تفسير ست سور

تفسير ست سور12%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61489 / تحميل: 5981
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الحياء ، أعني انحصار النفس حال ارتكابها القبيح خوفاً عن المذمّة.

والرفق ، أي حسن انقياد النفس لفعل الجميل تبرّعاً.

وحسن الهدي ، أي صدق الرغبة في التحلّي بالكمالات.

والمسالمة ، أي التسليم حالة المناعة مع القدرة من دون اضطراب.

والدعة ، أي تملّك زمام النفس حين تحرّك الشهوة.

والصبر ، أي إجبار النفس على ترك القبيح مع الرغبة والقدرة.

والقناعة ، أي الاكتفاء بالكفاف في المآكل وغيرها.

والوقار ، أي طمأنينة النفس سحال التوجّه إلى الفعل.

والورع ، أي ملازمة الأفعال الجميلة حتّى لايعتريه قصور.

والانتظام ، أي ملكة ترتيب الأمور على وفق المصلحة.

والحرّية ، أي قوّة للنفس بها تكتسب الأموال من وجهها وتعطي من وجهها وتمتنع من اكتسابها على غير وجهها ، وهذا هو الشائع في كلام القوم ، ولها إطلاق آخر على معنى أعم أعني استخلاص النفس عن أسر العبوديّة للقوّة الشهويّة.

والسخاء ، أي سهولة الإنفاق على أرباب الاستحقاق.

وذكر واللسخاء أنواعاً ثمانية :

الكرم ، أعني سهولة الإنفاق فيما يعمّ نفعه على وفق المصلحة.

والإيثار ، أي البذل مع الحاجة إلى ما يبذله.

والعفو ، أي سهولة ترك المكافاة على الإساءة مع القدرة عليها.

والمروّة ، أي الرغبة الصادقة في إيصال النفع إلى الغير ، كذا قيل ، والحق كما قاله بعض المتأخّرين : أنّها بذل ما لابدّ منه عرفاً ، فافهم.

والبتل ، أي السرور بملازمة المحاسن والمحامد.

والمواساة ، أي تشريك المستحقّين في أقواته وأمواله.

والسماحة ، أي بذل ما لايجب بذله.

٦١

والمسامحة ، أي ترك بعض ما لايجب تركه.

وللعدالة اثنا عشر نوعاً :

الصداقة ، أي صرف الهمّة في تهيئة ما يحتاج إليه الصديق محبّة له.

والألفة ، أي اتّفاق الآراء في طلب المعاش حتّى يتعاون تعضهم ببعض.

والوفاء ، أي عدم التجاوز عن طريق المواساة.

والشفقة ، أي صرف الهمّة في إزالة المكروه المتوقّع بالنسبة إلى الغير.

وصلة الرحم ، أي تشريك الأقارب مع نفسه في الخيرات الدنيويّة.

والمكافاة ، أي مقابلة الإحسان بالاحسان.

وحسن الشركة ، أي يكون أخذه وإعطاؤه موافقاً للجميع معتدلاً.

وحسن القضاء ، وهو أن يكون إحسانه خالياً عن المّن والأذى.

والتودّد ، أي طلب مودة الأكفاء من أهل الفضل بحسن اللقاء.

والتسليم ، أي حسن التلقّي والرضا بأفعال الله ورسله وأوليائه ، وإن لم يتعقّلها أو لم توافق طبعه.

والتوكل ، وهو تفويض الأمر الغير المقدور له إلى الله.

والعبادة ، أي تعظيم الله وإكرام أوليائه والعمل بموجبات الشريعة ، ولايتمّ الا بالتقوى.

ثمّ إنّ لكلّ من هذه الأنواع كاجناسها طرفي افراط وتفريط ، هي أنواع الرذائل ، وربما لم يكن لأغلبها أسماء معيّنة وألفاظ موضوعة ، لكن بعد العلم بحقيقة الفضيلة يعرف طرفا افراطها وتفريطها ، وإن لم يعرف اللفظ المخصوص.

ونحن نذكر في هذا الكتاب بما سيأتي فيه من الفصول والأبواب جنس كلّ فضيلة مع أعظم أنواعها ولوازمها شرفاً ونفعاً ، وجنس كلّ رذيلة مع أظهر أنواعها ولوازمها فساداً وإهلاكاً ، إذ ليس في كتب القوم ما يحيط

٦٢

بضبط أنواعها ولوازمها وتمييز أصولها وفروعها ، ولا يليق بهذا الكتاب استقصاء الغاية في البحث عن جميعها.

فصل

قالوا كثيراً ما تظهر آثار أصحاب الفضائل في أرباب الرذائل فيما يصدر عنهم من الأفعال والأعمال ، فيشتبه الأمر على ضعفاء العقول من الرجل ، فيمدحون بصنوف المدائح والمناقب مع انغمارهم في المساوي والمثالب.

وكم من سمّي ليس مثل سميّه

وإن كان يدعى باسنه فيجيب

أمّا الحكمة فربّما يتلقّف مسائلها تقليداً على وجه يتعجّب المستمع من احسن التقرير واليبان مع خلوّها عن برد اليقين ونور الايقان ، فمثل حاملها كمثل الأطفال في التشبّه بالرجال أو كبعض الحيوانات في المحاكاة لما يراه أو يسمعه من سائر الحيوانات.

وأمّا العفّة فربّما يترك جنس من الشهوات الرديّة لتحصيل ما هو أتمّ أو أدوم من اللذّات الحسّية ، أو لخمود القوّة وقصورها وضعف البنية وفتورها ، أو عدم التمكّن من أسبابها ، أو عدم القدرة على الدخول من أبوابها ، أو لشبعه وتملّيه من كثرة تعاطيه والافراط فيه ، أو للحذر عن الأوجاع والأسقام ، أو اطلاع الخواص وتوبيخ العوام ، أو لعدم إدراك تلك اللذات ، كما هو شأن أهل الجبال والفلوات والصحاري ، مع أنّ فضيلة العفّة هي الحرية واستخلاص النفس عن أسر العبوديّة ، وانقيادها للقوّة العقليّة مع الاتيان بالقدر اللازم والمصلحة الضروريّة ، ويكون قصده في الفعل والترك مجرّد كونها سعادة حقيقية ، والتشبّه بالمجرّدات المنزّهة عن الشهوات الحسيّة.

وأمّا الشجاعة فربما يقدم بعض الرجال على الشدائد الصعبة وعظائم الأهوال ولايبالي عن الضرب والأسر والقتال مع الأبطال لتحصيل الجاه أو

٦٣

المال أو الشهوة أو الجمال ، أو يقحم نفسه في شدائد المصائب ومكاره النوائب تعصّباً عن الأتباع والأقارب ، أو يعتمد على تكرّر الغلبة الحاصلة له في سوالف الأيام ، فلا يبالي على ما اعتاده من الاقدام مع أنها ناشئة إمّا عن الجبن أو الشره أو عن طبيعة القوّة والقدرة أو عن قلّة العقل والحماقة ، والشجاع الحقيقي من صدر فعله عن الحكمة ، ويكون الباعث على فعله نفس فضيلة الشجاعة ، فربّما كان الحذر عن بعض النوازل لازماً أو راجحاً عند الحكيم العاقل ، فيكون ممّا يناقضها(١) وينافيها ، وربما انعكس الأمر فيكون مما تقتضيها(٢) فهو لا يحذر الا عن نقصان دينه وشهامة ذاته(٣) ، ولايبالي بعد ذلك عن حياته ومماته ، ويجتنب عن زوال شرعه ولحوق عاره وهتك حرمته وشعاره ، ويرغب في طاعة ربّه ووليّ نعمته وحماية شريعته والذبّ عن شعائر الاسلام وحرمته ووقاية أهل ملته ولو بسفك دمه وقتل عترته وسبي ذريته ، كما وقع لسيّد الشهداءعليه‌السلام وأصحابه البررة السعداء عليهم أفضل التحيّة والثناء ، ايثاراً للذكر الجليل والأجر الجزيل والثناء الجميل على الحظّ الناقص القليل ، وترجيحاً للسعادة الأبديّة على النعمة الفانية الدنيوية المشوبة بالذّل والهوان والكدورات المتجدّدة آناً بعد آن.

وبالجملة فالشجاع ساكن وقور متحمّل صبور مستخفّ بما يستعظمه الجمهور غير مضطرب من شدائد الدهور وعظائم الامور ، ذوهمّة عليّة وبصيرة جلية مقصور غضبه على مقتضى الفكر والروية.

وأما العدالة فربما يتكلف في تقلد ما لها من الآثار والأعمال وتجشم الزهد والعبادة وإظهار الفضل والكمال لجلب القلوب وتحصيل الجاه أو المال ، مع أنها كما عرفت ملكة راسخة حاصلة من استجماع الفضائل وسلب النقائص والرذائل ورفع التنازع بين القوى وتسالمها في الآراء

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : ممّا لا يناقضها ولا ينافيها ، أي الحذر حينئذ لاينافي الشجاعة.

٢ ـ كذا ، والصحيح : ممّا يناقضها.

٣ ـ كذا.

