ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 117635
تحميل: 5803


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117635 / تحميل: 5803
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكان عمر قول: تعجبون من دهاء هِرَقْل وكسرى وتَدَعُونَ معاوية!(1) .

ولأجل العلاقة الخاصّة بين الخليفة والبيت الأُمويّ وتعيينه ليزيد بن أبي سفيان أرقى المناصب وهي ولاية عموم الشّام وإلحاق الجزيرة بها، وتعزيته أبا سفيان الذي ما صحّ منه إسلام! بوفاة ابنه يزيد، وتعويضه بأدهى خلَف لسلَف مع كَيْل المديح له وما أعقبه من سيرة عثمان بن عفّان على خطى أسلافه وتعدّي الحدود، فما من قطر إلاّ واليه أُمويّ مرواني طريد ...، ممّا طبع تلك الأقطار البعيدة عن نور الرسالة ووجود الأماثل من الصحابة، طبعها بطابع الهوى الأُمويّ الذي عمل على طرح كتاب الله تعالى للبيع في الأسواق! ومنع من تدوين الحديث بأمرٍ من معاوية، فخضع لفتوى السلطان الفاسق حتّى أنّ كثيراً منهم لا يعرف مَن هو عليّ بن أبي طالب!

الخليفة يتوعّد الشورى بمعاوية:

ولمعرفة عمر بحقيقة معاوية وأهل الشام فإنّه كان يتهدّد الآخرين بهم قال محدّث الشام ابن عساكر:

وعن عمر قال ك إيّاكم والفُرقة بعدي، فإنْ فعلتم فاعلموا أنّ معاوية بالشّام وستعلمون إذا وُكِلْتم إلى رأيكم كيف يستبرها دونكم(2) .

ويأخذنا العجب! فالخليفة يتوعّد الصحابة في مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق 25: 19.

(2) مختصر تاريخ دمشق: 25. ويستبرها: يتفرّد بها.

١٢١

يذكّرنا بالّذي كان في السقيفة ولكن هذه المرّة قد أناب مكانه معاوية الطليق اللصيق وأعلى كعبه على كبار الصحابة ليتفرّد بالخلافة؛ وهذا هو التمهيد والتمكين لنفوذ حكم بني أُميّة، فإذا جاء عثمان بسط سلطانهم في كلّ مكان!

ومن قول عمر لأهل الشّورى: إن اختلفتم دخل عليكم معاويةُ بن أبي سفيان من الشام، وبعده عبد الله بن أبي رَبيعة من اليمن، فلا يَريَان لكم فضلاً إلاّ سابقتكم(1) .

عجب لهذا المنطق! متى صار الطليق ابن الطليق المتقلّب في المثالب وممّن سنّ لذوي العاهات مبدأهم، فكان ابن تَيمِيه فاردهم! وابن عبد الوهّاب حاديهم والشيطان سائقهم!!

أقول: متى صار ابن هند؛ وهذا ما يُعرف به أكثر ممّا يُعرف بابن أبي سفيان، شعراً وأدباً، على ألسنة محبّيه ومناوئيه، بل وعلى لسانه هو وسنورد الشواهد المئات على ذلك مع قصّة فيه!؛ متى صار الذي أدخل الله تعالى الإسلامَ بيت أبي سفيان رغم أنفه مع الفتح المبين لمكّة وما صحّ لأبي سفيان وبقي ملعوناً وبنيه على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن صحّ في حقّ معاوية من شيء من الفضائل، فضيلة واحدة هي قول النبيّ لمعاوية: «لا أَشْبَع اللهُ بَطْنَهُ»(2) ، سلطان يخيف به الخليفة

____________________

(1) نفسه. وعبد بن أبي ربيعة بن المـُغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ، عامل عمر على اليمن. (تاريخ خليفة 54، وطبقاته 110).

(2) الاستيعاب 3: 401، وأسد الغابة 5: 210، وتذكرة الخواصّ 182، وأنساب الأشراف 5: 133 - 134، ووفيات الأعيان 1: 59 (ترجمة النسائي).

١٢٢

الصحابة الأوائل ومنهم المبشّرة بالجنّة؟ وهل سلطانه مستمدّ من دار الخلافة الشرعيّة ومركزها مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن شاء الخليفة فيها أقرّه وإن شاء بدّله؟!

