الدعاء ، ولا إلى الوساطة بينهم وبينه في طلب الحاجات كما كان يفعله المشركون من التوسل بالشفعاء والوسطاء.
( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) الاستجابة الإجابة بعناية واستعداد ، أي وإذ كنت قريبا منهم مجيبا دعوة من دعانى ، فليستجيبوا لى بالقيام بعمل ما أمرتهم به من الإيمان والعبادات النافعة لهم كالصيام والصلاة والزكاة وغيرها مما أدعوهم إليه ، كما أجيب دعوتهم بقبول عبادتهم.
( لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) الرشد والرشاد ضد الغىّ والفساد : أي إن الأعمال إذا صدرت بروح الإيمان يرجى أن يكون صاحبها راشدا مهتديا ، أما إذا صدرت اتباعا للعادة وموافقة المعاشرين فلا تعدّ للرشاد والتقوى ، بل ربما زادت فاعلها ضراوة في الشهوات ، وفسادا في الأخلاق ، كما يشاهد ذلك لدى الصائمين الذين يصومون تقليدا لآبائهم وعشيرتهم لا بإخلاص لربهم وابتغاء لمثوبته.
( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187))
تفسير المفردات
ليلة الصيام : هى الليلة التي يصبح منها المرء صائما ، والرفث إلى النساء : الإفضاء إليهن. قال الأزهرى : الرفث ، كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة ، واللباس : الملابسة والمخالطة ، تختانون أنفسكم : أي تخونون أنفسكم بعمل شىء تعدونه حراما ، الخيط الأبيض : أول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود رقيقا ثم ينتشر ، والخيط الأسود : هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار ، فالصبح إذا بدا في الأفق بدا كأنه خيط ممدود ويبقى بقية من ظلمة الليل يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط أسود في جنب خيط أبيض ، والإتمام : الأداء على وجه التمام ، وحقيقة المباشرة مسّ كلّ بشرة الآخر : أي ظاهر جلده ، والمراد بها ما أريد بالرفث ، والاعتكاف شرعا : المكث فى المسجد طاعة لله وتقربا إليه ، والحدود : واحدها حد ، وهو في اللغة الحاجز بين شيئين ثم سمى بها ما شرعه الله لعباده من الأحكام ، لأنها تحدد الأعمال وتبين أطرافها وغاياتها ، فإذا تجاوزها المرء خرج عن حد النصيحة وكان عمله باطلا.
والمراد من الآيات هنا دلائل الدين ونصوص الأحكام.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الصوم فرض علينا كما فرض على من قبلنا ، لأنه يعدّنا للهداية وتقوى الله ، ثم ذكر الأعذار المبيحة للفطر ، أردف ذلك ذكر بقية أحكام الصوم ،
فبيّن أن صومنا امتاز برخصة لم تكن لمن قبلنا ، ثم بيّن بدء مدة الصوم ونهايته ، ثم ذكر حرمة قربان النساء مدة الاعتكاف في المساجد ، ثم ختمها ببيان أن الله يبين الأحكام للناس لأجل أن يتقوه ويخشوا عقابه.
روى أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل : أن الناس كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة (بكسر الصاد) صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا ، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ » إلخ.
وهذا يدل على أنه حين فرض الصيام كان كل إنسان يذهب في فهمه مذهبا كما يؤديه إليه اجتهاده ويراه أحوط وأقرب للتقوى ، حتى نزلت هذه الآية.
الإيضاح
( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ) أي أحلّ لكم ليلة الصيام قربان نسائكم ، وقد علّمنا الله النزاهة في التعبير عن هذا الأمر حين الحاجة إلى الكلام فيه بعبارات مبهمة كقوله : «لامَسْتُمُ النِّساءَ ، أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ، دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ، فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ ».
ثم بيّن سبب هذا الحكم فقال :
( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) أي رخص لكم في مباشرتهنّ ليلة الصيام لما بينكم وبينهن من مثل هذه المخالطة والمعاشرة التي تجعل من العسير عليكم أن تجتنبوهنّ وتجعل من الصعب الصبر عنهنّ.
( عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) أي علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم ، إذ تعتقدون شيئا ثم لا تلتزمون العمل به ، إذ قد ذهب بهم اجتهادهم إلى أنهم يحرمون على أنفسهم بعد النوم في الليل ما يحرم على الصائم في النهار ، لكنهم قد خانوا أنفسهم بحسب اعتقادهم فهم عاصون بما فعلوا.
( فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ ) أي فقبل توبتكم وعفا عن خيانتكم أنفسكم ، إذ خالفتم ما كنتم تعتقدون حين فهمتم من قوله : «كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » تحريم ملامسة النساء ليلا ، أو تحريمها بعد النوم كتحريم الأكل والشرب.
( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) أي فالآن إذ أحلّ لكم الرفث إليهنّ بالنصّ الصريح ، باشروهن واطلبوا بتلك المباشرة ما قدر لهذا الجنس بمقتضى الفطرة من جعل المباشرة سببا للنسل ، ولإحصان كل منهما الآخر وصده عن الحرام ، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للفقراء «وفي بضع أحدكم صدقة ، فقالوا : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر؟ قالوا بلى ، قال : فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر».
( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) أي ويباح لكم الأكل والشرب والمباشرة عامة الليل ، حتى يظهر بياض النهار من سواد الليل ، ويتبين بطلوع الفجر الصادق.
واستدل الأئمة بالآية على صحة صوم من أصبح جنبا ، لأن المباشرة أبيحت إلى طلوع الفجر ، والصائم لا يمكنه الاغتسال إلا بعده ، وعلى أنه إذا طلع الفجر وهو يأكل أو يشرب فنزع تم صومه ، وعلى أنه لو أكل ظانّا أن الفجر لم يطلع صحّ صومه.
وبعد أن ذكر مبدأ الصيام في الجملة السابقة ذكر غايته فقال :
( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) أي ثم استمروا في صيامكم إلى ابتداء الليل بغروب قرص الشمس وما يلزمه من ذهاب شعاعها عن جدران البيوت والمآذن ، ويتلو ذلك إقبال الليل ، قال صلى الله عليه وسلم : «إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم».
ثم استثنى من عموم إباحة المباشرة التي تفهم من قوله : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ » منع المباشرة حين الاعتكاف كما أشار إلى ذلك بقوله :
( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) أي ولا تباشروا النساء حال عكوفكم
فى المساجد للعبادة ، فإن المباشرة نهطل الاعتكاف ولو ليلا كما تبطل الصيام نهارا.
( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ) أي إن هذه الأحكام المشتملة على الإيجاب والتحريم والإباحة هى حدود الله وأحكامه فلا تقربوها ، إذ من قرب من الحد أو شك أن يتعداه كالشاب يداعب امرأته في النهار يوشك ألا يملك إربه ، فيقع في المباشرة المحرّمة ، أو يفسد صومه بالإنزال ، فالاحتياط يقتضى ألا يقرب الحدّ حتى لا يتجاوزه بالوقوع فيما بعد ، ومن ثم جاء في الحديث : «إن لكل ملك حمى ، وإن حمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
فالتحذير في هذه الآية أشد منه في الآية الأخرى «تلك حدود الله فلا تعتدوها» والله لم ينه عن قرب حدوده إلا في هذه الآية وفي الزنا وفي مال اليتيم ، ولكن تعدّد فيه الوعيد على تعديها.
( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) أي على هذا الطريق السوىّ من بيان أحكام الصيام في أوله وآخره ، وعزيمته ورخصته ، وفائدة مشروعيته وحكمته ، يبين الله آياته للناس ليعدّهم لتقواه ويباعدهم عن الهوى.
( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) )
تفسير المفردات
المراد بالأكل الأخذ والاستيلاء ، وعبّر به لأنه أعم الحاجات التي ينفق فيها المال وأكثرها ، إذ الحاجة إليه أهم ، وتقويم البنية به أعظم ، والباطل من البطلان وهو الضياع والخسران ، وأكله بالباطل أخذه بدون مقابلة شىء حقيقى ، والشريعة حرمت أخذ المال بدون مقابلة يعتدّ بها ، وبدون رضا من يؤخذ منه ، وإنفاقه في غير وجه