ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 117785
تحميل: 5814


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117785 / تحميل: 5814
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

واعتراضه فإنّه يرِد أكثر جَفْوة، فقد ذكروا: لمّا مات رسول الله قال قبل وفاته بيسير: «ائتوني بدواةٍ وبياضٍ لأكتب لكم كتاباً لا تختلفوا فيه بعدي». فقال عمر: دَعُوا الرجُلَ، فإنّه لَيَهْجُر(1) !

الله أكبر!، دَعُوا الرجل، وليس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أي اتركوه وتخلّوا عنه ولا تلتفتوا إلى قوله، فإنّي أُؤكّد لكم «لَيَهْجُر» أنّه يهذي ولا يدري ما يقول - معاذ الله يا رسول الله أن نقول شيئاً من ذلك - وهي أبلغ من كلّ العبارات التي مضت في القُبْح والشتيمة! وهذا النصّ أقرب إلى القبول؛ وإن كان التقديم أي الاعتراض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منهيّ عنه في القرآن الكريم وليس من أدب الإسلام في شيء، واللّغط الذي حدث بسبب ذلك، وشتيمة عمر للنّسوة اللاّتي اعترضن عمر وشيعته وطلبن استجابة أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...، فإنّ هذه الأمور كافية لطرد رسول الله للقوم: إلاّ أنّ في العبارة هذه زيادة على ما تقدّم: فَصْمُ العُرَى بينهم وبين الرسول، من خلال دَعُوا الرجل؛ فلا معنى بعد ذلك لكلام عمر: «حسبُنا كتابُ الله». إذ أركان الإسلام ثلاثة: التوحيد، والنبوّة، والمعاد؛ فمَن أنكر واحدة منها فليس بمسلم، وهذه الدعوة صريحة لإنكار أحد الأركان والتخلّي عنه وهو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ هذا ورسول الله بينهم يرَونه بوجهه الوضيء بنور النبوّة ويسمعون

____________________

(1) مسند أحمد 3: 346، صحيح البخاري - كتاب العلم، باب كتابة العلم، المجلّد الأوّل صفحة 39، والمجلّد 4 باب قول المريض صفحة 5، و 6 باب مرض النبيّ ووفاته صفحة 11، و 4 كتاب الجهاد - باب جوائز الوفد، صفحة 85، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2: 536. مجمع الزوائد 4: 390 و 391، الكامل، لابن الأثير 2: 217، طبقات ابن سعد 2: 243، تذكرة الخواصّ: 65.

١٦١

صوته، فكيف بهم إذا قبضه الله تعالى ورفعه إلى أعلى عِلّيِّين؟!

أنعجل ونقول: سيرتدّ بعضهم القَهْقرى؟

لا نجافي الحقيقة ولا نعدوها إن قُلنا: نعم؛ فالّذي وقع من عمر وأصحابه بحقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطرد رسول الله إيّاهم من ساحة رحمته فلم يعتذروا بل لجّوا في طغيانهم ففارقوه إلى السقيفة ولم يرجعوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إلاّ وقد قبض الله تعالى نفسه الزكيّة إليه - هذا في أحسن الأحوال وتنزّلاً في قبول الرّواية، وإلاّ فالمرويّ عن عائشة قولها: لم نعلم بوفاة رسول الله إلاّ بوقع المساحي والرجال يحفرون ليلاً ...، وكان أمير المؤمنين في ثلّة من بني هاشم قد تولّوا دفنه -؛ ولقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله حذّرهم الرِّدّة والتبديل.

أحاديث النبيّ في الرِّدّة

أخرج مسلم بنسده عن أبي حازم قال: سمِعتث سَهْلاً يقول: «سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أنا فَرَطُكُم على الحوض مَن وَرَدَ شرِبَ ومَن شرِب لم يظمأ أبداً، ولَيَرِدَنّ علّيَّ أقوامٌ أعرِفُهم ويعرِفوني ثمّ يُحال بيني وبينهم»، قال أبو حازم: فسمِع النُّعمان بن أبي عيّاش وأنا أُحدّثهم هذا الحديث فقال: هكذا سمِعتَ سهلاً يقول؟ قال: فقلتُ نعم قال: وأنا أشهدُ على أبي سعيدٍ الخُدْريّ لَسمِعتُه يزيدُ فيقولُ: «إنّهم منّي، فيُقال: إنّك لا تدري ما عمِلوا بعدَك فأقولُ سُحْقاً سُحْقاً لِمَن بَدّلَ بعدي»(1) .

فأيّ تبديل أعظم من رفض سنّته في حياته، ثمّ المنع من تدوينها

____________________

(1) صحيح مسلم، بشرح النووي المجلّد 8، الجزء 15: 54.

