تفسير ست سور

تفسير ست سور0%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله حبيب الله الشريف الكاشانيّ (قدس سره)
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 58301
تحميل: 5178

توضيحات:

تفسير ست سور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58301 / تحميل: 5178
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كثيرة ؛ فحينئذ لا يكون قولنا «إلّا الله» موجبا للتوحيد المحض، وحيث أجمع العلماء على أنّ قولنا «لا إله إلّا الله» يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا «الله» اسم علم لتلك الذات المعيّنة، وأنّها ليست من الألفاظ المشتقّة. انتهى.

واحتجّ له أيضا بأنّ من أراد أن يذكر ذاتا معيّنة ثمّ يذكره بالصفات، فإنّه يذكر اسمه أوّلا ثمّ يذكر عقيب الاسم الصفات، ومن أراد أن يذكر الله بالصفات المقدّسة فإنّه يذكر أوّلا لفظ «الله» ثمّ يذكر بعده الصفات، فيقول : «الله العالم القادر» فهذا يدلّ على أن لفظ «الله» علم، لا أنّ مفهومه الكلّيّ، لكونه مشتقّا، ولا يذهب عليك أنّ هذين الوجهين لا ينفيان كون هذا اللفظ مشتقّا في الأصل وصيرورته عليما، فيكون «الألف» و «اللّام» للمح، فتأمّل.

واحتج للثاني بوقوعه صفة في قوله( وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ ) (١) وقوله( هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (٢) وفيه ما لا يخفى، كالاحتجاج له بأنّ اسم العلم قائم مقام الإشارة، فكما أنّ الإشارة إلى ذاته تعالى ممتنعة، فكذلك وضع العلم المعيّن للحقيقة والذات، فإنّ أسماء الله توقيفيّة، فإذا كان واضعها هو الله فلا مانع من وضعه هذا الاسم لذاته. هذا، مع أنّه لا يشترط في الوضع المعرفة بالكنه. وكيف كان فالفرق بين هذا اللفظ ولفظ «الإله» أنّ هذا اللفظ لا يطلق إلّا على المعبود بالحقّ، وهو الجامع لجميع الصفات الكماليّة من الجمال والجلال، بخلاف الثاني لإطلاقه على مطلق ما عبد ؛ سواء عبد بحقّ أو بباطل.

__________________

(١) الأنعام : ٣.

(٢) الحشر : ٢٢ و ٢٣.

٤٤١

والمراد بالمعبود بالحقّ هو المستحقّ للعبوديّة لا المعبود بالفعل، فلا يلزم أن يكون إلها في الأزل كما توهّمه الرازيّ، مع أنّه قال بعد ذلك : واعلم أنّه تعالى هو المستحقّ للعبادة، لأنّه هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وذلك لأنّ الموجود إمّا واجب وإمّا ممكن، والواجب واحد وهو الله سبحانه تعالى، وما سواه ممكن، والممكن لا يوجد إلّا بالمرجّح، فكلّ الممكنات إنّما وجدت بإيجاده وتكوينه ؛ إمّا ابتداء، أو بواسطة، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلّا من الله، فثبت أنّ غاية الإنعام صادرة من الله، والعبادة غاية التعظيم.

وإذا ثبت هذا فنقول : إنّ غاية التعظيم لا تليق إلّا لمن صدرت عنه غاية الإنعام، فثبت أنّ المستحقّ للعبوديّة ليس إلّا الله. انتهى، فتدبّر.

الرابع : على تقدير اشتقاق هذا اللفظ يحتمل فيه وجوه كثيرة :

منها : أنّه مشتقّ من «ألهت إلى فلان» ؛ أي سكنت إليه، فإنّ العقول لا تسكن إلّا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلّا بمعرفته، والقلوب لا تطمئنّ إلّا بمحبّته.

ومنها : أنّه مشتقّ من «الألوهة» و «الإلهة» ؛ أي العبادة.

قال في القاموس : «أله، ألاهة وألوهة وألوهية» : عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة(١) . وقرأ ابن مسعود وابن عبّاس( وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) (٢) ؛ أي عبادتك.

ومنها : أنّه مشتقّ من «أله بالمكان» إذا قام به ؛ فمعنى «الله» : القائم بالذات،

__________________

(١) القاموس المحيط ٤ : ٢٨٢.

(٢) الأعراف : ١٢٧.

٤٤٢

الّذي في وجود كلّ موجود وقائم به.

ومنها : أنّه من «أله الفصيل» إذا ولع بأمّه، فإنّ العباد مولعون بالتضرّع إليه في جميع الأحوال، ألا ترى أنّ الإنسان إذا ابتلي ببلاء عظيم نسي جميع الأشياء إلّا الله فيقول بقلبه ولسانه «يا الله!» و «يا ربّ!».

