تفسير ست سور

تفسير ست سور0%

تفسير ست سور مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 481

تفسير ست سور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله حبيب الله الشريف الكاشانيّ (قدس سره)
تصنيف: الصفحات: 481
المشاهدات: 58327
تحميل: 5179

توضيحات:

تفسير ست سور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 481 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 58327 / تحميل: 5179
الحجم الحجم الحجم
تفسير ست سور

تفسير ست سور

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والمشهور أنّه بمعنى يوم الجزاء، وهو قريب من الأوّل، يقال :

«كما تدين تدان» أي كما تجزي تجزى، ويقال : «الحقّ ديّان» أي يجزي العباد بأعمالهم إلى آخره.

ويؤيّده قوله تعالى :( الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) (١) و( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٢) .

ونقل الطبرسيّ عن الجبّائيّ أنّه تعالى أراد به يوم الجزاء على الدين.

وعن محمّد بن كعب أنّه أراد منه يوم لا ينفع إلّا الدين. فتأمّل.

وبالجملة : هذا اليوم يوم لا ينفع مال ولا بنون، ويوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وفصيلته الّتي تؤويه، ويوم يقوم الأنبياء حيارى وهم بأنفسهم خائفون، وعند الميزان قائمون، فويل لنا وواها منّا، كيف لا نتذكّر يوم تبلى السرائر، وتهتك الأستار.

وفي «مصباح الشريعة» : لو لم يكن للحساب مهولة إلّا حياء العرض على الله وفضيحة هتك الستر على المخفيّات لحقّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوي إلى عمران، ولا يأكل ولا يشرب ولا ينام عن اضطراب متّصل بالتلف(٣) .

وفيه عن أبي ذرّ رحمه الله : ذكر الجنّة موت، وذكر النار موت، فواعجبا لنفس تحيا بين موتين.

__________________

(١) غافر : ١٧.

(٢) الجاثية : ٢٨.

(٣) مصباح الشريعة : ٨٥.

٨١

وفيه : إنّ يحيى بن زكريّا كان يفكّر في طول الليل من أمر الجنّة والنار فيسهر ليلته ولا يأخذه النوم، ثمّ يقول عند الصباح : أللّهمَّ أين المفرّ وأين المستقرّ، أللّهمّ إليك(١) إلى آخره.

والأخبار في كيفيّة يوم الحساب والجزاء متكاثرة.

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٨٥.

٨٢

الفصل الخامس

في تفسير قوله تعالى( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )

فنقول : لو قدّرنا في أوّل السورة «قولوا يا عبادي» ففي هذا الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب بخلاف ما لو قدّرناه هنا خاصّة، ولكن يدلّ على الأوّل ما رواه الإمام أبو محمّد الحسن العسكريّ عليه السلام في تفسيره عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : لقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : قال الله : قسمت الحمد بيني وبين عبدي، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل،إذا قال العبد :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال الله عزّ وجلّ : بدأ عبدي باسمي، حقّ عليّ أن أتمّم له أموره، وأبارك له في أحواله.

فإذا قال :( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) قال الله : حمدني عبدي وعلم أنّ النّعم الّتي له من عندي، وأنّ البلايا الّتي اندفعت عنه فبطولي، أشهدكم يا ملائكتي أنّي أضيف له نعم الدنيا إلى نعيم الآخرة، وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

وإذا قال :( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال الله : شهد لي عبدي بأنّي «الرحمن الرحيم» أشهدكم لأوفّرنّ من رحمتي حظّه، ولأجزلنّ من عطائي نصيبه.

فإذا قال( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قال الله : أشهدكم كما اعترف بأنّي أنا الملك

٨٣

يوم الدين لاسهّلنّ يوم الحساب عليه حسابه، ولاثقلنّ حسناته، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فإذا قال العبد :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) قال الله : صدق عبدي إيّاي يعبد، أشهدكم لاثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي.

فإذا قال :( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) قال الله : بي استعان عبدي وإليّ التجأ، أشهدكم لأعيننّه في أمره ولاغيثنّه في شدائده، ولآخذنّ بيده يوم نوائبه.

فإذا قال :( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وأمنته ممّا منه وجل(١) . انتهى.