١٦٢

والتحديث بها وحبس الصحابة على ذلك بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي على الحوض حتّى أنظرَ مَن يرِدُ علَيَّ منكم وسَيُؤخذُ أُناسٌ دوني فأقولُ يا ربِّ منّي ومن أُمّتي، فيقولُ: إنّك لا تدري ما عمِلوا بعدك ما زالوا يرجعون على أعقابهم»(1) .

وعن أمّ سَلَمة، قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّها الناس إنّي لكم فَرَطٌ على الحوض فإيّايَ لا يأتِيَنّ أحدُكم فيُذَبُّ عنّي كما يُذبّ البعيرُ الضالّ فأقول: فِيمَ هذا؟ فيُقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقولُ: سُحْقاً»(2) .

فالذي أحدثوه «بعده» من جنس «الأريكة»، والذي يرد فيه لفظ «يوشك». ومن حديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله في عِظم الخطر المحدق بأصحاب الأريكة:

عن عُقبة بن عامر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج يوماً فصلّى على أهل أُحُد صلاتَه على الميِّت ثمّ انصرف إلى المنبر فقال: «إنّي فَرَطٌ لكم وأنا شهيدٌ عليكم وإنّي والله لأَنظرُ إلى حوضي الآن وإنّي قد أُعطيتُ مفاتيح خزائن الأرض وإنّي واللهِ ما أخافُ عليكم أن تُشركوا بعدي ولكن أخافُ عليكم أن تتنافسوا فيها»(3) .

وهذا الذي وقع ليلة وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبعد ما أساؤوا الأدب كما لحظنا، راحوا إلى سقيفة بني ساعدة فكان ممّا يندى له الجبين من أجل «الأريكة»، وغُصبت الزهراء الطاهرةعليها‌السلام إرثها من أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله واعتدوا عليها وكادوا يحرقوا بيتها وهي

____________________

(1) نفسه: 56.

(2) نفسه.

(3) نفسه: 57. وانظر الجمع بين الصحيحين، وتاريخ دمشق 8: 109 و 3: 8 و 47: 117.

١٦٣

فيه! وقوتلت قبائل قد امتنعت من بيعة أبي بكر وكانت ترى أنّ الخليفة الشرعيّ هو عليّعليه‌السلام ...

والأحاديث في هذا الحقل من الوفرة ممّا يضعنا أمام الواقع الصعب الذي كان يعاني منه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى.

إنّ ما وقع من القوم في حجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيما أحدثوه بعده، سبقتها وقائع مرّة! فقد استجابوا لهتاف الشيطان وفرّوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ونزل بهم بيان من الله سبحانه يوبّخهم على ذلك. وفرّوا بالرّاية يوم خيبر، ولم نسمع أنّهم جرحوا بطلاً فضلاً عن جندلة أبطال!

ويبقى عليّعليه‌السلام بعيداً عن كلّ هذه اللّوثات في جمعٍ من الأتقياء ممّن لم يبدّلوا ولم يغيّروا. وكانعليه‌السلام يستبق الأحداث وكيف لا؟ وسرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عنده.

عن عمرو بن طلحة، عن أسباط بن نصر، عن سِماك، عن عِكرِمة عن ابن عبّاس: أنّ عليًّا قال في حياة النبيّ إنّ الله عزّ وجلّ يقول:( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ ) (1) ، واللهِ لا ننقلب على أعقابنا أبداً بعد أن هدانا الله، والله لَئِن مات أو قُتل لأُقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت، والله إنّي لأَخوهُ ووليُّه وابن عمّه ووارثه، فمَن أحقُّ به منّي(2) ؟!

____________________

(1) آل عمران: 144.

(2) الفضائل، لأحمد، حديث 232، خصائص النّسائيّ: 130 ح 65، المستدرك على الصحيحين 3: 126، المعجم الكبير، للطبرانيّ 1: 107/ ح 176، وعنه أبو نعيم في معرفة الصحابة 1: 23، =

١٦٤

وقد ترجمعليه‌السلام كلامه هذا في مواقفه الخالدة في سوح الجهاد فكرَّ وما فرَّ وشهد الوحي له بذلك! فيما قعد غيرُه وفرّوا وخلّوا بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعدوّه، فأصابه ما أصابه حتّى دعا عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

يوم أُحُد: وهو يوم الفخر والعزّة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وثلّة ممّن لم يستزلّهم الشيطان بصراخه: ألاَ إنّ محمّداً قد قُتِل. ولمّا كنّا قد عقدنا بحثاً مفصّلاً في ذلك، وفي الفرار يوم خيبر!! فنذكر موجزاً من ذلك لمناسبته ما نحن فيه من خُلُق القوم في التعامل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر البخاري أنّ عمر بن الخطّاب انهزم يوم أُحُد فيمَن انهزم(1) .