ومنها : أنّه من «ألهت إليه» إذا قدرت عليه، فإنّه على كلّ شيء قدير.

ومنها : أنّه من «أله إليه» إذا فزع إليه من أمر نزل به فـ «ألهه» ؛ أي أجاره، فإنّه تعالى هو الّذي يفزع إليه الخلائق عند الشدائد، فيجيرهم منها.

ومنها : أنّه من «أله الرجل» إذا تحيّر، فإنّه إذا تفكّر فيه العبد، تحيّر ولم يصل إلى كنهه وحقيقته، فكلّما يتخيّله ويتصوّره فهو غيره.

قال الباقر عليه السلام : «الله» معناه المعبود الّذي أله الخلق عن درك ماهيّته والإحاطة بكيفيّته، ويقول العرب : «أله الرجل» إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علما(١) . انتهى.

ومنها : أنّه من «الوله» وهو ذهاب العقل والحيرة، فإنّ الخلق على ما ذكره الرازيّ قسمان : واصلون إلى ساحل بحر المعرفة، ومحرومون قد بقوا في ظلمات بحر الحيرة وميتة الجهالة، فكأنّهم فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأمّا الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور، وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمديّة، وبادوا في عرصة الفردانيّة، فثبت أنّ الخلق كلّهم والهون في معرفته.

قال : وبعبارة أخرى ؛ إنّ الأرواح البشريّة تسابقت في ميادين التوحيد

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٢٢١.

٤٤٣

والتمجيد، فبعضها تخلّفت، وبعضها سبقت، فالّتي تخلّفت بقيت في ظلمات الغبار، والّتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار، فالأوّلون بادوا في أودية الظلمات، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات.

ومنها : أنّه من «لاه» الّتي أصلها «ليه» بمعنى اختفى وغاب، لكونه تعالى غائبا عن مشاهدة الأبصار، وعن درك الأفهام.

ومنها : أنّه من «لاه» الّتي أصلها «لوه» بمعنى ارتفع، لأنّه تعالى علا فاستعلى وارتفع عن مشابهة الممكنات، ومناسبة المخلوقات.

قال الرازيّ : لأنّ الواجب لذاته ليس إلّا هو، والكامل لذاته ليس إلّا هو، والأحد الحقّ في هويّته ليس إلّا هو، والموجد لكلّ ما سواه ليس إلّا هو ؛ وفي الدعاء «ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات ذاتك وقدرتك، وعلا عن ذكر الذاكرين كبرياء عظمتك».

وكيفما كان فقد صرّح أبو البقاء في كلّيّاته : بأنّ هذا اللفظ تعيّن في كلمة التوحيد علامة للإيمان، ولم يعلم له سميّ في اللسان، لكنّ الله سبحانه قبض الألسن عن أن يدعى به أحد سواه، وكما تاهوا في ذاته وصفاته لا حتجابها بأنوار العظمة وأستار الجبروت، كذلك تحيّروا في اللفظ الدالّ عليه أنّه اسم، أو صفة مشتقّ أو غير مشتقّ؟ علم أو غير علم؟ إلى غير ذلك، كأنّه انعكس إليه من مسمّاه أشعّة من تلك الأنوار، فقصرت أعين المستبصرين عن إدراكه.

إشارة : ربّما يجعل هذا اللفظ في هذه الآية بدلا من «هو» فخبره «أحد» ففيه رمز إلى أنّ صفاته عين الذات ؛ إذ لا يتصوّر لهويّته الأحديّة سوى الذات البحث، ومن هنا قال سيّد الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام «كمال

٤٤٤

التوحيد نفي الصفات عنه»(١) .

المقصد الرابع : في الرابعة :

فنقول : الفرق بين واحديّته سبحانه المنصوص عليها في مواضع من الكتاب وفي كثير من الأدعية المأثورة عن الأئمّة المعصومين الأطياب، وبين أحديّته الّتي أخبر بها في هذه الآية المباركة وأمر نبيّه صلّى الله عليه وآله بإظهارها لعباده، أنّ الواحديّة عبارة عن كونه تعالى بحيث لا شريك له في وجوب الوجود بالذات، وفي الوجود الحقيقيّ ولا في الإلهيّة، ولا في الخالقيّة، ولا في غير ذلك من الصفات الكماليّة الحقيقيّة.