وفي أهل الشورى عليّ بن أبي طالب أخو رسول الله ونفسُه في آية المباهلة، وأبو سبطيه الحسن والحسين أبناء رسول الله، أيضاً في آية المباهلة، وزوج بضعته التي هي نساء النبيّ؛ كذلك في آية المباهلة، وهم مطهّرون بصريح القرآن الكريم، وعليّ من النبيّ بمنزلة هارون من موسى؛ وهارون أخو موسى، وعليّ أخو رسول الله بالمؤاخاة التي صنعها النبيّ، وعليّ هتف الوحي باسمه وبسالته إذ جبُن غيره ففرّ من ملاقاة العدوّ فيما تقدّم أبو الحسنين يفلق الهام ويشطر الأبدان، ويوم الأحزاب بُحّ صوت ابن عبد ودّ ولم يكن مجاوباً إلاّ عليّ، وهل غير عليّ لمثل ابن عبد ودّ! فلم يمهله فارس التقوى سليل الشجرة الهاشميّة المباركة أن ضربه ضربةً فلقت البيضة والمغفر وألقت نصفيه جنبيه فهو ميزان عدلٍ لا عيْن فيه.

ولم يكن غير عليّ يصلح لتبليغ براءة، ولم يفرّ يومَ خَيْبر مثلما فعل غيره إذ فرّوا يُجبّن أحدهم الآخر! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لأُعطينّ الرّايةَ غدًا رجلاً يُحبُّ الله ورسولَهُ ويُحبُّه اللهُ ورسولُه كرّارٌ غيرُ فرّار». وكان أميرالمؤمنين عليّ أَرْمد العين فلمّا كان الغد دعا به رسول الله فوضع من ريقه على عينه فشفاها، ثمّ أعطاه الرّاية فأخذها أبو الحسنين ومضى يُهرول حتّى ركزها في أطم من آطام اليهود فاطّلع يهوديّ من فوق الحصن وسأله مَن أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب، فقال اليهوديّ: عَلَوْتم وربّ الكعبة! ثمّ خرج إليه فارس خَيْبر: مَرْحب،

١٢٣

فضربه أبو الحسنين ضربةً قدّت البيضة والمغفر وعضت بين الأضراس وهوى مرحب ميّتاً ثمّ إنّ عليّاً عالج باب حصنٍ من حصونهم حتّى قلعه واتّخذه ترساً يدافع به عن نفسه ثمّ جعله جسراً إذ وضعه على ظهره وعبر عليه المسلمون فكان الفتح على يديه، وليس من مفخرة تبزّ فداءَ عليٍّ لرسولِ الله إذ بات على فراشه متلفّعاً بغطائه ليلة هجرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أحاطت قريش بدار النبي للفتكِ به، ولقد فرض الله تعالى ولاية عليّ وجعلها متفرّعةً من ولايته سبحانه وتعالى وولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله [ المائدة/56 ] وقد أخذ له النبيّ البيعة يوم غدير خمّ، في حجّة الوداع وعمر حاضرٌ فيها. وأمّا السبق إلى الإسلام؛ فعمر هو خامس وأربعون ممّن دخل الإسلام وعليّ أوّل مَن أسلم، والعجب من عمر يتوعّد أهل الشورى بمعاوية الذي قال فيه النبيّ إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه، وأنّ معاوية لا يرى لهم إلاّ السّابقة وعدا ذلك فلا فضيلة لهم فله أن يفعل بهم الأفاعيل عبر جيوش أهل الشام!! ولا ندري حقّاً صدر هذا عن عمر، فيُعترض عليه حينها أنّه وطّأ الأمر لمعاوية وناصب عليّاً وحسده فأنكر حقل فضائله العُلْويّة؟! وهل الشجرة الملعونة في القرآن ابتداءً من الجذر «أُميّة» تصغير «أَمَة» القبطيّ المتبنّى اللصيق مروراً بزنادقة قُريش - مجازاً، وإلاّ فهم أقباط - وفسّاقهم وزناتهم من ذوي الرّايات رجالاً ونساءً، والمستهزئين برسول الله والمجلبين عليه الحرب وقادة الأحزاب؛ وجدّ الأسرة صخر والسهل خير من الصخر، وهو ابن حرب والسلم أفضل من الحرب، جدّته حَمامة، اسمٌ حُلوٌ لعاهرٍ من ذوات الرايات، وصخر نكح صَلْتَةَ الخَدِّ (هِنْد) فأنجبت معاوية وفيه قصّة ولذلك لمّا جاءت آكلة

١٢٤

الأكباد «هند» تبايع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال فيما شرط على قبول بيعتهنّ: على أن لا يزنين، فقالت هند: وهل تزني الحُرّة؟ فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونظر إلى عمر؛ وفي جروه يزيد، بل للناقص قصّة كذلك إذ لم يجدها بكراً كما ذكرت بعض المصادر ...، بيت تزكم جيفته الأُنوف، كفر صريح ونفاق عجيب وزندقة معرقة وضياع أنساب وتبنّي أبناء الزّنا وعدوان على بيت الله الحرام وهتك حرمته وهدم الكعبة وحرقها وإباحة المدينة المنوّرة ثلاثة أيّام قتلاً ذريعاً لم ينج منه حتّى طفل رضيع أخذه أحد الأبدال - كذا - جنديّ شاميّ من حضن أُمّه فضرب به الحائط فتناثر دماغه، وحبلت ألف امرأة من غير زوج كلّ ذلك وغيره ممّا سنذكره في محلّه واحدة من مفاسد ناقص بن معاوية الخِمّير ملاعب القِردة الجامع بين الأختين، حكم ثلاث سنوات في الأولى قتل سيّد شباب أهل الجنّة سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأهل بيته وصحبه الكرام، وفي الثانية حرق الكعبة، وفي الثالثة استباح المدينة على ما أشرنا إليه وما فعلوا، وهي وقعة الحرّة الدامية ...

