تفسير ست سور

تفسير ست سور0%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله حبيب الله الشريف الكاشانيّ (قدس سره)
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 58328
تحميل: 5179

توضيحات:

تفسير ست سور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58328 / تحميل: 5179
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تقصيره، وإن كان قاصرا فلا عقاب عليه، لمنافاته للعدل.

والثاني : من وصلت إليه الدعوة النبويّة، وهذا على أقسام.

إذ منهم : من لم يصدّق بجميع ما وصل إليه أو بعضه لا بلسانه ولا بقلبه، فهذا كافر بحسبه كفر جحود، معذّب بعذاب أليم وعقاب عظيم ؛ كما يدلّ عليه آيات وأخبار كثيرة.

ومنهم : من يصدّق بالجميع بلسانه، وينكره بقلبه، فهذا كافر كفر نفاق، وعذابه أشدّ من سائر الكفّار ؛ كما قال :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) (١) ولكنّه معصوم في دمه وماله، ويعامل معه معاملة المسلمين في جميع أموره.

ومنهم : من يصدّق بالجميع بقلبه، لظهور حقيقته عنده، ولكنّه ينكره بلسانه حسدا، أو استكبارا، أو بغيا وحقدا، أو تعصّبا، أو لغير ذلك من الأغراض الباطلة. فهذا كافر بحسبه كفر تهوّد ؛ كما قال :( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) .

بل يمكن أن يقال : إنّ هذا هو الكفر الحقيقيّ، فإنّه عبارة عن الستر، ومنه الكافر للزارع، فإنّه يستر البذر في الأرض، والكافر المذكور يكتم ما عرفه من الحقّ، فيمكن أن يصرف أكثر الآيات الدالّة على تعذيب الكفّار إلى مثله لا إلى من اشتبه الأمر عليه ولم يحصّل بعد المجاهدة الحقّ ؛ كما هو هذا.

__________________

(١) النساء : ١٤٥.

(٢) البقرة : ١٤٦.

٢٠١

ولكنّ الله يقول :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) فلا يفارق المجاهدة الحقيقيّة الوصول إلى الحقّ ؛ بمقتضى هذه الآية.

ومنهم : من يصدّق بالجميع لسانا وقلبا، ولكنّه لا يكون على بصيرة في دينه، ولا على معرفة بإمام زمانه. وهذا كافر كفر ضلالة ؛ كما قال صلّى الله عليه وآله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة(٢) .

ومنهم : من وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وقلبه على بصيرة ومعرفة بإمامه ونائبه الحقّ، إلّا أنّه لم يمتثل جميع الأوامر والنواهي معتقدا بقبح مخالفته. وهذا فاسق عاص، بل كافر كفر فسوق، لما عرفته من انتقاض روح الإيمان بالمعصية.

وقد ورد أنّه : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن(٣) .

وقال في ترك الحجّ :( وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (٤) فإن تاب فهو كمن لا ذنب له، وإلّا عذّب إن لم تدركه الشفاعة في المحشر، ولكنّه لا يخلّد في النار ؛ خلافا للوعيديّة من قولهم بخلود أصحاب الكبائر.

ومنهم : من وصلت إليه الدعوة فصدّقها بلسانه وقلبه، وأسلم وجهه لله في جميع أموره، واتّبع إمام زمانه في جميع أوامره ونواهيه ؛ وإن أتى بذنب استغفر الله منه من قريب. وهذا هو المؤمن الكامل وهو [من كان] من

__________________

(١) العنكبوت : ٦٩.

(٢) بحار الأنوار : ٣٢ : ٣٣١، كفاية الأثر : ٢٩٦، كمال الدين ٢ : ٤٠٩، المناقب ٣ : ٢١٧، كشف الغمّة ٢ : ٢٥٨، اليقين : ١٢٤، الإقبال : ٤٦٠.

(٣) الكافي ٢ : ٢٨٤.

(٤) آل عمران : ٩٧.

٢٠٢

أصحاب أمير المؤمنين حقّا ؛ الّذين يجري فيهم قوله تعالى :( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) (١) .

فالحمد لله أوّلا وآخرا.