وبعبارة أخرى : لم يتحقّق في الخارج لمفهوم واجب الوجود فرد سوى الحقّ الموجود في نفسه لنفسه بنفسه، وذلك لأنّه تعالى صرف الوجود، وصرف الوجود إمّا مقتض للوحدة، أو للكثرة، أو لا يقتضي شيئا منهما، لا سبيل إلى الثاني لإيجابه عدم تحقّق الواحد أصلا، فلا يتحقّق الكثير، فإنّه مبدئه، ولا إلى الثالث لاستلزامه كونه تعالى في وحدته معلّلا بالغير، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب، والبراهين على وحدانيّته بالمعنى المذكور ساطعة ؛ بل

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

وشبهة ابن كمّونة حيث قال : لم لا يجوز أن يكون هناك هويّتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهيّة، يكون كلّ منهما واجب الوجود بذاته، ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما مقولا عليهما

__________________

(١) جاءت هذه الرواية في نهج البلاغة في الخطبة الاولى هكذا : «... وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ...».

٤٤٥

قولا عرضيّا، واهية واضحة الدفع، مع أنّها في مقابلة الضرورة، وأوهى منها شبهة الثنويّة وسائر ما ربّما يتوهّم من الشبهات الواهية، وأوهن من الجميع الشبهة في وجود الصانع الحقّ تعالى( أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (١) تعالى الله عما يصفون وسبحانه عما يشركون.

و «الأحديّة» عبارة عن بساطته وتنزّهه عن التركيب من الأجزاء العقليّة والخارجيّة، فإنّ كلّ مركّب مفتقر في تقوّمه إلى الأجزاء، وواجب الوجود لا بدّ أن يكون غنيّا بالذات، فكما أنّ لفظ «الله» جامع لمجامع صفاته الجماليّة المعبّر عنها بالصفات الثبوتيّة تارة، وبصفات الإكرام [اخرى]، كذلك لفظ «الأحد» دالّ على مجامع الصفات الجلاليّة المعبّر عنها بالصفات السلبيّة، وهي راجعة إلى سلب واحد، وهو سلب الاحتياج، والإذعان بهذا السلب كما أنّ الإذعان الإجماليّ باتّصافه تعالى بكلّ كمال ذاتيّ كاف عن الإذعان التفصيليّ.

وإن شئت قلت : إنّ الإذعان بوجوب وجوده مغن عن إثبات كلّ واحد واحد من الصفات الحقيقيّة الثبوتيّة ؛ كالعلم والقدرة ونحوهما، فإنّ واجب الوجود لذاته وبذاته لا يعقل أن يكون ناقصا بالجهل والعجز ونحوهما من النقائص، وهذه الصفات مبادئ للصفات الإضافيّة المعبّر عنها بالقيموميّة كالعالميّة والقادريّة ونحوهما من الإضافات، وهي زائدة على الذات ؛ إذ لو كانت عينه لزم كونه نسبة اعتباريّة ؛ إذ المفروض كونها اعتباريّة انتزاعيّة بخلاف غيرها من الصفات الحقيقيّة، فإنّها متّحدة مع الذات ؛ كما حقّق في محلّ آخر.

__________________

(١) إبراهيم : ١٠.

٤٤٦

والمراد بالسلب في الصفات السلبيّة هو الحكم بسلب ما كان منفيّا عن الذات في الواقع ممّا كان ثبوته نقصا ؛ مثلا الجوهر له وجود واستقلال ومهيّة، والمنفيّ منه في الذات هو كونه مهيّة، لأنّه صرف الموجود لا الوجود، وبالاستقلال بالذات، وعلى هذا القياس سائر ما يسلب عنه تعالى.

والحاصل : إنّ هنا أمرين كمال ونقص، فالثابت هو الأوّل، وإليه يرجع جميع ما ذكروه من الصفات الثبوتيّة، والمنفيّ هو الثاني، وإليه يرجع جميع الصفات السلبيّة، فمقام الأحديّة راجع إلى التنزّه عن التركيب ولوازمه ممّا يوجب النقص.

وفي تفسير الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام : حدّثنا أبو الحسن، قال : حدّثنا الحسن بن عليّ بن حمّاد بن مهران، قال : حدّثنا محمّد بن خالد بن إبراهيم السعديّ، قال : حدّثني أبان بن عبد الله، قال : حدّثني يحيى بن آدم عن القراريّ، عن جوهر، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس قال : قالت قريش للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكّة : صف لنا ربّك لنعرفه ونعبده، فأنزل الله على نبيّه( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) ؛ يعني غير منقص، ولا مجزّأ، ولا مكيّف، ولا يقع عليه العدد ولا الزيادة ولا النقصان إلى آخره.