ولم يسلم من الشجرة الملعونة إلاّ خالد بن سعيد بن العاص وأخواه، عملوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا توفّي وكان الذي كان من أمر السقيفة، رجعوا وامتنعوا من بيعة أبي بكر والعمل له وكانوا يرون أنّ الخليفة هو الذي أوصى به النبيّ وهو عليّ، فكانوا في جملة المعارضين لأبي بكر، ولم يبايعوا حتّى بايع أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام . وممّن لم يؤثّر به عامل الوراثة لما أراد الله تعالى به من الخير: عمر بن عبد العزيز الذي أبطل السُّنّة المـُعاوِية (التَيماوِية) إذ أصدر معاوية أيّام استيلائه على الحكم أمراً أن يُخطب بعد الصلاة يُشتم في هذه الخطبة أميرالمؤمنين نفس

١٢٥

رسول الله عليّ بن أبي طالب وتُعلن البراءة منه! والبراءة منه براءة من رسول الله ومن الإسلام الذي جاء به!!

وعمّم معاوية إلى الأقطار للعمل بذلك، فما زالت تلك البِدعة يُعمل بها وأنّها متمّمة للصلاةِ! حتّى جاء الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز فأزالها؛ إلاّ حرّان فقد ضجّ أهلها متمسّكين بلعن أبي تُراب!(1)

في خضمّ أحداث الشام، كان لابدّ لمدن الجزيرة ومنها الرُّها وحَرَّان أن تتأثّر بتلك الأحداث وتنطبع بطابعها فيغلب عليها الهوى الأُمويّ. وقد علمنا أنّ فتوحها كان أيّام عمر، وأنّ جاراتها الشامات قد ولاّها عمرُ معاويةَ، وطالت حاكميّة معاوية حتّى بلغت عشرين سنة إلاّ أشهراً، وامتدّ الحكم الأُمويّ حتّى سنة مائة واثنين وثلاثين، فقد ظهرت قوّة جديدة تلك هي دعوة بني العبّاس التي أسقطت الكيان الأُمويّ ورغم ذلك فقد استمرّ هوى الجزيرة والشام أُمويًّا نتيجةً للنشأة والتربية التي اتّبعها الأُمويّون، مضافاً إلى التقاء الطبائع النفسانيّة للأمويّين وسكّان تلك المناطق.

ذكر المسعودي:

«أنّ النسل لابدّ له من تخصيص قوّته بشيء يميّزه ويبيّنه من سواه، فصار الجفاء والغلظ في الرّوم وأصحاب الجبال، والأكثر من أهل الشام، وأوباش مصر، واللؤم في الخزر وأهل حَرَّان من بلاد ديار بكر ...، وهذا الذي وصفنا عند هذه الطائفة من أسرار الطبيعة وخواص تأثير الأشخاص العُلويّة والأجسام

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 7: 122.

١٢٦

السماويّة ...»(1) .

السياسة الأُمويّة وآثارها الاجتماعيّة في الشام

استنّ معاوية ابن هند سنّةً طيلة حاكميّة الطويلة، وامتثلها الحاكمون من آل حَرْب وآل مروان، تركت آثاراً سيّئةً للغاية في المجتمع الشاميّ أبعدته إلى حدٍّ كبير عن الأصالة الإسلاميّة.

ولقد أنبأ الصادق المسدّد بالوحي؛ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بما سيكون من معاوية:

عن الحكم بن عُمير الثُّمالي - وكانت أمُّه مريم بنت أبي سفيان بن حرب: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه ذات يوم: يا أبابكر كيف بك إذا ولّيت؟، قال: لا يكون ذاك أبداً. قال: فأنت يا عمر؟، قال: حجراً إذا لقيتُ شرًّا، قال: فأنت يا عثمان؟، قال: آكلُ وأُطعم وأُقسم ولا أظلم. قال: فأنت يا عليّ؟ قال: أُقسم التّمرة وأحمي الجَمْرَة(2) ، وآكل القوت. قال: أمَا إنّكم سَيَلي، وسيرى الله عملكم. قال: فأنت يا معاوية؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أنت رأس الخِطم، ومفتاح العِظم، يهرم فيها الكبير، ويربو فيها الصغير، وتتخذ السيّئة حسنة، والحسنة قبيحة؛ أجلك يسير وجُرْمُك عظيم إلاّ أن يرحمك ربّك عزّوجلّ!(3)

فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنبأ بما سيكون من فتنة معاوية وفساده وجُرْمه العظيم على

____________________

(1) مروج الذهب، للمسعودي 2: 147.