٦٤

والأهواء وصدور الأفعال على نهج الاعتدال.

وكذا الحال في سائر أنواع الفضائل النفسيّة حيث تشتبه كثيراً ما بأنواع الرذائل الخلقية كالتواضع والوقار بالتملّق والاستكبار والتبذير بالسخاء والعبادة بالرياء ، وغير ذلك ممّا لايحصى.

فصل

العدالة أفضل الفضائل وأشرفها ، لأنّها الهيأة الحالصلة من استجماعها كما عرفت ، ولأنها بمعنى المساواة التي هي أقرب إلى الوحدة الحقيقية التي هي من خصائص الواحد الحقيقي الذي يفيض الوحدة على كل موجود بقدر استعداده ، كما يفيض نور الوجود ، فإنّ ملكة التوسطّ بين الأخلاق والأعمال المتضادّة التي هي بمثابة الأطراف لها هيأة وحدانيّة بها ترتعف القلّة والكثرة والزيادة والنقيصة ، وبها ينتقل عن الكمال الاستعدادي إلى الفعلي ، كما أنّ باعتدال امتزاجات العناصر الأربعة يتحقّق وجود المواليد الثلاثة ، فالاعتدال ظلّ من الوحدة الحقّة ، ولا يتطرّق إيه نقص ولازوال ، وبه يحصل العروج إلى أعلى معارج الكمال ، وللنفس تعشّق تامّ به في أيّ مظهر ظهر ، ولذّة غريبة منه في أيّ صورة تجلّى من الصور ، كما يظهر لك من التأمّل في حقيقة صحّة البدن الذي هو اعتدال المزاج ، والحسن الذي هو اعتدال الأعضاء ، والفصاحة التي هي اعتدال الكلام ، وتهذيب الأخلاق الذي هو اعتدال الملكات ، وحسن الصوت الذي هو اعتدال النغمات ، وحسن المشي الذي هو اعتدال الحركات ، وهكذا.

فإن قلت : أفضليّة العدالة ينافي ما ورد من مدح التفضّل لكونه زيادة فلا مساواة فيه.

قلت : قد عرفت أنّ التوسّط المعتبر فيها ليس حقيقيّاً لامتناعه كما أشرنا إليه ، بل اضافيّ وله عرض عريض ، فالوصول إليه عدالة ، والسير في

٦٥

عرضه إلى ما هو أقرب إلى الحقيقي مع امكانه تفضّل ، فكأنّه احتياط ومبالغة في حصول العدالة الحقيقية ، ولذا هو أفضل من العدالة.

ثم إنّها لما كانت عبارة عن ردّ كلّ شيء إلى وسطه فهي إمّا في الأموال والكرامات ، أو في المعاملات والمعاوضات ، أو في التأذيبات والسياسات ، فلابدّ من كونه عالماً بالوسط في كلّ منها حتّى يمكن له الردّ إليه والعالم بأوساط جميع الأشياء حقيقة هو الناموس الالهي الذي هو ينبوع الوحدة ومبدأها ، ولما كان الانسان مدنيّاً بالطبع محتاجاً إلى التعاون في التعيّش ، وتقع بين الناس بسببه معاوضات لابدّ من حفظ المساواة فيها دفعاً للمشاجرة ، والأعمال مختلفة بالزيادة والنقيصة ، فربما يزيد العمل القليل كنظر المهندس وصاحب الجيش في لحظة واحدة على الكثير ممّن يعمل ويحارب مثلاً ، فلابدّ من مقوّم محصّل للاعتدال وتبيين وجوه الأخذ والاعطاء وسائر الأعمال ، وتصحيحها حتّى لايتضمّن إفراطاً ولا تفريطاً في حال من الأحوال ، وهو الدينار ، لكنّه صامت ، فربما لا يستقيم به الأمرر وحده فيستعان بالعادل الناطق ، أعني الحاكم حتّى يعين الدينار ويحصل الانتظام بالفعل ، فهو خليفة الناموس الأكبر في حفظ المساواة وهو الناموس الأوسط والأصغر هو الدينار ، ولابدّ أن يقتدى بالثاني كما أنّه يقتدي بالأوّل.

وقد قيل : إنّ في قوله تعالى :( وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس ) (١) إشارة إلى الثلاثة ، ويقابل الأوّل الكافر الخارج عن الشريعة ، والثاني الباغي على الإمم والعاصي ، والثالث الخائن والسارق وغيرهما ممّن لا يقوم بحكم الدينار ويأخذ الأكثر ويعطي الأقلّ.

ثمّ للعدالة أقسم ثلاثة أشار إليها خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :

__________________

١ ـ الحديد : ٢٥.

٦٦

« التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله »(١) .

أوّلها : ما يجب مراعاته على كلّ أحد فيما بينه وبين ربّه تعالى ، فإنّه تعالى واهب الوجود والحياة والبقاء ، ومهذّب الصور بما يكلّ عن شرحه ألسن العارفين بدقائق علم التشريح ومنافع الأعضاء ، وتعجز عنه الأوهام البشريّة الناقصة عن الاحاطة بها والاحصاء ، ومفيض العقل والنور والبهاء والخيرات الخارجة عن حدّ الاستقصاء على النفوس والأرواح والقوى ، ومهيّىء النعمة الأبدّية والأنوار السر مدّية ، ممّا تدهش من تصوّرها عقول العقلاء وأفهم الحكماء الألبّاء وممدّمها في كلّ لحظة بمدد جديد من عظائم الآلاء وشرائف النعماء( وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها ) (٢) .

فلو لم يقابها بما يتمكّن منه من المعرفة ولمحبّة والحمد والثناء والطاعة والعبادة والدعاء والرضا بما يجري عليه من القضاء ووضع كلّ شيء ممّا منحه في موضعه الائق به مع الشكر والصبر في الشدّة والرخاء كان في أخسّ مرتبة من الظلم والجور على نفسه والوقاحة وقلّة الحياء ، فإنّه لم اختصّ من غيره بناقص قليل من العطاء ولم يقابله بضرب من المكافاة والجزاء كان منسوباً إلى الظلم والجور وقلّة الوفاء ، فكيف ونعماؤه تعالى متواترة لاتحصى ، وأياديه متوالية لاتستقصى ، سيّما والاحسان المذكور عائد لى نفسه مع كونه أيضاً نعمة ممّا منحه من النعماء ، فإنّه تعالى غير مفتقر إلى أفعالنا ، لما له من العظمة والكبرياء بل هو في أعلى مرتبة من التنزّه عن ذلك والغناء.

وثانيها : ما يجب مراعاته بينه وبين الأحياء من الناس من أداء الحقوق والأمانات والنصفة في المعاملات وتعظيم الأكابر والعلماء وإغاثة الملهوفين والضعفاء. وفي الحديث النبويصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

١ ـ جامع السادات : ١ / ٨٢ ، الدرة الباهرة : في كلمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ ابراهيم : ٣٤.

٦٧

« إنّ للمؤمن على أخيه ثلاثين حقّاً لابراءة له منها الا بادائها أو العفو : يغفر زلّته ، وليرحم غربته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويردّ غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ، ويرعى ذمّته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هدّيته ، ويكافيء صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسالته ، ويسمت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطّيب كلامه ، ويبرّ إنعامه ، ويصدّق إقسامه ، ويواليه ، ولا يعادية ، وينصره ظالماً فيردّه عن ظلمه ، وينصره مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ، ولايسلمه ، ولا يخذله ، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه ، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه ».(١)

وثالثها : ما يجب مراعاته بينه وبين أمواتهم ، كأداء الديون وإنفاذ الوصايا والصدقة والدعاء.

تفريع

قد تلخّص ممّا ذكرناه أنّ سالك سبيل العدالة لابدّ له من المجاهدة حتّى يغلب عقله على جميع قواه ، فيستعمل كلاً منها فيما فيه صلاحه وكماله ، فلا يفسد النظام البشري ، إذ لوتهاجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر حدثت أنواع الفساد ، وأنّ من لم يصر كذلك لم يتمكّن من إجراء أحكامها بين شركائه في التمدّن ، إذ العاجز عن نفسه كيف يصلح غيره؟ والشمع الذي لا يضيء القريب كيف يستضيء منه البعيد؟ فمن استقرّ على جادة الوسط في جميع صفاته وأفعاله وأعماله كان خليفة الله في بلاده حاكماً بين عباده ، فإذا أطاعوه وسلموا إليه الأمر وانقادوا له تنوّرت به البلاد وزادت به البركات وانتظم به كلّ الأمور ، أذ بعدالة من إليه زمام أمورهم يتمكّن كلّ أحد من رعاية العدالة لتوقّف تحصيل المعارف الحقّة والأخلاق الفاضلة غالباً على

__________________

١ ـ البحار : ٧٤ / ٢٣٦ ، كتاب العشرة ، باب حقوق الإخوان ، ح ٣٦ ، مع اختلاف.

