ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 117589
تحميل: 5803


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117589 / تحميل: 5803
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تُخرج بعد ذلك سالمةً ...

أمّا الذي حدث للقرآن العظيم، فأمرٌ مهول تكاد السماوات ينفرطن - بالنون - وليس بالتاء، إذ هذه لها قراءة بالتاء عند بعضهم! - للذي كان من عثمان بحرق العراق، ويأتي بلفظ تمزيقه ...! وفي كلٍّ سوء أدب، وجاهليّة، ومروق على أمر الله تعالى وطاعته.

«وبسندٍ عالٍ عن زيد بن ثابت، أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية فحضرها أهلُ العراق وأهلُ الشام، فإذا أهلُ العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود ويأتون بما لم يسمع أهلُ الشام؛ ويقرأ أهلُ الشام بقراءة أُبَيِّ بن كَعْب، ويأتون بما لم يسمع أهل العراق. قال: فأمرني عثمان أن أكتب له مصحفاً فكتبتُه. فلمّا فرغتُ منه عَرَضَه(1) .

هذا حالُ المسلمين في صدر الإسلام وهم قريبوا عهد بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يُكفّر أحدهم الآخر بسبب القراءة لما أشاعته السياسة المانعة من الحديث بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى بالأخذ بقراءة ابن مسعود، وأشاع آخرون أن أُبَيّاً هو سيّد القرّاء - ستعرف -؛ ولذا تمسّك أهل العراق بقراءة ابن مسعود وكلّما سمعوا شيئاً غيره فهو جديد عليهم وظنّوه كفراً وخروجاً على القرآن؛ وكذا حال أهل الشام.

ولكن لِمَ هذا التعميم؟! وأين الطبقة السابقة إلى الإسلام وأسبقها عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، من غير خلاف والذي كان يهتف ويمدّ بها صوته: أنا الصدِّيق الأكبر وفاروق هذه الأمّة صلّيت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبع سنوات ولم يصلِّ معنا

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 993، فتح الباري 9: 14 - 15، الجامع للأصول 4: 33.

٢٤١

أحد». هلاّ رجع عثمان إليه فاستشاره ماذا يفعل بالصحف، مثلما كان يستشيره أبوبكر، وعمر في أُمورهم المهمّة مثل الحروب؟! ويقتدي بفعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ ائتمن أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام على ودائع قريش التي كانت عنده حينما هاجر وأمر عليّاًعليه‌السلام بالمبيت على فراشه؟! أو جعلها عنده أمانة إلى حين ...؟!

عثمان يُشقّق المصاحف

عن سوار بن شبيب قال: دخلتُ على ابن الزبير في نفر فسألته عن عثمان ابن عفّان، لِمَ شقّق المصاحف، ولِمَ حمى الحِمَى؟ فقال: قوموا حَرُوريّة(1) ، قلنا: لا والله ما نحن حروريّة. قال: قام إلى أمير المؤمنين عمر رجلٌ فيه كذِبٌ وَوَلع، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الناس قد اختلفوا في القراءة، فكان عمر قد همَّ أن يجمع المصاحف فيجعلها على قراءة واحدة، فطُعِن طعْنَته التي مات منها. فلمّا كان في خلافة عثمان قام ذلك الرجلُ فذكر له، فجمع عثمان المصاحف، ثمّ بعثني إلى عائشة فجئتُ بالصُّحُف التي كتب فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن فعرضناها حتّى قَوَّمْنَاها، ثمّ أمر بسائرها فشُقِّقَت(2) .

إن تشقيق المصحف وحرقه سواء، فهما عدوان على القرآن الكريم وهتك حرمته وفعله هذا من الكبائر!

____________________

(1) الحرورية: طائفة من الخوارج تُنسب إلى حروراء بقرب الكوفة فقد كان اجتماعهم بها لأوّل مرّة للتحكيم حين خالفوا أمير المؤمنين عليّاًعليه‌السلام وتشدّدوا في أمرهم (الوسيط للمجمع اللغوي).

(2) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 991.

٢٤٢

اختلاف وزيادة ونقصان!

حدّثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابيّ، قال: أتيتُ دار أبي موسى الأشعريّ فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعريّ فوق إجّار(1) فقلتُ: هؤلاء والله الذين أُريد، فأخذت أرتقي لهم حتّى جلستُ إليهم فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان فأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه.

فقال أبو موسى: ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نُقصان فاكتبوه فيه! فقال حذيفة: فكيف بما صنعنا والله ما أحدٌ من أهل هذا البلد يرغبُ عن قراءة هذا الشيخ. يعني ابن مسعود، ولا أحدُ من أهل اليَمَن يرغب عن قراءة هذا الآخر، يعني أبا موسى. وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان أن يجمع المصاحف على مُصحفٍ واحد(2) .