ولا ينافيه ما في هذا التفسير من تخصيص هذا الكلام بهذا التقدير حيث قال عند ذكره قال الله : قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) أيّها المنعم علينا، نطيعك مخلصين مع التذلّل والخضوع بلا رياء ولا سمعة إلى آخره. والوجه ظاهر للمتأمّل.

وليس في قوله( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) (٢) ومابعده التفات لجريان الكلام على أسلوبه المتعارف.

والمراد بالالتفات على اصطلاح جمهور أرباب المعاني هو التعبير عن معنى بطريق من المتكلّم والخطاب والغيبة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها بشرط أن يكون التعبير الثاني على خلاف مقتضى الظاهر.

وعن السكاكيّ أنّه عبارة عن العدول عن مقتضى الظاهر مطلقا سواء عبّر

__________________

(١) تفسير الإمام العسكريّ : ٥٨.

(٢) تفسير الإمام العسكريّ : ٣٩، مجموعة ورّام ٢ : ٩٥.

٨٤

عنه بطريق آخر غير التعبير السابق أو لم يعبّر، وفائدة الالتفات هو التفنّن في التعبير وزيادة التمكّن والتقوية وغير ذلك.

ولعلّ النكتة في المقام ترقّي القاري عن الغيب إلى الشهود والعيان، بمعنى أنّه في مقام كأنّه يرى الله، فإنّه إن لم يكن يراه فهو تعالى يراه ؛ كما ورد في الحديث : اعبد الله كأنّك تراه إلى آخره.

و( إِيَّاكَ ) بمجموعه ضمير على قول، و «إيّا» خاصّة ضمير واللواحق حروف زيدت لبيان الحال على قول آخر، وإنّما قدّم لإفادة القصر والاختصاص كما في تقديم كلّ ما حقّه التأخير، ففيه إشارة إلى التوحيد في العبادة والبعد عن الرياء الّذي هو شرك كما ورد في جملة من الأخبار.

والعبادة : الذلّة والاستكانة والخضوع الكامل لدى حضرة المبعود، وينبغي للعبد أن يذعن بأنّ الله هو المستحقّ لأن يعبد، لأنّ له العظمة والكبرياء خاصّة لا يشاركه في ذلك أحد من عباده ؛ كما أشار إليه في الحديث القدسيّ، فإذا عبد العبد معترفا بهذا المعنى كانت عبادته عبادة الأحرار لا عبادة العبيد والاجراء ؛ كما في بعض الأخبار.

وفي العدول عن «أعبد» إلى «نعبد» إدراج نفسه في أنفس العابدين، وخلط عبادته بعبادة المخلصين لتقع مقبولة عند ربّ العالمين، لأنّ المتاع المعيب إذا كان في جملة من الأمتعة الصحيحة لا يجوز ردّه إلّا بردّ الجميع، والله عزّ وجلّ أكرم من أن يردّ عبادة هؤلاء بعيب عبادة واحد، فلا محالة يقبل الجميع. ومن هنا وردت أخبار كثيرة مرغّبة في صلاة الجماعة، ولا ريب أنّ الرحمة إذا نزلت عمّت.

٨٥
٨٦

الفصل السادس

في تفسير قوله تعالى( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )

وفيه مقالات.

المقالة الاولى : في إعرابه

فنقول : الأظهر أنّ «الواو» عطف على ما سبقه، وقيل : هي للحاليّة أي أعبدك مستعينا بك في عبادتي، والمشهور في اللغات فتح «النون» من «نستعين» والكسر لغة نادرة، وهنا تفاصيل ذكرت في قوله( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) والتكرير موجب للتحيّر، والإعادة لا تجدي زيادة الإفادة.

المقالة الثانية : في معنى الاستعانة، ومجمل من التوكّل والتفويض

فنقول : في قوله( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إشارة إلى أنّه لا ينبغي للعبد أن يستعين ويطلب الظهير في الحوائج الدينيّة والدنيويّة عن غير الحقّ تعالى، بل عليه أن يقتصر استعانته بالله، ويفتقر إلى مدده ومعاونته، ويستغني بذلك عن غيره تعالى، بل ينبغي عليه أن لا يرى لنفسه حولا عن المعصية ولا قوّة على الطاعة إلّا بمدده تعالى.