٦٨

فراغ البال وانتظام الأحوال ، ومع جوره يتلاطم أمواج الفتن ، ويتراكم أفواج المحن ، فلا يجد طالب العالم إليه سبيلاً ، ولا إلى الهادين إليه مرشداً ودليلاً ، وتبقى عرصاته دارسة الآثار وأرجاؤه مظلمة الأقطار ، وترغب طباع الرعيّة برغبته إلى الفساد وتشيع أنواع الفسوق والمعاصي بين العباد ، لكنّها موقوفة على حسن حالهم وسلوكهم مسلك العدالة فيمابينهم ، فإنّ فسادنيّة السلطان وفسقه وجوره ناش من فساد حالهم وخبث سريرتهم وكثرة معاصيهم ، بل هو عقوبة عاجلة لهم مترتّبة عليها ، ومنه يحبس غيث السماء وتنزل أنواع البلاء ويسلّط الله أدانيهم على أعاليهم فهما متلازمان.

شقشقة : ليت شعري كيف هجروا روابط المحبّة حتّى يحتاجوا إلى قهرمان العدالة ، إذ مع استحكامها يتحقّق الايثار ولو كان بهم خصاصة ، فلا يبقى للجور أثر بالمرّة ، مع أنّها الوحدة الطبيعيّة ، وهو الباعث على الايجاد ، كما يشير إليه قوله تعالى :( كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببتُ أن أُعرَف ) .(١)

والعدالة وحدة قسريّة ، ومع ذلك لا تنتظم بدونها ، فهي السلطان في الحقيقة والعدالة نائبها.

فصل

قالوا : الحركة المؤدّية إلى كمال إمّا طبيعيّة كحركة النطفة في حالاتها المختلفة إلى المرتبة الحيوانيّة ، أو صناعيّة كحركة الخشب في حالاته المتنوّعة إلى الهيأة السريرية ، والاولى مقدّمة بحسب الوجود والرتبة ، لصدورها عن الحكمة الالهيّة المحضة ، فكمال الصناعة في التشبّه بمبدأها في الترتيب أعني الطبيعة ، فيجب الاقتدداء في تهذيب الأخلاق الذي هو من القسم الثاني بها ، ولما كانت الحركة الطبيعية في بدو الخلقة :

أوّلاُ : في القوّة الشهوية أعني طلب الغذاء إلى أن يتمّ كمالها بحدوث الميل إلى النكاح وسائر المشتهيات.

__________________

١ ـ كلمات مكنونة : ٣٣.

٦٩

وثانياً : في القوّة الغضبيّة ، أعني الاحتراز عن الموذيات ، ولو بالاستعانة إلى أن يحدث فيه الميل إلى صنوف الرئاسات والكرامات.

وثالثاً : في القوّة المميّزة من حفظ صورة الام والظئر مثلاً إلى أن يتمكّن من تعقّل الكلّيات ، وهذه غاية التدبير المفوض إلى الطبيعة.

ثم يناط الاستكمال بالحركة الصناعية ، فلو اقتدى فيها بالطبيعة بتهذيب الشهويّة أولّاً ، ثمّ الغضبيّة ، ثمّ العاقلة ، كان تحصيل كمالاتها في غاية السهولة ، ولو حصّل بعضها لا على الترتيب الطبيعي كان تحصيل الباقي صعباً ، لكنّها ليس بمتعذّر بالمرّة ، فلا يترك السعي ولا ييأس من روح الله تعالى ، وليجتهد حتّى يتيسّر له الوصول إلى المطلب الأقصى ، ولو لم يحصّل الكمال الصناعي بقي على الحالة الطبيعية ، ولم يبلغ إلى ما خلق له ، إذ لم يجبل أحد على الفضائل النفسية الا من أيّد بالنفس القدسيّة ، غاية ماهناك كون بعض الأمزجة أكثر استعداداً وأسهل قبولاً لبعضها.

ثم المحصّل للفضيلة يجب عليه السعي في حفظها وعادمها يلزمه الاهتمام في تحصيلها بإزالة ضدّها ، ولذا ينقسم هذا العلم المسمّى بطبّ الأرواح إلى حفظ الفضائل ودفع الرذائل ، كما أنّ طبّ الأبدان ينقسم إلى حفظ الصحة ودفع المرض ، ولكلّ منهما أسباب ومعالجات نذكرها إن شاء الله تعالى.

٧٠

الباب الثالث

في كيفيّة المحافظة

على صحّة النفوس

وفيه فصول

٧١

فصل

لابدّ لمن وفّقه الله تعالى لاستجماع الفضائل الخلقيّة والملكات النفسيّة أن يعلم ويتذكّر دائماً أنّ ما وفّق له من أشرف الجواهر وأرغب النفائس بحيث لايعقل ما يوازنه يوازيه ، ولا يتصوّر ما يكافؤه ويساويه ، وأنّه النعمة الحقيقيّة الدائمة التي لايفارقه أبداً ، حيث إنه من مواهبه تعالى المنزّهة عن الاسترداد.

داده خويش چرخ بستاند

نقش الله جاودان ماند

 فإن سعى في تبقيتها وتثميرها واهتمّ في تنميتها وتكثيرها وفّق في كلّ آن لنعمة عظيمة عديمة المثال ، إلى أن يتّصل بنعمة أبديّة لا يعتريها زوال ولا اضمحلال ، وإن ضيّعها ولم يعرف قدرها وأهمل في تنمية ثمرها فياحسرة له على الذلّ والهوان ، ووالهفاً له على الغبن والحرمان ، وواأسفاً له على الخيبة والخسران.

وإن يعلم أنّ حرص أبناء نوعه في اقتناء الشهوات الحسيّة ونيل اللذّات الدنيّة الدنيويّة واكتساب الفوائد المجازية والمنافع العرضية بحيث يتحمّلون لأجلها مشاقّ الأسفار في البراري والقفار والأودية والغياض والبحار ، ويتعرّضون لأسباب التلف من السباع وقطّاع الطرق والظلمة والأسر والنهب والقتل وغيرها من الأخطالر مع حصول الذلّ والهوان والخيبة والخسران في غالب ما يأملون ، والوقوع فيما يخافون عنه ويحذرون ، بل ربما ينجرّ سعيهم إلى أنواع الملامة وأصناف الحسرة والندامة ، بحيث تكاد تزهق أرواحهم وتتفطّر من الغمّ والهمّ أجسامهم وأشباحهم. والذي يظفر بمطلوبه بعد كدّ شديد وتعب ماله من مزيد ، لا وثوق له ببقائه ويضطرب دائماً من زواله وفنائه بتطرّق النوائب وحدوث الحوادث والمصائب ، فما يحدث له من

٧٢

الخوف والاضطراب والألم والعذاب وتعب الخاطر في محافظتها أعظم من تعبه في تحصيلها.

وبالجملة فالمتاعب المتحمّلة لتحصيل اللذّات الدنيوية والأخطار المرتكبة لاقتناء المشتهيات الجسميّة والمكاره المعدّة لمحافظة تلك الاعتبارات العرضيّة مع كثرتها وشدّتها وزوال لذّة غايتها ، بل كونها في حال كونها لذّات مستلزمة لمتاعب موفورة وآلم غير محصورة ، بل كلّما ازداد إليها شوقا وطلباً اززداد خوفاً وتعباً ، وكلما ازداد منها كثرة وسعة اززداد كرهاً ومشقّة ، كما ترى من حال الوزراء والأمراء والسلاطين والحكّام من كونهم في معرض الآفات العظيمة والمكاره الشديدة ، والمخاوف الصعبة التي يطول بشرحها الكلام ويفوت بذكرها زمام المرام ، فإذا كان طلب الدنيا مع صعوبة مسالكها وضيق مداركها وشدّة متاعبها وعظم نوائبها لايبالي عن التعرّيض لآلامها والتحمّل لأوجاعها وأسقامها ، ولايشبع من حطامها ، ولا يرفع اليد عن زمامها ، فطالب الفضائل النفسيّة أولى بذلك مع علمه بما هنالك من النعيم الدائم الأبدي ولالتذاذ الذاتي السرمدي ، كما قال مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام :

رضينا قسمة الجبّار فينا

لنا علم وللأعداء مال

فإنّ المال يفنى عن قريب

وإنّ لعلم ليس له زوال

 فإذا كان مؤيّداً بحصولها له فأولى بحفظها وتبقيتها وتوفيرها وتقويتها والحرص في تثميرها والشوق في تكثيرها فلابدّ له من تصوّر هذا المعنى دائماً حتّى يصير باعثاً كلّياً له على حفظ أسبابها والتجنّب عن موجبات زوالها وذهابها.

فصل

كما أنّ المزاج المعتدل يجب حفظ اعتدله باستعمال مايلائمه من

__________________

١ ـ ديوان امير المؤمنينعليه‌السلام ، ص ٤٤٢.

