ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 117669
تحميل: 5803


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117669 / تحميل: 5803
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : أمتهوّكونَ أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتُكم بها بيضاء نقيّةً، ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلاّ اتّباعي.

وقال: قال في جواهر الكلام «ص 133» التهوّك: السقوط في هُوّة الردى(1) .

وقال الجوهري: في الحديث - عن طريق آخر - أنّ عمر أتاه بصحيفة، أخذها من بعض أهل الكتاب، فغضبصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: أمتهوّكون فيها، يا ابن الخطّاب؟(2)

وقال أبو عبيدة في معنى متهوّكون، معناه: أمتحيّرون في الإسلام حتّى تأخذوه من اليهود؟

وقال ابن سيدة: يعني أمتحيّرون؟ وقيل معناه: أمتردّدون ساقطون(3) . هذا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم، فيأتيه أشدّ الناس منعاً لحديثه فيما بعد «عمر» بصحفٍ وأحاديث وأدعية من عند يهود قد أجبته، ومن أخٍ له من «قُريظة» كما صرّح عمر، وبجوامع من التوراة أعطاه إيّاها أخوه اليهوديّ، وبكتابٍ من كتب اليهود انتسخه ليزداد به المسلمون علماً إلى علمهم ...؛ ممّا أسخط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخاطب عمر ومَن يمكن أن يكون على شاكلته بالتشكيك والسقوط في هُوّة الردى، كما حصل لأصحاب التوراة والإنجيل.

والوقائع فيما بعد تؤكّد كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مع عمر: «أمتهوّكون»؟ فلمّا أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكتب كتاباً لنْ تضلّ أُمّته بعده، وذلك في مرضه الذي قُبض فيه،

____________________

(1) حجّية السنّة: 317.

(2) الصحاح للجوهريّ (هوك)، ولسان العرب 12: 400.

(3) لسان العرب 12: 400.

٢٠١

تصدّى له عمر، وانضمّ إليه جم من المتهوّكين، فمنعوه من كتابة الكتاب، لعلمهم بما سيكتب إذ قدّم لهمصلى‌الله‌عليه‌وآله النصح والوصيّة بالتزام الثّقَلين كتاب الله العزيز، وعِترته أهل بيته، وأنّهم لن يضلّوا ما داموا متمسّكين بهما ...، ثمّ أراد أن يُثبت ذلك في كتاب فثارت نائرة عمر و كانت الرزيّة.

ولم تنقطع سلسلة ذلك العمل الذي بدأه أبوبكر بحرق أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكبّ عليه عمر بشدّة وآزره نفرٌ كانوا يكتبون حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ عدلوا عن ذلك فصاروا نسخةً ثانيةً لعمر في التشدّد في المنع وكانت حجّة عمر في المنع كما ذكرنا هو التخوّف من ترك القرآن والاشتغال بغيره - أي الحديث - مع استعمالهم مصطلح «مشناه» وهو مصطلح يهوديّ عبّروا به عن التوراة المبدّلة في قبال التوراة التي لم تبدّل. وذكرنا أنّ عمر هو أوّل مَن استعمل هذه الكلمة في مقام تشبيه ما كتبه الناس من الأحاديث النبويّة بما كتبه اليهود. وعمر أعرف بلغة اليهود، فله فيهم إخوان وهو معجب بكتبهم وعلمهم، ويريد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإفادة منها.

وأيضاً بعد مضيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدّل في كلمات القرآن مع زعمه بوجود آيات وسور كانت على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسقطت. وعاضده في ذلك بعض أمّهات المؤمنين، ونفر من الصحابة.

فلو أخذ المسلمون بأقواله، ولو لا الحفظ الربّانيّ للقرآن، لوجدنا قرآناً غير الذي بين أيدينا.

والحاصل أنّ ترك القرآن - والمراد به عدم الاعتقاد به - إنّما يترتّب على

٢٠٢

الالتزام بكتب الأديان الأخرى، التي جاء القرآن نافياً لها وكافياً عنها، ليس على كتابة شيءٍ آخر ممّا لا يُعارض القرآن ولا ينافيه. وأمّا الحديث الشريف فلا يُمكن أن يتصوّر فيه أنّه معارض للقرآن. وقد صرّح القرآن نفسه بأنّ النبيّ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحَى‏ * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) (1) .

وعن حسّان بن عطيّة، قال: كان جبريلعليه‌السلام ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسنّة كما ينزل عليه القرآن، ويعلّمه كما يعلّمه القرآن(2) .

ونقل عن أحمد بن حنبل قوله: السنّة تفسّر القرآن وتبيّنه، والسنّة عندنا آثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسنّة تفسير القرآن، وهي دلائل القرآن(3) .

وقال عبد الرحمان بن مهدي: الرجل إلى الحديث أحوجٌ منه إلى الأكل والشرب، لأنّ الحديث يفسّر القرآن(4) .