(2) الجمرة: القبيلة. اللسان (جمر).

(3) مختصر تاريخ دمشق 25: 26 - 27.

١٢٧

رؤوس أبي بكر وعمر و عثمان وعليّ؛ ومع ذلك وجدنا الثلاثة يعتمدون معاوية بين ممهّدٍ، ومرسّخٍ موسّع، وبين مُطْلِقٍ ليدهِ ممّا منحه فُرصة الخروج على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فكانت صفّين وما تبع صفّين ...

وذكر البلاذريّ، قال: حدّثني إسحاق وبكر بن الهَيْثَم قالا: حدّثنا عبد الرزّاق بن هَمّام أنبأنا مَعمر عن ابن طاووس عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كنت عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: «يطلع عليكم من هذا الفَجّ رجلٌ يموت على غير مِلّتي، قال: وكنت تركتُ أبي قد وُضِعَ له وَضُوء، فكنتُ كحابس البَوْل مخافة أن يجيء، قال: فطلع معاوية فقال النبيّ: هو هذا»(1) .

قال: وحدّثني عبد الله بن صالح حدّثني يحيى بن آدَم عن شريك عن لَيْث عن طاووس عن عبد الله بن عمرو قال: كنت جالساً عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: «يطلع عليكم من هذا الفَجّ رجلٌ يموت يومَ يموت على غير ملّتي، قال: وكنت تركت أبي يلبس ثيابه فخشيت أن يطلع، فطلع معاوية»(2) .

وقطعاً لفتنة معاوية، فقد منعصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرقى منبره فإذا فعلَ فعلى المؤمنين إزاحته بالسيف، فلمّا لم يفعلوا استفحل أمره وطالت محنته وعمّتهم فتنته.

البلاذريّ: حدّثنا يوسف بن موسى وأبو موسى إسحاق الفَرْوي قالا: حدّثنا جرير بن عبد الحميد حدّثنا إسماعيل والأعمش عن الحسن، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»؛ فتركوا أمره فلم يُفلحوا ولم

____________________

(1) أنساب الأشراف 5: 134.

(2) نفسه.

١٢٨

ينجحوا(1) .

ولعلّهم يأتون بالمعاذير: أنّ معاوية مُعتمدُ العاصمة الإسلاميّة؛ ولكن هذا القول مردود لأنّ أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واجب إنفاذه أوّلاً، وما أحدثه معاوية ممّا سنقف عليه وقد خالف فيه الشريعة وصرّح بزندقته! وهتك حرمة مَن قُلامة ظفره أرفع شأناً منه. ثانياً؛ وتصريح العاصمة بأنّ الأمر هذا لا يكون للطُّقاء وأبنائهم، ومع ذاك سلّطوا الطُّلقاء ورفعوا من شأنهم وكانوا بهم مفتونين، فلمّا أبطأ الناس عن إنفاذ حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، تفرّد معاوية ومَن بعده بالشّام فكانت لها هويّتها الخاصّة وانماث الإيمان فيها مثلما ينماث الملح في الماء.

عن أبي سعيد الخُدْريّ قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه» فقام إليه رجل من الأنصار وهو يخطب بالسيف، فقال أبو سعيد: ما تصنع؟ قال: سمعتُ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فاقتلوه». فقال أبو سعيد: إنّا قد سمعنا ما سمعت ولكنّا نكره أنْ يُسلّ السيف على عهد عمر حتّى نستأمره: فكتبوا إلى عمر في ذلك، فجاء موته قبل أن يجيء جوابُه(2) .

إنّ كلام أبي سعيد مبنيّ على ما كان يسمعه من عمر في معاوية: هذا كِسرى العرب، وهِرقل العرب. وإطلاق يده على الشام وتهدّده أصحاب الشورى بمعاوية ...، فهو يخاف مغبّة قتل معاوية لذلك.

____________________

(1) نفسه 136.

(2) مختصر تاريخ دمشق 25: 46.

١٢٩

إنّ العجب ليأخذنا من عمر وقد سمع تلك الأحاديث، وسمع ما نقله البلاذريّ عن خَلَف بن هشام البَزّاز حدّثنا أبو عَوانة عن الأعمش عن سالم بن أبي الجَعْد قال، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «معاوية في تابوت مقفل عليه في جهنّم»(1) .

وأيضاً خَلَف حدّثنا عبد الوارث بن سعيد بن جُمْهان عن سَفينة مولى أُمّ سَلَمة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً فمرّ أبوسفيان على بعير ومعه معاوية وأخٌ له، أحدهما يقود البعير والآخر يسوقه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لعن الله الحامل والمحمول والقائد والسائق»(2) .

