تفسير ست سور

تفسير ست سور12%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61495 / تحميل: 5982
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ونقل العلاّمة الحلّي في التذكرة عن بعض الشافعية: عدم الفرق بين الشك في الأثناء والشك بَعد الفراغ، حيث أوجب الإتيان بالمشكوك فيه وما بعده في كلتا الحالتين.

وقال الحنفية: يلاحظ كل عضو مستقلاً، فإن شك فيه قَبل أن ينتقل إلى غيره أعاده وإلاّ فلا، مثلاً - مَن شك بغسل الوجه قَبل الابتداء باليد يعيد، وإن ابتدأ بها مضى ولا يلتفت.

واتفق الجميع على أنّه لا شك لكثير الشك، أي أنّ الوسواسي لا اعتبار بشكّه، فيجب عليه المضي في جميع الحالات.

٤١

الغسل

الأغسال الواجبة على أنواع:

(١) الجنابة.

(٢) الحيض.

(٣) النفاس.

(٤) موت المسلم.

وهذه الأربعة محل وفاق عند الجميع. وزاد الحنابلة نوعاً خامساً، وهو (إسلام الكافر).

وقال الشافعية والإمامية: إذا أسلم الكافر مجنباً وجب عليه الغسل للجنابة لا للإسلام، وإن لَم يكن جنباً فلا يجب عليه الغسل. وقال الحنفية: لا يجب عليه الغسل بحال جنباً كان أو غير جنب. (المغني لابن قدامة ج١ ص ٢٠٧).

وزاد الإمامية على الأغسال الأربعة الأُولى غسلين آخرين، وهما: (غسل المستحاضة، والغسل مَن مس الميت). فإنّهم أوجبوا الغسل على مَن مس ميتاً بَعد برده بالموت، وقَبل تطهيره بالغسل، ويأتي التفصيل.

ومِن هذا يتبين أنّ عدد الأغسال الواجبة أربعة عند الحنفية والشافعية، وخمسة عند الحنابلة والمالكية، وستة عند الامامية.

غسل الجنابة

تتحقق الجنابة الموجبة للغسل بأمرين:

١ - نزول المني في النوم أو اليقظة. قال الإمامية والشافعية: إذا نزل المني

٤٢

وجب الغسل مِن غير فرق بين نزوله بشهوة أو دونها.

وقال الحنفية والمالكية والحنابلة: لا يجب الغسل إلاّ مع مقارنة اللذة لخروج المني، فإن خرج لضربة أو برد أو مرض لا عن شهوة فلا غسل فيه، أمّا إذا انفصل المني مِن صلب الرجل أو ترائب المرأة، ولَم ينتقل إلى الخارج فلا يجب الغسل إلاّ عند الحنابلة.

(فرع)

لو استيقظ النائم فرأى بللاً لا يعلم أنّه مني أو مذي، قال الحنفية: يجب الغسل. وقال الشافعية والإمامية: لا يجب؛ لأنّ الطهارة متيقنة، والحدث مشكوك. وقال الحنابلة: إن كان قَبل نومه قد نظر أو فكّر بلذة فلا يجب الغسل، وإن كان لَم يسبق النوم سبب يوجب اللذة وجب أن يغتسل مِن البلل المشتبه.

٢ - التقاء الختانين، وهو إيلاج رأس الإحليل، أو مقداره مِن مقطوع الحشفة في قُبلٍ أو دبرٍ. واتفقوا على أنّه يوجب الغسل مِن غير إنزال، ولكن اختلفوا في الشروط، وأنّه هل مجرد الإيلاج كيف اتفق يوجب الغسل، أو لا يوجبه إلا بنحو خاص؟

قال الحنفية يجب الغسل بشروط، وهي: (أولاً) البلوغ، فلو كان البالغ المفعول دون الفاعل، أو الفاعل دون المفعول، وجب الغسل على البالغ فقط، ولا يجب عليهما لو كانا صغيرين. (ثانياً) أن لا يوجد حائل سميك يمنع مِن حرارة المحل. (ثالثاً) أن يكون الموطوء إنساناً حياً، فلا يجب الغسل بالإيلاج ببهيمة أو ميت.

وقال الامامية والشافعية: إنّ مجرد إيلاج الحشفة أو مقدارها كافٍ في وجوب الغسل مِن غير فرق بين البالغ وغير البالغ، والفاعل والمفعول، ووجود الحائل وعدمه والاضطرار والاختيار، وسواء أكان الموطوء حياً أو ميتاً أو بهيمة أو إنساناً.

وقال الحنابلة والمالكية: يجب الغسل على الفاعل والمفعول مع عدم وجود

٤٣

حائل يمنع اللذة، مِن غير فرق بين إنسان أو بهيمة، وسواء أكان الموطوء حياً أو ميتاً.

أمّا البلوغ فقال المالكية: يجب الغسل على الفاعل إذا كان مكلّفاً، والمفعول يحتمل الوطء، ويجب على المفعول إذا كان الواطئ بالغاً، فالتي وطأها صبي لا يجب عليها الغسل إذا لَم تنزل. واشترط الحنابلة أن لا ينقص سن الذكر عن عشر سنين، والأنثى عن تسع.

ما يتوقف على غسل الجنابة

يتوقف على غسل الجنابة كل ما يتوقف على الوضوء، كالصلاة والطواف ومس كتابة المصحف، ويزيد على ذلك المكث في المسجد، فقد اتفق الجميع على أنّه لا يجوز للجنب أن يمكث في المسجد، واختلفوا في جواز المرور، كما لو دخل الجنب مِن باب وخرج مِن باب.

قال المالكية والحنفية: لا يجوز إلاّ لضرورة.

وقال الشافعية والحنابلة: يجوز المرور مِن غير مكث.

وقال الإمامية: لا يجوز المكث ولا المرور في المسجد الحرام ومسجد الرسول، ويجوز المرور دون المكث في غيرهما مِن المساجد للآية ٤٣ مِن سورة النساء:( وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) ، أي لا تقربوا مواقع الصلاة مِن المساجد إلاّ عابري سبيل. واستثنوا مِن الآية المسجدين السابقين للأدلة الخاصة.

أمّا تلاوة القرآن، فقال المالكية: يحرم على الجنب أن يقرأ شيئاً مِن القرآن إلاّ يسيراً بقصد التحصّن والاستدلال، ويقرب مِن قولهم هذا ما ذهب إليه الحنابلة.

وقال الحنفية: لا يجوز إلاّ إذا كان الجنب معلّماً للقرآن كلمة كلمة. وقال الشافعية: يحرم حتى الحرف الواحد إلاّ إذا كان بقصد الذكر، كالتسمية على الأكل.

٤٤

وقال الإمامية: لا يحرم على الجنب إلا تلاوة سور العزائم الأربع، حتى بعضها، وهي: اقرأ، والنجم، وحم السجدة، والم تنزيل. ويجوز قراءة ما عداها، ولكن يكره ما زاد على سبع آيات، وتتأكد الكراهة فيما زاد على سبعين.

وزاد الإمامية (صوم شهر رمضان وقضاءه)، فإنّهم قالوا: لا يصح الصوم إذا أصبح الصائم جنباً متعمداً أو ناسياً، أمّا إذا نام في النهار أو في الليل وأصبح محتلماً، فلا يبطل صومه. وانفردت الامامية بهذا الحكم عن سائر المذاهب.

واجبات غسل الجنابة

يجب في غسل الجنابة ما يجب في الوضوء مِن إطلاق الماء وطهارته مع طهارة الجسم، وعدم حاجب يمنع مِن إيصال الماء إلى البشرة كما تقدم في الوضوء، ويجب فيه النية إلاّ عند الحنفية فإنّهم لَم يعدّوها مِن الشروط لصحة الغسل.

والمذاهب الأربعة لَم توجب الغسل بكيفية خاصة، وإنّما أوجب أن يعم الماء جميع البدن كيف اتفق، مِن غير فرق بين الابتداء مِن أعلى أو مِن أسفل، وزاد الحنفية وجوب المضمضة والاستنشاق، وقالوا: يستحب البدء بغسل الرأس، ثمّ الأيمن، ثمّ الأيسر.

وقال الشافعية والمالكية: تستحب البداءة بأعالي الجسد قَبل أسافله، ما عدا الفرج حيث يستحب تقديمه على الجميع.

