تفسير المراغى الجزء ٣

تفسير المراغى0%

تفسير المراغى مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 218

تفسير المراغى

مؤلف: أحمد مصطفى المراغى
تصنيف:

الصفحات: 218
المشاهدات: 74898
تحميل: 4316


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 218 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 74898 / تحميل: 4316
الحجم الحجم الحجم
تفسير المراغى

تفسير المراغى الجزء 3

مؤلف:
العربية

أما القول بأن العرب قبل الإسلام لم يكونوا يعرفون إلا بالربا الفاحش الذي يساوى رأس المال أو يزيد عليه ، فإنه لا يصح إلا إذا أغمضنا أعيننا عما لا يحصى من الشواهد التي نقلها أقدم المفسرين وأجدرهم بالثقة.

ولقد كان الشعب العبراني الذي يعيش والشعب العربي في صلة دائمة منذ القدم يفهم من كلمة الربا كل زيادة على رأس المال قلّت أو كثرت ، وهذا هو المعنى الحقيقي والاشتقاقى للكلمة.

أما تخصيصها بالربا الفاحش فهو اصطلاح أوربي حادث ، يعرف ذلك كل مطلع على تاريخ التشريع.

وبعد ، فإنا لا نطيل الوقوف عند هذا النص الانتقالى ، لأن الذي يعنى رجل القانون فى تطبيق الشرائع إنما هو دورها الأخير ، وقد بينا أن الدور الأخير في موضوعنا إنما تمثله الآيات التي تلوناها آنفا من سورة البقرة ، كما رأينا أن الشريعة القرآنية تتجه كلها منذ البداية إلى استنكار كل تعويض يطلب من المقترض أفلا يكون من التناقض أن هذه الشريعة التي تضع الإحسان إلى الفقير في أبرز موضع من قانونها والتي تحث على إنظار المعسر أو على ترك الدين له ـ تعود فتأخذ منه بالشمال ما منعته باليمين ، إذ تأذن للغنىّ بأن يطالبه ببعض الزيادة على الدين؟.

إلى جانب هذه النصوص القرآنية تجد في بيان السنة النبوية ما هو أكثر تفصيلا وأشد صرامة ، فإن الرسول صلوات الله عليه لم يكتف بتحريم الربا على آكله كما ورد فى القرآن الكريم ، ولم يكتف بجعل المعطى والآخذ والكاتب سواء في اللعن والإجرام ، بل إنه أحاط هذه الجريمة بنطاق من الذرائع والملابسات جعلها حمى محرما تحريم الوسائل الممهدة إلى الحرمة الأصلية.

والطريف في أمر هذه الإضافة أنه جعل التحريم فيهما على مراتب متفاوتة

٦١

فى تدرج حكيم يتنقل من الإباحة التامة رويدا رويدا إلى الحظر الكلى ، مارّا بكل المراتب المتوسطة بينهما ا ه ببعض تصرف.

الإيضاح

( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) يقال لمن يتصرف في شىء من مال غيره ، أكله وهضمه أي إنه تصرف فيه تمام التصرف ، فلا سبيل إلى رده كما لا سبيل إلى رد المأكول.

والمراد أن حال المرابين في الدنيا كالمتخبطين في أعمالهم بسبب الصرع والجنون ، إذ أنهم لما فتنوا بحب المال واستعبدتهم زينته ، ضريت نفوسهم بجمعه ، وجعلوه مقصودا لذاته ، وتركوا لأجله جميع موارد الكسب الأخرى ، فخرجت نفوسهم عن حدّ الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ، وترى أكثر ذلك ظاهرا في حركاتهم وتقلبهم فى أعمالهم ؛ فالمولعون بأعمال (البورصة) والمغرمون بالقمار يزداد فيهم النشاط والانهماك فى الأعمال ، وترى فيهم خفة تعقبها حركات غير منتظمة. والعرب تقول لمن يسرع ويأتي بحركات مختلفة على غير نظام قد جنّ.

وجمهور المفسرين على أن المراد بالقيام القيام من القبور حين البعث ، وأن الله جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين ، ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.

وروى الطبراني حديث عوف بن مالك مرفوعا : «إياك والذنوب التي لا تغفر ، الغلول ـ الخيانة في مغنم وغيره ـ فمن غلّ شيئا أتي به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط».

وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب ، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع ، فورد القرآن على ما يعتقدون ، وكذلك يعتقدون أن الجنى يمسّ الإنسان

٦٢

فيختلط عقله ، ويقولون رجل ممسوس : أي مسه الجن ، ورجل مجنون : إذا ضربته الجن ، ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات.