وقد يطلق الأحديّة الذاتيّة على مرحلة من الوجود ليس فيها اسم ولا رسم ولا صفة، وإليها الإشارة في قوله كان الله ولم يكن معه شيء كما يطلق الواحديّة على مرتبة ظهور الأسماء والصفات، وربّما يفرّق بينهما بوجوه اخر.

وعن الأزهريّ : إنّ الأحد صفة من صفات الله استأثر بها، فلا يشركه فيها شيء.

٤٤٧

وفي الكلّيّات : ويأتي في كلام العرب بمعنى الأوّل كيوم الأحد، ومنه( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) في أحد القولين، وبمعنى الواحد كقولنا ما في الدار أحد ؛ أي من يصلح للخطاب.

والأحد اسم بني لنفي ما يذكر معه من العدد، والواحد بني لمفتتح العدد، وهمزته إمّا أصليّة وإمّا منقلبة عن الواحد على تقدير أن يكون أصله «وحد» وعلى كلّ من الوجهين يراد بالعدد ما يكون واحد من جميع الوجوه، لأنّ الأحديّة هي البساطة الصرفة عن جميع أنحاء التعدّد عدديّا أو تركيبيّا أو تحليليّا، فاستهلاك الكثرة النسبيّة الوجوديّة في أحديّة الذات، ولهذا رجّح على الواحد في مقام التنزيه، لأنّ الواحد منه عبارة عن انتفاء التعدّد العدديّ، فالكثرة العينيّة وإن كانت منتفية في الواحديّة، إلّا أنّ الكثرة النسبيّة تتعقّل فيها. انتهى.

ثمّ البحث عن مراتب التوحيد وإن كان مناسبا في هذا المقام، إلّا أنّه لا يليق بهذا المختصر، فمن أراد فليراجع شرحي «العديلة».

تذنيب :

قد يقال : إنّ الواحد والأحد بمعنى واحد، ويؤيّده قراءة الأعمش «هو الله الواحد» ويدلّ عليه أيضا : ما رواه في التوحيد عن الباقر عليه السلام قال : الأحد الفرد المتوحّد، والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرد الّذي لا نظير له، والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد، والواحد المتباين الّذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء.

ومن ثمّ قالوا : إنّ بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد، لأنّ

٤٤٨

العدد لا يقع على الواحد ؛ بل يقع على الاثنين ؛ فمعنى قوله «الله أحد» ؛ أي المعبود الّذي أله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته، متعال عن صفات خلقه(١) . انتهى.

وروى بسنده إلى المقدام ابن شريح بن هانئ عن أبيه قال : إنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين، أتقول إنّ الله واحد؟

قال : فحمل الناس عليه وقالوا يا أعرابيّ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟

فقال أمير المؤمنين : دعوه! فإنّ الّذي يريده الأعرابيّ هو الّذي نريده من القوم، ثمّ قال : يا أعرابيّ، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه ؛ فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل «واحد» يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداء، أما ترى أنّه كفّر من قال : ثالث ثلاثة، وقول القائل : هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل «هو واحد» ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ؛ يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّ وجلّ(٢) . انتهى.

قال الصدوق بعد ذكر هذا الحديث : سمعت من أثق بدينه ومعرفته

__________________

(١) انظر : بحار الأنوار ٣ : ٢٢١.

(٢) بحار الأنوار ٣ : ٢٠٦، التوحيد : ٨٣.

٤٤٩

باللغة والكلام يقول : إنّ قول القائل واحد واثنان وثلاثة إلى آخره، إنّما وضع في أصل اللغة للإبانة عن كمّيّة ما يقال عليه، لا لأنّ له مسمّى يتسمّى به بعينه، أو لأنّ له معنى سوى ما يتعلّمه الإنسان لمعرفة الحساب ويدور عليه عقد الأصابع عند ضبط الآحاد والعشرات والمئين والألوف، ولذا متى أراد مريد أن يخبر غيره عن كمّيّة شيء بعينه سمّاه باسمه الأخصّ، ثمّ قرن لفظ الواحد به وعلّقه عليه يدلّ به على كمّيّته لا على ما عدا ذلك من أوصافه، ومن أجله يقول القائل : «درهم واحد» وإنّما يعني به أنّه درهم فقط، وقد يكون الدرهم درهما بالوزن ودرهما بالضرب، فإذا أراد المخبر أن يخبر عن وزنه قال : «درهم واحد بالوزن» وإذا أراد أن يخبر عن عدده وضربه قال : «درهم واحد بالعدد» و «درهم واحد بالضرب» وعلى هذا الأصل يقول القائل : «هو رجل واحد» وقد يكون الرجل واحدا بمعنى أنّه إنسان، وليس بإنسانين، ورجل ليس برجلين، وشخص، ليس بشخصين، ويكون واحدا في الفضل، وواحدا في العلم، وواحدا في السخاء، وواحدا في الشجاعة، فإذا أراد القائل أن يخبر عن كمّيّته قال : «هو رجل واحد» فدلّ ذلك من قوله على أنّه رجل وليس هو برجلين، وإذا أراد القائل أن يخبر عن فضله قال : «هذا واحد عصره» فدلّ ذلك على أنّه لا ثاني له في الفضل، وإذا أراد أن يدلّ على علمه قال : «إنّه واحد في علمه» فلو دلّ قوله «واحد» بمجرّده على الفضل والعلم كما دلّ بمجرّده على الكمّيّة لكان كلّ من أطلق عليه لفظة واحدة أراد فاضلا لا ثاني له في فضله، وعالما لا ثاني له في علمه، وجوادا لا ثاني له في جوده.