قد سمع كلّ ذلك؛ وهو الذي يقول: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحَد، ثمّ في أهل أُحُد ما بقي منهم أحَد، وفي كذا وفي كذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لِمُسلمة الفتح شيء(3) . ثمّ لا يجد للشّام إلاّ القائد والسائس، متابعةً لأبي بكر الذي بعث بهما ضمن أُمراء فتوح الشام، فلمّا مات يزيد بن أبي سفيان أوصى إلى أخيه معاوية وأقرّه بعد عمر ثمّ ضمّ إليه الشام جميعاً وانتزع عثمان مصر من عمرو بن العاص فضمّها إليه على ما مرّ بنا.

____________________

(1) أنساب الأشراف 5: 136.

(2) نفسه.

(3) مختصر تاريخ دمشق 25: 42.

١٣٠

معاوية يصدح بحقيقته

عن سعيد بن سُويد قال: صلّى بنا معاوية بالنُّخَيْله(1) الجمعة في الضُّحى، ثمّ خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلُّوا ولا لتحجُّوا ولا لتزكُّوا، قد عرفتُ أنّكم تفعلون ذلك، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(2) .

صدق معاوية! فهو لم ينصر ابن عمّه عثمان إذ استنصره فيما نصره أبوالحسنين عليّعليه‌السلام ففرّق عنه وفود الأقاليم الّتي جاءت تشكوا سيرة ولاته من بني أُميّة، فلمّا كانوا في منتصف الطريق إذا بغلامه فمسكوه وفتّشوه فوجدوا معه كتاباً إلى عامله أن إذا وصولا اقطع يد فلان و ...، وكان بختمه، فرجعوا، وكان الذي يلعب به مروان بن الحكم وهو الذي سرق خاتمه، وذكرنا تفاصيل ذلك وأنّ عليّاًعليه‌السلام أرسل الحسن والحسينعليهما‌السلام للدفاع عن عثمان فجُرحا، وأدخل الماء عليه ...

فلمّا قُتل عثمان بعثت إليه أُخته أُمّ حبيبة قميص وشعر عثمان فنشره معاوية على منبر مسجد دمشق مستغلاًّ غفلة وتخلّف أهل الشام الذين حجبهم معاوية عن معرفة الحقائق وأبعدهم عن روح الإيمان، فنادى فيهم أنّ الخليفة قُتل مظلوماً وأنّه ابنُ عمّه والطّالب بثاره من عليّ بن أبي طالب لأنّه هو الذي

____________________

(1) النُّخَيْلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام. (معجم البلدان 5: 278، ومعجم ما استعجم 4: 1305).

(2) مختصر تاريخ دمشق 25: 43.

١٣١

قتله، فكان أهل الشام يداً واحدةً معه في ذلك.

وقوله ك ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلُّوا ...؛ فهذا أمر واقع حقّ، وقد أفصح عن مكنونه فصرّح بأنّها الإمارة، إلاّ أنّه جعلها عطيّة من الله تعالى، وليست بمباركة العاصمة على ما رأينا.

(وذُكر معاوية عند عمر بن الخطّاب فقال: دعونا من ذمّ فتى قريش وابنِ سيِّدها، مَن يضحكُ في الغضَب، ولا ينالُ على الرِّضا، ومَن لا يأخذ ما فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه)(1) .

فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يذمّ معاوية وأباه، وعمر يمجّدهما ويُعطيهما الفتوّة والسيادة والتعفّف!

ولم يكن أخوه يزيد بن أبي سفيان أحد قادة فتح الشام مع أبي عُبيدة عامر ابن الجرّاح، طاهرَ الذيل كريم السيرة وقد مرّ بنا من الأحاديث المشتركة فيه وفي أبيه وأخيه؛ وهذا شيء من سيرته:

عن ابن عمر قال: لمّا عقد أبوبكر الأمراء على الشام كنت في جيش خالد ابن سعيد بن العاص (أحد معارضي أبي بكر)، فصلّى بنا الصبح بذي المروة(2) ، وهو على الجيوش كلّها. فإنّا لعنده إذْ أتاه آت فقال: قدّم يزيد بن أبي سفيان، فقال خالد بن سعيد: هذا عمل عمر بن الخطّاب، كلّم أبابكر في عزلي، وولّى يزيد بن أبي سفيان، فقال ابن عمر: فأردتُ أن أتكلّم، ثمّ عزم لي على الصمت،

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق 25: 18.

(2) ذو المروة: قرية بوادي القرى. (معجم البلدان 5: 116).

١٣٢

قال: فتحوّلنا إلى يزيد بن أبي سفيان، وصار خالد كرجل منهم(1) .