وقال الحنابلة: يستحب تقديم الشق الأيمن على الأيسر.

وقسّم الإمامية غسل الجنابة إلى نوعين: ترتيب، وارتماس. والترتيب: هو أن يصب المغتسِل الماء على جسمه صباً، وفي هذا الحال أوجبوا الابتداء بالرأس ثمّ بالأيمن ثمّ بالأيسر، فلو أخلّ وقدّم المؤخَّر أو أخّر المقدَّم، بطل الغسل.

٤٥

والارتماس: هو غمس تمام الجسم تحت الماء دفعة واحدة، فلو خرج جزء منه عن الماء لَم يكف.

والغسل مِن الجنابة يغني عند الإمامية عن الوضوء، حيث قالوا: كل غسل معه وضوء إلاّ غسل الجنابة. والمذاهب الأربعة لَم تفرق بين غسل الجنابة وغيره مِن الأغسال، مِن حيث عدم الاكتفاء به فيما يشترط به الوضوء.

٤٦

الحيض

الحيض في اللغة: السيل. وفي اصطلاح الفقهاء: الدم الذي تعتاد المرأة رؤيته في أيام معلومة، وله تأثير في ترك العبادة وانقضاء عدة المطلقة، وهو في الأغلب أسود أو أحمر غليظ حار، له دفع، وقد يأتي على غير هذه الأوصاف حسبما تستدعيه الأمزجة.

سن الحائض

اتفق الجميع على أنّ ما تراه الأنثى قَبل بلوغها تسع سنين لا يمكن أن يكون حيضاً، بل هو دم علّة وفساد، وكذا ما تراه الآيس المتقدمة في السن. واختلفوا في تحديد سن اليأس، فقال الحنابلة: خمسون.

وقال الحنفية: خمس وخمسون.

وقال المالكية: سبعون.

وقال الشافعية: ما دامت الحياة فالحيض ممكن، وإن كان الغالب انقطاعه بعد سن ٦٢.

٤٧

وقال الإمامية: حد اليأس ٥٠ سنة لغير القرشية وللمشكوك في أنّها قرشية، أمّا القرشية المعلومة فستون.

مدة الحيض

قال الحنفية والإمامية: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، وأكثرها عشرة، وكل دم لا يستمر ثلاثاً أو يتجاوز عشراً فليس بحيض.

وقال الحنابلة والشافعية: أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً.

وقال المالكية: أكثره خمسة عشر لغير الحامل، ولا حد لأقله.

واتفق الجميع على أنّه لا حد لأكثر الطهر الفاصل بين حيضتين، أمّا أقله فثلاثة عشر يوماً عند الحنابلة، و١٥ عند الحنفية والشافعية والمالكية.

وقال الإمامية: أقل الطهر أكثر مدة الحيض، أي ١٠.

(فرع)

اختلفوا في اجتماع الحيض مع الحمل، وإنّ ما تراه الحامل مِن الدم هل يمكن أن يكون حيضاً؟ قال الشافعية والمالكية وأكثر فقهاء الامامية: يجتمع الحيض والحمل.

وقال الحنفية والحنابلة والشيخ المفيد مِن الإمامية: لا يجتمعان بحال.

أحكام الحائض

يحرم على الحائض كل ما يحرم على الجنب مِن مس كتابة المصحف، والمكث في المسجد، ولا يقبل منها الصوم والصلاة أيام الحيض، ولكن عليها أن تقضي ما فاتها مِن صوم رمضان دون ما فاتها مِن الصلاة؛ للأحاديث، ودفعاً للمشقة بتكرار الصلاة بكثرة دون الصيام. ويحرم طلاق الحائض، ولكن إذا وقع صح ويأثم المطلِّق، عند الأربعة، ويبطل الطلاق عند الإمامية، إذا

٤٨

كان قد دخل بها، أو كان الزوج حاضراً، أو لَم تكن حاملاً. ويصح طلاق الحائض والحامل وغير المدخول بها والتي غاب عنها زوجها، والتفصيل يأتي إن شاء الله في باب الطلاق.

واتفق الجميع على أنّ غسل الحيض لا يغني عن الوضوء، وأنّ وضوء الحائض وغسلها لا يرفع حدثاً، واتفقوا أيضاً على تحريم وطئها أيام الحيض، أمّا الاستمتاع فيما بين السرة والركبة، فقال الإمامية والحنابلة: يجوز مطلقاً مع الحائل ودونه.

والمشهور مِن قول المالكية عدم الجواز ولو مع الحائل.

وقال الحنفية والشافعية: يحرم بغير حائل، ويجوز معه.

وقال أكثر فقهاء الإمامية: إذا غلبت الشهوة على الزوج وقارب زوجته الحائض، فعليه أن يكفّر بدينار إن فعل في أوّل الحيض، وبنصفه في وسطه، وبربعه في آخره.

وقال الشافعية والمالكية: يستحب التصدق ولا يجب، أمّا المرأة فلا كفارة عليها عند الجميع، وإن كانت آثمة لو رضيت وطاوعت.

كيفية الغسل

الغسل مِن الحيض كالغسل مِن الجنابة تماماً، مِن لزوم طهارة الماء وإطلاقه وطهارة البدن، وعدم وجود الحائل، والنية، والابتداء بالرأس ثمّ بالأيمن ثمّ بالأيسر عند الإمامية، والاكتفاء بالارتماس وغمس البدن دفعة واحدة تحت الماء.

وعند المذاهب الأربعة: شمول الماء لجميع البدن كيف اتفق، كما قدّمنا في غسل الجنابة دون تفاوت.

٤٩

الاستحاضة

الاستحاضة: هي في اصطلاح الفقهاء: ما تراه المرأة مِن الدم في غير وقت الحيض والنفاس، ولا يمكن أن يكون حيضاً، كالزائد عن أكثر مدة الحيض، أو الناقص عن أقله، وهو في الغالب أصفر بارد رقيق يخرج بفتور على عكس صفات الحيض.

وقد قسّم الإمامية المستحاضة إلى ثلاثةٍ أقسام:

(١) صغرى، إذا تلوثت القطنة بدمٍ لا يغمسها. وحكمها أن تتوضأ لكل صلاة مع تغيير القطنة، بحيث لا يجوز أن تجمع بين صلاتين بوضوء واحد.

(٢) وسطى، إذا غمس الدم القطنة ولَم يسل عنها. وحكمها غسل واحد في كل يوم قَبل الغداة، مع تغيير القطنة والوضوء لكل صلاة.

(٣) كبرى، إذا غمست القطنة بالدم وسال عنها. وحكمها الغسل ثلاث مرات في كل يوم، غسل قَبل صلاة الغداة، وآخر تجمع به بين صلاة الظهرين، وثالث لصلاة العشاءين.

وقال أكثر الإمامية: لابدّ مِن الوضوء في هذه الحال، مع تغيير القطنة أيضاً.

ولَم تَعتبر المذاهب الأخرى هذا التقسيم، كما أنّها لَم توجب الغسل على المستحاضة، فقد جاء في كتاب (فقه السنّة) للسيد سابق ص ١٥٥ طبعة ١٩٥٧:

٥٠

(لا يجب عليها الغسل لشيء مِن الصلاة، ولا في وقت مِن الأوقات إلاّ مرّة واحد حينما ينقطع حيضها - أي أنّ الغسل للحيض لا للاستحاضة - وبهذا قال الجمهور مِن السلف والخَلف).

ولا تمنع الاستحاضة عند الأربعة: (شيئاً ممّا يمنعه الحيض مِن قراءة القرآن ومس المصحف ودخول مسجد واعتكاف وطواف ووطء، وغير ذلك ممّا سبق تفصيله في مبحث الأمور التي يمنع منها الحدث الأكبر). (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج١ مبحث الاستحاضة).

وقال الإمامية: إنّ الصغرى محدِثة بالحدث الأصغر، فلا يستباح لها شيء ممّا يتوقف على الوضوء إلاّ بَعد أن تتوضأ، والوسطى والكبرى محدِثتان بالحدث الأكبر، فتمنعان عن كلّ ما يشترط فيه الغسل، فهما كالحائض ما دامتا لَم تؤديّا ما يجب عليهما، ومتى فعلتا الواجب فهما بحكم الطاهر، تستباح لهما الصلاة ودخول المسجد والطواف والوطء. والغسل مِن الاستحاضة عند الإمامية كالغسل مِن الحيض بدون تفاوت.