فجاءت الآية وفق ما يعتقدون ، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه ، كما جاء قوله تعالى فى وصف ثمر شجرة الزقوم التي تكون يوم القيامة في النار «طلعها كأنّه رءوس الشّياطين» وما رأى أحد رءوس الشياطين ، لكنها جاءت بحسب ما يتخيلون ويزعمون.

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا ) أي ذلك الأكل للربا مرتب على استحلالهم له وجعله كالبيع ، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما بأجل ، يجوز أن يعطى المحتاج عشرة دراهم على أن يردّ عليه بعد سنة عشرين درهما ، والسبب في كل من الزيادتين واحد وهو الأجل.

تلك حجتهم وهم واهمون فيما قالوا ، فقياسهم فاسد ، ومن ثم قال :

«وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ».

إذ في البيع ما يقتضى حله ، وفي الربا من المفسدة ما يقتضى تحريمه ـ ذاك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشترى بالسلعة انتفاعا حقيقيا ، فمن يشترى قمحا فإنما يشتريه ليأكله أو ليبذره في الأرض أو ليبيعه ، والثمن مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشترى باختيارهما ، أما الربا فهو إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر ، فما يؤخذ من المدين زيادة في رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ، ولا يؤخذ بالرضا والاختيار بل بالكره والاضطرار.

( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) أي فمن بلغه تحريم الله للربا ونهيه عنه فتركه فورا بلا تراخ ولا تردد اتباعا لنهى الله ـ فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم ، ويكتفى منه بألا يأخذ ربا بعد ذلك.

٦٣

( وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) يحكم فيه بعدله ، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم ، وبلوغه الموعظة من ربه ، وفي هذا إيماء إلى أن تلك الإباحة لما سلف رخصة للضرورة ، وترشد إلى أن ردّ ما أخذه من قبل النهى إلى أربابه من أفضل العزائم.

( وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) أي ومن عادوا إلى ما كانوا يأكلون من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك الذين لم يتعظوا بموعظة من ربهم ، وهو لا ينهاهم إلا عما يضرهم ، فهم أهل النار خالدين فيها.

والخلود هنا المكث الطويل ، وقد عبر به تغليظا كما جاء مثله في آيات أخرى.

ويرى بعضهم أنّ الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا ـ إيثار لحب المال أو اللذة به ، فلا يجتمع مع الإيمان الحق الذي يملأ النفوس خوفا ورهبة من عقاب الله بفعل ما نهى عنه ، وأما الإيمان الصوري فلا وزن له عند الله ، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما يرشد إلى ذلك الحديث «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».

فالذى يرتكب الفواحش على هذه الطريقة يعدّ من الكافرين المستحلين ، وإن أنكر ذلك بلسانه ، فيكون خالدا مخلدا في النار أبدا.

( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) أي يذهب الله بركة الربا ويهلك المال الذي يدخل فيه ، فلا ينتفع به أحد من بعده ، ويضاعف ثواب الصدقات ، ويزيد المال الذي أخرجت منه.

أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل».

وقال العلماء : المراد بالمحق ما يلاقى المرابى من عداوة المحتاجين ، وبغض المعوزين وقد تفضى هذه العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضارّ كالاعتداء على الأموال والأنفس والثمرات ، كما ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا ، فقد قام الفقراء يعادون

٦٤

الأغنياء ويتألبون عليهم حتى صارت هذه مسألة اجتماعية شائكة لديهم ، وكذلك ما يصابون به في أنفسهم من الوساوس والأوهام ، يعرف ذلك من راقب عبّاد المال وبلا أخبارهم. فمنهم من شغله المال عن طعامه وشرابه ، بل عن أهله وولده ، حتى لقد يقصّر في حق نفسه تقصيرا يفضى إلى الخسران والذل والمهانة.

وقصارى ذلك ـ إن الربا يمحق ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة ، ويصل بصاحبه إلى عكس هذه النتيجة من الهموم والأحزان ، والحب الشديد للمال ، ومقت الناس له ، وكراهتهم إياه ، وبذا لم يصل إلى ثمرة المال المقصودة في هذه الحياة ، وهى أن يكون ناعم البال عزيزا شريفا عند الناس ، لكونه مصدر الخير لهم ، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال ، فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بماله هذا الضرب من الانتفاع ، فكان كمن محق ماله وهلك.

وقد قضت سنة الله في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله ، وقد تقدم إيضاح هذا.

( وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) الكفّار هنا هو المتمادى في كفر ما أنعم الله به عليه من المال ، لأنه لا ينفق منه في سبيله ، ولا يواسى به المحتاجين من عباده ، والأثيم هو المنهمك في ارتكاب الآثام ، فهو قد جعل المال آله لجذب ما في أيدى الناس إلى يده فاستغلّ إعسارهم ، وأخذ أقواتهم ، وامتص دماءهم.