وعن يزيد بن أبي سفيان قال: شيّعني أبوبكر حين بعثني إلى الشام فقال: يا يزيد، إنّك رجلٌ تُحبّ قرابتك وإنّي سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: مَن ولّى قرابةً محاباةً، وهو يجد خيراً منه لم يجد رائحة الجنّة(2) .

وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبوبكر حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إنّ لك قرابة عَسَيْت أن تؤثرهم بالإمرة، وذلك أكبر ما أخاف عليك، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم قال: «مَن ولي من أمر المسلمين شيئاً، فأمّر عليهم أحداً محاباةً لهم له، فعليه لعنة الله، لا يقبل منه صَرْفاً ولا عدلاً، حتّى يدخله جهنّم، ومَن أعطى رجلاً من مال أخيه شيئاً محاباةً له فعليه لعنة الله، أو قال: برئت منه ذمّة الله، وإنّ الله دعا الناس إلى أن يؤمنوا بالله، فيكونوا في حمى الله، فمَن انتهك في حمى الله شيئاً فعليه لعنة الله، أو قال: برئت منه ذمّة الله»(3) .

وعن ابن عمر:

إنّ أبابكر بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام فمشى معهم نحواً من ميلين، فقيل له: يا خليفة رسول الله: لو انصرفتَ، فقال: لا، إنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلم يقول: «مَن اغبرّتْ قدماه في سبيل الله حرّمهما الله على

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق 27 ك 363 - 364.

(2) نفسه.

(3) نفسه. والحديث في مسند أحمد 1: 6.

١٣٣

النار»(1) .

إنّ أبابكر يعلم سَلَفاً أنّ يزيد ينتهك حُرمة الله بإثرته أقاربه بالإمرة؛ ومع ذلك ينتزع خالد بن سعيد عامل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد توفّي رسول الله وهو راضٍ عنه، ولم يكن حارصاً على الإمارة كما مرّ بنا، وأمّر يزيد بن أبي سفيان ومعاوية يحمل رايته. ولعلّه معذور في ذلك! فربّما لم يسمع الأحاديث في لعن الراكب والسائق والقائد؟ ولا الأحاديث الخاصّة بلعن معاوية وآل الحكم؛ أو أنّه اجتهد فاكتفى بالقرآن الكريم وأمّا الحديث وإن كان قد رواه وحذّر يزيد بن أبي سفيان من مغبّة نتيجته، فقد رأى في ذلك قطعاً للعذر وإقامةً للحجّة، وربّما لم يجد في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مَن هو كفواً ليزيد وأخيه معاوية شجاعةً وفقهاً وورعاً!

وقد وقع الأمر الذي أنبأ عنه أبوبكر، ذلك أنّ يزيد أوصى إلى أخيه معاوية فلمّا مات يزيد صار ما بيده إلى معاوية.

قال أبو مسلم: غزا يزيد بن أبي سفيان بالناس فغنموا، فوقعت جاريه نفسة في سهم رجل، فاغتصبها يزيد، فأتى الرجلُ أباذرّ فاستعان به عليه، فقال: رُدّ على الرجل جاريته، فتلكّأ عليه ثلاثاً فقال: لئِن فعلت ذلك لقد سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «أوّل مَن يُبدّل سُنّتي رجل من بني أميّة يقال له يزيد»، فقال له يزيد بن أبي سفيان: نشدتك بالله أنا منهم؟ قال: لا، قال: فردّ على الرجل جاريته(2) .

____________________

(1) نفسه. والحديث في مجمع الزوائد 5: 286.

(2) مختصر تاريخ دمشق 27: 366.

١٣٤

هذا سلوك القائد يغتصب جارية ...، وهذا يزيد الآخر الذي افتتن به ابن تَيمِيه وتابعه خارجة عصرنا فسمّوه أميرالمؤمنين!

وذكر محدّث الشام ابن عساكر، قال: رأى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان كاشفاً عن بطنه، فرأى جلدة رقيقة، فرفع عليه الدرّة وقال: أجِلدةُ كافر؟!(1) .

آفة معاوية تسري إلى يزيد

الروايات معقودةُ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعا على معاوية أن لا يُشبعه الله تعالى؛ وذلك لمناسبة، فكان معاوية يأكل ولا يشبع، وبلغ من عِظم بطنه أنّه كان يُقعدها على فخذه، ووصف بأنّه كريم بالمال بخيل بالطعام، وله في ذلك أخبار كثيرة. ويبدو أنّ هذه الآفة سرت إلى أخيه يزيد بعد تولّيه الإمارة، إن لم يكن قبلها!: «بلغ عمر بن الخطّاب أنّ يزيد بن أبي سفيان يأكل ألواناً من الطعام، فقال عمر لمولاه يرفأ: إذا حضر عشاؤه فأعلمني، فلمّا حضر أعلمه، فأتاه عمر فسلّم عليه فقرب عشاءه، فجاؤوه بثريد بلحم، فأكل معه عمر، ثمّ قدّم شواء فبسط يزيد يده، وكفّ عمر يده ثمّ قال: تالله يا يزيد أطعام بعد طعام؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم سنّتهم ليخالفُنّ بكم عن طريقهم»(2) .