دم النفاس

قال الإمامية والمالكية: دم النفاس هو الذي يقذفه الرحم بسبب الولادة معها أو بَعدها لا قَبلها.

وقال الحنابلة: هو الدم النازل مع الولادة وبَعدها وقَبلها بيومين أو ثلاثة مع أمارات الطلق.

وقال الشافعية: هو الخارج بَعد الولادة لا قَبلها ولا معها.

وقال الحنفية: هو الخارج بَعدها أو عند خروج أكثر الوَلد، أمّا الخارج قَبلها أو عند خروج أقلّ الوَلد فليس بنفاس.

إذا وِلدت الحامل ولَم ترَ دماً وجب عليها الغسل عند الشافعية والحنفية

٥١

والمالكية، ولا يجب عند الإمامية والحنابلة.

واتفق الجميع على أنّه ليس لأقلّ النفاس حد، أمّا أكثره فالمشهور عند الإمامية عشرة أيام.

وعند الحنابلة والحنفية أربعون.

وعند الشافعية والمالكية ستون.

وإذا خرج الولد مِن غير المكان المعتاد بسبب عملية جراحية لا تكون نفساء، ولكن تنقضي عدّة الطلاق بخروج الولد كيف اتفق.

والنفاس في حكم الحيض مِن عدم صحة الصلاة والصوم، ووجوب قضاء الثاني دون الأوّل، وتحريم الوطء عليها وعليه، ومس كتابة القرآن، والمكث في المسجد أو دخوله على اختلاف المذاهب، وعدم صحة طلاقها - عند الإمامية - وما إلى ذلك مِن الأحكام.

أمّا كيفية الغسل وشروطه فكالحائض تماماً.

٥٢

مس الميت

إذا مس الإنسان ميتاً إنسانياً، فهل يجب عليه الوضوء أو الغسل، أو لا يجب عليه شيء؟

قال الأربعة: مس الميت ليس بحدث أصغر ولا أكبر، أي لا يوجب وضوءاً ولا غسلاً، وإنّما يستحب الغسل مِن تغسيل الميت لا من لمسه.

قال أكثر الإمامية: يجب الغسل مِن المس بشرط أن يبرد جسم الميت، وأن يكون المس قَبل التغسيل الشرعي، فإذا حصل المس قَبل بَرده وبَعد الموت بلا فصل أو بَعد أن تمّ التغسيل، فلا شيء على الماس.

ولَم يفرّقوا في وجوب الغسل بين أن يكون الميت مسلماً أو غير مسلم، ولا بين أن يكون كبيراً أو صغيراً، حتى ولو كان سقطاً تمّ له أربعة أشهر، وسواء أحصل المس اختياراً أو اضطراراً، عاقلاً كان الماسّ أو مجنوناً، صغيراً أو كبيراً، فيجب الغسل على المجنون بَعد الإفاقة، وعلى الصغير بَعد البلوغ، بل أوجب الإمامية الغسل بمس القطعة المنانة مِن حي أو مِن ميت إذا كانت مشتملة على عَظم، فإذا لمس إصبعاً قطعت مِن حي وجب الغسل. وكذا لو لمست سِناً منفصلة مِن ميت، أمّا إذا لمست السنّ بَعد انفصالها مِن الحي فيجب الغسل إذا كان عليها لحم، ولا يجب إذا كانت مجردة.

ومع أنّ الإمامية أوجبوا الغسل مِن مس الميت فإنّهم يعتبرونه بحكم الحدث

٥٣

الأصغر، أي أنّ الماسّ يمنع مِن الأعمال التي يشترط فيها الوضوء فقط دون الأعمال التي يشترط فيها الغسل، فيجوز للماسّ دخول المسجد والمكث فيه، وقراءة القرآن.

والغسل مِن المس كالغسل مِن الجنابة.

الميت وأحكامه

يقع الكلام هنا في فصول:

الفصل الأوّل: في الاحتضار

الاحتضار هو: التوجيه إلى القبلة. واختلفوا في كيفية التوجيه إليها، فقال الإمامية والشافعية: أن يُلقى الميت على ظهره، ويُجعل باطن قدميه إلى القبلة بحيث لو جلس كان مستقبلاً.

وقالت المالكية والحنابلة والحنفية: أن يُجعل الميت على شقّه الأيمن، ووجهه إلى القبلة، كما يُفعل به حال الدفن.

وكما اختلفوا في معنى التوجيه اختلفوا في وجوبه، فقال الأربعة وجماعة مِن الإمامية: هو مستحب وليس بواجب.

وذهب أكثر الإمامية إلى أنّه واجب كفاية، كالغسل والتكفين. وجاء في كتاب (مصباح الفقيه) للإمامية: (إنّ وجوب الاستقبال يشمل الكبير والصغير).

وليعلم أنّ كل واحد مِن واجبات الميت الآتية إنّما يجب على سبيل الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الجميع، وإذا تركه الجميع كانوا مسؤولين ومؤاخَذين.

٥٤

الفصل الثاني: في الغسل

وفيه مسائل:

اتفقوا على أنّ الشهيد - وهو الذي مات بسبب قتال الكفار - لا يغسّل(١) ، واتفقوا أيضاً على أنّ غير المسلم لا يجوز غسله إلاّ الشافعية، فقد ذهبوا إلى جوازه، واتفقوا على أنّ السقط الذي لَم يتمّ في بطن أمّه أربعة أشهر لا يغسَل.

واختلفوا فيما إذا تمّ له الأربعة، فقال الحنابلة والإمامية: يجب أن يغسّل.

وقال الحنفية: إن نزل وفيه حياة ثمّ فارقها، أو نزل ميتاً تام الخلقة، غُسّل وإلاّ فلا.

وقال المالكية: لا يجب غسل السقط إلاّ إذا كان قابلاً للحياة بحيث يقول أهل الخبرة إنّ مثله يقبل الحياة المستقرّة.

وقال الشافعية: إن نزل بَعد ستة أشهر يغسّل، وإن نزل قَبلها: فإن كان تام الخلقة غسّل أيضاً، وإن لَم يكن تام الخلقة: فإن عَلم أنّه كان حياً يغسّل وإلاّ فلا.

(فرع)

إذا ذهب مِن جسم الميت بعضه؛ لمرض أو حرق أو أكلِ حيوان أو غير ذلك، فهل يجب غسل الباقي؟

قال الحنفية: لا يفرض الغسل إلاّ إذا وجِد أكثر البدن أو نصفه مع الرأس.

وقال المالكية: يجب الغسل إذا وجِد ثلثا البدن.

وقال الحنابلة والشافعية: يُغسل ولو بقي قليل مِن الميت.

وقال الإمامية: إن وجدت قطعة مِن الميت، يُنظر: فإن كانت الصدر أو بعضه المشتمل على القلب كان حكمها حكم الميت التام مِن وجوب الغسل

____________________

(١) قال الحنفية: الشهيد، كل مَن قُتل ظلماً، سواء قُتل في الحرب أو بَغى عليه لِص أو قاطع طريق. واشترطوا لعدم غسله أن لا يكون محدِثاً بالحدث الأكبر.

٥٥

والتكفين والصلاة، وإن لم تكن القطعة مشتملة على الصدر أو بعضه، فإن كان فيها عظم تغسل وتُلفّ بخرقة وتُدفن، وإن لم يكن فيها عتُلفّ بخرقة وتُدفن بلا غسل.

الغاسل

يجب المماثلة بين الغاسل والمغسول، فالرجال يغسلون الرجال، والنساء يغسلن النساء.

وأجاز الإمامية والشافعية والمالكية والحنابلة أن يغسل كل من الزوجين الآخر.

وقال الحنفية: ليس للزوج أن يغسل زوجته؛ لأنّها خرجت من عصمته بالموت، أمّا الزوجة لتغسل زوجها؛ لأنّها في عدّته، أي أنّ الزوجية باقية في حقّها، منتفية في حقّه، وإذا طلّقها ثمّ ماتت، فإن كان الطلاق بائناً فلا تغسله ولا يغسلها بالاتفاق، وإن كان رجعياً فقد أجاز الإمامية أن يغسل كل منهما الآخر.

وقال الحنفية والحنابلة: تغسله ولا يغسلها.