فلمّا لم يكن كذلك صحّ أنّه بمجرّده لا يدلّ إلّا على كمّيّة الشيء دون

٤٥٠

غيره ولم يكن لما أضيف إليه من قول القائل : «واحد عصره ودهره» معنى، ولا كان لتقييده بالعلم والشجاعة معنى، لأنّه كان يدلّ بغير تلك الزيادة وبغير ذلك التقييد على غاية الفضل وغاية العلم والشجاعة، فلمّا احتيج معه إلى زيادة لفظ واحتيج إلى تقييده بشيء صحّ ما قلناه.

فقد تقرّر أنّ لفظ القائل «واحد» إذا قيل على الشيء دل بمجرّده على كمّيّته في اسمه الأخصّ، ويدلّ بما يقترن به على فضل المقول عليه، وعلى كماله، وعلى توحّده بفضله وعلمه وجوده، وتبيّن «أنّ الدرهم الواحد» قد يكون درهما واحدا بالوزن، ودرهما واحدا بالعدد، ودرهما واحدا بالضرب، وقد يكون بالوزن درهمين وبالضرب درهما واحدا، وقد يكون بالدوانيق ستّة دوانيق، وبالفلوس ستّين فلسا ويكون بالأجزاء كثيرا، وكذلك يكون العبد عبدا واحدا ولا يكون عبدين بوجه، ويكون شخصا واحدا ولا يكون شخصين بوجه، ويكون أجزاء كثيرة وأبعاضا كثيرة، وكلّ بعض من أبعاضه يكون جواهر كثيرة متّحد بعضها ببعض، وتركّب بعضها مع بعض، ولا يكون العبد واحدا وإن كان كلّ واحد منّا في نفسه إنّما هو عبد واحد، وإنّما لم يكن العبد واحدا لأنّه ما من عبد إلّا وله مثل في الوجود، أو في المقدور.

وإنّما صحّ أن يكون للعبد مثل لأنّه لم يتوحّد بأوصافه الّتي من أجلها صار عبدا مملوكا، ووجب لذلك أن يكون الله عزّ وجلّ متوحّدا بأوصافه العلى، وأسمائه الحسنى، ليكون إلها واحدا، فلا يكون له مثل، ويكون واحدا لا شريك له ولا إله غيره، فالله تبارك وتعالى واحد لا إله إلّا هو، قديم

٤٥١

واحد لا قديم إلّا هو، وموجود واحد ليس بحالّ ولا محلّ ولا موجود كذلك إلّا هو، وشيء واحد لا يجانسه شيء، ولا يشاكله شيء، ولا يشبهه شيء، ولا شيء كذلك إلّا هو، فهو كذلك موجود وغير منقسم في الوجود ولا في الوهم، وشيء لا يشبهه شيء بوجه، وإله لا إله غيره بوجه، وصار قولنا «يا واحد يا أحد» في الشريعة اسما خاصّا له دون غيره لا يسمّى به إلّا هو عزّ وجلّ ؛ كما أنّ قولنا «الله» اسم لا يسمّى به غيره(١) . انتهى كلامه رفع في المقام جنانه.

الآية الثالثة :

( اللهُ الصَّمَدُ ) أقام الظاهر مقام الضمير لئلّا يتوهّم رجوعه إلى «أحد».

وعرّف «الصمد» دون «أحد» قيل : «لعلمهم بصمديّته دون أحديّته».

وأخلى هذه الجملة عن «الواو» الدالّة على المغايرة للإشارة إلى أنّ من كان إلها أحديّ الذات جامعا لكمال الصفات ينبغي أن يصمد إليه في جميع الحاجات، فتكون هذه الجملة بمنزلة النتيجة للجملة السابقة.