وكثيراً ما تحدّثوا عن شجاعة الحواريّ الزبير، فلمّا عصى الرُّماة أمْرَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وغادروا العسكر طمعاً في الغنيمة وجاءهم العدوّ من خلفهم وصرخ الصارخ انكفأ الزّبير مثل غيره ولم يبق مع عليٍّ أبي الحسنعليه‌السلام يذبّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويفديه بمهجته: «عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: ...، إذ مالت الرُّماة إلى العسكر حينَ كشَفْنا القومَ عنه يريدون النَّهب وخلَّوا ظهورنا للخيلِ فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخٌ ألاَ إنّ محمّداً قد قُتِلَ فانكفأنا وانكفأ القوم علينا(2) ...

فالحواريّ كان في المنهزمين الفارّين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . والحواريّ من

____________________

= مختصر تاريخ دمشق 17: 314، فرائد السمطين 1: 224 باب 44/ 175 مجمع الزوائد 9: 134، الرياض النضرة 2: 300.

(1) صحيح البخاري 5: 101.

(2) السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 82، تاريخ الطبري 2: 196، تاريخ خليفة: 36.

١٦٥

صفاته الحسد! وتلك الموبقة هي التي جعلته يقاتل أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام . ويوم أُحُد عرَضَ رسولُ الله سيفاً فأعطاه أبا دُجانة ومنعه من الزبير؛ فغضب الزبير، ولما التقى أبودُجَانة مع أحد المشركين دعا الزبير بهلاك أبي دُجانة، فقتل أبو دُجانة المشركَ(1) ، وقد ذكرنا قصّته مفصّلةً في حديث الراية وفتح خيبر.

أصحاب الصخرة

وذكرنا خبرهم مطوّلاً في حديث الراية، ومن قصّتهم: أنّ عمر بن الخطّاب وطلحة بن عُبيد الله، ورجال من المهاجرين والأنصار، قد استجابوا لصراخ الشيطان: ألاَ إنّ محمّداً قد قُتل، ففرّوا ولجأوا إلى صخرة(2) ...

وذكر الطبريّ: أنّ بعض أصحاب الصخرة قال: ليتَ لنا رسولاً إلى عبد الله ابن أُبّيّ «رأس المنافقين» فيأخذ لنا أمنَةً من أبي سفيان، يا قوم إنّ محمّداً قد قُتِل فارجِعوا إلى قومكم قبلَ أن يأتوكم فيقتلوكم(3) .

فليس بغريب إذن على أصحاب الحُجرة تسمية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسمه أو الرجل من غير ما يستحقّه من نبيّ الله ورسوله ...، فقد قالوها على الصخرة! والذي ذكرناه من هدمهم لركن النبوّة في الحجرة في ردّهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ مقدّماته أفصح من خلال قولهم يوم أُحُد: إنّ « محمّداً، الرجل الذي تعرفونه

____________________

(1) السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 72 - 73.

(2) نفسه 3: 203، تاريخ الطبري 2: 199.

(3) تاريخ الطبري 2: 203.

١٦٦

بهذا الاسم»، «قد قُتِل، وانتهى أمره ولسنا بطالبي ثأره»، «فارجعوا إلى قومكم ...، مَن هو مِن عَدِيّ يرجع إليهم؛ والذي من تَيْم يرجع إليهم فليس فيكم هاشميّ يُقتل دونه!». عثمان: ولم يكن عثمان مع أصحاب الصخرة، فقد فرّ في عدّة من الرجال حتّى بلغوا الجَلْعَب جبلاً بناحية المدينة فأقاموا به ثلاثاً(1) فيما وجدنا يهوديًّا اسمه: مُخَيْرِيق يقاتل دون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيُقتل شهيداً! وكان خَبْراً من أحبار اليهود(2) .

مشهد امرأة: ولعلّ في قول عمر للنسوة: «إنّكنّ صويحبات يوسف يكمن خلفه أكثر من سرٍّ، من ذلك: أنّ الذين فرّوا كانوا ذكوراً لا نسوة! فيما جاهدت امرأة خلّدها التاريخ هي: نُسيبة بنت كعب المازنيّة، شهدت يوم أُحُد هي وزوجها وابناها، خرجت تسقي الجرحى: فلمّا فرّ الذكور قاتلت فجرحت اثني عشر رجلاً بسيفٍ ورمح، وضربها ابن قَمِيئة بالسيف على عاتقها؛ فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «ما التفتُّ يميناً وشمالاً يومَ أُحُد إلاّ رأيتها تقاتل دوني»(3) .

فمثلما حسد الزبيرُ أبا دُجانة على ما ذكرنا حتّى تمنّى قتله! فكذلك حال أصحاب الصخرة.