وقال المالكية والشافعية: لا تغسله ولا يغسلها، ولم يفرّقوا بين الطلاق البائن والرجعي.

وأجاز الإمامية للمرأة أن تغسل الصبي إذا لم يتجاوز العام الثالث من عمره، وللرجل أن يغسل الصبية إذا لم تتعدّ هذه السن. وقال الحنفية: يجوز إلى السن الرابعة.

وقال الحنابلة: إلى ما دون السابعة.

وقال المالكية: تغسل المرأة ابن ثماني سنين، ويغسل الرجل بنت سنتين وثمانية أشهر.

٥٦

كيفية الغسل

الإمامية: يجب أن يُغسل الميت ثلاثة أغسال:

الغسل الأوّل: أن يكون في مائه قليل من السدر. وفي الثاني: قليل من الكافور. أمّا الغسل الثالث: فبالماء القراح، وأن يبتدئ الغاسل في غسله بالرأس، ثمّ بالجانب الأيمن، ثمّ الأيسر.

وقال الأربعة: الواجب غسل واحد بالماء القراح، والغسلان الآخران مستحبان، ولا يشترط كيفية خاصة بالغسل، فيصح كيف اتفق كغسل الجنابة، ولا يجب عندهم السدر والكافور بل يستحب أن يجعل في ماء الغسل الأخير كافور ونحوه من الطيب.

ويشترط في صحة الغسل (النية)، وإطلاق الماء وطهارته، وإزالة النجاسة عن بدن الميت، وعدم الحاجب المانع من وصول الماء الى البشرة.

وقال الإمامية: يكره غسل الميت بالماء الساخن. وقال الحنفية: الساخن أفضل. وقال الحنابلة والمالكية والشافعية: البارد مستحب.

واتفق الجميع على أنّ المـُحرم في الحج لا يوضع الكافور في ماء غسله، كما اتفقوا على ابتعاده عن كل نوع من أنواع الطيب.

وإذا تغذر الغسل؛ لفقد الماء او حرق أو مرض بحيث يتناثر لحمه من الماء، يقوم التيمم مقام الغسل بالاتفاق، أمّا كيفيته فهو كتيمم الحي، وسيأتي البيان في باب التيمم. وقال جماعة من فقهاء الإمامية: يجب التيمم ثلاث مرات: الأُولى بدل عن الغسل بماء السدر، والثانية بدل عن الغسل بماء الكافور، والثالثة بدل عن الغسل بالماء القراح. أمّا المحققون منهم فاكتفوا بتيمم واحد.

الحنوط

وهو مسح مساجد الميت السبعة بالكافور بعد الغسل، وهذه المساجد هي:

٥٧

الجبهة، واليدان - يمسح به باطنها -، والركبتان، وإبهاما القدمين - يمسح رأسهما -. وقد أوجب الإمامية الحنوط بهذا النحو دون سائر المذاهب، ولم يفرّقوا بين الكبير والصغير حتى السقط، ولا بين الأنثى والذكر، ولم يستثنوا إلاّ المـُحرم في الحج، وأضافوا الى المساجد السبعة الأنف استحباباً.

الكفن

الكفن واجب عند الجميع، وقال الأربعة: الواجب في التكفين ثوب واحد يعمّ جميع الميت، والمستحب ثلاث قطع.

وقال الإمامية: القطع الثلاث واجبة وليست مستحبة، الأولى منها: المئزر، وهو أشبه بالوزرة، تبتدئ من السرّة وتنتهي إلى الركبة. الثانية: القميص، من المنكبين إلى نصف الساق. الثالثة: الإزار، يغطي تمام البدن.

ويُشترط في الكفن ما يُشترط في الساتر الواجب حين الصلاة من الطهارة والإباحة، وعدم كونه حريراً أو من حيوان لا يؤكل لحمه، أو ذهباً للرجال والنساء، وما إلى ذاك ممّا يأتي الكلام عنه في محله.

وكفن المرأة على زوجها إن كان موسراً عند الإمامية والشافعية والحنفية.

وقال المالكية والحنابلة: لا يلزم الزوج بتكفين زوجته، ولو كانت فقيرة. والمقدار من الكفن الواجب وغيره من الميت يؤخذ من أصل التركة - في غير الزوجة - مقدّماً على الدين والوصية والميراث، ما عدا العين التي تعلّق بها حق الرهن.

موت الفقير

قال الأربعة وجماعة من الإمامية: إذا لم يترك الميت مالاً يكفّن به فكفنه على مَن تلزمه نفقته حين حياته، وإن لم يكن له كفيل أو كان كفيله فقيراً

٥٨

كُفّن من بيت المال أو من الزكاة إن امكن، وإلاّ فعلى جميع المسلمين القادرين.

وقال جماعة من الإمامية: مَن مات بلا مال ولا كفيل لا يجب على أحد بذل المال لتكفينه؛ لأنّ الواجب مباشرة العمل لا بذل المال، وعليه فالبذل مستحب من باب الإحسان، ومع عدم وجود المحسن يدفن عارياً.

الصلاة على الشهيد

اتفقوا على أنّ الصلاة تجب على المسلمين وأولادهم من غير فرق بين مذاهبهم وفرقهم، وعلى أنّ الصلاة لا تصحّ إلاّ بعد الغسل والكفن، وأنّ الشهيد لا يغسّل ولا يكفّن بل يدفن في ثيابه، وخيّر الشافعية بين دفنه بثيابه وبين نزعها وتكفينه من جديد، واختلفوا في الصلاة عليه، فقال الشافعية والمالكية والحنابلة: لا يُصلّى عليه.

وقال الإمامية والحنفية: تجب الصلاة عليه كغيره من الأموات.

الصلاة على الصغار

اختلفوا في الصلاة على الطفل، فقال الشافعية والمالكية: يُصلّى عليه إذا صرخ واستهل حين الولادة، أي أنّ حكم الصلاة حكم الميراث.

وقال الحنابلة والحنفية: يُصلّى عليه إذا تمّ له في بطن أُمه أربعة أشهر. وقال الإمامية: لا تجب الصلاة على اطفال المسلمين إلاّ بعد بلوغهم ست سنين، وتستحب على كل مَن كان دون هذه السن.

الصلاة على الغائب

قال الإمامية والمالكية والحنفية: لا تجوز الصلاة على الغائب بحال؛

٥٩

واستدلوا بأنّ النبي (صلّى الله عليه وسلّم) والصحابة لو فعلوا ذلك لاشتهر وتواتر، وبأنّ استقبال القبلة بالميت وحضور المصلي على الجنازة حين الصلاة من الشروط اللازمة.

وقال الحنابلة والشافعية: تجوز صلاة الغائب؛ واستدلوا بأنّ النبي صلّى على النجاشي، حين نُعي له. وأُجيبوا بأنّه عمل خاص بالرسول، أو لخصوصية بالنجاشي، ولذا لم يكرر هذا العمل من النبي مع العلم بموت كثير من عيون الأصحاب وهم بعيدون عنه.

الأولياء

قال الإمامية: جميع الواجبات المتعلقة بتجهيز الميت تتوقف صحتها على إذن الولي، من غير فرق بين التغسيل والتكفين والتحنيط والصلاة، ومَن فَعل شيئاً من ذلك دون أن يأذن الولي بطريق من الطرق يبطل العمل وتجب الإعادة، فالولي إمّا أن يباشر بنفسه، وإمّا أن يأذن بالمباشرة لغيره، فإن امتنع عن المباشرة والإذن يسقط اعتبار إذنه.

والزوج عند الإمامية مقدّم في الولاية على جميع الأرحام بالنسبة الى زوجته، والأولياء غير الزوج يأتون بترتيب الإرث، فالمرتبة الأُولى - وهي الآباء والأبناء - تُقدّم على المرتبة الثانية - وهي الإخوة والاجداد - والمرتبة الثانية تُقدّم على الثالثة - وهي الأعمام والأخوال - والأب أولى من الجميع في المرتبة الأُولى، والجد أولى من الإخوة في المرتبة الثانية، وإذا لم يكن في المرتبة ذكور فالولاية للإناث، وإذا تعدد الإخوة أو الأعمام والأخوال توقّف العمل على إذنهم جميعاً.