وقال ابن حزم لمّا بيّنّا أنّ القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع، نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ووجدناه عزّوجلّ يقول فيه واصفاً لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ ) (5) ، فصحّ لنا بذلك أنّ الوحي ينقسم

____________________

(1) النجم: 3 - 5.

(2) المراسيل: 249 ح 2.

(3) حجيّة السنّة: 332.

(4) نفسه.

(5) النجم: 3 - 4.

٢٠٣

من الله عزّ وجلّ إلى رسوله على قسمين:

أحدهما: وحْيٌ، متلوٌّ، مؤلّف تأليفاً معجزَ النظام، وهو القرآن.

والثاني: وحْيٌ، مرويٌّ، منقول، غير مؤلّفٍ، ولا معجز النظام، ولا متلوّ، لكنّه مقروءٌ، هو الخبر الوارد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهوالمبيّن عن الله عزّ وجلّ مرادَه(1) .

وقال الشيخ أبو زهو: السنّة هي أحد قِسْمَي الوحي الإلهيّ الذي نزل به جبريل الأمين على النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقسم الثاني هو القرآن الكريم(2) .

وقال: وقد وكّل الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُبلّغ القرآن الكريم للناس وأن يُبيّن لهم بقوله وفعله ما يحتاج إلى البيان، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ يُبيّن للناس كتاب الله لا يُصْدِر عن نفسه، ولكنّه يتّبع ما يوحى إليه من ربّه، فالسنّة النبويّة وظيفتها تفسير القرآن الكريم والكشف عن أسراره، وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره وأحكامه(3) .

وقال الشيخ عبد الغني عبد الخالق: السنّة مع الكتاب في مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعيّة، ولا نزاع أنّ الكتاب يمتاز عن السنّة بأنّ لفظه منزّل من عند الله، متعبّد بتلاوته، معجزٌ، ولكن ذلك لا يوجب التفصيل بينهما من حيث الحُجيّة(4) .

إنّ السنّة الشريفة امتدادٌ للقرآن، وتطبيقٌ عمليّ لمؤدّاه، وليس اتّباع السنّة

____________________

(1) الاحكام في اُصول الأحكام، لابن حزم 1: 93.

(2) الحديث والمحدّثون: 11.

(3) الحديث والمحدّثون: 38.

(4) حجيّة السنّة: 485.

٢٠٤

إلاّ اتّباعاً للقرآن، وتطبيقٌ عمليٌّ لمؤدّاه، وليس اتّباع السنّة إلاّ اتّباعاً للقرآن، حيث أمر الله سبحانه بذلك في كتابه الكريم بالأخذ بما أمر به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فقال:( مَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (1) .

ولا تختلف السنّة عن القرآن في الحُجيّة، وقد أجمع على ذلك علماء الإسلام، وعقد أهل الحديث في كتبهم أبواباً تدلّ تراجُمها على ذلك فقد ترجم الخطيب البغداديّ أوّل أبواب كتابه «الكفاية» بعنوان «باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى، وحكم سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في وجوب العمل، ولزوم التكليف»(2) .

وترجم الباب الثاني منه بعنوان «باب تخصيص السنن لعموم محكم القرآن، وذكر الحاجة في المجمل إلى التفسير والبيان»(3) .

وأورد في كتابه «الفقيه والمتفقّه» أحاديث دالّة على أنّ السنّة معتبرة في عرض الكتاب(4) .

منهج عمر في المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

لقد انتهج عمرُ منهجاً متعدّد الأطراف لتحقيق هدفه في منع حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك:

____________________

(1) الحشر: 7.

(2) الكفاية: 39.

(3) الكفاية: 45.

(4) الفقيه والمتفقّه 1: 86.

٢٠٥

أوّلاً: منعَ وفدَ الصحابة الذين أرسلهم إلى الكوفة من الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...، وقد مضى الكلام عن ذلك.

ثانياً: منع عمر صحابة عن الحديث:

- فمنع أبا هريرة:

قال عمر لأبي هريرة: لتتركنّ الحديثَ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أولاُلْحقنّك بأرضِ دَوْسٍ(1) .

وقال له أيضاً: لتتركن الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو لاُلْحقنّك بأرض الطنيح - يعني أرض قومه -(2) .

وقال له: لتتركنّ الرواية - أو الإكثار من الرواية - أو لألحقنّك إلى جبال دَوْس(3) .

وقال ابن أبي الحديد: ضربه عمر بن الخطّاب - في خلافته - بالدرّة، وقال له: لقد أكثرتَ الرواية، وأحْرِ بك أن تكون كاذباً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (4) :

- ومنع ابن مسعود، وأبا مسعود:

بعث عمر إلى أبي مسعود الأنصاريّ، وابن مسعود، فقال: ما هذا الحديثُ

____________________

(1) المحدّث الفاصل بين الرواي والواعي، للرامهرمزي (المتوفّى 360 هـ): 554، رقم 746، البداية والنهاية 8: 106.