٧٣

الأغذية المعتدلة ، والاحتراز عمّا ينافيه ، فكذا ينبغي لصاحب الأخلاق المعتدلة حفظ اعتدالها باستعمال ملائماتها ومقتضياتها والتجنّب التامّ عن منافياتها ، فإنّ الخير والشرّ متعاندان ، ولكلّ منهما جنود وأعوان ، فمن وفق لتحصيل الأوّل فعمدة مايوجب حفظه تقويته بما يلائمه ويقتضي بقاءه ، والاحتراز عمّا يوجب زواله وفناءه بالمواظبة على مصاحبة من يماثله في اقتناء فضائل العلم والعمل ، أو من هو أعلى منه في ذلك وأكمل ، والتأسّي به في أخلاقه وآرائه والاقتداء به في سلوكه مع خالقه وشركائه ، والاجتناب عن مجالسة من يصرف عمره في اقتناء الشهوات الحسيّة ونيل اللذّات البهيميّة من اولي النفوس الخسيسة وذوي الأخلاق الخبيثة والاحتراز عن مخالطتهم ومجالستهم وموادّتهم ومصادقتهم واستماع محاوراتهم ومشاهدة سكناتهم وحركاتهم ، فإنّ سهام مكائد الشياطين الإنسيّة وصنوف حيلهم ومخائلهم في تحسين القبائح المحاسن أسرع وأنفذ في النفس من سائر آلات الشرّ ، وتسلّطهم على قهر العاقلة أقوى من تسلّط الشياطين الاخر.

عن المرء لاتسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدي

مع أنّ الصحبة مؤثّرة بذاتها ، وكلّ شيء يميل إلى ما يلائمه ويشتاق إلى ما يجانسه.

وقد عرفت أنّ أعوان الشر أكثر ، ودواعيه أوفر ، وجنوده أغلب ، وكسر صولته ودفع شوكته أصعب ، مع أنّ الطبيعة به أوفق فهو بصرف الهمّة نحو قمع بنيانه وإزالة سلطانه ولو بمعين خارجي أليق ، ولا كذلك الخير لقلّة جنوده وأعوانه وصعوبة مسلكه ومخالفته لمقتضى الطبيعة ، فهو بالتقوية والاستمداد بممدّ خارجي أحرى وأحقّ ، ولذا حفّت الجنّة بالمكاره والنار بالشهوات.

فصل

ثم أنّ إبقاء أحد الضدّين كما يمكن بتقويته والسعي في الاتيان بملائماته

٧٤

والاحتراز عن مناقضاته ، فكذا يمكن بالسعي في إفناء ضدّه وكسر صولته وإزالة شوكته بالرياضة والمجاهدة ، فإنّه كما يوجب تقوّي أحد المتعاندين ضعف الآخر ، فكذا السعي في قلع الآخر وقمعه يوجب تقوّيه المستلزم لبقائه بلامزاحم يعوقه عن عمله وتدبيره المفوّض إليه ، وهو إنما يتحقّق بإعمال القوى والآلات في آثار فضائل الملكات من شرائف الأعمال ومحاسن الأفعال وعدم إهمالها حتّى تستريح وتكسل فيما هو مفوّض إليها من الأشغال.

ومبالغة القوم في سلوك هذا الطريق أكثر واهتمامهم فيه أشدّ وأوفر ، فإنّ إهمام القوّة النظريّة عن النظر في الحقائق العلميّة يؤدي إلى البله والبلادة وانقطاع موادّ عالم القدس عنه ، وتعطيل القوّة العملية عن الأعمال الفاضلة يوجب الف النفس بالكسل والبطالة وانسلاخه عن الصورة الانسانية والرجوع إلى المرتبة البهيميّة ، وهو الانتكاس الحقيقي ، وإعمالهما يوجب تصقيلاً لمرآة قلبه على سبيل الاستمرار ، فيترقّى يوماً فيوماً بقبولها للصور العالية وتمكّنها من تحصيل المجهولات النظريّة وتذكار معلوماتها الفعلية على سبيل القدرة والاختيار ، ويبعد عن آفة النسيان ويتشرّف بشرف المشاهدة والعيان.

ومن كثرة الأعمال الصالحة الموجبة لاستحكام الملكات الفاظلة وشدّة ارتباطه ولاعلاقته بها يبعد عن آفة النقص والزوال والتبدّل بما يضادّه من الأعمال ، لكن يجب أن يكون أعماله المذكورة طرّاً منوطة بالفكر والنظر الدقيق ، ملحوظة بعين التحقيق حتّى لايغفل عمّا هو بصدده من ارتكاب الفضائل واجتناب الرذائل ، فلو غفل وصدر عنها ما يخالفه أدّبها بارتكاب ضدّه بعد لومه وتوبيخه ، فلو أكل ما يضرّه أدّب نفسه بالصوم ، أو غضب في غير محله أدّبها بايقاعها في مثله مع الصبر ، أو ارتكاب ما يشقّ عليها من الصدقة والنذر ، أو عرّضها لاهانة السفهاء كسراً لجاهها ، ولابدّ له من

٧٥

الاحتراز عمّا يهيّج الغضب الشهوة رؤية وسماعاً وتخيلّاً ، ولو حرّكتهما الطّبيعة اكتفى في تسكينهما يقدر الضرورة أو الرخصة.

فصل

لابدّ لحاوي الفضائل وطالب حفظها من الاستقصاء في طلب خفايا عيوبه من نفسه وخلاصها منها ، فإنها لمحبّتها بآثارها الصادرة عنها تخفى عليها معائبها ، بل تظهر عليها في صور المحاسن ، فلو تمكّن من اختيار صديق يثق بفحصه عن عيوبه وأنّه بسبب تصلبه في دينه لايحترز عن همّه وكدورته ولايكتمها عنه ، أو يؤمّنه بالعهود والمواثيق المؤكّدة وإظهار آثار السرور والبهجة بإخباره بها والحزن والكدورة بكتمانها عنه ، والا فليطّلع عليها من أعدائه ، فإنّهم يصرّون على إظهارها ، بل ربّما يتعدّون إلى الكذب والبهتان ، ولنعم ماقيل :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكّن عين السخط تبدي المساويا

أومن الناس لرغبة النفس في الاطّلاع على عيوبهم والاستقصاء فيها فبعد الاطّلاع عليها يتأمّل في نفسه ، فإن وجدها معيوبة بمثلها اجتهد في رفعها وليحاسب نفسه في كلّ يوم وليلة فيما صدر عنها من الأعمال ، فإن لم يصدر عنه شيء من قبائح الأفعال حمد الله الواهب المتعال(١) على عظيم النوال ، والا عاتب نفسه وأدّبها بما ذكر مع التوبة والابتهال والاجتهاد في عدم الاتيان بمثله في سائر الأيّام والليال.

__________________

١ ـ كذا.

٧٦

الباب الرابع

في معرفة الأمراض النفسانيّة

ومعالجاتها الكليّة

وفيه فصول

٧٧

لابدّ في طبّ الأرواح من التأسّي بطبّ الأجسام في معرفة حقيقة المرض أولّاً ، ثمّ علاماته ، ثمّ معالجاته ، فهنا فصول :

فصل

الأمراض النفسانيّة هي انحرافات الأخلاق عن الاعتدال ، وإذ قد عرفت أنّ القوى الباعثة على الفعل والترك بالاختيار والارادة ثلاثة : قوّة التمييز والدفع والجذب ، فانحرافها إمّا عن خلل في الكمّية بالزيادة أو النقيصة ، أو الكيفيّة بالرداءة ، فأمراض كلّ منهما إنّما يتصوّر في ثلاثة أقسام :

أحدها : الزيادة عن الأعتدال ، كالجربزة والفسفسطة في المميّزة ، والغضب في غير محلّه في الدفع ، والحرص على المشتهيات في الجذب.

وثانيها : النقصان عنه ، كالبلاهة في الاولى ، والجبن في الثانية ، والخمود في الثالثة.

وثالثها : رداءة الكيفيّة ، كالشوق إلى الكهانة والقيافة والشعبدة لتحصيل الشهوات الدنيّة ، أو تحصيل السفسطة والجدل وغيرهما ممّا لايثمر يقيناً في اليقينيّات في الاولى ، والغيظ على الجمادات والبهائم في الثانية ، وأكل الطين ومباشرة الذكور في الثالثة : ولما كانت الفضائل أربعة فبسائط الرذائل اثناعشر ، ويحصل من تركيبها ما لايتناهى ، وبعض هذه الأمراض أشدّ إهلاكاً وأصعب علاجاً ، كالجهل المركّب ، والعشق ، والحسد وغيرها ، ممّا سنذكر إن شاء الله تعالى.

فصل

الانحراف المذكور إمّا طبيعيّ بحسب الفطرة ، أو عاديّ من مزاولة الأعمال الخبيثة ، أو عرضيّ من الأمراض الجسمانية ، فإنّ للنفس ارتباطاً

٧٨

خاصّاً بالبدن ، وتأثّراً من تأثّره وبالعكس ، كما أنّ قطع بعض الأعضاء يحدث في النفس ألماً ، والخجلة والفرح يحدثان في اللون صفرة أو حمرة ، والخوف يحدث في البدن ارتعاشاً ، فتأثّر البدن بها سيّما مايتعلّق منها بالأعضاء الرئيسيّة يستلزم في القوّة النظرية نقصاً ، وفي إدراكها فساداً ، وربّما يحدث من غلبة البلغم الحمق والبلادة ، ومن غلبة الصفراء سوء الخلق والفظاظة ، ومن غلبة الدم قلّة الصبر وسرعة الغيظ ، ومن بعض الأمراض السوداوية الجبن ، ومن بعضها التهوّر وغير ذلك.