[قد وقع الفراغ من تسويد هذا الكتاب المستطاب، بعون الملك الوهّاب، في ليلة الاثنين التاسع والعشرون من شهر العاشر من سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة بعد الألف. وتمّ على يد العبد الضعيف، المسكين المستكين، الخائف المستجير عليّ بن الحسين القاسانيّ ابن عليّ بن أحمد النراقيّ ؛ المعروف في الآفاق، رفع الله درجتهما بحقّ محمّد وآله الطاهرين.

سيبقى خطوطي وكنت ترابا

أيا ناظرا فيه قل لي دعاءا

سالها درد رنج بايد ديد

از رياضت شكنج بايد ديد

تن به دود چراغ بايد ديد

ترك خواب وفراغ بايد ديد](٢)

__________________

(١) الفتح : ٢٩.

(٢) جاء هذا في آخر نسخة «أ».

٢٠٣
٢٠٤

اللمعة في تفسير

سورة الجمعة

٢٠٥
٢٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[المقدّمة]

الحمد لله الملك الوهّاب الّذي بعث في الأميّين رسولا يتلو عليهم آياته ويعلّمهم الكتاب، والصلاة عليه وعلى آله المخصوصين بمعرفة حقائق القرآن، وفصل الخطاب.

أمّا بعد، فيقول السالك إلى الله، ابن علي مدد «حبيب الله» : إنّ هذه عجالة موسومة «باللمعة في تفسير سورة الجمعة»، كتبتها وأنا متبلبل البال، مختّل الحال ؛ في عصر عظم فيه البلاء، وكثر فيه الجور والجفاء، وغلب فيه الشقاء والشقاق على أهل القرى والأمصار، فلا يسعني إلّا الإيجاز والاختصار، فمن الله التوفيق والانتصار.

فأقول : قال الله سبحانه بعد البسملة الّتي فسّرناها في بعض ما أسلفناه من الأسفار :( يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) كما في «التغابن» ولكنّه سبحانه عبّر في «الحديد» و «الصفّ» و «الحشر» بالماضي، وفي «الإسراء» بالمصدر، وفي «الأعلى» بالأمر، والمؤدّى هو تنزّه الحقّ سبحانه وتنزيهه في الجميع وإن كان واحدا، كما قيل :

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

٢٠٧

ولكنّ التفنّن في التعبير باب من أبواب البلاغة، مفتوح للتنشّط عن السآمة، فإنّ التكرار والمواظبة على نهج واحد في المقال موجب للإسهاب والإملال، أو الإشارة إلى أنّ سبّوحيّته تعالى سرمديّة أزليّة أبديّة لا تختصّ بحال دون حال، وعالم دون عالم، وزمان دون زمان، بل كان سبّوحا في عالم اللاهوت قبل أن يخلق عالم الكائنات، وهو فعله المسبوق بالمادّة والمدّة كالعناصر والعنصريّات وعالم المبتدعات، وهو إمّا لم يسبق بشيء منهما كالعقول والنفوس المجرّدة وعالم المخترعات، وهو ما سبق بالأولى خاصّة كالفلك والفلكيّات، فلا تقيّد بالزمان والزمانيّات.

كيف وهو جلّ جلاله مسبّح لذاته بذاته قبل جميع المسبّحات والتسبيحات، وسبّوح وإن لم يسبّحه ولن يسبّحه أحد من الممكنات، ولذا كان التعبير بما في «الإسراء» أحرى وأولى، بل الفعل في هذه المقامات منسلخ عن الاقتران بالزمان كما لا يخفى على أولي النهى.

وفي «أنوار التنزيل» للبيضاويّ : إنّ مجيء المصدر مطلقا في «بني إسرائيل» أبلغ من حيث إنّه يشعر بإطلاقه على استحقاقه التسبيح من كلّ شيء، وفي كلّ حال(١) . انتهى.

والتسبيح من «سبح الرجل» إذا ذهب وبعد، ومنه السابح في الماء، ويقال : سبّحته بالتشديد إذا بعّدته عن الشين وبمعناه قدّسته من «قدس في الأرض» إذا ذهب فيها وبعد.

والفرق بين التسبيح والتقديس، مع أنّهما يرجعان إلى معنى واحد وهو

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٤٩٢.

٢٠٨

تبعيد الله عن الشين والسوء، على ما قيل : إنّ الأوّل تنزيه الحقّ عن الشرك والعجز والنقص، والثاني تنزيهه عن شوائب الجسم ولوازم الإمكان فتدّبر.