(2) أخبار المدينة المنوّرة، لابن شبّة 3: 800.

(3) الاعتصام بحبل الله المتين، للقاسم بن محمّد الزيديّ 2: 29، تاريخ مدينة دمشق 67: 343.

(4) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 4: 68.

٢٠٦

الذي تُكثرونه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) .

ونقله ابن عديّ، وفيه: بعث عمر بن الخطّاب إلى عبد الله بن مسعود، وإلى أبي الدرداء، وإلى أبي مسعود الأنصاري، فقال: ما هذا الحديث الذي تُكثرون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فحبسهم بالمدينة حتّى استُشهد(2) .

- ومنع أبا موسى الأشعريّ - لمّا بعثه إلى العراق - بمثل ما ورد في حديث قرظة بن كعب. «ذكرناه مع مصادره».

- ومنع عمرُ عامّة الناس عن الحديث:

خطبَ عمرُ، وقال: ألاَ، لا أعْلَمنّ ما قال أحدكم: إنّ عمر بن الخطّاب منعنا أن نقرأ كتاب الله، إنّي ليس لذلك أمنعكم.

ولكن، أحدكم يقوم لكتاب الله، والناس يستمعون إليه، ثمّ يأتي بالحديث من قبل نفسه! إنّ حديثكم هو شرُّ الحديث، وإنّ كلامكم هو شرُّ الكلام.

مَن قام منكم، فليقُم بكتاب الله، وإلاّ فليجلس، فإنّكم قد حدّثتم الناس حتّى قيل: «قال فلان، وقال فلان» وتُرك كتاب الله(3) .

وقفة قصيرة مع خطبة عمر

إنّ ظاهر هذه الخطبة المنع من حديث المتكلّمين خلالَ القرآن، ولم يصرّح

____________________

(1) تاريخ دمشق 39: 108.

(2) الكامل، لابن عديّ 1: 18.

(3) تاريخ المدينة المنوّرة، لابن شَبّة 3: 800.

٢٠٧

فيه بالمنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكن يمكن أن يُفهم ذلك بملاحظة اُمور:

1 - إيراد ابن شَبّة لهذه الخطبة في سياق ما نقله من منْعِ عمر للصحابة من نقل الحديث والرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

2 - ظهور الخطبة - وخاصّة الفقرة الأخيرة منها - في تأكيد عمر على ترك كلّ حديث ما سوى كتاب الله، وهو نفس المقولة المعروفة عن عمر «حسبُنا كتاب الله» ويؤدّي مؤدّاها.

إنّ عمر كان يردّد «حسبُنا كتاب الله» في مقابل الحديث وروايته، كما يظهر من تعليله المنع من الحديث بالمحافظة على القرآن وخوف تركه الاشتغال بغيره. وهو ما عرفناه منه مراراً في أقواله التي تضمّنت منع التدوين، كقولِه: إنّي لا ألْبس كتاب الله بشيء أبداً.

3 - إنّ حسن الظنّ بالمحدّثين في ذلك العصر، يقتضي أنّ الشيء الذي ينقلونه خلال قراءتهم للقرآن الكريم، وإلى جنب آياته، بحيث يقبله المسلمون إذا استمعوا إليه أن يكون مقدّساً، وحقّاً، لا كلّ كلام صدَرَ من أيّ أحدٍ وبأيّ محتوىً.

ولا يُعقل من معلميّ القرآن، ولا بدّ أن يكون فيهم مجموعة من الصحابة إن لم يكن كلّهم منهم، ومجموعة من التّابعين الكبار، أن يقرأوا القرآن، ويحدّثوا الناسَ في أثناء تلاوتهم بأشياء باطلة، وبأشياء تكون «شرّ الحديث» كما عبّر عنها عمر! ومع هذا يقبل المسلمون ذلك ولم ينتبهوا إلى بطلانه! إلاّ بتنبيه مر؟!

إنّ أفضل تفسير لذلك: أن يكون ما ينقلونه من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، غير

٢٠٨

أنّه من الأحاديث التي لم تَرُق السلطة الحاكمة، وممّا يُعارض سياستها.

ثالثاً: عمر يُهدّد الصحابة على الحديث ويهينهم

- أخرج الفسويّ بسنده قال: حدّثنا أبو نُعَيم، أخبرنا طلحة بن يحيى، عن أبي بُردة، قال: جاء أبو موسى - الأشعريّ - إلى عمر فقال: أيدخل الأشعريّ؟ أيدخل عبد الله بن قيس؟ أيدخل أبو موسى؟ ثمّ انصرف. فبعث عمرُ على أثره، فقال أبو موسى: سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «ليستأذنّن أحدُكم ثلاثاً فإنْ اُذنض له، وإلاّ فليرجع». قال: لئن لم تأتني على ذي بِبيِّنةٍ لأُعاقبنّك ولأفعلنّ بك كذا وكذا!»(1) .