فصل

فإن كان الباعث عليها الأمراض الجسمانيّة عالجها بالمعالجات الطبيّة حتى ترتفع آثارها بارتفاعها ، وإن كان أحد الآخرين فعلاجها كالجسمانّي في المعاجة بالتغذية أوّلاً ، ثم التداوي ثانياً ، ثمّ السموم ثالثاً ، ثم الكيّ والقطع رابعاً ، فليبدأ فيها أيضاً بالتأمّل في مراتب قبح تلك الرذيلة واستقصاء وجوه مفاسدها المترتّبة عليها حتّى لايبقى له شائبة ريبة ، ويحكم ذلك في التخيّل بحيث لايبقى له مجال غفلة ، فيتجنّب عنها ذلك ، فإن حصل المقصود والا فليواظب على تحصيل ضدّها من الفضيلة والمواظبة على آثارها من الأعمال ، فكما أنّ الحرارة المزاجيّة تدفع البرودة العرضيّة ، فكذا الفضيلة الحادثة في النفس تزيل ضدّها من الرذيلة ، فهذه بمنزلة العلاج بالتغذية.

فإن لم تنجع فليوبّخ نفسه وليؤدّبها بالذّم واللوم فكراً وقولاً وعملاً ، فإن حصل المقصود والا فلينظر انّها من آثار أيّ قوّة من القوى فليعدّلها بالأخرى ، فإنّ نقوية احديها تستلزم ضعف الأخرى ، إذ قد عرفت أنّ فائدة الغضبية كسر صولة الشهويّة ، وهذه بمنزلة العلاج بالأدوية.

فإن لم تؤثر فليرتكب ما يقابلها من الرذائل مع حافظة التعديل ، فالجبون يعمل عمل المتهوّر والمتملّق يعمل عمل المتكبّر ، والخائف يخوض

٧٩

في المخاوف والأهوال ، والبخيل يكثر من بذل الأموال ، فإذا حان أوان الاعتدال كفّ عنها حتّى لايتبدّل بها ، وهذه بمنزلة المعالجة بالسموم.

فإن لم ينفعه ذلك لصعوبة المرض واستحكاممه فليعذّبها بأنواع الرياضات المتعبة المضعفة للقوّة الباعثة عليها من النذور والعهود وغيرها ، وهي بمنزلة الكيّ والقطع وهو آخر الدواء.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟ قال : قلت : فلم سمّي الأمّيّ؟ قال : نسب إلى مكّة، وذلك قول الله( لِتُنْذِرَ ) إلى آخره. فامّ القرى مكّة، فقيل أمّيّ لذلك(١) .

ورواه أيضا عن أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار، عن سعد بن عبد الله(٢) إلى آخره.

وهذه الأخبار تؤيّد الوجه الأخير.

ويمكن حملها على أنّه صلّى الله عليه وآله كان قادرا على الكتابة والقراءة، ولكنّهما لم يصدرا عنه صلّى الله عليه وآله بحسب الظاهر لمصلحة، فإنّ جعل النبوّة في الأمّيّ الّذي لم يقرأ ولم يكتب أبعد من توهّم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم الّتي تلاها، والكتب الّتي قرأها، وأقرب إلى العلم بأنّ ما يخبرهم به من أخبار الأمم الماضية في السنين الخالية على وفق ما في كتبهم ليس إلّا بالوحي، كما صرّح به الطبرسيّ رحمه الله(٣) .

وصرّح أيضا بأنّ في جعل النبوّة في الأمّيّ موافقته لما تقدّمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة(٤) . ويوافقه ما في «الكشّاف» من أنّه جاء في حديث شعياء إنّي أبعث أعمى في عميان وأمّيّا في أمّيّين(٥) . فتأمّل.

ومن المحتمل أن يكون صلّى الله عليه وآله قبل بعثه أمّيّا لم يعرف

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٢٢٦.

(٢) علل الشرائع ١ : ١٢٥.

(٣ و ٤) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٥) الكشّاف ٤ : ٥٢٩.

٢٢١

الكتابة والقراءة كما قال :( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) (١) ولكنّه عرّفهما بعده بالوحي وتعليم الله، فافهم ولا تغفل.

وفي «تفسير القمّيّ رحمه الله» قال : الأمّيّون الّذين ليس معهم كتاب. قال : فحدّثني أبي عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله :( هُوَ الَّذِي بَعَثَ ) إلى آخره قال : كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بعث إليهم رسولا، فنسبهم الله إلى الأمّيّين(٢) . وهذا وجه رابع في الأمّيّين، فتأمّل.

والبعث يستعمل في معان كثيرة إلّا أنّ المراد منه في المقام الإرسال كما في قوله تعالى :( بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) (٣) ويمكن الفرق بينهما بأنّ في البعث نوعا من الزجر والشدّة على المبعوث عليه كما في قوله :( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ ) (٤) إلى آخره فليتأمّل.

والتنكير في «رسولا» محتمل للتعظيم والتفخيم كما في قول الشاعر :

له حاجب عن كلّ أمر يشينه

وجوه في الفرق بين الرسول والنبيّ :

وإنّما قال «رسولا» ولم يقل «نبيّا» لأنّه أمدح وأشرف، حيث إنّ كلّ

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) تفسير القمّيّ ٢ : ٣٦٦.

(٣) النحل : ٣٦.

(٤) الإسراء : ٥.

٢٢٢

رسول نبيّ ولا عكس، وقد ذكر جماعة أنّ الرسول : الّذي معه كتاب من الأنبياء، والنبيّ : الّذي ينبئ عن الله ؛ وإن لم يكن له كتاب.

قال نور الدين الجزائريّ : وأورد عليه أنّ «لوطا» و «إسماعيل» و «أيّوب» و «هارون» كانوا مرسلين كما ورد في التنزيل ولم يكونوا أصحاب كتب مستقلّة.

وقد يفرّق بينهما بأنّ الرسول : من بعثه الله بشريعة جديدة ناسخة، والنبيّ صلّى الله عليه وآله : من بعثه لتقرير شريعة سابقة، وفي بعض الأخبار : أنّه سئل عن عدد الأنبياء، فقال : أربعة وعشرون ألفا، فقيل : فكم الرسول منهم؟ فقال : ثلاثمائة وثلاثة عشر. فتدبّر.

وربّما يفرّق بينهما بأنّ الرسول من يأتيه الملك عيانا ومشافهة، والنبيّ : من يأتيه في منامه، ويدلّ عليه بعض الأخبار، فتأمّل.

وربّما يفرّق بينهما بأنّ الرسول من يجب عليه التبليغ إلى الخلق ؛ بخلاف النبيّ، فإنّه قد يكون نبيّا على نفسه خاصّة، ومن هنا قيل : إنّ للرسول يدين يد يأخذ بها عن الله، ويد يعطي بها الخلق ؛ بخلاف النبيّ، فإنّ يده آخذة. وهذا هو الفرق بين الرسالة والنبوّة، فتأمّل.

وقيل : إنّ النبيّ والرسول كالجار والمجرور ؛ إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

وقيل : إنّهما مترادفان، فتأمّل.

وكيف كان فلا شكّ في استعمال كلّ منهما في الآخر وأمد حيّة الرسول وأشرفيّته.

٢٢٣

وكلمة «من» في «منهم» للتبعيض، وفيه دلالة على أنّه صلّى الله عليه وآله كان من الأمّيّين.

ومحلّ قوله «يتلو» في قوله :( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) النصب لكونه صفة لـ «رسولا» بعد الصفة، أو لكونه حالا منه، والحال لا يأتي من النكرة إلّا إذا كانت مخصّصة بوصف كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى :( وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ ) (١) ، إن لم نجعل «مصدّقا» حالا من الضمير المستقرّ في الجار والمجرور، وكذلك في المقام وكما في قول الشاعر :

نجّيت يا ربّ نوحا واستجبت له

في فلك ما خر في اليمّ مشحونا

أو بإضافة كما في قوله :( أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) (٢) أو مسبوقة بنفي أو نهي أو استفهام.

والتلاوة : القراءة، والفرق بينهما على ما حكي عن «الراغب»، أنّ التلاوة تختصّ باتّباع كتب الله المنزلة تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، أو ما يتوهّم فيه ذلك، وهي أخصّ من القراءة، فكلّ تلاوة قراءة ولا عكس(٣) .

فقوله :( إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ) (٤) فهذا بالقراءة، وقوله :( يَتْلُونَهُ حَقَ

__________________

(١) البقرة : ٨٩.

(٢) فصّلت : ١٠.

(٣) المفردات : ١٦٧.

(٤) الأنفال : ٣١، الأحقاف : ٧.

٢٢٤

تِلاوَتِهِ ) (١) المراد به الاتّباع بالعلم والعمل، وإنّما استعمل التلاوة في قوله تعالى :( وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ) (٢) لمـــّـا كان بزعم الشياطين إنّما يتلونه من كتب الله.