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ ، لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي إن الذين صدّقوا بما جاءهم من ربهم من الأوامر والنواهي ، وعملوا ما تصلح به نفوسهم كمواساة المحتاجين ، والرحمة بالبائسين وإنظار المعسرين ـ وهذا من مستتبعات الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان ـ وأقاموا الصلاة التي تذكّر المؤمن بالله فتزيد إيمانه ، وحبه لربه ومراقبته له ، فتسهل عليه طاعته في كل شىء ، وآتوا الزكاة التي تطهر النفوس من رذيلة البخل وتمرنها على أعمال البر ـ وخص هذين بالذكر مع شمول الأعمال الصالحة لهما لأنهما أعظم أركان العبادات

٦٥

النفسية والبدنية ـ لهم ثواب مدخر عند ربهم يوم الجزاء ، ولا يحزنون على ما فات ، ولا يخافون مما هو آت.

وفي هذا تعريض بآكلى الربا وأنهم لو كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات لكفوا عن ذلك.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أي يا أيها المؤمنون المصدقون الله فيما به أمر وعنه نهي ، قوا أنفسكم عقابه باتباع أوامره ونواهيه واتركوا ما بقي لكم من الربا عند الناس إن كنتم مؤمنين حقا بكل ما جاء به الدين من أوامر ونواه.

وقد عهد في كلام العرب أن يقال : إن كنت متصفا بما تقول فافعل كذا ويذكرون أمرا من شأنه أن يكون أثرا لهذا الوصف.

وفي هذا إيماء إلى أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد أن نهى الله عنه وتوعد عليه ، لا يعدّ من أهل الإيمان الذي له السلطان على الإرادة فهو مخلد في النار ، وإيمانه ببعض ما جاء في الدين ، وكفره ببعضه بعدم الإذعان له والعمل به ، لا يعد إيمانا حقا وإن أقر بلسانه ، إذ مثل هذا لا يعتدّ به كما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن».

( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) أي فإن لم تتركوا ما بقي من الربا كما أمرتكم ، فاعلموا أنكم محاربون لله ورسوله ، إذ خرجتم عن شريعته ولم تخضعوا لحكمها ونبذتم ما جاء به رسوله عنه.

وفي هذا رمز إلى أن عدم الخضوع لأوامر الشريعة خروج منها وامتهان لأحكامها.

وحرب الله غضبه وانتقامه ممن يأكل الربا ، والمشاهدة أكبر دليل على صدق هذا فكثيرا ما رأينا آكلى الربا أصبحوا بعد الغنى يتكففون الناس.

وحرب رسوله مقاومته لهم في زمنه ، واعتبارهم خارجين من الإسلام يحل قتالهم ، وعداوته لهم بعد وفاته إذا لم يخلفه أحد يقيم شريعته.

٦٦

( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) أي وإن رجعتم عن الربا خضوعا لأوامر الدين ، فلكم رءوس الأموال لا تأخذون عليها شيئا من الغرماء ، ولا تنقصون منها شيئا ، بل تأخذونها كاملة.

روى ابن جرير أن هاتين الآيتين نزلتا في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بنى المغيرة كانا شريكين في الجاهلية ، سلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بنى عمرو وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله( وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ) .

وأخرج عن ابن جريج قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن مالهم من ربا على الناس وما لهم من ربا عليهم فهو موضوع ، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد عليها ، وكان بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من المغيرة ، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كبير فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب وقال : «إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب».

( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) أي وإن وجد مدين معسر ممن لكم عليهم دين فأنظروه وأمهلوه إلى حين اليسار حتى يتمكن من أداء الدين.

روى أن بنى المغيرة قالوا لبنى عمرو بن عمير في القصة السالفة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها.

( وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) أصل نصدقوا تتصدقوا أي وتصدقكم على المعسرين من المدينين بإبرائهم من الدين كلّا أو بعضا ، خير لكم من إنظارهم وأكثر ثوابا عند الله منه.

وفي هذا حث على الصدقة ، والسماح للمدين المعسر ، لما فيه من التعاطف

٦٧

والتراحم وبر الناس بعضهم ببعض ، وذلك مما يوجد حسن الصلة بين الأفراد ويتم ارتباط الأمة وتضامن بنيها في المصالح العامة ، كما يرشد إلى ذلك الحديث : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

( إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم فاعملوا وفق ما تعلمون ، وسامحوا إخوانكم ، وأشعروا قلوبهم الشفقة والحدب عليهم.

وفي الآية دليل على وجوب إنظار المعسر إلى حين اليسار ، وأفضل منه الإبراء والتصدق عليه بقيمة الدين.