وفي لفظ: «أقم عليه البيّنة وإلاّ أوجعتك»(2) .

فجاء باُبيّ بن كعب، فقال: يا عمر! أبعثت تُعذّب أصحاب محمّد؟، سمعتُ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ذلك(3) .

وبسنده أخرج مسلم عن طلحة بن يحيى عن أبي بُرْدَةَ عن أبي موسى الأشعريّ، قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطّاب فقال: السلام عليكم هذا عبدُ الله بن قَيْس، فلم يأذن له، فقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعريّ، ثمّ انصرف، فقال رُدّوا عليَّ رُدّوا عليَّ فجاء. فقال: يا أبا موسى ما

____________________

(1) المعرفة والتاريخ 1: 110. ومسند أحمد 4: 398 طبعة دار صادر - بيروت، سنن الدارمي 2: 2274 طبعة الاعتدال - دمشق، سنن أبو داود 2: 514 رقم 5181.

(2) الموطّأ 2: 964، صحيح مسلم 7: 131، الرسالة، للشافعيّ: 430.

(3) المعرفة والتاريخ، للفَسَويّ 1: 110.

٢٠٩

ردّكَ، كُنّا في شُغْلٍ، قال: سمِعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولُ: «الإِستئذانُ ثلاثٌ فإنْ أُذِنَ لكَ وإلاّ فارجِعْ» قال: لَتأْتِيَنّي على هذا ببيّنةٍ، وإلاّ فعلتُ وفعلتُ! فذهب أبو موسى.

قال عمر: إنْ وجدَ بَيِّنةً تجدوهُ عن المِنبر عشيّةً، وإنْ لم يجدْ بَيِّنةً فلمْ تجدوه. فلمّا أن جاء بالعَشِيِّ وجدُوه، قال: يا أبا موسى ما تقولُ أقد وجدتَ؟ قال: نعم، أُبيَّ بنَ كَعْبٍ، قال: عدلٌ. قال: يا أبا الطُّفَيْل ما يقولُ هذا؟! قال: سمِعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولُ ذلك يا ابنَ الخطّاب فلو تكوننَّ عذاباً على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال سبحانَ الله إنّما سمِعتُ شيئاً فأحببتُ أن أتثبّتَ!(1) .

لقد تذرّع بأنّه خشي الكذب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأراد الاحتياط في الحديث والرواية.

إلاّ أنّها ذريعةٌ باطلة، إذ إنّ الصحابيّ العادل إذا سمع شيئاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجبَ عليه تبليغُه وأداؤه إلى الآخرين، لأنّه سنّة، والسنّة شريعة، والصحابةُ من حفّاظها. فكيف يجوز لأحدٍ أن يتشدّد عليهم هكذا؟

ولو فرضنا أنّه لم يجد مَن سمع الحديث من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيشهد له، فهل يجوز أن يُهان ويُكَذَّب ويُهدَّد؟!

وما الجواب في عدم ردّه سلام أبي موسى ثلاث مرّات، أموافق لخُلثق القُرآن والسنّة، أم مخالف؟!!

أليس هذا سدًّا لباب الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وهذا ما صرّح به

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 134 - 135.

٢١٠

أبوهريرة جرّاء ما حديث له من تهديد عمر له، وفي روايات أنّه ضربه بالدرّة، كما ذكرنا، حتّى امتنع أبوهريرة من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تماماً، أو بما يوافق مزاج السلطة.

وقبل أن نأتي على ذكر ما يخصّ ما كان بين عمر وأبي هريرة بشأن الحديث؛ نذكر نصوصاً أُخرى بما جرى لأبي موسى:

أخرج ابن ماجة، قال: حدّثنا أبوبكر، حدّثنا يزيد بن هارون. أنبأنا داود بن أبي هند عن أبي نَضْرة عن أبي سعيد الخُدْريّ، أنّ أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً، فلم يُؤذَن له، فانصرفَ. فأرسل إليه عمرُ: ما ردّكَ؟ قال: استأذنتث الاستئذان الذي أمرنا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثاً، فإنْ أُذِنَ لنا دَخَلْنا، وإن لم يُؤذن لنا رجَعْنا. قال، فقال: لَتَأتِيَنّي على هذا بِبَيِّنةٍ، أو لاَفعلَنَّ.

فأتى مجلس قومه فناشدهم. فشهِدوا له. فخلّى سبيله(1) .

ولا تعليق لنا على الرّواية أكثر ممّا مضى إلاّ أن نقول: إنّ التهديد قد أخذ من أبي موسى مأخذه! وهو يسمع التوكيد على أن يأتي بشاهد على قوله «لَتَأتِيَنّي» وإنهائها بالوعيد والتهديد «أو لأفعلنَّ». مما حمله على مناشدة قومه ليشهدوا له عند عمر، بصدق دعواه، لينجوا من عقوبته المرتقبة. فلمّا تحقّق له ذلك، نجا بجلدِه من الدرّة!