يعتمدهم عثمان في كتابة المصحف، فإذا أحدهم يُصرّ على مصحفه زيادةً ونقيصةً!! وحذيفة الذي أشار على عثمان بفكرة جمع المصاحف على مصحفٍ واحد، غدا في حيرةٍ من أمره، فالنّاس في كلّ بلد متمسّكون بقراءة شيخهم وهو يختلف عن الآخر؟!

عن أبي محمّد القرشيّ: أنّ عثمان بن عفّان كتب إلى الأمصار: أما بعد، فإنّ نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافاً شديداً؛ فقال بعضهم قرأتُ على أبي الدرداء، وقال بعضُهم قرأتُ على حرف عبد الله بن

____________________

(1) الإجار: والأجار، السطح الذي لا سترة عليه. (اللسان)

(2) نفسه 999.

٢٤٣

مسعود، وقال بعضهم قرأت على حرف عبد الله بن قيس - أي أبو موسى الأشعريّ -، فلمّا سمعتُ اختلافهم في القرآن - والعهدُ برسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حديث - ورأيتُ أمراً منكراً، فأشفقتُ على هذه الأمّة من اختلافهم في القرآن، وخشيتُ أن يختلفوا في دينهم بعد ذَهَاب مَن بقي من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين قرأوا القرآن في عهدِه وسَمِعوه من فِيهِ، كما اختلفتِ النّصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى ابن مريم، وأحببتُ أن ندارك من ذلك؛ فأرسلتُ إلى عائشة أن ترسل إلي بالأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فَمِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين أوْحاهُ اللهُ إلى جبريل، وأوحاه جبريلُ إلى محمّد، وأنزله عليه، وإذِ القرآنُ غضٌّ، فأمرت زيد ابن ثبت أن يقوم على ذلك ...، وكان زيد بن ثابت أحفظَنا للقرآن، ثمّ دعوتُ نفراً من كتّاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافِع بن طَرِيف، وعبد الله بن الوليد الخزاعيّ، وعبد الرحمان بن أبي لُبَابَة، فأمرتُهم أن ينسخوا من ذلك الأدم أربعة مصاحف وأن يَتَحفَّظُوا(1) .

هنا خرج عثمان على التعريف بأحفظ الصحابة عن قول عمر الذي كان يدعو إلى عبد الله بن مسعود، والذي بدوره لم يكن يرى في الصحابة مَن هو أعلمـُ بالقرآن مطلقاً، فكان مصحفه محتوياً على قراءات مغايرة لقراءة الوحي، وآياتٍ بدّل في كلماتها، وناقصاً سوراً كاملةً ...

وأمّا زيد الذي عرّفه عثمان بأنّه أحفظ الصحابة وأوكل إليه كتابة المصحف، فصحّف كتابة «التابوت» وكتبها «التابوه» حتّى اشتدّ عليه عثمان فكتبها «التابوت».

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 997 - 998.

٢٤٤

وفقد آيات راح يجول بين المهاجرين والأنصار حتّى أصابها أخيراً مع رجل من الأنصار. فلا ندري كيف نوفّق بين ما روي عن عمر بن الخطّاب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن أراد أن يأخذ القرآن غضّاً كما أُنزل فليأخذه من فِي ابن مسعود»، وبين نسخ زيد في رجال ليس فيهم ابن مسعود للمصحف الذي أوحاه الله تعالى إلى جبريل فأوحاه جبريل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإذِ القرآنُ غضٌّ «لم تدخله قراءة هُذَيل ولا زيادة أبي موسى أو تبديل وزيادة ابن مسعود ولا حذفه لسور ولا قراءة التابوه».

ترتيب عثمان لسور القرآن

عن ابن عبّاس قال: قلتُ لعثمان: ما حَمَلكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من السبع - في المستدرك من المئين - فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء قال: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكَر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أُنزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قِصّتُها شبيهةً بقِصّتِها، وقُبِض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يُبَيِّن لنا، وظننتُ أنّها منها؛ فمن أجل ذلك قَرَنْتُ بينهما، ولم أكتب سطر «بسم الله الرحمان الرحيم» ووضعتها في السبع

٢٤٥

الطّوال(1) .