فيومُ أُحُد وما أدراك ما يوم أُحُد، الرزيّة كلّ الرزيّة، والفضيحة كلّ الفضيحة يوم أُحد. صرخ الشيطان فأجابه أصحاب الصخرة والجَلْعب وشايعوه في هدم

____________________

(1) نفسه 2: 201.

(2) السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 94، أنساب الأشراف 1: 397.

(3) السيرة النبويّة 3: 89 و 94، أنساب الأشراف 1: 397.

١٦٧

ركن النبوّة ولمّا علموا بسلامة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عادوا إليه.

بسالة أميرالمؤمنين يوم أُحُد

لم يفلح الشيطان أن يستزلّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وأنّى له ذلك وأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام نفسُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مطهّر بصريح القرآن الكريم؛ عِدْل القرآن وترجمانه ...، بطلُ بدر؛ فماذا يوم أُحد؟

وأيضاً نقول: لقد تعرّضنا لهذا المطلب في ردّ الناصبيّ عدوّ نفسه: ابن تَيمِيه، في حديث الراية وفتح خيبر، فنوجزه شاهداً:

فيوم أُحُد قتل أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام أصحاب الألوية، وأجهز على عدد من أبطال قريش فعجّل بهم إلى النّار. فكان عدّة الذين حصدهم ذو الفَقَار «ستّة عشر» من أبطال قريش وعُتاتها. فقال جبريلعليه‌السلام : يا رسول الله، إنّ هذه لَلْمُواساة، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه منّي وأنا منه». فقال جبريل: وأنا منكما. فسمعوا صوتاً يقول:

لا سيفَ إلاّ ذو الفَقَار

ولا فتى إلاّ عليّ(1)

إنّ الردّة والانقلاب على الأعقاب التي حذّر منها رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأثبتتها الوقائع؛ وأنزل الله سبحانه وتعالى بياناً في ذلك. قال تعالى:( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ فَلَن

____________________

(1) ذكرنا أسماء مَن قتلهم أميرالمؤمنينعليه‌السلام يوم أُحد، ومصادر الهتاف في حديث الراية وفتح خيبر.

١٦٨

يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ ) (1) .

من تفسير قَتادة، قال: ذلك يوم أُحُد حين أصابهم القرح والقتل، فقال أناس منهم: لو كان نبيًّا ما قُتِل! فقال تعالى:( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ ) الآية، يقول: ارتددتم على أعقابكم كفّاراً(2)

وعن حالة الارتداد والانقلاب على الأعقاب يوم أُحُد في قوله تعالى:( ... انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ ) ، قال مقاتل بن سليمان في تفسيره: يعني رجعتم إلى دينكم الأوّل الشِرك(3) .

قال ابن إسحاق في قوله تعالى:( وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ ) الآية. قال: أي لقولِ الناس: قُتل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوّهم.

وفي قوله تعالى:( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ ) الآية. قال: رجعتم عن دينكم كفّاراً كما كنتم! قد بيّن لكم فيما جاءكم به عني أنّه ميّت ومُفارقكم(4) .

هذا هو حال الذين استزلّهم الشيطان فأطاعوا أمره:( إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ) (5) الآية.

____________________

(1) آل عمران: 144.

(2) تفسير ابن أبي زَمنين 1: 129.

(3) تفسير مقاتل بن سليمان 1: 194.

(4) السيرة النبويّة، لابن هشام 3: 117.

(5) آل عمران: 155.

١٦٩

أزالهم الشيطان عن مواضعهم بذنوبهم ومعصيتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأبعدهم إلى الصخرة والجَلْعَب، ولم يكن فيهم عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي يئِس الشيطان أن يقربه؛ فكان في صفّ( وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ ) ، أي: مَن أطاعه وعمِل بأمرِه(1) .

ويوم الأحزاب «الخَنْدق» إذ جاءت جيوش الشِرك واليهود يقودها الأُمويّ أبوسفيان مصمّمون على اجتثاث الإسلام والمسلمين وتمكّن عَمرو بن عبدودّ في جماعةٍ من عبور الخندق ورفع صوته مطالباً مَن يبارزه، فنهض أبوالحسن عليّعليه‌السلام فما خنَسَ غيرُه، فأجلسه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهكذا ثانيةً وثالثةً وفي كلّ مرّة اثّاقل مَن حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فبرز إليه فضربه ضربةً قدّت البيضة على رأسه والمغفر وشطَر بدنه نصفين وولّت خيول المشركين هاربة فعبرت الخندق وكفى الله المسلمين بعليٍّعليه‌السلام القتال وتنفّس المرتابون الصعداء!