ثم ختم سبحانه آيات الربا بتلك العظة البالغة التي إذا وعاها المؤمن هوّنت عليه السماح بالمال والنفس وكل ما يملك مما طلعت عليه الشمس فقال :

( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ) أي واحذروا ذلك اليوم العظيم الذي تتفرغون فيه من شواغلكم الجسدية الدنيوية التي كانت تصرفكم عن ربكم في هذه الحياة ، إذ كنتم ترون أن لكم حاجات وضرورات يجب عليكم أن تستعدوا لها بتكثير المال وجمعه.

والخلاصة ـ إنكم إذا تذكرتم ذلك اليوم وفكرتم فيما أعدّ الله لعباده من الجزاء على قدر أعمالهم ، خفف ذلك من غلوائكم واطمأنت نفوسكم إلى ملاقاة ربكم ، فتجدون بردا وسلاما لطيب هذه المعاملة.

( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) أي ثم يجازى كل امرئ بما عمل من خير أو شر.

( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزدادون على عقابهم.

عن ابن عباس أن هذه الآية آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها فى رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وعشرين يوما ، وقيل أحدا وثمانين يوما.

٦٨

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) )

تفسير المفردات

تداينتم : داين بعضكم بعضا ، إلى أجل مسمى : أي موعد محدود بالأيام والشهور والسنة ونحوها مما يفيد العلم ، لا بالحصاد وقدوم الحاج مما فيه جهالة ، بالعدل

٦٩

أي بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين ، ولا يأب أي لا يمتنع ، كما علمه الله أي على الطريق التي علمه الله إياها من كتابة الوثائق ، وليملل أي وليلق على الكاتب ما يكتبه والإملال والإملاء بمعنى ، يقال أملّ على الكاتب وأملى عليه ، ولا يبخس أي ولا ينقص ، سفيها أي ضعيف الرأي لا يحسن التصرف في المال لضعف عقله ، أو ضعيفا أي صبيا أو شيخا هرما ، أو لا يستطيع أن يملّ أي بأن كان جاهلا أو ألكن أو أخرس ، واستشهدوا شهيدين أي اطلبوا أن يشهد رجلان ، ترضون أي ترضون دينهم وعدالتهم ، أن تضل أي تخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها ، ولا تسأموا أي لا تملوا ولا تضجروا ، أقسط أي أعدل ، وأقوم أي وأعون على إقامتها على وجهها ، وأدنى أي أقرب ، ألا ترتابوا أي إلى انتفاء الريب في جنس الدين وقدره وأجله ، تديرونها أي تتعاطونها بالتعامل يدا بيد ، الجناح الإثم والذنب ولا يضارّ أي ولا يفعل الضرر بالمتعاملين بالامتناع عن الكتابة أو الشهادة أو بالتحريف أو الزيادة أو النقص ، فسوق أي خروج عن الطاعة ، والرهان واحدها رهن بمعنى مرهون.

المعنى الجملي

بعد أن رغب سبحانه في الصدقات والإنفاق في سبيله ، لما فيهما من الرحمة ثم أعقب ذلك بالنهى عن الربا لما فيه من القسوة ـ ذكر هنا ما يحفظ المال الحلال بكتابة الدين والإشهاد عليه وعلى غيره من المعاوضات ، وأخذ الرهن إذا لم يتيسر الاستيثاق بالكتابة والإشهاد عليه ، إذ من يؤمر بالإنفاق والصدقة ، وينهى عن ترك الربا لا بدّ له من كسب ينّمى ماله ويحفظه من الضياع ، ليتسنى له القيام بما طلب الله وحث عليه.

وفي هذا دليل على أن المال ليس مبغوضا عند الله ، ولا مذموما في دين الله ، كيف وقد شرع الله لنا الكسب الحلال وهدانا إلى حفظ المال وعدم تضييعه ،

٧٠

وإلى اختيار الطرق النافعة في إنفاقه باستعمال عقولنا ، وتوجيه إرادتنا إلى العمل بخير ما نعرفه منها.

وكأنّ هذه الآية جاءت احتراسا مما عسى أن يقع في الأذهان من الكلام السابق ، إذ ربما فهم من المبالغة في الترغيب في الإنفاق في سبيل الله ، والتشديد في تحريم الربا ، أن جمع المال وحفظه مذموم على الإطلاق كما يظهر من نصوص بعض الأديان السابقة وكأنه يقول : إنا لا نأمركم بإضاعة المال ولا بترك تثميره ، وإنما نأمركم أن تكسبوه من الطريق الحلال ، وتنفقوا منه في وجوه البر والخير ، يرشد إلى هذا أن الله نهانا عن إيتاء المال للسفهاء خوفا من ضياعه بقوله : «وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً » أي تقوم بها مصالحكم ومعايشكم.