هل هذا من قبيل القياس المذموم في الرواية في الحديث؟! سورة مكّيّة من أوائل القرآن، تُقرن بسورة مدنيّة من آخر القرآن وليس من دليل يهتدون به لهذا النظم إلاّ زعمهم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قُبِض ولم يُبيّن، أي يوضّح لهم أين تكون هذه السورة أو تلك ...؟! أي ذريعة هذه؟ هلاّ رجع عثمان إلى كبار الصّحابة وعظيمهم أميرالمؤمنين هارون الأمّة عليّعليه‌السلام ؟ ومتى كان جمع المصحف خاضعاً لمزاج الرجال فيضمّون السورة إلى ما يشبهها - كذا - بحذف البسملة من أوّل السورة الثانية؛ فمَن أعطاه هذه الصلاحيّة في التصرّف؟! كلّ هذا لو أحسنّا الظنّ بالرجل وصدّقنا دعواه! وإلاّ كيف يترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كتاب الله العزيز وقد ائتمنه عليه فكان إذا نزلت الآية قال ضعوها في السورة كذا وهكذا ولم يُقبض إلاّ والقرآن مودع عند طبقة واسعة مؤمنة مجاهدة من أجله صالحة لا تفرّط به.

وسنجد في سيرة بني أُميّة تشدّداً على الحديث وغلظة على مَن ذكر شيئاً من فضائل وسيرة أهل البيتعليهم‌السلام ، وإساءة إلى القرآن الكريم تأسّياً بشيخهم عثمان.

عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعته يقول: سمعت القاسم بن ربيعة يقول: سمعت سعداً - بن أبي وقّاص - يقرأ (ما ننسخُ من آيةٍ أو ننساها) [ البقرة: 106 ] قال فقلت: انّ سعيداً يقرأها أو نُنْسِهَا. قال: فقال: إنّ القرآن لم ينزل على

____________________

(1) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1015 - 1016، المستدرك على الصحيحين 2: 241/ 2875، التلخيص وقال: على شرط البخاري ومسلم.

٢٤٦

المسيّب ولا على ابنه وحفظي أنّه قرأ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ) [ الأعلى: 6 ]( وَاذْكُر رّبّكَ إِذَا نَسِيتَ ) [ الكهف: 24 ].

ذكره الحاكم(1) .

العجب من سعد وهو صحابيّ يقرأها بما يوجب الكفر! ذلك أنّ قراءته توجب النسيان للهِ جلّ وعلا. فإذا ذُكّر بالقراءة الصحيحة والتي تعني أنّ الله تعالى سنسخ أو يُنسي ...، فهو فاعل سبحانه، غضب سعد وفحش على سعيد بن المسيّب وعلى أبي سعيد!!

وخلاصة القول: إنّ القرآن الصحيح هو القرآن الذي تركه رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكتوباً مقيّداً بلسان الوحي ويشهد له قومٌ شهد القرآن بعصمتهم في آية التطهير؛ وفي آية المباهلة، فكان القرآن الكريم مُعْجزاً ببلاغته للثَّقلين وحتّى تقوم الساعة، وكانت تلك الوجوه الكريمة: عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسينعليهم‌السلام معجزة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومَ المباهلة، بهم غلب نصارى نَجْران وأثبته القرآن الكريم. فلهذا وغيره من الخصوصيّات، فهم أعرف بالوحي إذ هم أهله، وقد صرّحوا بذلك كابراً عن كابر. ولقد كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني ...» وما قالها غيره إلاّ افتُضِح! وكان يصرّح بأنّه يعرف كلّ آية في القرآن، وسبب نزولها وفيمَن نزلت، أفِي ليلٍ نزلت أم في نهار ...، وبعد هذا البيت الطّاهر تأتي طبقة واسعة ممّن لم تُحرّف ولم تُبدّل ومضت على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فتابعت أهل بيته ووفت ببيعته، فاستحقّت بذلك اسم الصحبة إذ الصحابيّ هو مَن عاش ومات

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 2: 264/ 952. قال في التلخيص: على شرط البخاري ومسلم.

٢٤٧

ولم يُبدّل. هؤلاء حفظوا القرآن كما أُنزل وقرأوه كما قرأه رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يزعموا انّ القرآن الكريم قد فُقد منه كثير كما زعم أولئك! والله تعالى قال:( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) ، والقولُ قولُ الله تعالى لا قول أولئك. كما أنّ أهل البيتعليهم‌السلام ومَن تبعهم لم يبدّلوا كلام الله كما فعل أولئك. وأخيراً لم ينسبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قراءاتٍ شاذّة ومغلوطة كما فعل أولئك!

كذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في القراءة

لم يقف القوم عند حدود ما ذكرنا، وإنّما بلغت بهم الجرأة أن نسبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قراءات مكذوبة!