ومواقف الخلاف والعار والفرار كثيرة، من ذلك: يوم خَيْبر، لمّا أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُظهر حقائق القوم، فشاء الله تعالى بحكمته أن يكون عليٌّعليه‌السلام يومئذ أرمداً، فدفع النبيّ الرّاية إلى أبي بكر ففرّ هو وجماعته، فأعطاه إلى عمر ففرّ هو وجماعته، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يُحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله يفتح الله له ليس بفرّار». فلمّا كان الغد دعا عليّاًعليه‌السلام فتفل في عينه فبرأ، ثمّ هزّ الرّاية ودفعها إليه، فذهب بها يهرول فقتل مَرْحب عظيم اليهود وقلع باب حصنهم وكان الفتح على يديه. وقد ذكرنا تفاصيل ذلك ومصادره في حديثنا في الردّ على الناصبيّ الجاهل ابن تَيمِيه، في حديث الرّاية وفتح خيبر.

____________________

(1) السيرة النبويّة 1: 118.

١٧٠

إنّ أميرالمؤمنين عليّاًعليه‌السلام وهو ربيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بلغ إيمانه حدّ اليقين، فهو يعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يموت، ولكن الله تعالى حيٌّ لا يموت والشريعة خالدة ما دامت السماوات والأربعون؛ ولذا لم يكن لإذاعة الشيطان أثر في نفس أميرالمؤمنينعليه‌السلام إلاّ المضيّ قدُماً في الذبّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقهر الشِرك وجَنْدلة صناديده. ومضى عليٌّعليه‌السلام على هذه السّيرة، هو في سوح القتال شهد له الوحي في السماء والعدوّ في الأرض، وهوعليه‌السلام كان يقول في حياة النبيّ: إنّ الله تعالى يقول:( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ ) ، واللهِ لا ننقلب على أعقابنا أبداً بعد أن هدانا الله، والله لئِن مات أو قُتل لأُقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت ...

ولم يخضع عليّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام لسيرة أصحاب «الأريكة» في بثّ حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما خضع عدد من الصحابة لمشيئتهم فامتنعوا من التحديث، بل عمد بعضهم إلى تلف ما لديهم من أحاديث! وتعرّض عدد آخر للحبس لئلاّ ينشروا الحديث!

عمر يقتفي سنّة أبي بكر

ولمّا تربّع عمر على أريكة الحكم أبدى في بداية أمره رغبةً في جمع الحديث وكتابة السُّنن، إلاّ أنّه بعد مدّة منع من التدوين وبشدّة للغاية إلى حدّ أنْ عمّم ذلك في أمر رسميّ على الجميع.

وإزاء سياسة عمر المتشدّدة فقد تبعه عددٌ من الصحابة هم: أبو سعيد

١٧١

الخُدْريّ، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعريّ(1) . وحتّى أولئك القلّة المانعة نجدهم يكتبون الحديث بعد تلك الفترة(2) .

والذي يعترض طريقنا في هذا المضمار جملة أُمور:

1 - لم يكن لعمر ومَن تبعه في المنع نص شرعيّ يستند إليه، حالهم في ذلك حال أبي بكر الذي وجد كتابة الحديث معمول بها في أيّام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل وأمرصلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوب كتابة أحاديثه ونشرها، فقام أبوبكر أوّلاً إذ انتهت إليه الأريكة بعملية تدوين الأحاديث وجمعها ثمّ عدا عليها فحرقها ولم يكن له ما يتذرّع به من حجّة شرعيّة إلاّ قوله: «خشيتُ أن أموت وهي عندي، فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني فأكون قد نقلت ذلك». ذكرنا كلامه هذا سابقاً.

2 - مخالفة الصحابة، وهم الأكثر عدداً، لإجراء المنع، مع أنّ هذا العدد مَن هو أكثر اتصالاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من أقاربه وخاصّته، مثل أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ وأيضاً أنس بن مالك خادمه، وعائشة زوجته.

فلو كان التدوين ثابتاً - شرعيّاً - أنّه الحرمة والمنع، لم يكن أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وأنس وأمثاله يخفى عليهم ذلك الحكم. ولقد كان هؤلاء من المصرّين على إباحة التدوين ومزاولين له وقد اُثِرَتْ عنهم كتبٌ ومؤلّفات في الحديث. ولو كان إجراء عمر شرعيّاً لما خالفوه.

____________________

(1) مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: 296.

(2) دراسات في السنّة النبويّة الشريفة، للدكتور صدّيق عبدالعظيم أبي الحسن: 104.

١٧٢

ربّما يُقال: إنّ الصحابة اختلفوا في تدوين الحديث، فمنهم مَن ترك ذلك ومنهم مَن فعلها أو أباحها؛ ولا يمكن والحال هذه تقديم الترك على الفعل، لأنّ دلالة الفعل نصٌّ ودلالة الترك ظاهرٌ، لأنّه أعمّ من الحرمة وتقديم النصّ على الظاهر أولى.