والأربعة لم يتعرضوا للولي سلباً ولا إيجاباً في مبحث الغسل والكفن، ممّا يدل على أنّ إذنه لا يعتبر في شيء من ذلك عندهم، وتكلموا عمّا هو أولى وأحق بالصلاة على الميت، فقال الحنفية: إنّ الذين يقدّمون في الصلاة يترتبون على هذا

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

جنب أمير المؤمنين وقال : يا عليّ : هذا النهر لي ولك ولمحبّيك من بعدي(١) .

وفي الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ومعي عترتي [وسبطيّ](٢) على الحوض إلى أن قال : نذود(٣) عنه أعداءنا، ونسقي(٤) أحبّاءنا وأولياءنا، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. حوضنا [مترع](٥) فيه مثعبان(٦) ينصبّان من الجنّة ؛ أحدهما من تسنيم، والآخر من معين، على حافتيه الزعفران، وحصاه اللؤلؤ [والياقوت](٧) وهو الكوثر(٨) . انتهى.

وفي رواية أبي أيّوب الأنصاريّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله سئل عن الحوض فقال : إنّ الحوض أكرمني الله به، وفضّلني على من كان قبلي من الأنبياء، وهو ما بين أيلة(٩) وصنعاء إلى أن قال : يذود عنه يوم القيامة من ليس من شيعته كما يذود الرجل البعير الأجرب من إبله، من شرب منه لا

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسيّ رحمه الله : ٦٩، وأمالي الشيخ المفيد رحمه الله : ٢٩٤.

(٢) أضفناه من المصدر.

(٣) في المصدر : فإنّا نذود.

(٤) في المصدر زيادة : منه.

(٥) أضفناه من المصدر.

(٦) المثعب : مسيل المياه.

(٧) أضفناه من المصدر.

(٨) الخصال : ٦٢٤.

(٩) أيلة «بالفتح» جبل بين مكّة والمدينة و... بلد بين ينبع ومصر، ومنه حديث حوض رسول الله صلّى الله عليه وآله : «عرضه ما بين صنعاء إلى أيلة» وإيلة بالكسر : قرية بين مددين وطور. مجمع البحرين ٥ : ٣١٥. وأيضا : راجع منتهى الإرب ١ : ٤٨.

٤٢١

يظمأ أبدا(١) . انتهى.

وفي رواية أنس قال : بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثمّ رفع رأسه متبسّما فقلت : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : أنزلت عليّ آنفا سورة ؛ فقرأ سورة الكوثر، ثمّ قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم، قال : فإنّه نهر وعدنيه عليه ربّي(٢) خيرا كثيرا، وهو حوض ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج القرن منهم، فأقول : يا ربّ إنّهم من أمّتي؟ فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك(٣) . انتهى.

أقول : لا منافاة بين التفسير بالنهر الواقع في الجنّة وبالحوض الواقع في العرصات كما عرفته، وكذا لا منافاة بين التفاسير المتقدّمة، حيث إنّها من أفراد الخير الكثير، فهو كلمة جامعة لتمام ما قيل في المقام، وإنّما الفرق بالإجمال والتفصيل. ويؤيّد ذلك ما في الكشّاف من أنّ ابن عبّاس(٤) فسّر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير : إنّ ناسا يقولون : هو نهر في الجنّة؟ فقال : هو من الخير الكثير(٥) . انتهى.

ومن هنا قال الطبرسيّ رحمه الله في مجمع البيان : واللفظ يحتمل للكلّ، فيجب أن يحمل على جميع ما ذكرنا من الأقوال، فقد أعطاه سبحانه

__________________

(١) بحار الأنوار ٨ : ٢١، أمالي الشيخ الطوسيّ رحمه الله : ٢٢٨.

(٢) في المصدر : ربّي عليه.

(٣) مجمع البيان ١٠ : ٥٤٩، وأيضا راجع : مسند أحمد بن حنبل ٣ : ١٠٢.

(٤) راجع تنوير المقباس في تفسير ابن عبّاس ؛ المطبوع بهامش الدرّ المنثور ٦ : ٤٠٠.

(٥) الكشّاف ٤ : ٢٩١.

٤٢٢

الخير الكثير في الدنيا، ووعده الخير الكثير في الآخرة، وجميع هذه الأقوال تفصيل للجملة الّتي هي الخير الكثير في الدارين(١) . انتهى.

هذا إلّا أنّ الظاهر إرادة كلّ من هؤلاء خصوص كلّ من هذه المعاني على انفراد، فالحمل على الجميع مستلزم لاستعمال اللفظة الواحدة في أكثر من معنى واحد، فتدبّر.

وللقائل بتجسّم الأعمال ـ كما هو ظاهر جملة من الآيات والروايات ـ أن يقول : إنّ المعاني المذكورة تتصوّر وتتمثّل في النشأة الآخرة بصورة النهر والحوض، فهي هما في الحقيقة، فلا منافاة بين ما تقدّم وبين التفسير بهما، فتأمّل.

قال الله سبحانه بعد أن امتنّ على رسوله النبيل بهذا العطاء الجزيل :( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) فالعقل السليم شاهد بوجوب شكر المنعم، فكلّما عظمت النعمة حكم العقل بعظم الشكر في مقابلته، ولمّا كانت العطيّة في المقام من أعظم العطايا أمر المنعم الحقيقيّ عبده بأداء شكره في ضمن ما هو من أعظم العبادات وهو الصلاة والنحر. ولعلّ المراد بهما على ما صرّح به في العرائس : الوصل بنور الربوبيّة ؛ بخالص العبوديّة، ونحر النفوس قربانا لكشف المشاهد.

قال : أي اتّصل بنور الربوبيّة بخالص العبوديّة وانحر نفسك قربانا لكشف مشاهدتي(٢) . انتهى.

__________________

(١) مجمع البيان ١٠ : ٥٤٩.

(٢) عرائس البيان : ٣٨٦.

٤٢٣

فيحتمل أن يكون المراد بالصلاة المأمور بها في المقام هو الفناء في ساحة الحقّ بكمال الخضوع والخشوع، والإقبال بالكلّيّة على الحقّ، وبالنحر : الفناء الكلّيّ المعبّر عنه بالفناء عن الفناء، والاستغراق الكلّيّ في بحر الشهود ؛ بحيث لا يرى فيه سوى وجه الحقّ ؛ إذ كلّ شيء هالك إلّا وجهه.

قال في الكشّاف : والمعنى أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الّذي لم يعطه أحد غيرك، ومعطي ذلك كلّه أنا إله العالمين فاجتمعت لك الغبطتان السنيّتان ؛ إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط، وأعظم منعم، فاعبد ربّك الّذي أعزّك بإعطائه، وشرّفك وصانك من منن الخلق مراغما لقومك الّذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه(١) وباسمه، مخالفا لهم في النحر للأوثان(٢) . انتهى.

واختلف المفسّرون في الصلاة والنحر المأمور بهما، فقيل : المراد بالصلاة : صلاة عيد الأضحى، وبالنحر نحر الهدي والأضحية.

وقيل : كان النبيّ صلّى الله عليه وآله ينحر قبل الصلاة، فأمر بأن يصلّي ثمّ ينحر.

وقيل : المراد بالصلاة : صلاة الصبح ؛ أمر بأن يصلّيهما بجمع، أي : بالمزدلفة، وينحر البدن بمنى.

وقيل : المراد بالصلاة : جنس الصلاة المفروضة، وبالنحر : استقبال القبلة بالنحر.

__________________

(١) في المصدر زيادة : إذا نحرت.

(٢) الكشّاف ٤ : ٢٩٠ ـ ٢٩١.

٤٢٤

وقيل : المراد بذلك : التكفير ؛ بوضع اليد اليمنى على اليسرى كما هو المعمول به عند العامّة، وقد غلط من نسبه إلى أمير المؤمنين عليه السلام. ويستفاد من جملة من رواياتنا أنّ المراد بالنحر : رفع اليدين حذاء الوجه للقنوت.

ومن هنا ربّما قيل بوجوبه لظاهر الأمر، ومن بعضها أنّ المراد به : أن يستقبل باليدين حذو الوجه عند افتتاح الصلاة بالتكبير.