عن ابن عمر: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ: (فطلّقوهنّ في قبل عدّتهنّ). والصحيح:( فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ ) (2) ،(3) الآية.

يونس بن بُكير، حدّثنا محمّد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «تفتح يأجوج ومأجوج كما قال الله عزّ وجلّ:( مِن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ ) (4) . قال ابن إسحاق: في قراءة عبد الله: «من كلّ جدث ينسلون» بالجيم والثاء مثل قوله( مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى

____________________

(1) الحِجر: 9.

(2) الطلاق: 1.

(3) المستدرك على الصحيحين 2: 275/ 2990، التلخيص.

(4) الأنبياء: 96.

٢٤٨

‏رَبّهِمْ يَنسِلُونَ ) (1) ، وهي القبور(2) .

ولكنّها في قراءة الوحي في الآية الأولى «حدّب» بالدال، وفي قراءته في الثانية بالثاء، فنتّبع الوحي لا الرجال لئلاّ نضلّ! أثمّة قياس إذ لها نظير في آية أُخرى فنُعرض عن الوحي فنبدّل ونقيس ...؟! والحمدُ لله أنّ ابن مسعود لم ينسب القراءة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان موضع ذكر هذه فيما مضى فسهونا عنها «حتّى حين!».

عن شهر، عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ:( يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً ) (3) ولا يُبالي.

إنّ كلمتي «ولا يُبالي»، ليستا من الآية؟! وقد علّق عليه الحاكم قائلاً: هذا حديث غريب عال ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر غير هذا الحديث الواحد(4) .

عبد الرحمان بن غنم الأشعريّ، قال: سألتُ معاذَ بن جبل عن قول الحواريّين:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ ) (5) ، أو: هل تستطيع ربّك؟ فقال: أقرأني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله «هل تستطيع ربّك» بالتاء(6) .

وعن هارون - قال عنه الذهبي «واهٍ» وفي مكان آخر «هالك» عن ابن

____________________

(1) يس: 51.

(2) المستدرك على الصحيحين 2: 268/ 2966، التلخيص.

(3) الزمر: 53.

(4) المستدرك على الصحيحين 2: 272/ 2982.

(5) المائدة: 112.

(6) المستدرك على الصحيحين 2: 260/ 2935، التلخيص.

٢٤٩

عبّاس! أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ: (وكان أمامهم ملكٌ يأخذُ كلَّ سفينةٍ صالحة غصباً)(1) .

قال الحالكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه.

والآية فيها تغيير وزيادة، فحاشا ابن عبّاس أن يفتري على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والآية:( وَكَانَ وَرَاءَهُم مّلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) (2) . فكما ترى قد غيّروا كلمة «وراءهم» إلى «أمامهم» وأضافوا إلى الآية كلمة «صالحة» ونسبوا ذلك إلى ابن عبّاس.

وعن حُصَين، عن عِكرمة، عن ابن عبّاس قال: لا أدري، كيف قرأ رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله «عتيّاً» أو «جثيّاً» فإنّهما جميعاً بالضمّ؟!(3)

أن يكون الخبر صادر من أولئك الجماعة فيهون الخطب! أمّا من مثل ابن عبّاس فبعيد! وإن كان على شرط الشيخين! فالبون شاسع بين اللفظتين في مخارج حروفهما أوّلاً، وثانياً: في المعاني التي تؤدّي إليهما كلتا الكلمتين، فإنّ من معاني جثا: قال شيئاً يُغضب غيره، وأيضاً جلس بين يدي ...؛ وغير ذلك. وأما عتى: فطغى وتمرّد وخرج على الطاعة ...، وليس مثل ابن عبّاس اللبيب النسّابة الحاذق مَن ينسى كيف قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 2: 266/ 959.

(2) الكهف: 79.

(3) المستدرك على الصحيحين 2: 267/ 2962. وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وفي التلخيص: على شرط البخاري.

٢٥٠

وعن ابن سيرين، عن أنس: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ: (أنْ تَكُونَ لَهُ أسْرَى) - بالتاء -. والصحيح:( أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ) (1) - بالياء -. وحاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشتبه في القراءة!

مروان يُشقّق القرآن

استنّ مروانُ بن الحَكَم بسنّةِ عثمان في عدوانه على القرآن. عن ابن شهاب، قال: حدّثني أنس قال: لمّا كان مروان أمير المدينة أرسلَ إلى حَفْصَة يسألها عن المصاحف ليمزّقها وخشي أن يُخالِف الكتابُ بعضُه بعضاً، فمنعَتْها إيّاه(2) .