وقد يقال : إنّ التقديس أعمّ ؛ إذ كلّ مقدّس مسبّح من غير عكس، وذلك لأنّ الإبعاد من الذهاب في الأرض أكثر من الإبعاد في الماء، فتأمّل.

والمعروف في معنى التقديس هو التطهير، من القدس بالضمّ، وبضمّتين(١) أي الطهر، ومنه الأرض المقدّسة وبيت المقدس كمجلس ومعظم، ويقال : تقدّس إذا تطهّر، وفسّر القدّوس بضمّ القاف وفتحها بالطاهر والمبارك، وعلى هذا فيتخالف مفادهما فتأمّل.

وقد يقال : إنّهما كالجار والمجرور إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

وكيف كان، المتبادر من التسبيح في هذه الآية وأشباهها هو تنزيه الحقّ بلسان القال ؛ كما يعتقده أرباب الشهود والمكاشفة بالنسبة إلى جميع الأشياء.

ويؤيّده جملة من الآيات القرآنيّة مثل قوله :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) (٢) على قراءة الخطّاب.

وقوله :( كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ) (٣) .

وقوله :( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ) (٤) وغير ذلك.

وجملة من الأخبار الواردة في معجزات النبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة المعصومين من إنطاق الجمادات والنباتات والعجم من الحيوانات.

__________________

(١) أي : قدس.

(٢) الإسراء : ٤٤.

(٣) النور : ٤١.

(٤) الأنعام : ٣٨.

٢٠٩

وإن أبيت عن ذلك فاحمله على القدر المشترك بين التنزيه الفطريّ واللسانيّ، وهو مطلق الدلالة على تنزّه الحقّ عمّا لا يليق به من الشرك والنقائص، فلا يلزم استعمال اللفظة الواحدة في أكثر من معنى واحد، ولك أن تحمله على خصوص الأوّل ؛ إذ ما من شيء إلّا وهو مظهر بكينونته صفة من صفات جماله وجلاله ومظهر لها.

وفي كلّ شيء له آية

تدل على أنّه واحد

وفي الدعاء «اللهمّ إنّه ليس في السماوات دورات، ولا في الأرض غبرات، ولا في البحار قطرات، ولا في الجبال مدرات، ولا في الأشجار ورقات، ولا في الأجسام حركات، ولا في العيون لحظات، ولا في النفوس خطرات ؛ إلّا وهنّ بديموميّتك وبربوبيّتك عارفات، ولك شاهدات، وعليك دالّات، وفي ملك متحيّرات، وفي تحت جبروتك مذلّات».

وفي تفسير «حقائق القرآن» بعد ذكر الآية نظير : قدّس الله كلّ ذوات الأرواح والأشباح والأجسام بلسان العقول، ووجدان نور الإيجاد، ومباشرة أفعاله، لأنّه خصّ ذوي العقول برؤية نور الصفات في الأفعال، وهيّجهم ذلك إلى تقديسه وتنزيهه من علل الحدثان، وذلك تعريف الله نفسه إيّاهم بظهور الصفة في الفعل فعرفوه ثمّ قدّسوه، وخصّ ما دونهم من ذوي الحياة بمباشرة نور العقل، فوهبها منها أرواحا مسبّحة، وكذلك الجمادات لها لسان الفعل ؛ تصف بها الحقّ وتنزّهه، وذلك سرّ عجيب لا يعرفه إلّا من تفقّه قول الله :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) ومن عظم قدر الله ذلك السرّ واللسان والوصف والتقديس شدّد الأمر في إدراكه بقوله :( وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) .

٢١٠

وعن محيي الدين أنّه قال : إنّ المسمّى بالجماد والنبات له أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إيّاه في العادة فلا يحسّ به مثل ما يحسّ به من الحيوان، فالكلّ عند أهل الكشف حيوان بل ناطق، غير أنّ هذا المزاج الخاصّ يسمّى إنسانا لا غير، زدنا مع الإيمان بالأخبار، الكشف ؛ فقد سمعنا الأحجار تذكر الله رؤية عيان بلسان تسمعه آذاننا، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله ممّا ليس يدركه كلّ إنسان.

وفي «مجمع البيان» : أي ينزّهه سبحانه كلّ شيء ويشهد له بالوحدانيّة والربوبيّة بما ركّب فيها من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة الدالّة على أنّه قادر عالم حيّ قديم سميع بصير حكيم، لا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء(١) .