ومن بعضها : أنّ رفع اليدين عند الافتتاح والركوع بعد رفع الرأس عنه والسجود كذلك(١) . وإذا عكست «صلّ ربّك» صار «كبّر لص» والصاد إشارة إلى الصلاة وتخصيص التكبير بالذكر مع اشتمال الصلاة على أفعال وأقوال كثيرة. فإنّ حقيقته استحقار جميع ما سوى الحقّ عند ذكره، والتوجيه إليه بالكلّيّة، بل المكبّر الحقيقيّ لا يرى شيئيّة حقيقيّة لغير الله، فمراده أنّه أكبر من كلّ موهوم الشيئيّة.

ولنعم ما قيل :

لو أقسم المرء بالرحمن خالقه

بأنّ كلّ الورى لا شيء ما حنثا

إن كان شيء فغير الله خالقه

الله أكبر من أن يخلق العبثا

قال سبحانه :( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

الشانئ : المبغض، والأبتر : المقطوع الذنب، والمعدم، والخاسر، وكلّ أمر منقطع من الخير، ومن لا عقب ولا نسل له.

ولمّا كان العلّة الغائيّة للإيجاد والوجود الوصول إلى الفيض والجود،

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ١٠ : ٥٤٩ ـ ٥٥٠.

٤٢٥

وكان ذلك متوقّفا على متابعة محمّد صلّى الله عليه وآله ومحبّته، انحصر كمال الوجود فيه وفي كلّ من أحبّه واتّبعه، فمبغضه لا محالة ناقص الوجود، عادم الفيض والجود، منقطع عن الوصول إلى مقام الكشف والشهود. فيكون محروما عن جميع خيرات الدارين، قد خسر الدنيا والآخرة ؛ ذلك هو الخسران المبين.

ولمّا كان الغرض المهمّ من بقاء النسل والعقب : بقاء الذكر ودوامه بعد الموت، فمبغضه لكونه منسيّ الذكر، أو مذكورا باللعن هو الأبتر، لا هو صلّى الله عليه وآله لأنّه مرفوع الذكر، مذكور الاسم إلى يوم القيامة. هذا مع أنّ ذرّيّته من ولد بنته فاطمة صلوات الله عليها قد ملأوا ما بين المشرق والمغرب.

وفي التفسير الصادقي : إنّه دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله المسجد وفيه عمرو بن العاص والحكم بن العاص، فقال عمرو : أتانا الأبتر! وكان الرجل في الجاهليّة إذا لم يكن له ولد يسمّى(١) أبتر، ثمّ قال عمرو : لأشنأته(٢) ، أي أبغضته. فأنزل الله على رسوله :( إِنَّا أَعْطَيْناكَ ) إلى آخره ؛ أي مبغضك عمرو بن العاص هو الأبتر ؛ يعني لا دين [ولا نسب](٣) له(٤) .

تمّت النسخة الشريفة في السابع والعشرين

من شهر ذي الحجّة الحرام سنة ١٣٢٦ ه‍.

__________________

(١) في المصدر : سمّي.

(٢) كذا في الأصل، وفي المصدر : إنّي لأشنأ محمّدا.

(٣) أضفناه من المصدر.

(٤) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢ : ٤٤٥، تفسير نور الثقلين ٥ : ٦٨٥.

٤٢٦

تفسير

سورة التوحيد

٤٢٧
٤٢٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[المقدّمة]

الحمد لله الواحد الأحد القيّوم الدائم الصمد، الّذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، والصلاة على محمّد عبده ورسوله المسدّد، المحمود الأحمد، وآله المعصومين، صلاة متّصلة بدوام الأبد.

أمّا بعد، فيقول العبد المفتاق إلى ربّه الصمد «حبيب الله بن علي مدد» : إنّ هذه عجالة وجيزة في تفسير سورة( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) المسمّاة بـ «أسماء كبيرة» سنذكر وجه تسميتها بها في الخاتمة.

فاعلموا إخواني أنّ هذه السورة على مذهبنا معاشر الإماميّة خمس آيات، وإن عدّها من خالفنا أربعا ؛ على ما يقتضيه مذهبه.

الآية الأولى : البسملة

وتفسيرها محتاج إلى تدوين كتاب على حدة، ولكنّنا قد أشرنا إلى بعض ما يتعلّق بها في «تفسير الفاتحة»، وفي «التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام» أي أستعين على هذا الأمر بالله الّذي لا يستحقّ العبادة غيره، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي، «الرحمن» الّذي يرحم ببسط

٤٢٩

الرزق علينا، «الرحيم» بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفّف الله علينا الدين، وجعله سهلا خفيفا، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه.

الآية الثانية :( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ )

وهذه الآية مشتملة على أربع كلمات من نوعي الكلمة على القراءة المشهورة من إثبات الأولى،أو ثلاث على الشاذّة من إسقاطها، واستيفاء البحث عنها في مقاصد أربعة :

[المقصد] الأوّل : في الأولى [وهي كلمة «قل»]

وهي مشتقّة من «القول» بالأصغر، وتقليباته ستّة بالأكبر كما في كلّ ثلاثيّ، فإنّها الحاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين، كما أنّها في الرباعيّ أربعة وعشرون، وفي الخماسيّ مائة وعشرون. فإنّ الأولى من الأربعة في الستّة، والثانية من الخمسة في الأولى، والموضوع في تقليبات الأخيرين ولا سيّما الأخير نزر ؛ بخلاف الأوّل لكثرة الموضوع فيه ؛ بل قد لا يوجد في تقليباته مهمل كما في قول المبحوث عنه.

أمّا «القول» فواضح.

و «القلو» بالكسر ؛ كما في القاموس(١) : «الخفيف من كلّ شيء» و «الحمار الفتيّ» وبهاء الدابّة تتقدّم بصاحبها. وفسّره الرازيّ بحمار الوحش.

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٣٨٢.

٤٣٠

و «الوقل» بالسكون : «شجرة المقل» أو «ثمره» أو «يابسه» ويقال : «وقل في الجبل» : إذا صعده. وربّما يفسّر «الوقل» بالوعل، وهو «تيس الجبل».

و «الولق» : السرعة، ويقال : «ولق» «يلق» : إذا أسرع.

و «الولقى» : الناقة السريعة.

و «اللوق» كاللوقة : الزبدة من اللّبن، ويقال : «لوّق طعامه» : إذا أصلحه بالزبد. ومنه الحديث : «لا آكل الطعام إلّا ما لوّق لي»(١) .

و «اللقو» كاللقوة : العقاب أو الأنثى منه، أو السريعة الخفيفة، وبالكسر : المرأة السريعة اللقاح.

وفي تفسير الرازيّ وكلّيّات أبي البقاء : إنّ تركيب «القول» في جميع تقاليبه يدلّ على الخفّة والسهولة(٢) . وفيه نظر، لانتقاضه بالنسبة إلى بعض المعاني وإن أمكن بالنسبة إلى أكثرها، فتدبّر.

وفي الثاني : إنّ «القول» و «الكلام» و «اللفظ» من حيث اللغة بمعنى ؛ يطلق على كلّ حرف من حروف المعجم، ومن حروف المعاني، وعلى أكثر منه مفيدا كان أو لا، لكنّ «القول» اشتهر في المفيد بخلاف «اللفظ» واشتهر «الكلام» في المركّب من جزئين فصاعدا. انتهى.

ومن خواصّ هذا الباب أنّ المفعول فيه لا تكون إلّا جملة، ومن هنا يكسر همزة «إنّ» في صدرها لئلّا تؤوّل بالمفرد، وهل هي حينئذ مفعول به أو مفعول مطلق نوعي لدلالتها على نوع خاصّ من القول؟ خلاف، والأصحّ

__________________

(١) النهاية، لابن الأثير ٤ : ٢٧٨.

(٢) انظر : التفسير الكبير ٣٢ : ١٧٤.

٤٣١

الأشهر هو الأوّل، لصحّة الإخبار عنها بأنّها مقولة، والمطلق النوعي ليس بهذه المثابة لكونه عين الفعل، والفعل والمفعول به متغايران كما لا يخفى.

المقصد الثاني : في الثانية : [وهي كلمة «هو»]

وهي بحر فيها اسم وضمير، مرجعه الغائب.

وفي كتاب سيبويه : وأمّا المضمر المحدّث عنه، فعلامته «هو» وإن كان مؤنثا فعلامته «هي». انتهى.

هذا مذهب البصريّين، والكوفيّون يزعمون أنّ الاسم هو «الهاء»، و «الواو» إشباع للحركة. وإذا جيء بها للفرق بين النعت والخبر فـ «هو» حرف عند غير الأخفش، وتسمّى فصلا وعمادا، وحينئذ فلا محلّ لها من الإعراب ؛ حتّى عنده، لكونها كـ «صه» و «نزال»، واللّام الداخلة على الوصف على تقدير اسميّتها.