روى أحمد والطبراني حديث عمرو بن العاص «نعمّا المال الصالح للمرء الصالح» وإنما يذم المال إذا استعبد صاحبه ، فبخل في إنفاقه ، واشتط في جمعه من الحلال والحرام ، روى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم».

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) طلب الله إلى المؤمنين حفظا لديونهم التي تشمل القرض والسلم [ما فيه المبيع مؤجل والثمن عاجل] ويسميه العامة (الغاروقة) وبيع الأعيان إلى أجل معين ـ أن يكتبوها حتى إذا حل الأجل سهل عليهم أن يطلبوها ويقاضوا المدين للحصول عليها.

وقد تبين الله تعالى كيفية الكتابة ، ومن يتولاها فقال :

( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) أي وليكن الكاتب الذي يكتب لكم الديون عادلا يساوى بين المتعاملين ، لا يميل إلى أحدهما فيزيده على حقه ، ولا يميل عن الآخر فيبخسه من حقه.

٧١

( وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ ) بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين ، إذ الكتابة لا تكون ضمانا تاما إلا إذا كان الكاتب عالما بالأحكام الشرعية والشروط المرعية عرفا وقانونا ، وكان عادلا حسن السيرة ، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة.

وقدم صفة العدالة على صفة العلم ، لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغى أن يعلمه لكتابة الوثائق ، ولكن من كان عالما غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة ، وقلما رأينا فسادا من عدل ناقص العلم ، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة.

وفي ذكر هذه الشروط في الكاتب إرشاد من الله للمسلمين أن يكون فيهم هذا الصّنف من الكتاب القادرين على كتابة العقود الرسمية ، كما أن في ذكرها إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون الكاتب غير المتعاقدين وإن كانا يحسنان الكتابة خيفة أن يغالط أحدهما الآخر أو يغشّه.

وفي التعبير بقوله (ولا يأب) رمز إلى أن العالم بما فيه مصلحة الناس ، إذا دعى إلى القيام بعمل وجب عليه أن يلبّى الدعوة ، ومن ثم أمره الله بذلك أمرا صريحا فقال :

(فليكتب) وهذا الأمر بعد النهى عن الإباء كالتأكيد ، لأن الموضوع هامّ لتعلقه بحفظ الحقوق ، ولا سيما لدى الأميين الذين خوطبوا به أولا.

( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ) أي وليلق على الكاتب ما يكتبه المدين ليكون إملاله حجة عليه تحفظها الكتابة.

( وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) أي وليتق الذي عليه الحق الله في الإملال ، بأن يذكر ما عليه كاملا ، وفي هذا مبالغة في الحث على التقوى بالتذكير بجلائل النعم والترهيب من العقاب.

ثم نهاه أن يبخس من الحق شيئا تأكيدا لهذا فقال :

( وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ) إذ الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ، وعرضة

٧٢

للطمع ، وربما يستخفه طمعه إلى نقص شىء من الحق ، أو الإبهام في الإقرار الذي يملى على الكاتب تمهيدا للمجادلة والمماطلة.

( فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ) أي فإن كان المدين ضعيف العقل أو صبيا أو هرما أو جاهلا أو ألكن أو أخرس ، فعلى من يتولى أموره ويقوم مقامه من قيّم أو وكيل أو مترجم أن يمل بالعدل بلا زيادة ولا نقص.

( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) أي واطلبوا أن يشهد على المداينة رجلان من المؤمنين ممن حضرها ، وفي قوله من رجالكم دليل على اشتراط الإسلام في الشهادة كما اشترطوا العدالة بدليل قوله : «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ».

قال ابن القيم في إعلام الموقعين : البيّنة في الشرع أعم من الشهادة ، فكل ما يتبين به الحق كالقرائن القطعية يسمى بينة ، فلا مانع أن تدخل شهادة غير المسلم في البينة بذلك المعنى إذا تبين للحاكم الحق بها.

( فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) أي فإن لم يكونا أي من تستشهدونهما رجلين ، فليستشهد رجل وامرأتان.

( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) أي ممن ترضون دينهم وعدالتهم من الشهداء ، وإنما جىء بهذا الوصف لضعف شهادة النساء وقلة ثقة الناس بها ، ومن ثم فوّض الأمر فيها إلى رضى المستشهدين.

( أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى ) أي حذر أن تضل إحداهما وتخطىء لعدم ضبطها وقلة عنايتها ، فتذكر كل منهما الأخرى بما كان فتكون شهادتها متممة لشهادة الأخرى.