وكلمة «ما» إن قلنا بوضعها لما يطلق على ذوي العقول وغيرهم فدلالة الآية على تسبيح جميع الأشياء بالمنطوق واضحة، وإن قلنا باختصاصها بالثاني فالدلالة بالفحوى على الأوّل لأحقّيّته وأولويّته بذلك فتأمّل.

لا يقال : إنّ الآية دلّت على تسبيح ما في السماوات وما في الأرض، ولم تدلّ على تسبيح نفسهما، فإنّ الأرض أيضا من جملة ما في السماوات، حيث إنّها محيطة بها، ولعلّ المراد بـ «السماوات» جهات العلوّ لا خصوص الأفلاك.

وقد يقال : إنّ «اللام» في «لله» بمعنى «لأجل» والمفعول محذوف، أي، يسبّحه ما فيهما لأجل استحقاقه للتسبيح خالصا مخلصا له التسبيح وهو بعيد، ولعلّ تكلّفه لتعدّي «يسبّح» بنفسه، فلا حاجة إلى توسيط «اللام».

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٨.

٢١١

وفيه : إنّ من الأفعال ما يتعدّى تارة بالنفس، وأخرى بالحرف، كنصحته ونصحت له، وشكرته وشكرت له، وغفرته وغفرت له، وسجدته وسجدت له، ووهبته ووهبت له، ومنها : سبّحته وسبّحت له، قال الله :( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ) (١) وقال :( يُسَبِّحُونَهُ ) (٢) وقال :( سَبِّحُوهُ ) (٣) وقال :( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (٤) فلا حاجة إلى هذا التكلّف.

وقد يقال : إنّ هذه «اللام» زائدة للتوكيد ؛ إذ من أقسامها كما في «المغني» المعترضة بين الفعل المتعدّي ومفعوله كما في قوله :

وملكت ما بين العراق ويثرب

ملكا أجار لمسلم ومعاهد

وقوله تعالى :( رَدِفَ لَكُمْ ) (٥) إن لم نقل فيه بالتضمّن لمعنى «اقترب لكم». فتأمّل.

وقد يقال : إنّها زائدة للتقوية، وفيه نظر، فإنّها تزاد فيما ضعف عن العمل كما في اسمي الفاعل والمفعول والمصدر، وفيما لو تأخّر الفعل عن معموله، وليس المقام من ذلك.

وكيف كان ففي الآية وأشباهها رمز لطيف إلى عتاب من يستنكف عن عبادة الله وتسبيحه بأنّ من يسبّحه جميع الموجودات من العلويّات والسفليّات كيف لا يتوجّه إلى تسبيحه المشركون الملحدون؟! وكأنّ قوله

__________________

(١) الجمعة : ١.

(٢) الأعراف : ٢٠٦.

(٣) الأحزاب : ٤٢.

(٤) النور : ٤١.

(٥) النمل : ٧٢.

٢١٢

تعالى :( الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) (١) وإن كان ظاهره الوصف والنعت التعليل للمقالة السابقة والبرهان عليها، ضرورة أنّ المتّصف بهذه الصفات العليا المتّسم بهذه الأسماء الحسنى، مستحق بذاته للتسبيح والتقديس، بل التعبير بلفظة الجلالة كاف لصدق هذه المقالة، فإنّها اسم للذات المستجمعة لجميع الصفات الكماليّة : من الجماليّة والجلاليّة المقدّسة عن تمام النقائص الإمكانيّة، وقد فصّلنا ذلك مع سائر ما يتعلّق بهذه اللفظة في تفسير سورة «الفاتحة».

قال بعض العارفين : وأمّا كلمة «الله» فإنّه اسم الجمع لا ينكشف إلّا لأهل الجمع، وكلّ اسم يتعلّق بصفة من صفاته إلّا «الله» فإنّه يتعلّق بذاته وجميع صفاته، ولأجل ذلك هو اسم الجمع، أخبر الحقّ عن نفسه باسمه «الله»، فما يعرفه إلّا هو ولا يتكلّم به إلّا هو، لأنّ «الألف» إشارة إلى الأنانيّة والوحدانيّة، ولا سبيل للخلق إلى معرفتها إلّا الحقّ تعالى شأنه، وفي اسمه «الله» «لامان» الاولى إشارة إلى الجمال، والثانية إشارة إلى الجلال، والصفتان لا يعرفهما إلّا صاحب الصفات و «الهاء» إشارة إلى هويّته، وهويّته لا يعرفها إلّا هو، و [الخلق](٢) معزولون عن حقائقه، محتجبون بحروفه عن معرفته، وب «الألف» تجلّى الحقّ من أنانيّته لقلوب الموحّدين(٣) وب «اللام» الاولى تجلّى الحقّ من أزليّته لأرواح العارفين فانفردوا بانفراده، وب «اللام» الثانية تجلّى الحقّ

__________________

(١) الجمعة : ١.