وقال المدائني: لما توفّي أبوبكر وولي عمر، ولّى يزيد بن أبي سفيان بعد وفاة أبي عُبيدة بن الجرّاح الشام، فقدم معاوية من الشام على عمر فدخل عليه

____________________

(1) نفسه.

(2) مختصر تاريخ دمشق 27: 366.

١٣٥

معاوية فقال له عمر: متى قدمت؟ قال: الآن، وبدأتُ بك، قال: فأتِ أبَويْك وابدأ بهِند، فانصرف معاوية فبدأ بهند، فقالت له: يا بُنيّ، إنّه والله قلّ ما ولدت حرّةٌ مثلك، وقد استنهضكم هذا الرجل فاعملوا بما يوافقه واجتنبوا ما يكرهه(1) ...

إنّ معاوية يرى في عمر وليّ نعمته فبدأ به قبل أبويه. وقول عمر: وابدأ بهند له شأن يذكّرنا ببيعة النساء لمّا جئن يبايعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فاشترط عليهنّ أن لا يزنين، فاعترضته هند وقالت: وهل تزني الحرّة؟ فنظر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عمر وابتسم.

وأخرج ابن عساكر: لمّا ولّى عمر بن الخطّاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاّه من الشام خرج إليه معاوية، فقال أبوسفيان لهند: كيف رأيتِ ابنكِ صار تابعاً لابني. فقالت: إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنُك ممّا يكون فيه ابني(2) .

وأنّ معاوية على سرّ أبيه! فقول معاوية: (ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا ...)، هو إنفاذ لوصيّة أبيه: روى هشام بن محمّد الكلبيّ عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم أنّ أبا سفيان دخل على عثمان وهو مكفوف، ثمّ خرج من عنده وهو يقول: تلقّفوها يا بني أميّة تلقّف الكرة فما الأمر على ما تقولون(3) .

____________________

(1) أنساب الأشراف 5: 17.

(2) مختصر تاريخ دمشق 22: 402.

(3) نفسه 19.

١٣٦

وروي عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال، قال أبوسفيان حين قُبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : تلقّفوها الآن تلقّف الكُرة فما من جنّة ولا نار(1) . فما أشبه كلام الابن بأبيه، والنتيجة: ما صحّ منهما إسلام ترجم ذلك القول والفعل.

[ معاوية يمنعُ من نشر حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ]

كان معاوية متشدّداً في المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مستنّاً في ذلك بسنّة أولياء نعمته؛ ولو لا هم لما جرأ على ذلك.

ولقد كانت الهمّة لدى الجميع منصرفة إلى إخفاء الأحاديث النبويّة الدالّة على خلافة عليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام .

فاعتدت تلك السياسة على السنّة والحديث فأخفتها وأبادتها، وتجاوزت كرامة الصحابة فأهدرتها، واتّهمتهم! وتعدّت على حُريّاتهم فحبستهم ونفَتْهم ومنعتهم من بثّ علومهم. وأخطر ما فيها أنّها كادت أن تُؤدِّي إلى وأدِ حقّ أمير المؤمنين عليّ وأهل بيته في الخلافة والإمامة؛ وهذا أسوأ آثار سياسة المنع.

أبوبكر يحرق أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

لم يكن لمنع التدوين ذكر قبل جلوس أبي بكر على كرسي الحكم، وعلى العكس من ذلك، فإنّ أبابكر قام هو بعمليّة التدوين أوّل حكمه.

نقل الذهبيّ: أنّ أبابكر جَمعَ أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في كتاب فبلغ عددها

____________________

(1) نفسه.

١٣٧

خمسمائةَ حديثٍ، ثمّ دعا بنارٍ فأحرقها.(1)

ولم يكن لأبي بكر نصٌّ شرعيّ يستند إليه في إتلافه هذا الكتاب، وإنّما ذهب إلى القول بأنّه: أتلفه مخافةَ أنْ يكونَ كتبَ شيئاً لم يَحْفَظه جيّداً(2) .

ثَمّةُ سؤال: هلاّ جمع أبوبكر عِلْيَةَ الصحابة ومَن إليهم المـَفْزع ومنهم عِدْلُ القرآن - على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - ونفس الرسول في آية التطهير، وأخو رسول الله الذي هو منه بمنزلة هارون من موسى؛ فعرض عليهم تلك الأحاديث فأثبت ما أثبتوه وأحرق الباقي عوض أن يحرم الأُمّة ثروة هائلة من تراث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وروى القاسم بن محمّد، من أئمّة الزيديّة عن الحاكم؛ بسنده عن عائشة قالت: جمع أبي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانت خمسمائة حديث فبات ليلةً فلمّا أصبح قال: أي بُنيَّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فجئته بها، فدعا بنارٍ فحرقها.