وإنّما كرّر الجلالة قيل : «للإشعار بأنّ من لم يتّصف بالصمدانيّة لم يستحقّ الألوهيّة» ويحتمل العكس.

وإفادة الجملة للحصر أيضا جليّة.

[ما هو تفسير الصمد؟]

وكيف كان فقد اختلفت كلمتهم في تفسير «الصمد» على وجوه كثيرة :

__________________

(١) التوحيد : ٨٤ ـ ٨٦.

٤٥٢

منها : ما في تفسير الإمام جعفر الصادق عليه السلام من أنّه الّذي قد انتهى إليه السؤدد، والّذي يصمد أهل السماوات والأرض لحوائجهم إليه ؛ أي يقصد.

وفي الكشّاف : «الصمد» فعل بمعنى مفعول، من «صمد إليه» إذا قصده، وهو السيّد المصمود إليه في الحوائج. قال : والمعنى هو الله الّذي تعرفونه وتقرّون بأنّه خالق السماوات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحّد بالإلهيّة لا يشارك فيها، وهو الّذي يصمد إليه كلّ مخلوق لا يستغنون عنه وهو الغنيّ عنهم(١) . انتهى.

ومنها : ما في التوحيد عن الباقر عليه السلام قال : حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن عليّ عليهم السلام قال : «الصمد» الّذي لا جوف له، والصمد الّذي قد انتهى سؤدده، و «الصمد» الّذي لا يأكل ولا يشرب، و «الصمد» الّذي لا ينام، و «الصمد» الدائم الّذي لم يزل ولا يزال(٢) .

ومنها : ما روي عن محمّد بن الحنفيّة أنّه كان يقول : «الصمد» القائم بنفسه، الغنيّ عن غيره(٣) .

وإليه يرجع ما قيل : من أنّه السند المطلق المصمود إليه، الّذي يقصد إليه في جميع الحوائج، ويفتقر إليه كلّ شيء، فهو مؤثّر لا سواه كما قال تعالى( وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ) (٤) .

__________________

(١) الكشّاف ٤ : ٨١٨.

(٢ و ٣) التوحيد : ٩٠، بحار الأنوار ٣ : ٢٢٣.

(٤) محمّد صلّى الله عليه وآله : ٣٨.

٤٥٣

ومنها : ما روي عن عليّ بن الحسين عليهما السلام من أنّ «الصمد» الّذي لا شريك له ولا يؤوده حفظ شيء، ولا يعزب عنه شيء(١) .

ومنها : ما روي عن زيد بن عليّ عليه السلام من أنّه الّذي إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون، قال : و «الصمد» الّذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا، وتفرّد بالوحدة بلا ضدّ ولا شكل ولا مثل ولا ندّ(٢) .

وتأويلها ما حكي عن بعضهم من أنّه المتعالي عن الكون والفساد، وأنّه الّذي لا يوصف بالتغاير.

ومنها : ما روي من أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ عليه السلام يسألونه عن «الصمد» فكتب إليهم( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، وإنّ الله سبحانه قد فسّر «الصمد» فقال :( اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ) ثم فسّره فقال :( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) (٣) إلى آخره. انتهى.

ومنها : ما روي عن الصادق عليه السلام من أنّه قدم وفد من أهل فلسطين على الباقر عليه السلام فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثم سألوه عن «الصمد» فقال : تفسيره فيه، «الصمد» خمسة أحرف : فالألف دليل على إنّيّته

__________________

(١ و ٢) التوحيد : ٩٠، بحار الأنوار ٣ : ٢٢٣.

(٣) التوحيد : ٩٠ ـ ٩١، بحار الأنوار ٣ : ٢٢٣.

٤٥٤

وهو قوله عزّ وجلّ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) (١) وذلك تنبيه وإشارة إلى الغائب عن درك الحواسّ، و «اللّام» دليل على إلهيّته بأنّه هو الله، و «الألف» و «اللّام» مدغمان لا يظهران على اللسان، ولا يقعان في السمع، ويظهران في الكتابة، دليلان على أنّ إلهيّته لطيفة(٢) خافية لا تدرك بالحواسّ، ولا تقع في لسان واصف، ولا اذن سامع، لأنّ تفسير «الإله» هو الّذي أله الخلق عن درك ماهيّته وكيفيّته بحسّ أو بوهم، لا بل هو مبدع الأوهام، وخالق الحواسّ، وإنّما يظهر ذلك عند الكتابة دليل على أنّ الله سبحانه أظهر ربوبيّته في إبداع الخلق وتركيب أرواحهم اللطيفة في أجسادهم الكثيفة، فإذا نظر عبد إلى نفسه لم ير روحه كما أنّ «لام» «الصمد» لا تتبيّن ولا تدخل في حاسّة من حواسّه الخمس، فإذا نظر إلى الكتابة ظهر [له] ما خفي ولطف، فمتى تفكّر العبد في ماهيّة الباري وكيفيّته، أله فيه وتحيّر ولم تحط فكرته بشيء يتصوّر له، لأنّه خالق الصور، فإذا نظر إلى خلقه ثبت له أنّه عزّ وجلّ خالقهم ومركّب أرواحهم في أجسادهم.