٨٧

فعليك بالتوكّل وتفويض أمورك وحوائجك بالله من غير التفات إلى غيره وعدم رؤية الغير مستحقّا لأن يطلب منه قضاء الحوائج، بل علم أنّ الكلّ مفتقر محتاج وهو الغنيّ الّذي لا يفتقر أبدا، فاعتصم بحبل الله وتمسّك بعروته الوثقى ؛ إذ المتمسّك بها هو المنجي والمعتصم بغيرها من الغرقى. ألا من وكّل حوائجه إلى الله يقضيها بنفسه ولا يكلها إلى غيره ويكفل لرزقه وأمره.

ويؤيّد ذلك ما في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال : أوحى الله تعالى إلى داوود : ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السماوات والأرض ومن فيهنّ إلّا جعلت له المخرج من بينهنّ، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته إلّا قطعت أسباب السماوات والأرض من بين يديه وأسخت من تحته ولم أبال بأيّ واد تهالك(١) .

وفي «مصباح الشريعة» : المفوّض أمره إلى الله في راحة الأبد والعيش الدائم الرغد، والمفوّض حقّا هو العالي عن كلّ همّة دون الله، كقول أمير المؤمنين :

رضيت بما قسم الله لي

وفوّضت أمري إلى خالقي

كما أحسن الله فيما مضى

كذلك يحسن فيما بقي(٢)

__________________

(١) الكافي ٢ : ٦٣، فقه الرضا : ٣٥٨، مشكاة الأنوار : ١٦.

(٢) مصباح الشريعة : ١٧٥.

٨٨

المقالة الثالثة : في مجمل من الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين

على طريق الإجمال

فنقول : قد اختلفت الامّة في ذلك على أقوال :

الأوّل : إنّ الله قد أجبر عباده في أفعالهم، فهو خالقها ؛ لقوله تعالى :( اللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ) (١) فليس للعبد فيها قدرة، بل هو كالآلة يصيّرها القادر حيث شاء. وذهب إلى ذلك القول بعض الصوفيّة، وأثبت بذلك التوحيد الفعليّ وقال : وكلّ الّذي شاهدته فعل واحد ولا فاعل سواه وكلّ من عنده.

گر رنج به پشت آيد گر راحت اى حكيم

نسبت مكن به غير كه اينها خدا كند

وتسمّى تلك الفرقة بـ «الجبريّة» أيضا.

الثاني : إنّ الفعل صادر عن العبد من غير مدد من الله، بل هو مفوّض إليه وليس للحقّ في فعله قدرة أصلا، وتسمّى تلك الفرقة بـ «القدريّة» و «المفوّضة» وهم مجوس هذه الامّة ؛ ولعنت على لسان سبعين نبيّا.

الثالث : إنّ العمل صادر عن العبد مع الخذلان في المعصية عن الله والمعونة في الطاعة، وذلك معنى «الأمر بين الأمرين» وهو الحسنة الّتي بين السيّئتين، وفي قوله تعالى :( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) إشارة إلى ذلك، لأنّ معناه : إنّي أعبدك مستعينا منك في الطاعة، ومستمدّا منك في العبادة. وفي هذا المقام تفاصيل كثيرة لا يسعها المقام، ونحن ذكرنا بعضها في «أسرار العارفين» و «شمس المشارق» فارجع إليهما.

__________________

(١) الصافات : ٩٦.

٨٩
٩٠

الفصل السابع

في تفسير قوله تعالى( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ )

وفيه مقالات.

المقالة الاولى : في إعرابه وما يتعلّق بذلك

فنقول : قوله( اهْدِنَا ) جملة مستأنفة ويحتمل تعلّقها بما قبله، أي أعبدك رجاء لهدايتك إيّانا إلى الصراط المستقيم والنهج القويم، و «الصراط» على ما يفهم من كلمات اللغويّين والمفسّرين أصله «السراط» بالسين، فابدل صادا للتناسب مع الطاء ؛ إذ هما عن المستعلية السبعة، والقراءة بالسين أيضا جائز مراعاة للأصل. قال الشاعر :

فصدّ عن نهج السراط القاصد

المقالة الثانية : في معنى الهداية وما يتعلّق بذلك

فنقول : الهداية كالدلالة مصدر من «هديته» ولها معان :

منها : الدلالة والإرشاد، يقال : هو هاد أي دالّ مرشد، ويقال : اهدنا أي

٩١

أرشدنا ودلّنا، قال الله تعالى :( أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ ) (١) يعني أدلّك و( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) (٢) أي دليلا لهم.