قال الزهري: فحدثني سالم قال: لما تُوُفِّيَت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر بعزيمةٍ ليُرسِلَنّ بها، فساعةَ رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابنُ عمر، فشَقّقها ومزَّقها مخافةَ أن يكون في شيء من ذلك خلافٌ لما نَسَخ عثمانُ(3) !

إشكالُنا ليس على شخص مروان! فهو غَنيٌّ عن الوصف. ولكن: كما قلنا في المـُمهّد «عثمان بن عفّان» الأُمويّ في فعله الشنيع في هتك حرمة القرآن لكريم تمزيقاً وحَرْقاً، والذريعة: مخافة أن يختلف الناس في القراءة. فما حجّة مروان وقد جمع سَلَفُه وشيخُه الناس على مصحفٍ واحد، وسبقه إلى فضيلة!

____________________

(1) الأنفال: 67.

(2) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1003، المصاحف، للسجستاني 25.

(3) تاريخ المدينة المنوّرة 3: 1003 - 1004.

٢٥١

حرق وتمزيق المصاحف.

وكان معاوية واحداً ممّن انتهت إليه «الأريكة» ليحكم بالهوى ويعطّل السنّة ويتجاوز أحكام القرآن الكريم، ومع ذلك فهو يلوذ باسم القرآن في تعطيل السنّة الشريفة.

معاوية يمنع الحديث

قال رجاء بن حَيْوَة(1) : كان معاوية ينهى عن الحديث، يقول: لا تُحدِّثوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (2) .

وروى ابن عديّ، عن إسماعيل بن عبيد الله: أنّ معاوية نهى أن يُحدّث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحديثٍ إلاّ حديث ذُكر على عهد عمر، فأقرّه عمر. إنّ عمر كان قد أخاف الناس في الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (3) . ورواه ابن عُليّة، عن رجاء بن أبي

____________________

(1) رجاء بن حَيْوَة الكنديّ الشاميّ. روى عن جابر بن عبد الله، وخالد بن يزيد بن معاوية، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وعبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، وأبي الدرداء ...

روى عنه: حُمَيْد الطَّويل، وأبو إسحاق السَّبيعيّ، ومحمّد بن عَجْلان، وقَتادة بن دِعامة قال ابن سعد: كان ثقةً فاضلاً كثيرَ العلم (طبقات ابن سعد 7: 454). وقال العجليّ: ثقة. (تاريخ أسماء الثقات 160/ 439). وذكره ابن معين فقال: ثقة (تاريخ ابن معين 2: 164).

توفّي رجاء بن حَيْوَة سنة اثنتي عشرة ومائة (تاريخ خليفة 343، وطبقاته 310 وطبقات ابن سعد).

(2) الفقيه والمتفقّه 1: 7.

(3) الكامل، لابن عدي 1: 33 و 1: 18.

٢٥٢

سلمة أنّه قال: بلغني أنّ معاوية كان يقول(1) .

وروى ابن عساكر: كان معاوية يقول على منبر دمشق: إيّاكم والأحاديث عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلاّ حديثاً ذُكر على عهد عمر(2) .

وعن عبد الله بن عامر اليَحْصبي، قال: سمعت معاوية يقول: إيّاكم وأحاديثَ، إلاّ حديثاً كان في عهد عمر، فإنّ عمر كان يُخيف الناس في الله عزّ وجلّ(3) .

وكتب يزيد بن معاوية إلى أبيه: أنّ جُبَيْر بن نُفَير(4) قد نشر في مِصْري حديثاً، فقد تركوا القرآن.

فبعث معاوية إلى جبير، فجاءه، فقرأ عليه كتاب يزيد، فعرف بعضه وأنكر بعضه. فقال معاوية: لأضربنّك ضرباً أدعُك لمن بعدك نكالاً(5) !

تركنا التعليق على الروايات الواردة عن معاوية في منعه الحديث عن

____________________

(1) حجيّة السنّة 467.

(2) تاريخ دمشق 3: 160.

(3) صحيح مسلم 4: 127.

(4) قيل أسلم في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يره وقدم المدينة فأدرك أبابكر (أسد الغابة 1: 324/ 700، طبقات ابن سعد 7: 306/ 3807، تاريخ الثقات، للعجلي 95 رقم 201، المعرفة والتاريخ 1: 328 و 336 ومواضع أخرى، حلية الأولياء 5: 133 - 138 رقم 315، سير أعلام النبلاء 4: 76/ 23، شذرات الذهب 1: 88، الوافي بالوفيات 11: 59، تاريخ الإسلام 5: 382، الجرح والتعديل 2: 512 رقم 2116، تاريخ خليفة 280؛ وقد أجمعوا على توثيقه.

(5) سير أعلام النبلاء 4: 77، تاريخ الإسلام 5: 382.