ونظراً لذلك يمكن الجزم بأنّ إجراء المنع إنّما رأيٌ خاصٌّ بعمر لتحقيق غرضٍ خاصٍّ به.

والنصوص في حديث عمر وأتباعه، صريحة بنفسها على أنّهم لم يكن لهم أصل شرعيّ وإنّما هو رأي رأوه لتحقيق أمرٍ ما. فوجب دراسة النصوص:

«قال عُروة بن الزبير: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتبَ السنَن فاستشارَ في ذلك أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأشاروا عليه أن يكتبَها، فطفقَ عمر يستخيرُ الله فيها شهراً! ثمّ أصبح يوماً، وقد عزمَ الله له! فقال: إنّي كنتُ أردت أن أكتب السنن، وإنّي ذكرتُ قوماً قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى وإنّي واللهِ لا ألْبِسُ كتابَ الله بشيءٍ أبداً»(1) .

يدلّ هذا النصّ على أمور غاية في الأهميّة:

1 - إنّ الكتابة في الأصل لم تكن حراماً ولا ممنوعة، وإلاّ كيف أراد عمر أن يكتب السنن؟

____________________

(1) تقييد العلم، للخطيب البغداديّ: 49. (والغريب أنّ النصّ يحتوي على نسبة ذلك إلى الله تعالى بقوله: ثمّ أصبح وقد عزم الله له. قال أبو شهبة: ولكن الله لم يرد له. دفاع عن السنّة: 21، لابن شهبة.

١٧٣

والنصّ يدلّ على أنّ عمر لم يعرف من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهياً عن التدوين، فأخذ يستشير الصحابة، مضافاً إلى أنّه لم يستدلّ بالنهي الشرعيّ، وإنّما علّل بغير ذلك، كما سيجيء.

قال المـُعلمي في ذلك: فلو كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن كتابة الأحاديث مطلقاً لما همَّ بها عمر، وأشار بها عليه الصحابة(1) .

2 - إنّ أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عامّتهم، أشاروا عليه أنْ يكتبَها.

3 - إنّ عمر - بالرغم من أنّه استشار الأصحاب فأشاروا عليه أن يكتب الحديث - خالفهم ولم يأخذ بآرائهم، بل منع الكتابة.

وقال «يحيى بن جعدة: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ثمّ بدا لُه أن لا يكتبَها، ثمّ كتب في الأمصار: «مَنْ كان عندَه منها شيءٌ فلْيَمْحه»(2) .

وبملاحظة هذا النصّ نجده يحتوي على:

1 - إرادة عمر لكتابة السنّة. وهذا معناه أنّ الكتابة لم يكن فيها حرَجٌ أو منع في أصل الشرع.

2 - إنّ قوله: «أراد» وقوله: «بدا لَهُ» يدلاّن بوضوح على أنّ إقدام عمر كان عن رغبة شخصيّة، وأنّه كان يعمل ما يبدو له، كما دلّ عليه النصّ السابق،  وإلاّ لاستند إلى إرادة الشارع ونهيه.

وقال «القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بن الخطّاب بلغه أنّه قد ظهر

____________________

(1) الأنوار الكاشفة، للمعلميّ اليمانيّ: 38.

(2) تقييد العلم: 53.

١٧٤

في أيدي الناس كُتبٌ، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيّها الناس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كُتبٌ، فأحَبُّها إلى الله أعْدلُها وأقومُها، فلا يُبقينّ أحدٌ عنده كتاباً إلاّ أتاني به، فأرى فيه رأيي.

قال: فظنّوا أنّه يُريد أن ينظر فيها ويُقوِّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف، فأتَوْهُ بكتبهم، فأحرقها بالنار.

ثمّ قال: اُمنية كاُمنية أهل الكتاب(1) .

وفي بعض النقول: مثناةٌ كمثناة أهل الكتاب(2) .

المستفاد من النصّ:

1 - قوله: «قد ظهرت في أيدي الناس كتبٌ».

يدلُّ هذا على أنّ الكتب كانت منتشرة بين الناس لا يجدون حرجاً من تداولها، ولو كانت ثمّة حرمة في ذلك وهم أبناء الصدر الأوّل للإسلام، والكتب فيها ما كتبه الصحابة ...

وهذا - في نفسه دليل على أنّ حكم التدوين - أوّلاً، وقبل منع عمر هو الجواز والإباحة.

2 - قوله: فاستنكرها، وكرهها.