وخلاصة هذا ـ أنه لما كان كل منهما عرضة للخطأ والضلال : أي الضياع وعدم الاهتداء إلى ما كان قد وقع بالضبط ، احتيج إلى إقامة الثنتين مقام الرجل الواحد حتى إذا تركت إحداهما شيئا من الشهادة ، كأن نسيته أو ضل عنها تذكرها الأخرى

٧٣

وتتم شهادتها ، وعلى القاضي أن يسأل إحداهما بحضور الأخرى ، ويعتدّ بجزء الشهادة من إحداهما وبباقيها من الأخرى ، وكثير من القضاة لا يعلمون بهذا جهلا منهم بما ينبغى أن يتبع في نحو هذا.

أما الرجلان فيفرق بينهما ، فإن قصر أحدهما أو نسى شيئا مما يبين الحق لا يعتد بشهادته ، وتكون شهادة الآخر وحده غير كافية ولا يعول عليها إن بينت الحق.

وهذه العبارة لبيان سر تشريع الحكم في اشتراط العدد في النساء ، إذ قد جرت العادة أن المرأة لا تشتغل بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات ، فتكون ذاكرتها ضعيفة فيها ، بخلاف الأمور المنزلية فإن ذاكرتها فيها أقوى من ذاكرة الرجل فقد جبل الإنسان على أن يقوى تذكره لما يهتم به ويعنى بشأنه ، واشتغال النساء في هذا العصر بالمسائل المالية لا يغير هذا الحكم. لأن الأحكام إنما تكون للأعم الأكثر ، وعدد هؤلاء قليل في كل أمة وجيل.

( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) أي ولا ينبغى للشهود أن يمتنعوا عن تحمل الشهادة ليؤدوها حين الحاجة.

روى الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم ، وقيل إن المراد لا يأبوا عن تحمل الشهادة ولا أدائها ، فالامتناع عن كل منهما محرم ، وهو فرض كفاية لا يجب على من دعى إليه إلا إذا لم يوجد غيره يقوم مقامه.

( وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ) أي ولا تتكاسلوا عن كتابة الدين ، قليلا كان أو كثيرا ، مبينين بذلك أجله المسمى.

وفي هذا دليل على أن الكتابة من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها ، وعلى أنها واجبة في القليل والكثير ، وعلى أنه لا ينبغى التهاون في الحقوق حتى لا يضيع شىء منها ، وهذا قاعدة من قواعدة الاقتصاد في العصر الحديث ، فكل المعاملات والمعاوضات لها دفاتر خاصة تذكر فيها مواقيتها ، والمحاكم تجعلها أدلة في الإثبات

٧٤

ثم بين الحكمة في الأوامر والنواهي المتقدمة بعد ذكرها ، وتلك سنة القرآن يذكر الأحكام ، ثم يذكر أسرارها وفوائدها لتكون أثبت في النفس ، وأثلج للقلب قال :

( ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ) أي ذلك الحكم أحرى بإقامة العدل بين المتعاملين ، وأعون على إقامة الشهادة على وجهها.

وفي هذا إيماء إلى أن للشاهد أن يطلب وثيقة العقد المكتوب ليتذكر ما كان من الأحوال حين كتابتها وإملائها.

وقوله : أدنى ألا ترتابوا ؛ أي إنه أقرب إلى نفى ارتياب بعضكم من بعض ، إذ هذا الاحتياط في كتابة الحقوق والإشهاد عليها ، ومراعاة العدل من المتعاملين والكتّاب والشهداء يدفع الارتياب وما ينشأ منه من مفاسد كالعداوات والمخاصمات ـ وهذه ميزة ثالثة تؤكد الأخذ بها والاعتماد عليها وجعلها مذكرة للشهود.

( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ) أي إن الكتابة مطلوبة إلا أن توجد تجارة حاضرة تدار بين المتعاملين بالتعاطى بأن يأخذ المشترى المبيع والبائع الثمن ، فلا حرج حينئذ في ترك الكتابة ولا إثم في ذلك ، إذ لا يترتب عليه شىء من التنازع والتخاصم.

وفي هذا إشارة إلى ما يجب على المرء في ضبط أمواله وإحصاء ما يرد إليه وما يصدر عنه ، وهذا منتهى الرقى المدني ، هدى إليه الإسلام قبل أن يعرفه الغربيون ذوو الحضارة والمدنية بعدة قرون ، ولم يجعل ذلك أمرا محتوما لما فيه من المشقة على غير الأمم ذات التقدم والحضارة.

( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) أي وأشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة ، إذ قد يحصل التنازع والخلاف في بعض العقود الحاضرة بعد تمام العقد ، فاكتفى بالإشهاد.

أما الديون المؤجلة فربما يقع التنازع فيها بعد موت الشهود ، إذ هى مما يطول زمنها ومن ثم وجبت كتابتها.

٧٥

( وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ) أصل يضارّ يضارر (بكسر الراء) وهذا نهى للكاتب أن يضر أحد المتعاملين بالتحريف أو التغيير بزيادة أو نقص ، وللشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة عما يطلب منهما ، ويؤيده قوله بعد( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) إذ التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم.

( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) أي وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار ، فإن هذا الفعل خروج من طاعة الله إلى معصيته.

( وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) أي واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه ، وهو سبحانه يعلمكم ما فيه صلاح حالكم في الدارين وحفظ أموالكم ، ولو لا هديه لكم لم تعلموا شيئا ، وهو العليم بكل شىء ، فإذا شرع شيئا من الأحكام فإنما يشرعه عن علم محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن اتبع شرعه وهداه.

وجاء ختم الآية بهذه الموعظة الحسنة ليكون معينا على الامتثال لجميع ما تضمنته من الأحكام ـ وهذه الآية أطول آية في القرآن وأبسطها شرحا وأبينها أحكاما ، وفيها مبالغة في التوصية بحفظ المال وصونه من الضياع ، ليتمكن المرء من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عما يوجب سخطه من التعامل بالربا وغيره ، ومن المواظبة على تقواه التي هى الوسيلة لكل فوز وفلاح.

ثم ذكر ما هو كالاستثناء من الأحكام السابقة فقال :

( وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) أي وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يحسن كتابة المداينة ، أولم تجدوا صحيفة ولا دواة ولا قرطاسا ، فاستوثقوا برهن تقبضونه.

وذكر السفر وعدم وجود الكاتب الذي يكتب وثيقة الدين ، بيان للعذر الذي رخص ترك الكتابة ووضع الرهن محله في التوثق لصاحب الدين لا لمنع أخذ الرهن فى غير ذلك ، فقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه في المدينة ليهودى بعشرين صاعا من شعير أخذها لأهله رواه البخاري ومسلم.

٧٦

وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغى أن يكون عدم وجود الكاتب مقيدا بحال السفر ، لا في مواطن الإقامة ، لأن الكتابة مفروضة على المؤمنين ، والإيمان لا يتحقق إلا بالإذعان والعمل ، ولا سيما في فريضة أكدت كالكتابة.

( فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ) أي فإن أمن بعض الدائنين بعض المدينين لحسن ظنه به ، وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره ، فليؤدّ المدين دينه وليكن عند ظن الدائن به ، وليتق الله ربه فلا يتخوّن من الأمانة شيئا ، فقد يوسوس له الشيطان بأن لا حجة عليه ولا شهيد ، فالله خير الشاهدين وهو أولى أن يتقى ، وسمى الدين أمانة لائتمان المدين عليه بترك الارتهان به.

والآيات السالفة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن هى الأصل ، والعزيمة للاحتياط في الديون ـ وهذه الآية رخصة أباحها الله لناحين الضرورة كالأوقات التي لا يوجد فيها كاتب ولا شهيد ، فإذا احتاج امرؤ إلى الاقتراض من أخيه فى مثل هذه الحال ، فالله لا يحرم عليه قضاء حاجته وسد خلّته إذا هو ائتمنه.

ثم أكد وجوب الشهادة الذي استفيد من قوله :( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) بقوله :

( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) أي ولا تمتنعوا عن أداء الشهادة إذا دعا إليها الأمر ، ومن يفعل ذلك يكن مجترحا للإثم مرتكبا للذنب.

وسرّ هذا التأكيد أن الكتّاب والشهود هم الذين يعينون الناس على حفظ أموالهم ، فعليهم ألا يقصروا في ذلك ، كما على أرباب الأموال ألا يضاروهم ، فإن المصلحة مشتركة بين الجميع.

ونسب الإثم إلى القلب ، لأنه هو الذي يعى الوقائع ويدركها ويشهد بها ، فهو آلة الشعور والعقل ، فكتمان الشهادة عبارة عن حبس ذلك فيه ، والإثم كما يكون بعمل الجوارح وحركات الأعضاء يكون بعمل القلب واللب ، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً »

٧٧

فأسند إلى الفؤاد : أي القلب أو النفس أعمالا خاصة به ، كما أسند الباقي إلى السمع والبصر.

ومن آثام القلب سوء القصد وفساد النية والحسد.

والآية ترشد إلى أن الإنسان يعاقب على ترك المعروف كما يعاقب على فعل المنكر ، لأن الترك في الشهادة بكتمانها فعل للنفس تترتب عليه آثار تضرّ غيرها.

وكل من الكتابة والاستشهاد شرع للاستيثاق بين الدائن والمدين ، والكتابة أقوى من الشهادة ، والشهادة عون لها ، فالدائن يستوثق لماله فيأمن من إنكاره كله أو بعضه ، والمدين يستوثق لما عليه فلا يخاف أن يزاد فيه ، والشاهد يستوثق بشهادته فإذا شك أو نسى رجع إلى الكتاب فتذكّر واطمأن قلبه كما قال : «ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ».