ومنها : الثبوت وعدم الزلّة والخطأ في الطريق، يقال : اهدنا أي ثبّتنا، قال الله :( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٣) أي لنثبّتنّهم.

ومنها : الثواب، قال الله :( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) (٤) أي يثيبهم.

فائدة :

اختلفوا في الهداية على أقاويل، فقيل : إنّها هي الموصلة إلى المطلوب من غير واسطة، وقيل : هي إراءة الطريق مطلقا.

وقيل : هي للأوّل إن تعدّت بالنفس كـ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) وللثاني إن تعدّت بـ «اللام» كقوله تعالى :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا ) (٥) إلى آخره، وإمّا بـ «إلى» كقوله :( اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ) (٦) .

والأظهر عندي أنّ الهداية هي مطلق الإرشاد ؛ كما اختاره صاحب «المفتاح» أيضا، فهي مشتركة بين المعنيين تستعمل فيهما لا في الأوّل دائما، لانتقاضه بنحو قوله تعالى :( فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (٧) ولا في الثاني

__________________

(١) النازعات : ١٩.

(٢) البقرة : ٢.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) يونس : ٩.

(٥) الأعراف : ٤٣.

(٦) ص : ٢٢.

(٧) فصّلت : ١٧.

٩٢

كذلك، لانتقاضه بقوله :( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) (١) ولا في الأوّل عند التعدّي بالنفس وفي الثاني عند التعدّي بالغير، لانتقاضه بقوله :( هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (٢) . فليتأمّل.

المقالة الثالثة : في معنى( الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ )

فنقول : قد اختلفوا في ذلك، فقيل : هو «عليّ بن أبي طالب عليه السلام» أي أرشدنا إلى ولايته عليه السلام لننجى، والأخبار الكثيرة دالّات على ذلك.

وقيل : الطريق الواضح المتّسع.

وقيل : هو «الدين الحقّ» المحتوي لجميع ما أمر الله به من التوحيد ولوازمه.

وقيل : هو «الإسلام» فتأمّل.

وقيل : هو «القرآن».

وقيل : هو «النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأولاده عليهم السلام».

والأظهر أنّ المراد به ما فسّره في قوله :( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ ) إلى آخره، أي اهدنا صراط الأنبياء والصدّيقين من التوحيد والإخلاص وغير ذلك، فإنّهم على الصراط المستقيم والسبيل القويم.

ويؤيّد ذلك : ما روي من : أنّ لله صراطين : صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فمن قام بالأوّل يقوم بالثاني، ومن عدل عنه يعدل عنه(٣) .

__________________

(١) القصص : ٥٦.

(٢) الإنسان : ٣.

(٣) معاني الأخبار : ٣٢.

٩٣
٩٤

الفصل الثامن

في تفسير قوله تعالى( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

وفيه مقالتان.

المقالة الأولى : في ما يتعلّق بإعرابه

فنقول : وقوله( صِراطَ الَّذِينَ ) منصوب إمّا على الصفتيّة «للصراط المستقيم» وإمّا على البدليّة له بدل المطابق، والأوّل عندي أوجه، لعدم لزوم السقوط والتكرار فيه بخلاف الثاني. فليتأمّل.

و( الَّذِينَ ) مجرور بإضافة «صراط» إليه وهو من الموصولات الاسميّة العامّة المشتركة، والصلة «أنعمت» و «عليهم» عائدة يعني يرجع ضميره إليه.

وفيه قراءات نقلها الطبرسيّ رحمه الله :

الاولى ـ وهو المشهور ـ : كسر «الهاء» وسكون الميم.

والثانية : ضمّها كذلك، وهو المرويّ عن حمزة، بل نقل عن يعقوب ضمّ كلّ هاء قبلها ياء ساكنة في التثنية والجمع.

والثالثة : كسر «الهاء» مع ضمّ «الميم».

٩٥

والرابعة : ضمّهما.

والخامسة : ضمّ «الهاء» وإشباع «الميم» مضمومة، فيقال : عليهموا.

والسادسة : كسر «الهاء» وإشباع «الميم» مكسورة، فيقال : عليهمي.