ويستفاد من جملة من الروايات والأدعية استعمال هذه الكلمة اسما ظاهرا من أسماء الله الحسنى، يدخله حرف النداء.

ولكن في الكلّيّات : وليس «هو» من الأسماء الحسنى ؛ بل «هو» ضمير يجوز إرجاعه لكلّ شيء جوهر أو عرض لفظا أو معنى، إلّا أنّ بعض الطائفة يكنّون به عن الحقيقة المشهودة لهم والنور المطلق للمتجلّي لسرائرهم من وراء أستار الجبروت من حيث هي، من غير ملاحظة اتّصافها بصفة من صفاتها، ولذلك يضعونه موضع الموصوف ويجرون عليه الأسماء حتّى اسم الله. انتهى.

٤٣٢

وفيه نظر لما أشرنا إليه.

وقد روي عن عليّ عليه السلام أنّه قال : رأيت الخضر في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له : علّمني شيئا انتصر به على الأعداء! فقال : [قل] «يا هو يا من لا هو إلّا هو» فلمّا أصبحت قصصتها على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال [لي] : يا عليّ، علّمت الاسم الأعظم! فكان على لساني يوم بدر(١) .

وروي أنّه قرأ يوم بدر( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) فلمّا فرغ قال : يا هو! يا من لا هو إلّا هو! اغفر لي وانصرني على [القوم] الكافرين(٢) .

وروي أنّه كان يقول ذلك أيضا يوم صفّين وهو يطارد، فقال له عمّار بن ياسر : يا أمير المؤمنين، ما هذه الكنايات؟ فقال عليه السلام : اسم الله الأعظم، وعماد التوحيد [لله] (لا إله إلّا هو) [ثمّ قرأ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) ] وآخر الحشر، ثمّ نزل فصلّى أربع ركعات قبل الزوال(٣) .

وربّما يدّعى أنّ لفظ «هو» مخفّف عن لفظ «الله» ومجرّد عن زوائده، فإنّه إذا حذف منه الألف يبقى «لله» ؛ أي لله ملك السماوات والأرض وما بينهما، أو يسبّح لله ما في السماوات والأرض، وإذا حذف منه اللّام مع الألف الثانية يصير «له» ؛ أي له ما في الكون، وإذا حذف منه «اللّام» الثانية لم يبق سوى «الهاء» فإذا أشبعته صار «هو» فيكون إشارة إلى بساطة المسمّى وتقدّسه عن الاعتبارات والملاحظات والإضافات، لكونه موضوعا بإزاء الهويّة المطلقة الصرفة ؛ بل قد يقال : إنّه ليس باسم ؛ بل هو المسمّى مع قطع النظر عن ملاحظة الاسميّة ؛ فتدبّر.

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٢٢٢.

(٢) بحار الأنوار ٣ : ٢٢٢.

(٣) بحار الأنوار ٣ : ٢٢٢.

٤٣٣

ومن هنا قيل : إنّه أخصّ وأعلى من لفظ «الله» لدلالته على الهويّة الصرفة الّتي لا يتصوّر معها شوب إضافة أصلا، بخلاف لفظ «الله» فإنّه يدلّ على الألوهيّة الّتي لا تتصوّر إلّا بعد ملاحظة المألوه. ولذا صار «لا إله إلّا هو»، عماد التوحيد ؛ الّذي هو عبارة عن إسقاط الإضافات، فـ «هو» مع كونه أعمّ الأسماء حيث يطلق على جميعها، أخصّها حتّى من «الله»، ولذا قدّمه عليه في هذه الآية المباركة، كما قدّم «الله» على «الأحد» لكونه أخصّ منه، فافهم واغتنم وكن من الشاكرين.

ومن خواصّ هذه الكلمة أنّه لو بسط حرفاها ببسط الترفّع طوبق عددها مع عدد «عليّ» ولو بسط حروف «عليّ» ببسط التنزيل طوبق مع عدد هذه الكلمة فـ( هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) و( هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) و( إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) فكما أنّ هذه الكلمة دليل تدوينيّ على غيب الهويّة، كذلك «عليّ» دليل تكوينيّ عليه، ومرآة للوجود المطلق ؛ خلقه الله من نوره، واصطفاه بعد محمّد صلّى الله عليه وآله من خلقه ليكون دليلا على هويّته، فـ «سبحان الّذي دلّ على ذاته، بذاته وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته»(١) .

ومن خواصّها أنّ النطق بها لا يحتاج إلى اللسان عند انبساط النفس وانقباضه، وفي ذلك إشارة إلى أنّ هويّته بذاته ولذاته، وهويّة سائر الهويّات إنّما هي بهويّته، مفتقرة إليها في حدّ أنفسها.

وهذا معنى ما ذكره الشيخ الرئيس من أنّ «ألهو هو» المطلق هو الّذي لا يكون هويّته موقوفة على غيره، وكلّما كان هويّته لذاته سواء اعتبر غيره أو

__________________

(١) جاء هذا المقطع في دعاء الصباح : يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته.

٤٣٤

لم يعتبر فـ «هو هو» لكن كلّ ممكن فوجوده من غيره، وكلّما كان وجوده من غيره فخصوصيّة وجوده منه، وذلك هو الهويّة ؛ فإذن كلّ ممكن فهويّته من غيره، والّذي يكون هويّته لذاته فهو واجب الوجود. انتهى.

وبالجملة : لا نعرف من ذاته تعالى إلّا أنّه هو ضرورة أنّ كلّ شيء فـ «هو هو»، فإذا قلت : إنّ الله هو هو، فلا مجال لأحد في تكذيب هذا القول ؛ حيث لا يتوقّف تصديقه على معرفته بالكنه والحقيقة الذاتيّة معرفة تفصيليّة لم يصل إليها أحد سواه، كيف وقد عجزت عن كنه ذاته عميقات مذاهب التفكير، وانحسر عن إدراكه بصر البصير.

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي اللّب وبلبلت العقولا

كلّما أقبل فكري فيك شبرا فرّ ميلا

وقد بان من هذا البيان أنّ «هو» هو الاسم الأعظم الأعلى المطابق للواقع ونفس الأمر الّذي كلّ الأسماء عنه ومنه وإليه وبه، ومنه وجد كلّما وجد، وبه ظهرت هويّة كلّ شيء، وقد( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) وكيفما كان فلفظ «هو» في هذه السورة محتمل لوجهين :

الأوّل : أن يكون اسما مضمرا، وهذا على وجهين :

أحدهما : أن يكون راجعا إلى ما سألوا عن صفته ونسبته، فقد ذكر عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره أنّ سبب نزول هذه السورة أنّ اليهود جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالت له : ما نسب ربّك؟ فأنزل الله هذه السورة(١) .

__________________

(١) تفسير القمّيّ ٢ : ٤٤٨.

٤٣٥

وفي الكافي والتوحيد عن الصادق عليه السلام قال : إنّ اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا : انسب لنا ربّك، فلبث ثلاثا لا يجيبهم، ثمّ نزلت «قل هو الله»(١) .

وفي التوحيد عن الباقر عليه السلام [في قول الله عزّ وجلّ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ] قال : «قل» ؛ أي أظهر ما أوحينا إليك ونبّأناك [به] بتأليف الحروف الّتي قرأناها لك لتهتدي بها من ألقى السمع وهو شهيد، و «هو» اسم مشار ومكنّى إلى غائب فـ «الهاء» تنبيه على معنى ثابت، و «الواو» إشارة إلى الغائب عن الحواسّ، كما أنّ قولك «هذا» إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ، وذلك أنّ الكفار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى الشاهد المدرك فقالوا : هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك [الّذي] تدعو إليه حتّى نراه وندركه ولا نأله فيه، فأنزل الله تبارك وتعالى( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ، فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواسّ، وأنّه تعالى عن ذلك ؛ بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواس(٢) .