(٢) في الأصل : الحقّ.

(٣) في الأصل كلمة غير مقروءة.

٢١٣

من جمال مشاهدته لأسرار المحبّين فغاروا في بحار حبّه، وب «الهاء» تجلّى الحقّ من هويّته لفؤاد المقرّبين فتاهوا في بيداء التحيّر من سطوات عظمته. انتهى.

ثمّ ليعلم أنّ هذه الأسماء المباركات ما عدا الثانية من أسماء الصفات الثبوتيّة الحقيقيّة الّتي هي عين ذاته، وأمّا هي وإن كانت كذلك في بادئ النظر إلّا أنّها في دقيق النظر كالسبّوحيّة، من الصفات السلبيّة بالمعنى الأعمّ، فإنّها على ما صرّح بعض الفحول أعمّ ممّا ينتطق فيها بحرف السلب، مثل قولهم : إنّه تعالى ليس بجسم، أو ليس بجوهر، أو ليس بعرض، أو لم ينتطق به، بل عبّر فيها بما يرجع إلى السلب من اللفظ البسيط كالقدّوس والسبّوح، فإنّ معناها كما عرفت أنّه تعالى منزّه ومبعّد عن النقائص، فهما بمنزلة قولهم : إنّه تعالى ليس بجسم، وليس له شريك، إلى غير ذلك. وهذا نظير أن تقول : زيد أمّيّ، فإنّه راجع إلى قولك : زيد ليس بكاتب، فتأمّل.

وليعلم أنّ صفاته تعالى إمّا سلبيّة، وإمّا ثبوتيّة، وتسمّى الأولى بـ «الجلاليّة» و «القهريّة» و «التنزيهيّة» ومرجعها إلى سلب النقائص كلّها عنه تعالى، وهذه ليست بعين الذات قطعا، فإنّ السلب عدم فلا يتطرّق فيما هو كلّ الوجود، والثانية بـ «الجماليّة» و «اللطفيّة» و «الإكراميّة» وهذه على أقسام ثلاثة :

أحدها : الحقيقيّة المحضة المجرّدة عن الإضافة إلى غيره تعالى كحياته تعالى وعلمه بذاته، وهذه عين ذاته مصداقا وإن اختلفت مفهوما واعتبارا، وهذا الاختلاف لا يوجب التعدّد في الذات ضرورة جواز انتزاع مفاهيم

٢١٤

مختلفة من مصداق واحد، والدليل على الاتّحاد أنّه لولاه لزم خلوّه تعالى في مقام الذات عن جميع الكمالات، وقد عرفت أنّه تعالى مستجمع في مرتبة ذاته لجميعها، فالقول بالزيادة كما عن الأشاعرة شطط من الكلام.

وثانيها : الإضافيّة المحضة كقادريّته وعالميّته وخالقيّته ونحوها من النسب الاعتباريّة، وهذه ليست بعين الذات وإلّا لزم كون الذات نسبة اعتباريّة لا وجود لها في الخارج، تعالى [الله] عن ذلك علوّا كبيرا.

وثالثها : الحقيقيّه ذات الإضافة كعلمه بما سواه من الأشياء وقدرته على جميع الممكنات، وهذه أيضا عين ذاته، ولا تضرّ الإضافة فإنّها إشراقيّة، قيل : أي إشراق الحقّ ومرتبة ظهوره، فتفطّن.