وقد يقال : إنّ القراءة هي جمع الحروف، والتلاوة اتّباعها.

قال الطبرسيّ رحمه الله : أي يقرأ عليهم القرآن المشتمل على الحلال والحرام والحجج والأحكام(٣) إلى آخره. انتهى.

وفيه أيضا إشعار بأخصّيّة التلاوة، ويؤيّده العرف، فإنّه لا يقال لمن يقرأ كتب الحكايات والخرافات : إنّه يتلوها، فالمراد بالآيات، الكلمات الحقّة المنزّلة من السماء، ويمكن التعميم في الآيات بحيث تشمل التدوينيّة والتكوينيّة من الآفاقيّة والأنفسيّة، فتأمّل.

والمراد «بالتزكية» التطهّر من الكفر والشرك والذنوب والصفات الرذيلة والأخلاق الغير المحمودة الّتي وضعت لمعالجتها كتب الأخلاق، وقد قال صلّى الله عليه وآله : إنّي بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق(٤) .

قال النيسابوريّ : لأنّ الإرشاد يتمّ بأمرين بالتخلية والتحلية، فكما يجب على المعلّم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلّم بها، يجب عليه التحذير عن سمات النقصان ليتحرّز عنها، وذلك بنحو ما يفعله النبيّ صلّى الله عليه وآله من التلاوة وتعليم الكتاب من الوعد والإيعاد والتذكير

__________________

(١) البقرة : ١٢١.

(٢) البقرة : ١٠٢.

(٣) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٤) مكارم الأخلاق : ٨.

٢٢٥

والتسبّب بأمور الدنيا ليقوّي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح إلى آخره.

وفي سورة «البقرة» :( وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (١) وفيها أيضا حكاية عن دعاء إبراهيم عليه السلام :( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (٢) وفي سورة «آل عمران» :( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٣) .

ولعلّ وجه تقديم التزكية الّتي هي عبارة عن رياضة النفس، وتصفية القلب عن الكدورات الشيطانيّة، وتنقيته عن أوساخ التعلّقات الدنيويّة، وتخليته عن أرجاس الحرص والطمع والبخل والحقد والحسد ونحوها من الأمراض القلبيّة، على تعليم الكتاب والحكمة في هذه الآية وأشباهها للإشارة إلى أنّ تعلّمهما لا يفيد بدونها، كيف والقلوب أوعية للعلوم والمعارف، فلا بدّ في تأثّرها بها من إفراغها عمّا لا يناسبها، ولا سيّما عن أضدادها ومنافياتها من الشهوات النفسانيّة، واللذّات الجسمانيّة.

وقد روي أنّه ليس العلم في السماء حتّى ينزل عليكم، ولا في الأرض

__________________

(١) البقرة : ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) البقرة : ١٢٩.

(٣) آل عمران : ١٦٤.

٢٢٦

فينبت لكم، بل هو مكنون فيكم فتخلّقوا بأخلاق الله يظهر لكم.

وفي رواية : من أخلص لله أربعين صباحا فتح الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه(١) .

وفي اخرى : ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوما إلّا وهداه الله في الدنيا، وبصّره داءها، وأثبت الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه(٢) .

والحاصل : إنّ تزكية النفس مقدّمة لحصول العلم الحقيقيّ وقبول القلب لآثاره، والمراد بالعلم الحقيقيّ هو المعارف الحقّة، والأسرار الغيبيّة المكنونة الّتي لا يطّلع عليها إلّا الأوحديّ الّذي شرح الله صدره للإيمان، وهداه بنوره إلى الصراط المستقيم، وهذا العلم يسمّى بـ «علم المكاشفة»، وإليه أشار عليّ بن الحسين عليهما السلام فيما نسب إليه من شعره :

إنّي لأكتم من علمي جواهره

كي لا يرى الحقّ ذو جهل فيفتتنا

فقد تقدّم في هذا أبو حسن

إلى الحسين ووصّى قبله الحسنا

يا ربّ جوهر [قدس] لو أبوح به

لقيل لي أنت ممّن يعبد الوثنا

ولا ستحلّ رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

فإن قلت : إذا كان حصول العلم مرتّبا على التزكية فلم أخّرها في دعوة إبراهيم عليه السلام؟ قلت : أوّلا، إنّ «الواو» لا تدلّ على الترتيب، وإنّما ذكرنا ما ذكرناه من باب الاحتمال، ولعلّ وجه التقديم لمكان زيادة الاهتمام بالتزكية، كيف والغرض الأصليّ من تحصيل العلم هو العمل الّذي يحصل به

__________________

(١) جامع الأخبار : ٩٤.

(٢) الكافي ٢ : ١٦.

٢٢٧

التزكية، والغايات متقدّمة في الذهن، متأخرّة في الخارج ؛ كما في السرير وجلوس السلطان عليه، ولذا قد تتقدّم الغاية في مقام الذكر واللفظ نظرا إلى تقدّمها في الوجود الذهنيّ، وقد تؤخّر نظرا إلى الوجود الخارجيّ.

وثانيا : إنّ العلم المسبوق بالتزكية هو علم المكاشفة دون علم المعاملة المسمّى بالعلم الرسميّ، فإنّ غير المتذكّى أيضا يحصّله بالكسب والتعلّم كسائر المكاسب، وربّما يحصل له بعد تعلّمه والعمل به حظّ التزكية بعون الله وتوفيقه فتدبّر.

والمراد بـ( الْكِتابَ ) ظاهر القرآن وقشره وب( الْحِكْمَةَ ) حقائقه وبواطنه الّتي لا يعلمها إلّا الله والراسخون في العلم.

ويحتمل أن يراد بـ «الكتاب» الكتابة وعلم الخطّ كما يرشد إليه بعض الروايات المتقدّمة في تفسير «الأمّي» و «بالحكمة» قراءة القرآن، وقد أطلق تعالى «الحكيم» عليه في مواضع من التنزيل كما في قوله :( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) (١) وغيره لاشتماله على الحكمة كما لا يخفى، أو على المحكمات من الآيات.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» القرآن، وب «الحكمة» السنّة النبويّة بالمعنى الأعمّ.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» الفرائض والواجبات، وب «الحكمة» السنن والآداب.

__________________

(١) يس : ١ ـ ٢.

٢٢٨

وقيل : المراد بـ «الكتاب». وفي «مجمع البيان» «الكتاب» القرآن، و «الحكمة» الشرائع.

وقيل : إنّ الحكمة تعمّ الكتاب والسنّة وكلّ ما أراده الله، فإنّ الحكمة هي العلم الّذي يعمل عليه فيما يجتبى أو يجتنب من امور الدين والدنيا(١) . انتهى.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» أحكام الرسالة والنبوّة من العقائد الدينيّة وعلم الأخلاق النفسيّة وعلم الأعمال البدنيّة، وب «الحكمة» كمال القوّة العمّالة، فتأمّل.

ويستفاد من «تفسير النيشابوريّ» أنّ المراد بـ «الآيات» لفظ الفرقان المتلوّ عليهم، وب «الكتاب» معانيه وحقائقه، قال : وذلك أنّ التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصونا من التحريف، ولأنّ لفظه ونظمه معجز، وفي تلاوته نوع عبادة ؛ ولا سيّما في الصلوات، إلّا أنّ الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام. انتهى.

وب «الحكمة» الإصابة في القول والعمل جميعا، فلا يسمّى حكيما إلّا وقد اجتمع فيه الأمران، فيضع كلّ شيء موضعه، قال : ولهذا عبّر عنها ـ أي عن الحكمة ـ بعض الحكماء بأنّها التشبّه بالإله بقدر الطاقة البشريّة، ويناسبه قوله : «تخلّقوا بأخلاق الله»(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٨ : ١٢٩.

٢٢٩

وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتّباع له، وإليه ذهب الشافعيّ، وهي سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لأنّه ذكر تلاوة القرآن ثمّ تعليمه، ثمّ عطف عليه الحكمة فيكون شيئا خارجا عنهما، وليس ذلك إلّا سنة الرسول، فإنّ الدلائل العقليّة الدالّة على التوحيد والنبوّة وما يتلوهما مستقلّة بالفهم، فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلّا من الشرع أولى.

وقيل : هي الفصل بين الحقّ والباطل من الحكم.

وقيل : المراد بـ «الكتاب» الآيات المحكمات، وب «الحكمة» المتشابهات.

وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح. انتهى كلامه.

وهو ملخّص ما ذكره الفخر الرازيّ في تفسيره، وفيه عند تفسير دعوة إبراهيم عليه السلام المذكورة في سورة «البقرة»، واعلم أنّه تعالى لمـــّـا طلب بعثة رسول منهم إليهم ذكر لذلك الرسول صفات أوّلها قوله :( يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ ) (١) وفيه وجهان :

الأوّل : أنّها الفرقان الّذي أنزل على محمّد صلّى الله عليه وآله لأنّ الّذي كان يتلوه عليهم ليس إلّا ذلك، فيجب حمله عليه.