٢٥٣

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلفظها وعلّتها واحدة ومشتركة مع أسلافه! إلاّ أنّا لا نطيق قبل الرجوع لتحليل سبب الإصرار على المنع، دون أن نتكلّم عمّا جرى بين يزيد وجبير وأخيراً ذلك الوعيد الصارم والتهديد الواعد من معاوية لجُبير:

إنّ معاوية طليق ابن طليق ملعون هو وأبوه وأخوه يزيد بن أبي سفيان على لسان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في حديث الراكب والسائق والقائد. ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا إلى قتل معاوية إذا رأوه على منبره، وقد ذكرنا كلّ ذلك فيما مضى.

وأمّا الناقص «يزيد»، فلا يزيد على شرب الخمور والضرب بالطنبور وملاعبة الفهود والجمع بين الأختين وألوان الزندقة والفسق، وهو «يتهوّك» على «أريكته» معارضاً شطرَ الإسلام المـَمثّل بسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ومتعلّلاً أنّ النّاس قد «تركوا القرآن» وهي نفس مقولة القائل «يشتغلوا عن القرآن بغيره» أي بسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا كان معاوية وابنه ليسا من أهل الإسلام، فلم يوجّه ابنه التوجيه الصحيح كأن يقول له: ادعو الناس وحثّهم على تعلّم القرآن وعلومه، وتعلّم سنن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وحفظ أحاديثه لأنّها مفسّرة للقرآن وفيها كثير ممّا ليس في كتاب الله المجيد.

إنّ «الملك!» المكترش، لم يعمل بهذا، وذهب بعيداً في طغيانه وقد غرّته «أريكته»، فتوعّد جُبَير بن نُفَير بالضرب الموجع الذي يجعله عبرةً لغيره فلا يقدم على فعله، ويحمله على الندم فلا يعيد ما فعل!!

ولا عجب هذا الكلام من مثل العاوية! فلقد دخل الإسلام بيتهم عام الفتح

٢٥٤

وهم كارهون، وما حسن إسلامهم، فأبو سفيان الذي قاد قريش في حروبها ضدّ الإسلام، وقاد الأحزاب يهود أو مشركين ففشل ثمّ أدخل النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلامَ بيته كُرهاً؛ فإنّ أبا سفيان يومَ اليرموك إذا كانت الصَوْلة للمسلمين شجَعهم، وإذا كانت الصّوْلة للرّوم قال: وِيهاً بني الأَصفر، يشجّعهم!

وتعاقبت الأحداث، فخرج القاسط معاوية بخارجة الشام على سيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وقتل خيرة الصحابة والتابعين وسنّ سنّته المقيتة في لعن عليٍّعليه‌السلام عقب كل صلاة مقابل سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ الصلاة لا تتمّ إلاّ بالصلاة عليه وعلى أهل بيته!!

قد يُقال: إنّ معاوية قد استنّ بأسلافه في منع الحديث ونحن نوافقه على ذلك، إلاّ أنّا ملزمين بالفحص عن السبب الذي لأجله شنّ أولئك الغارة على الحديث، وإن كنّا تحدّثنا ملخّصاً عن هذا الأمر الخطير وبحسب ما اقتضته الحاجة. وهذا يقتضي الكلام عن الأحاديث التي تمسّك بها المانعون، وأيضاً عن الجبهة الرافضة للمنع والتي واصلت مسيرتها في كتابة السنّة:

وقبل ذكر ذلك، نذكّر بما مضى من تعلّلهم بالخوفِ من اختلاط القرآن بغيره! وبذريعةٍ أُخرى هي الاكتفاء بالقرآن وعدم الاشتغال بغيره. وقد أبطلنا الذريعتين، فالقرآن معصوم قد تكفّل الله تعالى بحفظه، وهو معجزٌ في لفظه لا يرقى إليه كلام بشر. هذا بشأن الاختلاط، وأمّا بشأن الاستغناء بالقرآن عن السنّة فتكلّمنا عن ذلك بما فيه الكفاية، فالسنّة شارحة للقرآن ومفسّرة لها ومفصّلة لما فيه من أحكام، بل في السنّة ما ليس في القرآن الكريم، واِنّ إلغاء

٢٥٥

السنّة بأيّ صورة إلغاءٌ للنبوّة! ووجدنا فيما سبق أنّ الحديث قد دُوّن زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر هو بتدوينه وتقييده.

ثمّة مسألة: إنّ استمرار الخلاف في أمر التدوين، وعدم خضوع المـُبيحين لإجراءات المنع، دليلٌ على أمرين:

1 - أنّ أحاديث النيه عن التدوين، ليست صحيحةً؛ وإلاّ لم يكن أكثر الصحابة والتابعين على خلاف المنع، بل فيهم مَن قام بتدوين الحديث وجمعه في الصحف.