للكتابة الفضل الأكبر في حفظ الحقوق حين موت الشهيدين أو أحدهما ، لأنه لا حافظ لها حينئذ إلا هى ، فهى التي يرجع إليها ويعمل بها.

( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) )

المعنى الجملي

جاءت هذه الآية متممة لقوله : «وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ » ودليل عليه ، لأن كل شىء هوله ، وهو خالقه فهو العليم به ، ونحو الآية قوله : «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ».

وإذا كان كل شىء في السموات والأرض له ، فهو يعاقب من كتم الشهادة ، لأنه قد أتى إثما وارتكب جرما ، ثم زاد هذا المعنى توكيدا بما يعده من قوله :

٧٨

( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ ) إلى آخر الآية ، إذ كتمان الشهادة داخل في عموم ما في النفس فالله يحاسب عليه ، فإن شاء عفا عمن أجرم ، وإن شاء عاقبه وهو القدير دون سواه على ذلك.

الإيضاح

( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) أي كل ما فيها خلقا وملكا وتصرفا له لا شركة لغيره في شىء منهما فلا يعبد فيهما سواه ، ولا يعصى فيما يأمر وينهى ، وله أن يلزم من شاء بما شاء من التكاليف.

( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) أي وإن تظهروا ما في قلوبكم من السوء والعزم عليه بالقول أو بالفعل ، أو تكتموه عن الناس ولا تظهروه يجازكم الله به يوم القيامة ، لأن الإبداء والإخفاء عنده سيان ؛ لأنه «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » فالمعوّل عليه في مرضاته تزكية النفوس وتطهير السرائر لا لوك اللسان ، وحركات الأبدان.

والمراد بقوله( ما فِي أَنْفُسِكُمْ ) الأشياء التي لها قرار في أنفسكم ، وعنها تصدر أعمالكم كالحقد والحسد ونحوهما ـ ذاك أن الخواطر والهواجس قد تأتي بغير إرادة الإنسان ولا يكون لها أثر في نفسه ولا ينتج منها فعل يكون مترتبا عليها ، لكنه إذا استرسل معها حسبت عليه عملا يجازى به ، لأنه مشى معها قدما باختياره ، وقد كان يستطيع مطاردتها وجهادها ، فالمظلوم يذكر ظالمه فيشتغل فكره في دفع ظلمه والهرب من أذاه ، وربما استرسل مع خواطره إلى أن تجره إلى تدبير الحيل للإيقاع به ، ومقابلة ظلمه بما هو شر منه ، فيكون مؤاخذا عليه أبداه أو أخفاه.

وصفة الحسد تبعث في نفس الحاسد خواطر الانتقام من المحسود والسعى في إزالة نعمته ، وهذه الخواطر مما يحاسب الحاسد عليها أبداها أو أخفاها ـ وهكذا يقال في كل أعمال القلب التي أمرنا الشارع بجهادها ومقاومتها ، مما هو أثر لأخلاق وملكات وعزائم قوية تنشأ عنها أعمال هى آثار لها ، إذا انتفت الموانع وتركت المجاهدة.

٧٩

أخرج أحمد ومسلم عن أبي هريرة قال : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق ـ الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ـ وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير؟ فلما قرأها القوم وذلّت (لانت) بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها «آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ » الآية ، قال فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل «لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » إلى آخرها.

وقوله نسخها الله : أي أزال ما أخافهم من الآية الأولى وحوّله إلى وجه آخر.

وقد قال الصحابة ما قالوا لأنهم قد دخلوا في الإسلام وكثير منهم تربّوا في حجر الجاهلية وانطبعت في نفوسهم أخلاقها ، وأثرت في قلوبهم عاداتها ، وكانوا يتطهرون منها بالتدريج بهدى الرسول ونور القرآن ، فلما نزلت هذه الآية خافوا أن يؤاخذوا على ما كان باقيا في أنفسهم من العادات الأولى ، وكانوا يحاسبون أنفسهم لاعتقادهم النقص وخوفهم من الله عز وجل ، حتى أثر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسأل حذيفة بن اليمان هل يجد فيه شيئا من علامات النفاق؟ فأخبرهم الله تعالى بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يؤاخذها إلا على ما كلفها ، وهم مكلفون بتزكية أنفسهم ومجاهدتها بقدر الطاقة ، وطلب العفو عما لا طاقة لهم به.

وقد يكون بعضهم خاف أن تدخل الوسوسة والشبهة قبل التمكن من دفعها فيما تشمله الآية ، فكان ما بعدها مبينا لغلطهم في ذلك.

( فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) أي فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له ، وبعذب بعدله من يشاء أن يعذبه ، والله إنما يشاء ما فيه الرحمة والعدل ، ومن العدل

٨٠