وهذا يعني أنّ الأمر راجع إلى عمر وسلوكه وكراهته لتلك الكتب دونَ أن يكون فيها ما يوجب الكراهة والاستنكار؛ وذلك: لأنّ عمر إنّما كرِه الكتب

____________________

(1) نفسه: 52.

(2) طبقات ابن سعد 1: 140 (طبع ليدن). والصواب مشناه - بالشين والهاء، كما سيأتي -.

١٧٥

واستنكرها قبل أن يراها!، كذلك وجود الكتب في أيدي الناس، وكما ذكرنا أنّهم أبناء الصدر الأوّل للإسلام إمّا صحابة أو أخذوها عن صحابة، واحتفاظهم بها، دليلٌ على عدم احتوائها على ما يُنكر ويكره، وإلاّ لصرّح عمر بما فيها ليكون شافعاً في حرقها، مع تحفّظنا من مسألة الحرق لاحتواء الكتب على ألفاظ الجلالة وآيات القرآن الكريم!

3 - قوله: فظنّوا ...

دلالته ظاهرة في الفرق الكبير بين الناس وعمر. فالناس ظنّوا به خيراً وأحضروا إليه أعزّ ما يملكون «الكتب»، وعمر عمل بما لا يأملونه منه فخاب ظنّهم إذ أحرق كتبهم، ولو علموا ذلك، لما أحضروا إليه الكتب ولأخْفَوها عنه.

وأخيراً: فإنّ لجوء عمر إلى «حرق كتب السنّة بالنار» عملٌ غريب لأكثر من إشكال: فالكتب تلك هي أموال الناس الخاصّة ولا يجوز التصرّف فيها فضلاً عن حرقها من دون رضاهم.

ولا ندري هل علماء الإسلام موافقون بالإجماع على هذا العمل خصوصاً وأنّ عمر قد صرّح باحتمال احتوائها على «الأعدل، والأقوم»، وقطعاً أنّ فيها كثيراً من سُنن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لفرض أنّ الكتب كانت صادرةً من الناس الذين فيهم علماءُ الصحابة.

فإذا كان عدد الأحاديث التي صرّح أبوبكر بحرقها هي «خمسمائة»، فإنّ الذي أتلفه عمر أكثر بكثير من ذلك! والذين وافقوا عمر لكن لا بالإحراق وإنّما بالغَسْلِ بالماء كما فعل أبوموسى الأشعريّ وابن مسعود وغيرهما. ثمّ خفّت

١٧٦

(والحمدُ لله!) فيما تلا ذلك من العصور، من الإحراق والغسل، إلى مجرّد الدَفْنِ!.

قال إبراهيم بن هاشم: دفَنّا لبشر بن الحارث ثمانية عشر ما بين قِمْطر وقَوْصرة(1) .

أحمد، وابن الجوزيّ يُنكران دفن الكتب

قال أحمد بن حنبل: «لا أعلم لدفْنِ الكتب معنىً»(2) .

وجعل ابن الجوزيّ «دفن كتب العلم، وإلقائها في الماء» من تلبيس إبليس على جماعة من القوم، وقد كان جماعة منهم تشاغلوا بكتابة العلم، ثمّ لبّسَ عليهم إبليسُ وقال: «ما المقصود إلاّ العمل» ودفنوا كتبهم. وأضاف: إنّ العلم نورٌ، وإنّ إبليس يُحسّن للإنسان إطفاء النور، ليتمكّن منه في الظُلمة، ولا ظُلمة كظُلمة الجَهْل، ولمّا خاف إبليسُ أنْ يعاود هؤلاء مطالعة الكتب، فربّما استدلّوا بذلك على مكايده حسّنَ لهم دفْنَ الكتب وإتلافها.

وهذا فعلٌ قبيح محظورٌ، وجهلٌ بالمقصود بالكتب.

وقال: واعلم أنّ الصحابة ضَبَطت ألفاظ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا كانت الصحابة قد روت السنّة، وتلقّاها التابعون وسائر المحدّثين، وقطعوا شرق الأرض وغربها لتحصيل كلمة من هاهنا، وكلمة من هاهنا، وصحّحوا ما صحّ وزيّفوا ما لم يصحّ، وجرحوا الرواة وعدّلوا، وهذّبوا السنن وصنّفوا.

____________________

(1) تقييد العلم: 62 - 63.

(2) نفسه.

١٧٧

ثمّ مَن يغسل ذلك، فيضيّع التعبَ، ولا يعرف حكم الله في حادثة؟! فما عوندت الشريعة بِمثْل هذا!.

أفَتَرى، إذا غُسِلت الكتب، ودُفِنت؛ على مَن يُعْتَمدُ في الفتاوى والحوادث(1) ؟!