2 - أنّ المنع، لم يكن شرعيّاً، بل كان رأياً ارتئاه المانعون، لأُمورٍ خاصّة ظهرت لهم، ولم يوافقهم عليها سائر الصحابة.

وإذا كان المنع على أساس ما يراه الصحابيّ مصلحةً، فإنّ للصحابة الآخرين حقّ الاعتراض عليه، فلا يكون ما يراه الصحابيّ حجّة على الصحابيّ الآخر، إلاّ إذا أقام له الدليل الشرعيّ المقنع، كما هو حال المجتهدين.

وبعد التأمّل العميق في ما يناسب أن يكون مصلحة للمنع من قبل المانعين، علمنا أنّ المصلحة إنّما كانت تدبيراً سياسيّاً من قِبل الخلفاء وخاصّةً في الصدر الأول بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . ويتّضح هذا ممّا أورده الخطيب البغداديّ، بسنده عن عبد الرحمان بن الأسود، عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة - أو اليمن - صحيفة فيها أحاديث، في أهل البيت - بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -

فاستأذنّا على عبد الله، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة.

قال: فدعا الجاريةَ، ثمّ دعا بطست فيها ماء.

٢٥٦

فقلنا له: يا أبا عبد الرحمان، انظر فيها، فإنّ فيها أحاديث حساناً فجعل يُميثها فيها، ويقول:( نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) (1) .

القلوبُ أوعيةٌ، فأشغِلُوها بالقرآن، ولا تُشغلوها بما سواه(2) .

وقبل الكلام في أصل الموضوع الذي لأجله أباد ابنُ مسعود الصحيفة، نذكّر بما قلناه: من أنّ ابن مسعود واحد من الذين خضعوا لدستور عمر في المنع من الحديث، قد محى من قبل صحيفةً أُحضرت إليه فيها «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر»، وهي كلماتٌ أتى بها القرآن الكريم، فلم يحترمها، فكيف إذا صار الأمر إلى خلاف سياسيّ؟!

إنّ الصحيفة المعرّضة للإبادة في هذه الرواية، واضحة المحتوى، فإنّ فيها أحاديث حساناً كما يقولُ علقمة.

كما أنّ موضوعها يرتبطُ بأهل البيتعليهم‌السلام ، وكأنّ الراوي اعتنى بهذه المسألة، فاستعمل عطف البيان للتأكيد على المراد بأهل البيت، وليُلفت نظر عبد الله بن مسعود إلى أنّهم أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . لكنّ عبد الله لم يُعِرْ اهتماماً، وأباد الصحيفة.

وقبل الانتقال إلى إدانات أُخرى لابن مسعود! نبقى عندَ كلامه واحتجاجه بالقرآن الكريم على أولئك الذين أحضروا إليه الصحيفة وفيها أحاديث في أهل البيتعليهم‌السلام فمحاها، فنقول له: ماذا تقول في آية التطهير الظاهرة في العصمة، ولو لا السنّة لما علمنا أنّهم محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخوه عليّ، وبضعته فاطمة، وولداه

____________________

(1) يوسف: 3.

(2) تقييد العلم 54.

٢٥٧

الحسن والحسينعليهم‌السلام .

وما قولُك في آية المباهلة، وفيمن نزلت؟ مَن كان نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ، هل كان غير عليّعليه‌السلام ؟! ومَن كانت نساءَه غير فاطمةعليها‌السلام ؟ أو ليس الحسن والحسين أبناءه يومئذٍ؟ فكانوا معجزته التي قهر بهم وفد نصارى نجران وأعجزهم. من أين علمنا هذا يا ابن مسعود؟! أو ليس هذا أحسن القصص الذي احتججت به؟!

لكنّ عبد الله لم يُعِرْ اهتماماً، وأبادَ الصحيفةَ. والتبريرات التي ذكرت لمنع التدوين، لا يجري شيء منها هنا. فلا اختلاطَ لما في الصحيفة، بالقرآن. وليس فيها ما يعارضُ القرآن وينافيه. ولا فيها من خُرافات «مشناة» أهل الكتاب شيء.

كما أنّ الاشتغال بها لا يؤدّي إلى ترك القرآن، لأنّ مجرّد أحاديث في صحيفة، لا تُلهي عن القرآن.