وممّا يُعبّر عن الحالة النفسيّة المضطربة جرّاء تهديدات عمر الجادّة بشأن الصحابة في مجرّد روايتهم حديث واحد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد أخرج مسلم رواية

____________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 1221، باب 17 (باب الاستئذان) رقم 3706.

٢١١

أبي موسى، قال: حدّثني عمرو بن محمّد بن بُكَيْر النّاقد، حدّثنا سُفيان بن عُيَيْنة حدّثنا يزيد بن خُصَيْفة عن بُسْر بن سعيدٍ، قال: سمِعتُ أبا سعيدٍ الخُدْريّ يقولُ كنتُ جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فَزِعاً أو مذعوراً! قُلنا: ما شأنُك؟ قال: إنّ عمر أرسل إليَّ أن آتِيَهُ فأتيتض بابَه فسلّمتُ ثلاثاً فلم يَردَّ عليَّ فرجعتُ، وقد قال رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا استأذنَ أحدُكم ثلاثاً فلم يُؤذنْ له فلْيرجِعْ» فقال عمر: أَقِمْ عليهِ البَيِّنةَ وإلاّ أَوْجعتُكَ. فقال أُبَيُّ بنُ كَعْبِ: لا يقومُ معه إلاّ أصغرُ القوم. قال أبو سعيد: قلتُ انا أصغرُ القوم، قال: فاذهب به. قال أبو سعيد: فقمتُ معه فذهبتُ إلى عمر فشهدتُ(1) .

فلماذا الفزع أو الذعر الذي ركب الصحابيّ أبا موسى، أحربٌ جرت أم خطرٌ أحدق ببيضة الإسلام؟ لا هذا، ولا ذاك. وإنّما هو تهديد عمر له بعد أن أذلّه بالوقوف على بابه واستئذانه ثلاثاً فلم يأذن له، علماً أنّه في هذه الرّواية هو - عمر - هو الذي أرسل إليه أن يأتيه فأطاعه! فلمّا ذهب صار إلى حسابه! فلمّا أجابه أنّه أتاه فسلّم على بابه ثلاثاً فلم يُرَدّ عليه فرجع، ثمّ ذكر حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، عندها ثارت ثائرة عمر! فلعلّه أحسّ نفسيّاً وكأنّ أبا موسى يقول له: قد خالفتَ السنّة؟! فتهدّده وطلب البيّنة على صدقه وإلاّ أوجعه عقوبةً، والحمدُ لله أنّه اكتفى بشهادة أبي سعيد الخُدْريّ ولم يطلب شاهداً آخراً، فكفّ عن أبي موسى.

وألفاظ التهديد بعضها أشدّ من بعض، فغير ما ذكرنا:

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 130 - 131.

٢١٢

أخرج مسلم بسنده عن بُسْرَ بن سعيد أنّه سمِع أبا سعيد الخُدْريّ يقول: كنّا في مجلسٍ عند أُبَيِّ بن كَعْبٍ فأتى أبو موسى الأشعريّ مُغْضَباً حتّى وقف فقال أنشُدُكُمُ اللهَ هل سمِعَ أحدٌ منكم رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولُ: «الاستئذانُ ثلاثٌ فإنْ أُذِنَ لك وإلاّ فارجِعْ» قال أُبيٌّ: وما ذاك؟ قال: استأذنتُ على عمرَ بن الخطّاب أمسِ ثلاثَ مرّاتٍ فلم يُؤذَنْ لي فرجعتُ. ثمّ جئتُ اليومَ فدخلتُ عليه فأخبرتُه أنّي جئتُ أمسِ فسلّمتُ ثلاثاً ثمّ انصرفتُ. قال: قد سمِعناك ونحنُ حينئذٍ على شُغْلٍ فلَوْ ما استأذنتَ حتّى يُؤذنَ لك، قال: استأذنتُ كما سمِعتُ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . قال: فو اللهِ لاُوجِعنَّ ظهرَك وبطنك أو لتأتينّ بمَن يشهدُ لك على هذا، فقال أبيّ بن كعب: فو الله لا يقومُ معك إلاّ أحدثُنا سِنًّا. قُم يا أبا سعيد، فقمتُ حتّى أتيتُ عمر فقلت: قد سمعتُ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول هذا.