وأمّا «الصاد» فدليل على أنّه عزّ وجلّ صادق وقوله صدق، وكلامه صدق، ودعا عباده إلى اتّباع الصدق بالصدق، ووعد بالصدق دار الصدق.

وأمّا «الميم» فدليل على ملكه وأنّه الملك الحقّ لم يزل ولا يزال ولا يزول ملكه.

__________________

(١) آل عمران : ١٨.

(٢) في المصدر : بلطفه.

٤٥٥

وأمّا «الدال» فدليل على دوام ملكه وأنّه عزّ وجلّ دائم تعالى(١) عن الكون والزوال ؛ بل هو عزّ وجلّ مكوّن الكائنات، الّذي كان بتكوينه كلّ كائن.

ثمّ قال عليه السلام : لو وجدت لعلمي الّذي آتاني الله عزّ وجلّ حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع من «الصمد»، وكيف لي بذلك ولم يجد جدّي أمير المؤمنين عليه السلام حملة لعلمه حتّى كان يتنفّس الصعداء ويقول على المنبر «سلوني قبل أن تفقدوني» فإنّ بين الجوانح منّي علما جمّا، هاه هاه، ألا لا أجد من يحمله، ألا وإنّي عليكم من الله الحجّة البالغة فلا تتولّوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور.

ثمّ قال الباقر عليه السلام : الحمد لله الّذي منّ علينا ووفّقنا لعبادته، الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وجنّبنا عبادة الأوثان حمدا سرمدا، وشكرا واصبا، وقوله عزّ وجلّ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) يقول :( لَمْ يَلِدْ ) عزّ وجلّ فيكون له ولد يرثه في ملكه، و( لَمْ يُولَدْ ) فيكون له والد يشركه في ربوبيّته وملكه و( لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) فيعازه في سلطانه(٢) . انتهى.

وقد روى هذا الحديث الصدوق في التوحيد عن وهب بن وهب القرشيّ، عن الصادق عليه السلام قال : [إلى آخر الرواية].

قوله عليه السلام «دليل على إنّيّته» ؛ أي إشارة إلى مقام حقيقته وأحديّته

__________________

(١) في بعض النسخ : متعال.

(٢) انظر : التوحيد : ٩٢ ـ ٩٣، بحار الأنوار ٣ : ٢٢٤.

٤٥٦

الذاتيّة الّتي لا اسم ولا رسم ولا صفة فيها، فإنّه تعالى في هذا المقام هو هو ولا حاكي له بـ «أنا» إلّا هو، فإنّ المحكيّ عنه بـ «أنا» هو ما به هو هو، فهو في هذا المقام عين وجوده الخاصّ الّذي به موجوديّته، وهو غير الوجود الكلّيّ المشترك في مفهومه جميع الموجودات، فإنّه غير الذات وزائد عليه، وإلّا لزم كونه تعالى عين جميع الأشياء، وهو باطل عندنا بالضرورة.

وبالجملة : هو صرف الوجود لا مهيّة له ؛ بل ماهيّته هي إنّيّته الّتي هي عين الوحدة الحقّة والهويّة الشخصيّة على ما صرّح به بعض الأجلّة، وإلّا لزم كونه معلولا، وهو باطل.

قوله عليه السلام «دليل على إلهيّته» ؛ أي إشارة إلى مقام جامعيّته للأسماء والصفات.

الآية الرابعة :

( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) فإنّ الوصفين من صفات الأجسام، وهو منزّه عنها.

وفي التفسير الصادقيّ :( لَمْ يَلِدْ ) منه عزير كما قالت اليهود لعنهم الله، ولا «المسيح» كما قالت النصارى سخط الله عليهم، ولا «الشمس» ولا «القمر» ولا «النجوم» كما قالت المجوس لعنهم الله، ولا «الملائكة» كما قال مشركو العرب.

( وَلَمْ يُولَدْ ) ؛ أي لم يكن [في] الأصلاب، ولم تضمّنه الأرحام، لا من شيء كان، ولا من شيء خلق ما كان. انتهى.