ومع كلّ ذلك أباد عبدُ الله الصحيفة، محاولاً أن يُوهمَ أنّ القرآن يُغْني عمّا فيها! مع أنّه كان مخطئاً في فَرْضه أنّ الاشتغال بالحديث هو اشتغالٌ بما سوى القرآن، لأنّ الحديث لا ينفصل عن القرآن، بل هو يعضُدُه. ولو أمعنّا النظر في هذا الحديث، وجدنا أنّ محتواه هو الذي كان يضُرّ السلطة الحاكمة وينافي سياستها القائمة، لأنّ الأحاديث الواردة في أهل البيتعليهم‌السلام ، إنّما تدلّ على فضلهم وتؤكّد على خلافتهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتجعلهم قرناء للقرآن، ليكونوا هم وهو خليفتين له، من بعده. وهذا ما يعرفه ابن مسعود جيّداً، لما سنبيّن من علّته. وأمّا سائر أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سواء في الأحكام والفرائض، أو الآداب والسنن، فهي

٢٥٨

لا تَمَسُّ كيانَ السلطة بشيء.

ولذا لم يشملها المنعُ بنحوٍ شديد:

قال عمر: أقلّوا الرواية عن رسول الله، إلاّ فيما يُعمل به(1) .

قال الدارميّ، في شرح منع عمر عن الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : معناهُ عندي الحديث عن أيّام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس السنن والفرائض(2) .

وإن كانت أوامر المنع وإجراءاته عامّة، فلأنّ التدبير السياسيّ يقتضي منع الحديث بالعموم، حتّى يشمل الأحاديث المضرّة بالسياسة.

وإنّما لم يخصّ المنعُ بما دون غيره، فلأنّ تخصيصها بالمنع يؤدّي إلى وضوح الهدف من المنع، وانكشاف المصلحة الموضوعة له.

والإعلانُ عن تلك المصلحة غيرُ ممكن، لأنّه يوجّه الأنظار إليها بشكل أكثر تركيزاً، فيوجبُ نقضَ الغرضِ المترقّب من المنع، ويعكس المصلحة إلى مفسدة لا تُتدارك.

وإنّما خُصّ أهل البيتعليهم‌السلام بذلك:

لأنّهم كانوا يُعتبرون زعماء المعارضة السياسيّة الذين بقوا في الساحة، وكان المسلمون يتطلّعون فيهم الخلافةَ ويعتقدون لهم الإمامة.

وحجّتهم في ذلك الأعدادُ المتضافرة من الأحاديث النبويّة التي تبلغ اليوم،

____________________

(1) البداية والنهاية 8: 107.

(2) سنن الدارمي 1: 73 ح 286، جامع بيان العلم 2: 121.

٢٥٩

رغْمَ بُعدِ الزمن، ورغم كلّ عمليّات المنع والإبادة والتحريف، تبلغ الآلاف(1) .

فكيف بها تلك الأيّام، وهي تَمْثُلُ لرواتها من الصحابة، بمنازلها وأحداثها ومناسباتها وأسبابها؟ والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يزال حيًّا في الخواطر، يُحدّثهم بما لأهلِ بيته من فضلِ، وما لهم من منزلة؟!

ولا شكّ في أنّ كثيراً من تلك الأحاديث كانت تُشِيد بعليّعليه‌السلام - زعيم أهل البيت - وتنصّ عليه بالولاية والإمامة ...

فلو كان مسموحاً للأُمّة أن يتداولوها، ويحدّثوا بها، ويكتبوها ويضبطوها، لارتسمت في الأذهان، وتعلّقت بالأفكار، وانعقدت عليها القلوب وبُنيت بها قواعد العقائد؛ فيكون لذلك تأثير سياسيّ عميق على نظام الحكم، بلا ريب. فكان المنعُ الرسميّ للحديث أفضلَ تدبيرٍ سياسيّ، للوقوف في وجه ذلك.

وإلاّ، فبربِّك! ماذا يعني أن يأتي عمرُ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأحاديث وقصص من أخٍ يهوديّ له من بني قُريظة، قد أعجبته! فيغضب رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتحيط به الأنصار ثمّ يقول: «أمُتَهوّكونَ أنتم ...» أي في حال شكٍّ من نبوّتي؟! وقد ذكرناه.

ومضت سنون ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُحدّث ويأمر بنقل حديثه تحديثاً وتقييداً كما ذكرنا وسنذكر، فأين كان المانعون عن مجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليسمعوا ما سمعه غيرُهم؟!

هل شغلهم الصَّفْقُ بالأسواق كما قال عمر - مرّ بنا -، والانشغال بالمرآة والمكحلة، كما قال أبو هريرة لعائشة محتجّاً عليها لما أنكرت بعض الأحاديث

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديث 4: 73.

٢٦٠