وكيف كان فلنرجع إلى تفسير هذه الأسماء، أمّا «القدّوس» فقد عرفت معناه، وأمّا «الملك» بفتح الميم وكسر اللام فهو القادر على تصريف الأشياء من الملك بالضمّ وهو السلطنة، ومنه قوله تعالى :( وَآتَيْناهُمْ ) «أي آل إبراهيم»( مُلْكاً عَظِيماً ) (١) وقوله :( قُلِ أللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ) (٢) وبمعناه «المليك» في قوله :( عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (٣) وهو أمدح من «المالك» بوجوه شتّى، ولذا رجّح كثير قراءته في سورة «الفاتحة» على قراءة «مالك» وصرّح الكفعميّ رحمه الله في «الرسالة الواضحة في تفسير سورة الفاتحة» بأنّ الملك من صفات الذات، بخلاف المالك فإنّه من صفات الأفعال، فتأمّل.

__________________

(١) النساء : ٥٤.

(٢) آل عمران : ٢٦.

(٣) القمر : ٥٥.

٢١٥

وأمّا «العزيز» فقيل : إنّه الّذي لا يعادله شيء.

وقيل : إنّه الغالب الّذي لا يغلب ؛ من العزّ وهو الغلبة، ومنه قوله تعالى :( وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ ) (١) .

وقيل معناه : القويّ من العزّة بمعنى القوّة.

وقيل : إنّه الّذي لا يكاد يوجد مثله، من العزّة بمعنى ندرة الوجود.

وقد يقال : إنّه باعتبار مظاهره الأكملين النادريّ الوجود.

وقيل : إنّه بمعنى السلطان المقتدر.

وأمّا «الحكيم» فقيل : إنّه القاضي.

وقيل : إنّه الّذي يحكم الأشياء ويتقنها، فالفعيل بمعنى المفعل.

وقيل : إنّه العالم بحقائق الأشياء، فمعناه : ذو الحكمة، وهي معرفة الحقائق، وفي الدعاء «يا من هو في صنعه حكيم»(٢) .

قال بعض الأفاضل رحمه الله : لأنّه خلق الأفلاك والعناصر بما فيها من الأعراض والجواهر، وأنواع المعادن والنبات، وأصناف الحيوانات على اتّساق وانتظام وإتقان وإحكام تحير فيه العقول والأفهام، ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام ؛ على ما يشهد به علم الهيئة والتشريح، وعلم الآثار العلويّة والسفليّة، وعلم الحيوان والنبات مع أنّ الإنسان لم يؤت من العلم إلّا قليلا، ولم يجد إلى الكثير سبيلا. انتهى.

ولهذه الأسماء المباركات خواصّ وآثار غريبة أشرنا إلى بعضها في

__________________

(١) ص : ٢٣.

(٢) مصباح الكفعميّ : ٢٤٩، البلد الأمين : ٤٠٣.

٢١٦

كتابنا المسمّى بـ «خواصّ الأسماء الحسنى» من أراد الاطّلاع عليه فليرجع إليه.

ولك في قراءته أواخر هذه الأسماء في هذه السورة «الجرّ» لكونها نعوتا للجلالة، و «النصب» رعاية للمحلّ أو قطعا للوصفيّة للمدح، «الرفع» للقطع وحذف المبتدأ، وقد حكي القراءة به أيضا عن بعض القرّاء.

ولمّا أشار سبحانه إلى الأصل الأوّل من أصول الدين وهو «إثبات الصانع» وما يليق به من توحيده، ووصفه بما يليق به وتنزيهه عمّا لا يليق به، أشار بقوله تعالى :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ) إلى الأصل الثاني منها وهو «النبوّة»، فهذه الجملة وإن كانت منقطعة عن سابقها بحسب الظاهر، ولكنّها مرتبطة به بحسب المعنى، وإنّما صدّرها بالضمير لئلّا يتوّهم أنّ الموصول وصلته من التوابع المتعاقبة، الغير المقصودة بالأصل، بل يكون إشارة إلى أنّ النبوّة أيضا أصل مستقلّ يعتنى به عناية خاصّة ؛ كما يعتنى بالتوحيد.

وفي ذلك أيضا توقير خاصّ للرسول صلّى الله عليه وآله بكونه من جانب من يسبّح له جميع الأشياء من الملك والملكوت، ويكون له هذه الصفات العظمى والأسماء الحسنى، لا من جانب من لا يعتنى بشأنه من سكّان الثرى.

ولهذه الآية نظائر كثيرة في القرآن مثل قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (١) وقوله :( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ

__________________

(١) الحديد : ٤.

٢١٧

وَمَلائِكَتُهُ ) (١) وقوله :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ) (٢) وقوله :( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (٣) وقوله :( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ ) (٤) وقوله :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٥) إلى غير ذلك.