فقلت: لم حرقتها؟!

قال: خشيتُ أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني فأكون قد نقلتُ ذلك(3) .

هناك ذريعته في إحراقه حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : خوفه من أنّه لم يحفظه جيّداً؛ وهنا علّل حرق الحديث بمجرّد خشيته المخالفة، مع تصريحه بأمانة الناقل

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ، للذهبيّ 1: 5، وعلوم الحديث ومصطلحه، للدكتور صبحي الصالح 39.

(2) نفسه.

(3) الاعتصام بحبل الله المتين، القاسم بن محمّد الزيديّ 1: 30.

١٣٨

ووثاقته، إن كان بينه وبين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله واسطة «ناقل»!

وهلاّ كان ممكناً له أن يجمع أولئك الذين نقل عنهم فيعرض عليهم ما سمع منهم فيصحّح موضع الاختلاف، إن وُجد، ويُثبت ما ليس فيه اختلاف.

ولنا أن نقول له: عشت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما سمعته أثْبته وما لم تسمعه احذفه حتّى لو كان ما عندك خمسة أحاديث مثلاً، ويأتي عمر بحديثين أو كذا سمعهما، وهكذا حتّى يجمتمع لنا عدد كذا على نحو السماع! ودعنا من الوثاقة والأمانة، وإن كان ثَمّة معترض يقول أحدكم ليس بأمين ولا ثقة وهنا نبدأ في مشكلة مع المشكّكين ...!

روى الذهبيّ: أنّ الصدّيق - أي أبابكر - جمع الناس بعد وفاة نبيّهم، فقال: إنّكم تُحدِّثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديثَ تختلفون فيها، والناسُ بعدكم أشدُّ اختلافاً، فلا تُحدِّثوا عن رسول الله شيئاً فمَن سألكم فقولوا: بَيْنَنا وبَيْنَكم كتابُ الله، فاستحِلّوا حلالَه وحَرِّموا حرامَه(1) .

ولا ندري مَن هم الناس، هل هم عوامّ الناس فلَهُ أن يرشدهم بالرجوع إلى مَن هم أوْلى بالحديث وفيهم بابُ علمه؛ أخصّ النّاس وأكثرهم به لُزوقاً، الذي كان ينتجيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيختصّه بكثير من علومه حتّى أثار ذلك حفيظة بعض الصحابة!

عن أبي الزُّبير، عن جابر بن عبد الله، قال: ناجى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليًّاعليه‌السلام - يوم الطّائف فطال نجواه، فقال أحدُ الرجلين: لقد أطال نجواه لابن عمّه! فلمّا

____________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1: 3، ترجمة أبي بكر، الأنوار الكاشفة، لعبد الرحمان المعلمي اليماني: 53.

١٣٩

بلغ ذلك النبيّ، قال: «ما أنا انتجيتُه، ولكن الله انتجاه»(1) ، وأيضاً أعلام الأُمّة ممّن لا يُنكر فضلهم في هذا الأمر.

إنّ منع أبي بكر بهذه الصورة وقوله: بيننا وبينكم كتاب الله، نظير حديث «الأريكة»، واجتهاد عمر في المنع وسيأتي تفصيله.

وقوله: (فلا تُحدِّثوا)، فإنّه منع نقل حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، روايةً وكتابةً، وأثر الكتابة أشدّ لبقائه وانتشاره أكثر ممّا هو أثر النقل.

ولم يقدِّم أبوبكر دليلاً شرعيّاً على المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى العكس: فإنّ رسول الله دعا إلى كتابة حديثه وفعله الصحابة: أخرج الحاكم قال: حدّثنا أبوبكر إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الضرير بالري، حدّثنا أبو حاتم محمّد بن إدريس، حدّثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد.

وأخبرنا أبوقتيبة سلم بن الفضل الآدمي بمكّة، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن ناجية، حدّثنا عبدة بن عبد الله الخزاعيّ، حدّثنا زيد بن حباب، حدّثنا ليث بن سعد المصريّ، حدّثني خالد بن يزيد، عن عبد الواحد بن قيس، عن عبد الله بن عمرو قال: قالت لي قريش: تكتب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما هو بشرٌ يغضب كما

____________________

(1) مناقب الإمام عليّ، لابن المغازليّ: 125. ويرد الحديث في مصادر أُخرى بنفس اللفظ أو اختلاف يسير في اللّفظ، في: صحيح الترمذي 5: 639، تاريخ بغداد 7: 402، المناقب، للخوارزمي: 138، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2: 431، كفاية الطّالب: 328، أسد الغابة 4: 107، جامع الأُصول 9: 474، كنز العمّال 11: 599، البداية والنهاية 7: 356، العُمدة، لابن البطريق: 190.

١٤٠