وقوله :( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ) إلى آخره، لفظة غير مجرورة على القراءة المشهورة، وذكروا في جرّها وجوها :

منها : البدليّة لمجرور «على» في «عليهم».

ومنها : البدليّة «للذين».

ومنها : الوصفيّة «للذين» اختار ذلك السرّاج والزجّاج، وأورد عليهما بأنّ «غير» و «مثل» و «شبه» نكرات دائما وإن أضيفت إلى المعرفة أيضا، لتوغّلها في الإبهام.

وأجاب عن ذلك الزجّاج بأنّ «الذين» ليست معرفة حقيقيّة تامّة، بل هي كالنكرات المعرّفة كالرجل والفرس فإتيان وصفه بـ «غير» غير مضرّ، كما أتى الجملة وصفا للنكرة المعرّفة في قوله :

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

والحاصل : أنّه يجوز توصيف كلّ نكرة عرّفت بـ «غير»، ولا يجوز توصيف المعرفة الأصليّة كالأعلام به.

أقول : وهذا الجواب لا يخلو من تكلّف، والأحسن ما قاله السرّاج وتبعه الأكثر، وهو أنّ العلّة في عدم كسب «الغير» للتعريف عند الإضافة إنّما هي للتوغّل في الإبهام وتكثير العموم ؛ إذ قولك «مررت بغيرك» يشمل كلّ ما سوى المخاطب من أصناف المخلوقات ؛ إذ الأغيار كثيرة، فالإبهام يزيد

٩٦

بذلك ولا يتعيّن «الغير» فلا يعرّف، لكن إذا أزيل الإبهام وقلّ العموم فالاشتراك يتعرّف قطعا ؛ إذ العلّة في عدم الكسب المذكور مفقودة هنا.

وتفصيل ذلك : إنّ «الغير» إذا أضيفت إلى شيء لم يكن له إلّا ضدّ واحد، فاريد من ذلك نفي الضدّ وإثبات الشيء يعرّف بالإضافة كما في قولك الحركة غير السكون ؛ إذ ضدّ السكون هو الحركة فقط لا غيرها، فاكتسب التعريف، فيجوز أن يقال «غير المغضوب» صفة «للّذين» إذ «غير المغضوب عليهم» هم الّذين أنعم الله عليهم و «المغضوب عليهم» ضدّ «للّذين» إلى آخره، وليس له ضدّ آخر، فليتأمّل.

وقد قرئ «غير المغضوب» بالنصب على كونه حالا لـ «عليهم» أو مفعولا لـ «أمدح» أو «أعني» أو على انقطاع الاستثناء.

وقوله( وَلَا الضَّالِّينَ ) عطف على ما سبق، و «لا» بمعنى «غير» على ما قاله الكوفيّون، ويؤيّده قراءة عليّ عليه السلام «غير الضالّين» وقيل : «لا» زائدة. فتأمّل.

المقالة الثانية : في معنى الفقرة

فنقول : المراد بقوله( أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) هم النبيّون والصالحون والشهداء والصدّيقون، ويؤيّده قوله تعالى :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ) (١) إلى آخره، والمراد من( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) هم اليهود لقوله تعالى :( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ

__________________

(١) النساء : ٦٩.

٩٧

عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ) (١) إلى آخرها، والمراد من( الضَّالِّينَ ) هم النصارى لقوله تعالى :( وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ ) (٢) .

وقيل : المراد بـ «المغضوب عليهم والضالّين» جميع الكفّار من جميع الفرق من دون تخصيص بطائفة دون اخرى، وكذلك المراد من قوله «الّذين أنعمت عليهم» كذلك جميع المؤمنين بالكتب السماويّة، واختار ذلك الجرجانيّ على ما نقل عنه الطبرسيّ رحمه الله ؛ حيث قال : حقّ اللفظ فيه أن يخرج مخرج الجنس، كما تقول نعوذ بالله أن يكون حالنا حال المغضوب عليهم، فإنّك لا تقصد بذلك قوما بأعيانهم قد اختصّوا بذلك.

والحمد لله أوّلا وآخرا. قد فرغ من تأليفه مؤلّفه قبل زمان بلوغه.

__________________

(١) المائدة : ٦٠.

(٢) المائدة : ٧٧.

٩٨

تفسير

سورة الفتح

٩٩
١٠٠