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام : الحمد لله الّذي لا يموت،

٤٥٧

ولا تنقضي عجائبه، لأنّه كلّ يوم [هو] في شأن، من إحداث بديع لم يكن، الّذي لم يلد فيكون في العزّ مشاركا، ولم يولد فيكون موروثا هالكا(١) ، ولم تقع عليه الأوهام فتقدّره شبحا ماثلا، ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا، الّذي ليست في أوّليّته نهاية، ولا لآخريّته(٢) حدّ ولا غاية إلى آخره(٣) .

وفي رواية عن عليّ بن الحسين عليهما السلام :( لَمْ يَلِدْ ) لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين، ولا شيء لطيف كالنفس، ولا تنشعب منه البدوات كالسنة، والنوم، والخطرة، والهمّ، والحزن، والبهجة، والضحك، والبكاء، والخوف، والرجاء، والرغبة، والسآمة، والجوع، والشبع ؛ تعالى عن أن يخرج منه شيء، وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف.

و( لَمْ يُولَدْ ) لم يتولّد من شيء، ولم يخرج من شيء ؛ كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشيء من الشيء، والدابّة من الدابّة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء من الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين، والسمع من الأذن، [والشمّ من الأنف]، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنار من الحجر، لا بل هو الله الصمد الّذي لا من شيء، ولا في

__________________

(١) في البحار : «لم يولد فيكون في العزّ مشاركا، ولم يلد فيكون مورثا هالكا» ٤ : ٢٦٥.

(٢) في النسخة الحجريّة : في آخريّته.

(٣) الكافي ١ : ١٤١.

٤٥٨

شيء، ولا على شيء، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم الله الصمد الّذي لم يلد، ولم يولد، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال، لم يكن له كفوا أحد(١) . انتهى.

وفيه دلالة واضحة على أنّ المراد بالولادة هو خروج شيء عن آخر مطلقا، وامتناعها على الله، لإيجابها التغيير والحدوث، تعالى [الله] عن ذلك علوّا كبيرا.

وفي رواية وهب المتقدّمة(٢) يقول :( لَمْ يَلِدْ ) عزّ وجلّ فيكون له ولد يرثه ملكه( وَلَمْ يُولَدْ ) فيكون له والد يشركه في ربوبيّته وملكه إلى آخره.

وفي رواية يعقوب السرّاج قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إنّ بعض أصحابنا يزعم أنّ لله صورة مثل الإنسان، وقال آخر : إنّه في صورة أمرد جعد قطط، فخرّ أبو عبد الله ساجدا ثمّ رفع رأسه فقال : سبحان الله الّذي ليس كمثله شيء، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به علم،( لَمْ يَلِدْ ) لأنّ الولد يشبه أباه،( وَلَمْ يُولَدْ ) فيشبه من كان قبله( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ) من خلقه( كُفُواً أَحَدٌ ) تعالى عن صفته من سواه علوّا كبيرا(٣) . انتهى.

وفي الكشّاف :( لَمْ يَلِدْ ) لأنّه لا يجانس حتّى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا وقد دلّ على ذلك المعنى بقوله تعالى( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٢٢٣، مجمع البيان ٥ : ٨٦١.

(٢) أي في رواية وهب بن وهب القرشيّ. بحار الأنوار ٣ : ٢٢٤، التوحيد : ٩٢.

(٣) التوحيد : ١٠٣، بحار الأنوار ٣ : ٣٠٤.

٤٥٩

تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ ) (١) ( وَلَمْ يُولَدْ ) لأنّ كلّ مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس بجسم(٢) . انتهى.

وفي أنوار التنزيل للبيضاويّ :( لَمْ يَلِدْ ) لأنّه لم يجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه. ولعلّ الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردّا على من قال : الملائكة بنات الله، أو المسيح ابن الله، أو ليطابق قوله( وَلَمْ يُولَدْ ) وذلك لأنّه لا يفتقر إلى شيء، ولا يسبقه عدم(٣) . انتهى.

والظاهر أنّ وجه الاقتصار أنّ العلّيّة في عدم الولادة سابقا جارية فيما بعد وهي امتناع التغيير والحدوث عليه، وقد ردّ الله على قريش في قولهم : إنّ الملائكة بنات الله، وإنّه صاهر الجنّ فخرجت الملائكة بقوله تعالى في سورة الصافّات :( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٤) .

وقد حكى عن الجنّ أنّهم قالوا : إنّه( مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ) (٥) .

__________________

(١) الأنعام، ١٠١.

(٢) الكشّاف ٤ : ٨١٨.

(٣) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ٢ : ٦٣١.

(٤) الصافّات : ١٤٩ ـ ١٥٩.

(٥) الجنّ : ٣.

٤٦٠