والآية مسوقة لبيان الامتنان على هذه الأمّة بالمنّة العظيمة، فإنّ في بعث الرسول حكما ومصالح ترجع إليهم في دنياهم وعقباهم ؛ إذ به يخرجون من الظلمات إلى النور، ومن المكاره إلى السرور، وفي ذلك أيضا تهيّج لهم على إطاعة الرسول في جميع ما يأمرهم به ويقول، وتجنيب لهم عن مخالفته في الفروع والأصول، ولهذا قال :( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٦) .

وإنّما قال سبحانه :( فِي الْأُمِّيِّينَ ) ولم يقل «عليهم» أو «إليهم» لئلّا يتوهّم اختصاص رسالته بهم، مع أنّه كان مرسلا إلى الخلق كافّة.

«والأمّيّين» جمع الأمّيّ، ولا خلاف في أنّ ياءه للنسبة، وإنّما اختلفوا في المنسوب إليه، فقيل إنّه أمّة العرب، أي جماعتهم أو طريقتهم.

قيل : لأنّ أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ولا يقدرون على قراءة

__________________

(١) الأحزاب : ٤٣.

(٢) الملك : ١٥.

(٣) الروم : ٢٧.

(٤) التوبة : ٣٣، الفتح : ٢٨.

(٥) الفتح : ٤.

(٦) الحشر : ٧.

٢١٨

المكتوب، والكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة، فهم على أصل ولادة أمّهم.

وقيل : إنّه الأمّ، فمن لم يقدر على الكتب وعلى القراءة من الكتاب فهو أمّيّ، لأنّه على أصل ولادته حين تلده أمّه من الجهل بذلك.

وقيل : إنّه مكّة المعظّمة، فإنّها أمّ القرى، سمّيت بذلك لأنّ الأرض دحيت وبسطت من تحت الكعبة ؛ كما قال :( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) (١) وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، فمن استوطن مكّة فهو أمّيّ، وقد فسّر أمّ القرى في قوله تعالى :( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) (٢) بمكّة.

واختلف أيضا في إطلاق «الأمّي» على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله كما في قوله تعالى :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (٣) على الوجوه المذكورة، ولكن روى محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب «بصائر الدرجات» في باب : «إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يقرأ ويكتب بكلّ لسان» بإسناده إلى جعفر بن محمّد الصوفيّ قال : سألت أبا جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام وقلت : يا ابن رسول الله، لم يسمّى النبيّ صلّى الله عليه وآله الأمّيّ؟ قال : ما يقول الناس؟ قلت : يزعمون إنّما سمّي الأمّيّ لأنّه

__________________

(١) النازعات : ٣٠.

(٢) الأنعام : ٩٢، الشورى : ٧.

(٣) الأعراف : ١٥٧.

٢١٩

لم يكتب. فقال : كذبوا عليه لعنهم الله، أنّى يكون ذلك والله يقول في محكم كتابه :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ) (١) فكيف يعلّمهم ما لم يحسن؟ والله لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لسانا(٢) ، وإنّما سمّي الأمّيّ، لأنّه كان من أهل مكّة، ومكّة من أمّهات القرى، وذلك قول الله في كتابه :( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) (٣)(٤) . انتهى.

وروى في هذا الكتاب أيضا عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يكتب(٥) . وروى الصدوق أيضا الأوّل في «علل الشرائع» عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبي عبد الله محمّد بن خالد البرقيّ، عن جعفر بن محمّد الصوفيّ قال : سألت(٦) إلى آخره.

وروى أيضا عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن عليّ بن حسّان وعليّ بن أسباط وغيره رفعه عن أبي جعفر عليه السلام قال : قلت : إنّ الناس يزعمون أنّ رسول الله لم يكتب ولا يقرأ، فقال : كذبوا لعنهم الله، أنّى يكون ذلك وقد قال الله :( هُوَ الَّذِي ) إلى آخره، فيكون يعلّمهم الكتاب

__________________

(١) الجمعة : ٢.

(٢) وفي بعض النسخ : أو قال : ثلاث وسبعين.

(٣) الأنعام : ٩٢، الشورى : ٧.

(٤) بصائر الدرجات : ٢٢٥.

(٥) بصائر الدرجات : ٢٢٧.

(٦) علل الشرائع ١ : ١٢٤.

٢٢٠