غريب! فأبو موسى يُسلّم ثلاثاً، ولا يسمع جواباً، فإذا كان اليوم الثاني أخبر عمر بذلك، ولعلّه يأمل أن يجد عنده عذراً! فكان على غير ما أمّل فإنّ عمر كان على شُغْلٍ أعاقه عن ردّ السلام! ولم يقف عند هذا وإنّما علّق ما كان منه بعنق أبي موسى بحجّة أنّه لم يستأذن! وقبل أن يجيب أبو موسى، نُجيب نحن: إنّ عمرَ كان في شغل منعه عن تأدية واجب وهو ردّ السلام المأمور به في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، والسلام بهذه الصورة - ثلاث مرّات - استئذان فلمّا لم يردّه عمر فهذا يعني أنّه لم يأذن له.

وأمّا أبو موسى وهو صحابيّ مثل عمر، فقد أجاب بأنّه استأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي أنّه مستنّ بسنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا الذي أثار حفيظة عمر فتهدّد أبا موسى

٢١٣

بالضرب الموجع على الظهر والبطن! إلاّ أن يُقيم له بَيِّنَةً على صدقه! والحمد للهِ أنّه رضى منه شاهداً واحداً.

بقي الفحص عن الشُغْل الذي منع عمر من ردّ السلام ومن الإذن لأبي موسى؛ فأوّل ما يبدر إلى الذهن هنا أنّه يخصّ مصلحة الإسلام والمسلمين العامّة والمهمّة للغاية من قبيل تحصين الثغور ومواجهة الأعداء ودراسة الحالة الاقتصاديّة للمجتمع و ...، فدعنا من كلّ ذلك ولنسمعه من لسان عمر نفسه:

ذكره مسلم وفيه: «... فقام أبو سعيد فقال: كنّا نُؤْمَرُ بهذا؛ فقال عمر: خَفِيَ عليَّ هذا من أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألْهاني عنه الصَّفقُ بالأسواق(1) .

قال النوويّ في شرحه لصحيح مسلم: قوله «ألهاني عنه الصفق بالأسواق» أي التجارة والمعاملة في الأسواق(2) .

اتّضح الأمر! فإنّ الباعث على تفجّر غضب عمر وابتعاده عن السنّة هو اشتغاله بالأسواق والتجارة، فلم يسمع ما سمعه غيره من الصحابة من أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فصاروا لديه موضع شبهة وشكّ غنلم نقل غير ذلك! مضافاً إلى الإرث الثقافيّ لعمر في إعجابه بأحاديث أهل الكتاب وخاصّة اليهود وهو ما عبّر عنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بـ «التهوّك»، ولذلك عارض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بشدّة في كتابة الكتاب الذي ضمِن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لو كتبه فلن تضلّ أُمّته من بعده أبداً، وواضح من مقدّمات كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أوصى بالثّقلين كتاب الله وعترته أهل بيته، ما أن

____________________

(1) صحيح مسلم 7: 133 - 134.

(2) شرح النووي بهامش المصدر نفسه.

٢١٤

تمسّكوا بهما لن يضلّوا أبداً؛ ثمّ دعا بالقلم والقرطاس لكتابة الكتاب المانع من الضلالة، فصار واضحاً أنّه سيُثبت ما قاله كتباً، فكان الاعتراض واللغط والطرد من رحمة الله تعالى. مع التذكير بحديث «الأريكة» وتحذير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من قُرب عهد مَن يجلس على سدّة الحُكم يمنع من حديثهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فتتابعت الأحداث سريعةً من حرق للأحاديث ومحوٍ بالماء ودفنٍ في الأرض، إلى تهديد الصحابة وحبسهم، فلماذا؟! أبو هريرة يمتنع من الحديث امتثالاً لمشيّة عمر على إثر التهديد القولي والعقوبة العمليّة الشديدة التي نالته من عمر، جعلته يخاف ظلّه في أن يتحدّث بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

بسند عن الزهريّ، عن أبي سلمة، قال: سمعتُ أبا هريرة قال: ما كنّا نستطيع أن نقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قُبض عمر، قال أبو سلمة: فسألته: بمَ؟ قال: كنّا نخاف السياط، وأومأ بيده إلى ظهره(1) !

قال: ثمّ يقول أبو هريرة: أفانا كنتُ محدّثكم بهذه الأحاديث وعمر حيّ، إذاً والله لا بقيت، إنّ المخفقة ستباشر ظهري.

فإذا كان أبو موسى الأشعريّ قد أصابه الفزع والهلع لتهديد عمر إيّاه فراح يناشد قومه ليشهدوا بصدقه عند عمر فيحفظ ظهره وبطنه من الضرب الموجع! ومن ثمّ عاهد نفسه أن يسير في ركاب عمر بشأن الحديث؛ فإنّ أبا هريرة ما زال يتحسّس آلام ظهره التي ألحقتها به سياط عمر «كنّا نخاف السياط، وأومأ إلى ظهره»، فكيف يحدّث وعمر حيّ، والمخفقة لا تبارح ناظره يخاف أن تباشر

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 67: 344، وسير أعلام النبلاء 2: 602 - 603، البداية والنهاية 8: 107.

٢١٥

ظهره، كما قال!