الثاني : يجوز أن تكون «الآيات» هي الأعلام الدالّة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إيّاها عليهم أنّه كان يذكّرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها.

__________________

(١) البقرة : ١٢٩.

٢٣٠

وثانيها : قوله :( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ ) والمراد أنّه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلّمهم معاني الكتاب وحقائقه. إلى أن قال : والصفة الرابعة من صفات الرسول صلّى الله عليه وآله، قوله :( وَيُزَكِّيهِمْ ) واعلم أنّ كمال حال الإنسان في أمرين :

أحدهما أن يعرف الحقّ لذاته.

والثاني : أن يعرف الخير لأجل العمل به، فإن أخلّ بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهرا عن الرذائل والنقائص، ولم يكن زكيّا عنها(١) . انتهى.

وكلمة (إن) في قوله :( وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ ) إلخ ؛ ليست شرطيّة وصليّة كما ربّما يسبق إلى بعض الأذهان، بل هي مخفّفة من المثقّلة تهمل عن العمل لدخولها على الجملة الفعليّة، ويجوز حينئذ دخولها على المضارع الناسخ كما في قوله :( وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ ) (٢) والأكثر في ذلك دخولها على الماضي الناسخ كما في هذه الآية، وفي قوله :( وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً ) (٣) وقوله :( وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) (٤) وقوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (٥) وقوله :( وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ) (٦) ، وقوله :( إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) (٧) .

__________________

(١) التفسير الكبير ٤ : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) القلم : ٥١.

(٣) البقرة : ١٤٣.

(٤) الإسراء : ٧٣.

(٥) الإسراء : ١٠٨.

(٦) الأعراف : ١٠٢.

(٧) الصافّات : ٥٦.

٢٣١

قال ابن هشام : وحيث وجدت «إن» وبعدها «اللام» المفتوحة كما في هذه الأمثلة فاحكم بأنّ أصلها التشديد.

وتسمّى هذه «اللام» بالفارقة، لأنّها مع إفادة زيادتها التأكيد للنسبة تفيد الفرق بين «إن» المخفّفة والنافية، وقد يقال إنّها لام الابتداء تدخله في خبر الناسخ، قيل : فإنّها كانت مختصّة بالدخول على المبتدأ والخبر في الأصل، فلمّا خفّفت وضعف شبهها بالفعل جاز دخولها على الفعل لئلّا تفارق محلّها بالكلّيّة.

قال في الكشّاف : و «إن» في( وَإِنْ كانُوا ) هي المخفّفة من الثقيلة و «اللام» دليل عليها، أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه(١) . انتهى.

وقد يقال : إنّ «إن» في الآية وأمثالها نافية، و «اللام» بعدها بمعنى إلّا، ولذا فسّر الطبرسيّ رحمه الله هذه الجملة بقوله : ومعناه وما كانوا من قبل بعثه إليهم إلّا في عدول عن الحقّ، وذهاب عن الدين بيّن ظاهر(٢) . انتهى.

وهذا إنّما يصحّ على مذهب الكوفيّين حيث زعموا أنّ «إنّ» لا تخفّف، وأنّه إذا قيل : «إن زيد لمنطلق» فـ «إن» فيه نافية و «اللام» بمعنى إلّا.

قال ابن هشام : ويردّه أنّ منهم من يعملها مع التخفيف، حكى سيبويه : إن عمرا لمنطلق.

وقرأ الحرميّان( وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) (٣) . انتهى.

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٥٣٠.

(٢) مجمع البيان، المجلّد ٥ : ٤٢٩.

(٣) هود : ١١١.

٢٣٢

والمراد بـ (الضلال المبين) أي الظاهر هو الشرك باتّخاذهم الأصنام آلهة، والعمل بقوانين الجاهليّة من الاقتسام بالأزلام وأكل النطيحة والموقوذة والمتردية ونحو ذلك، والجملة في محلّ الحال، والرابطة «الواو» والضمير، أي يتلو آياته عليهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم، والحال أنّهم كانوا قبل ذلك ضالّين عن طريقة الحقّ لا يهتدون إليه سبيلا، فامتنّ الله عليهم بهذه المنّة العظيمة حيث كانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها ؛ كما صرّح بذلك في موضع آخر من كتابه.

و( آخَرِينَ ) في قوله تعالى :( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لمـــّـا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إمّا عطف على( الْأُمِّيِّينَ ) فيكون في محلّ الجرّ، أي بعثه في الأمّيّين الموجودين في عهده صلّى الله عليه وآله وفي الّذين سيوجدون بعدهم، وفيه ما لا يخفى، نعم لو عدّى «البعث» بـ «على» أو بـ «إلى» لاستقام المعنى في هذا العطف، وإمّا على الضمير المنصوب في( يُعَلِّمُهُمُ ) أي يعلّم الموجودين منهم بالدعوة الشفاهيّة وغير الموجودين بالدعوة العامّة الّتي تصل إليهم بالوسائط، كما قال :( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (١) .

و «آخرين» بفتح «الخاء» جمع آخر كذلك، وإنّما جمع على «الواو» أو «الياء» و «النون» لأنّه وصف حيث إنّه في الأصل أفعل للتفضيل كأفضل، ومعناه على ما صرّح به الرضيّ رحمه الله أشدّ تأخّرا، قال في البحث عن غير المنصرف : وأمّا الأخر فإنّه جمع أخرى الّتي هي مؤنّث آخر، وهو أفعل التفضيل بشهادة الصرف ؛ نحو : آخر، آخران، آخرون وأواخر وأخرى

__________________

(١) الأنعام : ١٩.

٢٣٣

أخريان أخريات، وآخر مثل الأفضل الأفضلان الأفضلون والأفاضل والفضليّ والفضليان والفضليات والفضل، فمعنى آخر في الأصل أشدّ تأخّرا، وكان في الأصل معنى جاء زيد ورجل آخر، رجل أشدّ تأخّرا من زيد في معنى من المعاني، ثمّ نقل إلى معنى غير، فمعنى رجل آخر رجل غير زيد.

ولا يستعمل إلّا فيما هو من جنس المذكور أوّلا، فلا يقال جاء زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى، إلى أن قال : ولمّا خرج آخر وسائر تصاريفه عن معنى التفضيل استعملت من دون لوازم أفضل التفضيل، أعني «من» و «الإضافة» و «اللام» إلى آخره. انتهى.

وذكر أبو البقاء في كلّيّاته : إنّ معنى آخر في الأصل أشدّ تأخّرا في الذكر، ثمّ أجري مجرى غيره.

وأمّا الآخر بكسر «الخاء» كالضارب فهو ضدّ الأوّل، ومنه قوله :( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (١) فمؤنّثه الآخرة كالضاربة، وقد نظم ذلك أبو البقاء بقوله :

مقابل الأوّل قل آخر

كفاعل تأنيثه الآخره

وآخر أفعل تأنيثه

أخرى فهاك درّة فاخره

والمراد بالآخرين في الآية : تابعي الصحابة وتابعي التابعين، إلى يوم القيامة ؛ على ما قيل.

وكلمة (لما) الداخلة على المضارع تجزمه وتنفيه وتقلبه ماضيا ككلمة «لم» ولكنّها تفارقها في أنّ منفيها مستمرّ النفي إلى الحال، وفي أنّ منفيها لا يكون إلّا قريبا من الحال، وأنّ منفيها متوقّع الثبوت كما في قوله :

__________________

(١) الحديد : ٣.

٢٣٤

( بَلْ لمـــّـا يَذُوقُوا عَذابِ ) (١) وقوله :( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (٢) فاللّحوق المنفي في الآية متوقّع الثبوت، والظاهر أنّ المراد به اللحوق في الإيمان، وأنّ الضمير المجرور في( مِنْهُمْ ) راجع إلى( الْأُمِّيِّينَ ) فلا دلالة في الآية على لحوق غيرهم، فالأولى إرجاعه إلى الناس كافّة، لاشتراكهم معهم في الدعوة، ولزوم الإجابة.

ويؤيّده : ما روي من أنّه لمـــّـا نزلت هذه الآية قيل : من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على كتف سلمان ثمّ قال : لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء(٣) .

وفي رواية : لنالته رجال من هؤلاء(٤) .

ومن هنا قيل : إنّ المراد «بالآخرين» الّذين يأتون بعدهم إلى يوم القيامة.

وعن الباقر عليه السلام : هم الأعاجم ومن لا يتكلّم بلغة العرب(٥) .

وقد يقال : إنّ المراد بهم الخصّيصون من امّته الّذين يأتون من بعده يؤمنون بالغيب، وهم الّذين كان الرسول صلّى الله عليه وآله يتشوّق إليهم، كما روي في بعض كتب العرفان مرسلا : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله رأى يوما أبا ذرّ يمشي فقال : «مسكين أبو ذر يمشي وحده وهو في السماء فرد، وأبو ذر في الأرض فرد كمن فرد الفرد».

__________________

(١) ص : ٨.

(٢) الحجرات : ١٤.

(٣) تفسير الإمام العسكريّ عليه السلام : ١٢٠.

(٤) بحار الأنوار ١٦ : ٣١٠.

(٥) نفس المصدر.