إنّ استنكار أحمد، وابن الجوزيّ للدفن، الذي هو واحدٌ من طُرُق إبادة الحديث، وهو أهون من طريق حرق الكتب أو غسلها بالماء حيث لا يمكن بعد استعادتها، أمّا المدفونة فربّما أُخرجت قبل أن تتلف. وعلى هذا، إذا كان ابن حنبل، وابن الجوزيّ يستنكران دفن الكتب، فهما بالأولى يستنكران الإحراق بالنار أيّاً كان فاعله!

إنّ إتلاف كتب الغير من غير رضىً، محرّم شرعاً وموجب للضمان وضعاً.

وهو إضافة إلى المسؤوليّة الشرعيّة، فهو مسؤوليّة حضاريّة تستوجب الحساب والعقاب مهما كانت منزلة الفاعل الاجتماعيّة.

موافقوا عمر في رأيه وفعله

خضع نفر من الصحابة لدستور عمر وعملوا به، بعد أن كانوا يكتبون حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من غير حرَج، فصاروا متشدّدين في المنع، ومنهم مَن رجع إلى مزاولته بعد وفاة عمر!

قال أبو نَضْرة: قلنا لأبي سعيد - الخُدْريّ - اكتَتَبْنا من حديث رسول

____________________

(1) تلبيس إبليس، لأبي الفرج ابن الجوزي: 314 - 316.

١٧٨

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟.

قال: امْحُه(1) .

قال عبد الرحمان بن أبي مسعود: كنّا نسمعُ الشيءَ فنكتبه، ففطنَ لنا عبد الله - يعني: ابن مسعود - فدعا أُمَّ ولده، ودعا بالكتاب، وبإجانة من ماءٍ، فغسله(2) .

وقال أبو بُردة: كان لأبي موسى - الأشعريّ - تابعٌ، فقذفه في الإسلام، فقال لي: يُوشك أبو موسى أن يذهبَ ولا يُحفظ حديثه، فاكتب عنه.

قال: قلتُ: نِعْمَ ما رأيتَ.

قال: فجعلتُ أكتبُ حديثه.

قال: فحدّث حديثاً فذهبتُ أكتبُه كما كنتُ أفعل، فارتاب بي وقال: لعلّك تكتب حديثي؟

قال: قلت نعم.

قال: فأتني بكلّ شيءٍ كتبته.

قال: فأتيته به، فمحاهُ، ثمّ قال: احفظ كما حفظتُ(3) .

وهؤلاء حالهم حال عمر، فهم:

1 - لم يحاولوا أن ينسِبُوا شيئاً إلى الشرع، أو يستدلّوا بنصٍّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - انّ إقدام هؤلاء لم يكن إلاّ رأياً منهم، فلم يكن ملزماً للآخرين، لأنّه:

____________________

(1) تقييد العلم: 38.

(2) سنن الدارمي 1: 102.

(3) طبقات ابن سعد 4: 112.

١٧٩

أوّلاً: مخالفٌ لما ثَبتَ في الشرع من إباحة التدوين، على ما سلف من الكلام. وخلاصته أنّه اجتهادٌ - في تحسين العبارة! - في مقابل النصّ؛ وإلاّ فهو الخلاف والهلاك الذي قال عنه ابن عبّاس:

روى سعيد بن جُبير، عن ابن عبّاس، قال: تمتّع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال عُروة بن الزُبير: نهى أبوبكر، وعمر عن المتعة!

قال: ابن عبّاس: ما يقولُ عُرَيَّة؟!

قال: يقول: «نهى أبوبكر، وعمر عن المـُتعة»!.

فقال ابن عبّاس: أراهُم سيهلكُون، أقول: «قال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله ». ويقولُ: «نهى أبوبكر وعمر»(1) .

وكان عبد الله بن عمر يُفتي بالذي أنزل الله عزّ وجلّ من الرُخصة بالتمتّع، وبما سنّ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيها، فقال ناسٌ لابنِ عمر: كيف تُخالفُ أباكَ، وقد نهى عن ذلك؟.

فقال لهم: وَيْلكم، ألا تتّقون الله؟ إن كان عمر نهى عن ذلك، فيُبتغى فيه الخير؟!

فلِمَ تُحَرِّمون ذلك، وقد أحلّه الله، وعمل به رسول الله عليه الصلاة

____________________

(1) مسند أحمد - طبعة شاكر - 5: 48/3121 وطبعة مصر (6 أجزاء) 1: 337، الفقيه والمتفقّه 1: 145، السنة قبل التدوين: 88. [ آل الزبير عندهم عُقدة شديدة من المـُتعة، ومناظرات عبد الله بن الزبير مع ابن عبّاس كثيرة في هذا الأمر حتّى أحرجه ابن عبّاس وأثبت له أنّه ابن مُتعة! وتكلّمنا بما فيه الكفاية في موضعه عن ذلك ].

١٨٠