- وبسند عن محمّد بن عجلان، أن أبا هريرة كان يقول: إنّي لأحدّث أحاديث لو تكلّمت بها في زمان عمر - أو عند عمر - لشجّ رأسي(1) .

أيّ أحاديث هذه التي لو حدّث بها أبو هريرة عند عمر لشجّ رأسه، أهي من جنس الفضائل المتضمّنة حقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وأحاديث الغدير، والثَّقلين، والمنزلة، والرّاية، والسيادة ...؟! والانصراف بعد أن أعطاهم الرخصة في الحديث فيما لا يُخاف منه:

«قال محمّد بن يحيى الذهليّ: حدّثنا عبد الرزّاق عن معمر عن الزُهريّ، قال: قال عمر: أقلّوا الرواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ فيما يعمل به(2) ». ولكن بماذا يعملون وقد أحرق أبوبكر خمسمائة حديث؟! «ذكرناه». وعمر، أراد أن يكتب السننَ، فاستشار في ذلك الصحابة، فأشاروا عليه أن يكتبها ...، وبعد تردّدٍ لمدّة شهر أصبح فقال: إنّي كنتُ أردتُ أن أكتب السننَ، وإنّي ذكرتُ قوماً قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها، فتركوا كتاب الله تعالى، وإنّي لا ألْبِسُ كتابَ الله بشيءٍ أبداً. وهذا التردّد هو «التهوّك» الذي أشار إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فصدق. والرواية من طريق عروة بن الزبير وقد ذكرناها مع مصدرها سابقاً، وذكرنا حرقه لكتب الناس

____________________

(1) تاريخ دمشق 67: 343، البداية والنهاية 8: 107. وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2: 601 وقال: (قلت: هكذا هو كان عمر، يقول: أقلّوا الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وزجرَ غيرَ واحدٍ من الصحابة عن بث الحديث، وهذا مذهبٌ لعمر وغيره)!.

(2) تاريخ مدينة دمشق 67: 344، البداية والنهاية 8: 107.

٢١٦

المتضمّنة أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإصداره دستوراً إلى الأقاليم «من كان عنده منها - السنّة - شيء فليمحه».

وامتثل ابن مسعود - كما ذكرنا - فمحا بالماء صحفاً، وتتابعت عمليات الإبادة بالمحو بالماء وبالدفن في الأرض!!، فماذا بقي ممّا يُعمل به؟!

«عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنّه كان يقول: حفظتُ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثتُه وأمّا الآخر فلو بثثتُه لقُطع هذا البلعوم»(1) .

ومن طُرُقٍ عدّة عن أبي هريرة قال: يقولون إنّ أبا هريرة قد أكثرَ الحديثَ، والله الموعد! ويقولون: ما بالِ المهاجرين والأنصار لا يتحدّثون مثلَ أحاديثه؟ وسَأُخبركم عن ذلك: إنّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم عمل أرضيهم، وأمّا إخواني من المهاجرين فكان يشغلهم الصفقُ بالأسواق(2) ، وكنتُ امرءاً مسكيناً أصحب - أو ألزم - رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ملء بطني؛ فأشْهدُ إذا غابوا وأحفَظُ إذا نَسُوا(3) .

ولفظه في أحمد: «إنّكم تقولون أكثرَ أبو هريرة، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله الموعد؛ إنّكم تقولون: ما بال المهاجرين لا يحدّثون عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بهذه الأحاديث،

____________________

(1) طبقات ابن سعد 4: 247.

(2) الصفق: التجارة، وهو الذي أشغل عمر عن ردّ السلام على أبي موسى ثمّ رجع فحاسبه على ذهابه فاستدعاه وحاسبه وهدّده على ما مرّ.

(3) صحيح مسلم 16: 52، 53، 54، تاريخ مدينة دمشق 67: 330 - 334 سير أعلام النبلاء 2: 594 - 995، حلية الأولياء 1: 378 - 379، 381.

٢١٧

وما بال الأنصار لا يحدّثون بهذه الأحاديث؛ وإنّ أصحابي من المهاجرين كانت تشغلهم صفقاتُهم في الأسواق، وإنّ أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضوهم والقيام عليها، وإنّي كنتُ امرءاً معتكفاً، وكنتُ اُكثر مجالسة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أحضر إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا(1) .

وعن أبي هريرة قال: حفظتُ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثَ جُرُب حديث، أخرجتُ منها جِرابين، ولو أنّي أخرجتُ الثالث خرجتم عليَّ بالحجارة(2) !

ما الذي يحتويه الجِراب الثالث الذي لو أخرجه لخرجوا عليه بالحجارة؟!

علماً أنّه لم يحدّث بعد لسع السياط! إلاّ أواخر أيّام عمر ولذلك قصّة، ثمّ مُنع بعد ذلك حتّى اقتضت السياسة الأُمويّة أن يُحدّث بالمسموح دون الممنوع!! وأنت عالم ما هو الممنوع ومع ذلك ورد بعضه في نزْرٍ يسير!