٢٣٥

ثمّ قال : يا أبا ذرّ، إنّ الله جميل يحبّ الجمال، يا أبا ذرّ، أتدري ما غمّي وفكري وإلى أيّ شيء اشتياقي؟ فقال أصحابه : خبّرنا يا رسول الله بغمّك وفكرك، قال : وا شوقاه إلى لقاء إخواني ؛ يكونون من بعدي، شأنهم شأن الأنبياء، وهم عند الله بمنزلة الشهداء، يفرّون من الآباء والامّهات، والإخوة والأخوات، ابتغاء مرضاة الله، وهم يتركون المال، ويذلّون أنفسهم بالتواضع، لا يرغبون في الشهوات وفضول الدنيا، يجتمعون في بيت من بيوت الله مغمومين محزونين من حبّ الله، قلوبهم إلى الله، وروحهم من الله، وعلمهم لله، إذا مرض واحد منهم هو أفضل من عبادة سنة.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، [قال :] الواحد منهم يؤذيه قملة في ثيابه فله عند الله أجر سبعين حجّة وغزوة، وكان له أجر عتق أربعين رقبة من ولد إسماعيل، كلّ واحد منهم باثني عشر ألفا.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : الواحد منهم يذكر أهله ثمّ يغتمّ فيكتب له بكلّ نفس ألف ألف درجة.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : الواحد منهم يصلّي ركعتين في أصحابه أفضل عند الله من رجل يعبد الله تعالى في جبل لبنان مثل عمر نوح.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : الواحد منهم يسبّح الله تسبيحة خير له يوم القيامة من أن يصيّر معه جبال الدنيا ذهبا.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذرّ؟ قال : نعم يا رسول الله، [قال :] نظرة ينظر إلى أحدهم أحبّ إلى الله من نظرة إلى بيت الله، ومن نظر إليه فكأنّما ينظر إلى

٢٣٦

الله، ومن سرّه فكأنّما سرّ الله، ومن أطعمه فكأنّما أطعم الله.

وإن شئت أزيدك يا أبا ذر؟ قال : بلى يا رسول الله، قال : يجلس إليهم قوم مصرّون مثقلون من الذنوب ؛ ما يقومون من عندهم حتّى ينظر الله إليهم ويغفر لهم ذنوبهم.

يا أبا ذرّ ضحكهم عبادة، ومزاحهم تسبيح، ونومهم صدقة، ينظر الله إليهم في كلّ يوم سبعين مرّة.

يا أبا ذرّ، إنّي إليهم مشتاق. ثمّ أطرق صلّى الله عليه وآله رأسه مليّا، ثمّ رفع رأسه وبكى حتّى هملت عيناه فقال : وا شوقاه إلى لقائهم؟

ويقول صلّى الله عليه وآله : أللّهمّ احفظهم وانصرهم على من خالفهم، وأقرّ عيني بهم يوم القيامة، ثمّ قرأ :( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) (٢) . انتهى.

وروى قريبا منه أحمد بن فهد الحلّيّ رحمه الله في كتابه المسمّى بـ «التحصين» إلّا أنّه قال : [قال] رسول الله : أتدرون ما غمّيّ، وفي أيّ شيء تفكّري، وفي أيّ شيء اشتياقي؟ قال أصحابه : لا يا رسول الله، ما علمنا هذه من أيّ شيء، أخبرنا بغمّك وتفكّرك وتشوّقك، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله : أخبركم إن شاء الله.

ثمّ تنفّس الصعداء وقال : هاه شوقا إلى إخواني من بعدي، فقال أبو ذرّ : يا رسول الله، أو لسنا إخوانك؟ قال : لا، أنتم أصحابي، وإخواني يجيئون من

__________________

(١) يونس : ٦٢.

(٢) التحصين، لابن فهد : ٢٥.

٢٣٧

بعدي، شأنهم شأن الأنبياء، قوم يفرّون إلى آخره.

وقد ذكرناه بجملته في كتابنا المسمّى بـ «مفتاح السعادات».

وقوله :( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) إشارة إلى أنّ الّذي يمكّن رجلا أمّيّا يتيما لا مال له ولا عشيرة قويّة تنصره من هذا الأمر العظيم «أي الرسالة» حتّى ينقاد له في زمان يسير من الناس كثير مع عتوّهم وقوّتهم، لا يكون إلّا عزيزا لا يغلب، حكيما لا يناقش في تدبيره وحكمته، فهذا الرجل مؤيّد من عند الله، ومجتباه من جميع خلقه، وقد شهدت العقول الفطريّة السليمة بصدقه في رسالته، وقد أراد المشركون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره المشركون.

والمشار إليه «بذلك» في قوله( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) هو بعث الله النبيّ الأمّيّ بالنبوّة على الوجه المذكور، فضله وإحسانه يختصّ به من يشاء من عباده، فإنّه أعلم حيث يجعل رسالته.

ومن المحتمل أن يكون المراد من «الهداية» يسبّب هذا البعث، فإنّها من فضل الله على المؤمنين كما يدلّ عليه قوله( لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً ) (١) إلى آخره.

وفي بعض القراءات لمن منّ الله على المؤمنين(٢) ولا ريب أنّ إرسال الرسل وإنزال الكتب من ألطاف الله على عباده، وقد صرّح المتكلّمون بوجوب اللطف ـ أي ما يقرّب إلى الطاعات ويبعّد عن المعاصي ـ على الله تعالى.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٤.

(٢) آل عمران : ١٦٤.

٢٣٨

قال بعضهم : ومن الألطاف بعث الأنبياء ونصب الأولياء للاحتياج إليهم في انتظام المعاش لحصول الاجتماع المضطرّ إليه في بقاء النوع ؛ المستلزم لوقوع الفساد من غلبة دواعي الحسّ، فيقع الهرج والمرج ولا ينحسم ذلك إلّا بقانون يفيد قطع المنازعات بشارع متأيّد بالآيات القاهرة، ليحصل الانقياد الموجب للانتظام. انتهى.

وخالف الأشعريّ فذهب إلى أنّ اللطف لا يجب على الله ؛ إذ العقل لا يحكم بوجوب شيء عليه، فما يصدر عنه تعالى من هذه الأفعال فهو على سبيل التفضّل، وظاهر الآية وإن كان يساعده إلّا أنّ في الكلام في الردّ عليه محلّا آخر.

ومعنى «يؤتيه» يعطيه، وعطيّته لا تكون إلّا لمن له قابليّة واستعداد، والله لا يعطي إلّا مع المصلحة، ولا مصلحة قطعا في إعطاء من لا يستعد، ولا تتعلّق مشيّته تعالى بإعطاء من لا يستحق العطيّة ومن لا تصلح له.

وفي «حقائق القرآن» بعد ذكر هذه الآية قال الحسين : جاد الجواد بجوده لغير علّة وتفضّل بالتفضيل ؛ وتمّمه بالمنن، وغشّاه بالنعم ؛ إذ يقول( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) فقطع بالمشيّة ومحق الأسباب فكان الكرم منه صرفا لا تمازجه العلل، ولا تكتسبه الحيل، جاد به في الدهور قبل إظهار الأمور إلى معرفته ومحبّته والاستقامة فيهما بنعت العبوديّة في مشاهدة الربوبيّة، يؤتي هذا الفضل من يشاء من عباده المصطفين في الأزل.

قال الجوزجانيّ : ذلك الفضل هو الأنس بالله ؛ إذا وجدوا نعمة الأنس نسوا كلّ نعمة دونه، وهو قوله( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) انتهى. فتأمّل.

٢٣٩

ومن المحتمل أن يكون المشار إليه بذلك هو التزكّي المفهوم من الكلام السابق، ويكشف عنه قوله تعالى في سورة «النور»( وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (١) .

والظاهر أنّ المراد بكونه ذا الفضل العظيم أنّه لا ينقص من عطائه شيء وإن أعطى ما أعطى، فإنّ عنده خزائن كلّ شيء كما قال( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا ) (٢) إلى آخره، وفي الحديث : لو أنّ أهل سماواتي وأهل أرضي أمّلوا جميعا ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، وكيف ينقص ملك أنا قيّمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني(٣) . انتهى.

ولعلّ النكتة في تعبير المسند إليه في قوله( ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ) باسم الإشارة إلى البعيد تعظيم المشار إليه كما في قوله( الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) (٤) فنزل بعد الدرجة ورفعة المحلّ، منزلة بعد المسافة، ففيه إشارة إلى أنّ الرسالة منصب فوق جميع المناصب ؛ لا تناله يد كلّ أحد، ولا يدرك بالكسب لكونه موهبة عظيمة من عند الله، وقد أحسن من قال بالفارسية :

از رياضت كى توان الله شد

كى توان موسى كليم الله شد

قال التفتازانيّ : وقد يقصد به تعظيم المشير كقول الأمير لبعض حاضريه ذلك قال كذا. انتهى، فتأمل.

__________________

(١) النور : ٢١.

(٢) الحجر : ٢١.

(٣) الكافي ٢ : ٦٦.

(٤) البقرة : ١ ـ ٢.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481