ولعلّ المراد بتثبيت الثابت الحكم ثبوت ما هو ثابت في الواقع وموجود في الخارج ؛ إذ لا معنى للإرجاع إلى المعدوم في نفس الأمر. وأمّا قولهم : إنّ شريك الباري هو ممتنع حيث يرجع الضمير إلى ما ليس بثابت في الواقع، فمعناه أنّ هذا المفهوم الثابت لهذا اللفظ بحسب الدلالة عند الذهن ممتنع المصداق في الخارج، فالمرجع هو الثابت في الذهن خاصّة وإن لم يكن

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ٩١، التوحيد : ٩٣.

(٢) التوحيد : ٨٨.

٤٣٦

ثابتا في حاقّ الواقع الخارجيّ، فافهم.

ولكونه تعالى ثابتا بحقيقة الثبوت كان من أسمائه الحقّ.

وعن «المعلّم الثاني» : يقال «حقّ» للقول المطابق للمخبر عنه إذا طابق القول، ويقال «حقّ» للموجود الحاصل بالفعل، ويقال «حقّ» للموجود الّذي لا سبيل للبطلان إليه، والأوّل تعالى حقّ من جهة الخبر عنه، وحقّ من جهة الوجود، وحقّ من جهة أنّه لا سبيل للبطلان إليه، لكنّا إذا قلنا أنّه الحقّ فلأنّه الواجب الّذي لا يخالطه بطلان، وبه يجب وجود كلّ باطل.

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل

[وكلُّ نعيم لا محالةَ زائلٌ]

ولعلّ المراد بقوله «والواو إشارة إلى الغائب» أنّ الواو لمـــّـا كانت في الأصل علامة للجمع الغائب فهو في هذه الكلمة إشارة إلى غيبته تعالى عن الأبصار، ومن هنا قد يقال : إنّ الواو إشارة إلى جامعيّة هذا المسمّى لجميع الأسماء والصفات الكماليّة، ولعلّه مراد من قال : إنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء. فتأمّل.

وثانيهما : أن يكون ضمير الشأن والقصّة مفسّرا بما بعده من الجملة، وهذا الضمير قد يكون مرفوعا منفصلا ؛ كما في هذه الآية، وكما في قوله :

هي الدنيا تقول بملء فيها

[حذار حذار من بطشي وفتكي]

وقد يكون منصوبا متّصلا بارزا ؛ كما في قوله تعالى :( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ) (١) .

وقد يكون مرفوعا مستترا ؛ كما في قوله :

__________________

(١) الحجّ : ٤٦.

٤٣٧

إذا متّ كان الناس صنفان إلى آخره.

وحذفه منصوبا نادر إلّا في باب «أنّ» المفتوحة المخفّفة، فإنّه لازم على ما صرّحوا به. وكيف كان فلا بدّ أن يكون المفسّر لهذا الضمير جملة.

قال الرضيّ : والمراد بهذا الضمير، الشأن والقصّة، فيلزمه الإفراد والبية، والمعود إليه إمّا يكون مذكّرا وهو الأغلب، أو مؤنّثا ؛ كما يجيء، وهذا الضمير كأنّه راجع في الحقيقة إلى المسئول عنه بسؤال مقدّر، يقول مثلا هو الأمير مقبل كأنّه سمع ضوضاء وجلبة فاستبهم الأمر فسأل ما الشأن والقصّة؟

فقلت : هو الأمير مقبل ؛ أي الشأن هذا، فلمّا كان المعود إليه الّذي تضمّنه السؤال غير ظاهر قيل اكتفى في التفسير بخبر هذا الضمير الّذي يتعقّبه بلا فصل، لأنّه معيّن للمسؤول عنه ومبيّن له، فبان لك بهذا أنّ الجملة بعد الضمير لم يأت بها لمجرّد التفسير ؛ بل هي كسائر أخبار المبتدءات ؛ لكن سمّيت تفسيرا لما بيّنته، والقصد بهذا الإبهام ثمّ التفسير : تعظيم الأمر، وتفخيم الشأن، فعلى هذا لا بدّ أن يكون مضمون الجملة المفسّرة شيئا عظيما يعتنى به، فلا يقال : هو الذباب يطير. انتهى.

الثاني : أن يكون اسما ظاهرا من أسمائه تعالى على التفصيل الّذي عرفته، فيكون الهاهوت مشتقّا منه، كما أنّه اللاهوت مشتقّ من لفظ «الله» وعلى جميع هذه الوجوه فـ «هو» مبتدأ خبره جملة «الله أحد» واتّحادهما معنى مغن عن الرابطة اللازمة في الجمل الخبريّة ؛ ومن المحتمل كون «أحد» خبرا بعد الخبر، وكونه بدلا عنه، فلا حاجة إلى الرابطة، لعدم الاشتقاق.

٤٣٨

المقصد الثالث : في الثالثة

والكلام فيها في مواضع ؛ أحدها في خصائصها، وهي كثيرة :

منها : أنّه لو قسّمت عدد هذه الكلمة ؛ أي عدد حروفها المكتوبة على القسمين كان كلّ قسم ثلاثة وثلاثين، فإذا ضربت هذا العدد في حروفها الأصليّة وهي ثلاثة طوبقت مع عدد «الأسماء الحسنى» وهو تسعة وتسعون، فيكون إشارة إلى جامعيّة هذا الاسم لمعاني جميع الأسماء، فمن دعا به فكأنّما دعا بجميعها، وهذه الخاصّة نقلها الكفعميّ رحمه الله عن محمّد بن طلحة(١) .

ومنها : ما ذكره أيضا من أنّه لو أخذت من طرفي الجلالة ستّة ثلاثة من الأوّل وثلاثة من الآخر وقسّمت على حروفها الأربعة كان لكلّ واحد ونصف، فإذا ضرب الواحد والنصف في عدد الجلالة وهو ستّة وستّون كان حاصل الضرب تسعة وتسعين عدد الأسماء الحسنى الّتي من أحصاها دخل الجنّة(٢) .

ومنها : أنّه لو عكست هذه الكلمة صارت «هللا» على صيغة الماضي ؛ أي هلّل محمّد وعليّ قبل المهلّلات ؛ كما ورد في بعض الروايات، أو على صيغة الأمر فالخطاب لهما عليهما السلام وآلهما.

ومنها : أنّ هذه الكلمة باقية بعد وضع المكرّرات من كلمة التهليل، كما أنّ هذه الكلمة مستخرجة بتمامها منها بعكس «الألف» و «اللّام» الأولى بصيرورتهما «لا» فإذا اجتمع ذلك مع الباقي صار «لا إله» ومع كسر الألف

__________________

(١ و ٢) مصباح الكفعميّ : ٣١٦.

٤٣٩

يصير «إلّا» فإذا جمع مع لفظ «الله» صار المجموع «لا إله إلّا الله».

ومنها : أنّه لو أخذ عدد أصل هذه الكلمة وهو «إله» (٣٦) مع عدد مكرّرها (٦٦) يصير مائة واثنين، وهو موافق مع عدد «أعلى» في قوله( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (١) فيكون إشارة إلى كون هذه الكلمة : الاسم الأعظم الأعلى ؛ وهذه الخصائص قد ذكرناها مع زيادة في تفسيرنا على سورة الفاتحة.

الثاني : هل هذه الكلمة عربيّة أو عبرانيّة أو سريانيّة الحقّ هو الأوّل ؛ لقوله تعالى :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (٢) وقوله( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) (٣) وقد تكرّر ذكر هذه الكلمة في القرآن أكثر من ذكر سائر الأسماء، وعددها فيه ألفان وثمانمائة وسبعة.

الثالث : هل هي من أسماء الأعلام الشخصيّة أو من المشتقّات المبهمة الكلّيّة؟ الحقّ هو الأوّل، لما ذكره الرازيّ في تفسيره الكبير(٤) ، من أنّه لو كان مشتقّا لكان معناه معنى كلّيّا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه، قال : لأنّ لفظ المشتق لا يفيد إلّا أنّه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتقّ منه، وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين. فثبت أنّ هذا اللفظ لو كان مشتقّا لم يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، فلو كان كذلك لما كان قوله «لا إله إلّا الله» توحيدا حقّا مانعا من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، لأنّ بتقدير أن يكون «الله» لفظا مشتقّا كان قولنا «الله» غير مانع من أن يدخل تحت أشخاص

__________________

(١) الأعلى : ١.

(٢) الزخرف : ٨٧.

(٣) مريم : ٦٥.

(٤) انظر : التفسير الكبير ٣٢ : ١٧٩.

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481