وعنه قال: لو أُحدثكم بما أعلم لرميتموني بالحجارة(3) !

وعنه قال: لو حدّثت الناس بما سمعت لرموني بالخزق(4) وقالوا: مجنون!(5)

عن يزيد بن الأصم، قال: قيل لأبي هريرة: أكثرتَ أكثرتَ، قال: لو حدّثتكم بكلّ ما سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لرميتموني بالقشع(6) ، وما ناظرتموني(1) .

____________________

(1) مسند أحمد 2: 536 رقم 7648 مسند أبي هريرة.

(2) تاريخ مدينة دمشق 67: 338.

(3) نفسه، المستدرك على الصحيحين 3: 583/6162، التلخيص.

(4) الخزق: السهام النافذة، من خزق السهم إذا أصاب الرقبة ونفذ فيها. (لسان العرب).

(5) تاريخ مدينة دمشق 67: 338.

(6) القَشْع: بفتح وسكون - الجلد اليابس، والقُشْة: النُخامة والزبالة.

٢١٨

إنّ قوله «وما ناظرتموني»، صريح أنّ تلك الأحاديث التي كتمها أبو هريرة هي التي كانت تُخيف السلطات ولا تروق لها! فكيف تسمح له بنشرها وقد عاقبته فألهبت ظهره بالسياط من قبلُ دون مناظرةٍ ونقاش؛ وهل من حاجة إلى البرهان وهو خادم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم ينشغل بالصفقِ بالأسواق عن حفظ الحديث.

عن محمّد بن عُمارة بن حَزْم: أنّه قعد في مجلس فيه أبو هريرة وفيه مشيخة من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كثير؛ بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدّثهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحديث فلا يعرفه بعضهم، ثمّ يتراجعون فيه فيعرفه بعضهم، ثمّ يحدّثهم الحديث فلا يعرفه بعضهم ثمّ يعرفه، ثمّ فعل ذلك مراراً، قال: فعرفتُ يومئذٍ أنّ أبا هريرة أحفظُ الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

في هذه الرواية مبالغة كبيرة! وإنّما أوردناها حجّةً واستئناساً بها على خصوم الصحابة ممّن عُرفوا بالخلاف على أهل البيتعليهم‌السلام ! وأنّهم مع السلطان خاصّةً ما عُلم من سيرة أبي هريرة وممالأته لمعاوية ومروان بن الحكم، فقد استخلفه مروان على المدينة مراراً(3) .

عن سعيد بن المسيّب قال: كان أبوهريرة إذا أعطاه معاوية سكت، وإذا

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 67: 338.

(2) تاريخ مدينة دمشق 67: 339، المستدرك على الصحيحين 3: 585/ 6171.

(3) طبقات ابن سعد 4: 250، تاريخ مدينة دمشق 67: 372، سير أعلام النبلاء 2: 614، الكنى والأسماء 1: 184، البداية والنهاية 8: 122.

٢١٩

أمسك عنه تكلّم(1) .

وإلاّ فأهل الدّار أعلمـُ بما فيه، وسيّدهم سيّد العرب، وباب مدينة علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نفسُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليٌّعليه‌السلام احتضنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان مع النبيّ حيثما كان، لم يسجد لصنم قطّ ولم يُباشر إثماً قطّ وكان يرى الوحي ويسمعه ويتبع أثره، فلم يسبقه إلى الإسلام سابق، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثره بخلوات يُعطيه من علومه حتّى قالوا في ذلك فقال:

«ما أنا انتجيتُه، ولكنّ الله انتجاه»، وأبو هريرة أسلم عام خيبر!

ومع ذلك يبقى له فضلُه، وكونه خادماً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُشغله عن الصَّفقِ بالأسواق، فحفظ من أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يحفظ أقرانه من الصحابة.

عن ابن عمر أنّه مرّ بأبي هريرة وهو يحدّث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن تبعَ جنازةً فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان أعظم من أُحد. فقال ابن عمر: يا أبا هريرة انظر ماذا تُحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقام إليه أبوهريرة حتّى انطلق إلى عائشة فقال لها: يا أمّ المؤمنين أنشدك الله أسمعتِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: مَن تبع جنازةً فصلّى عليها ...؟ فقالت: اللّهم نعم، فقال أبو هريرة: إنّه لم يكن يشغلنا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عرس ولا صفق بالأسواق إنّما كنت أطلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلمةً يُعلّمنيها أو أكلةً يُطعمنيها. فقال ابن عمر: يا أبا هريرة كنتَ ألزمنا لرسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 7: 373، سير أعلام النبلاء 2: 615، البداية والنهاية 8: 122، رواه ابن كثير عن ابن حنبل.

٢٢٠