ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 117652
تحميل: 5803


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117652 / تحميل: 5803
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

التي يرويها وقالت أنّها لم تسمعها.

ومرّ بنا حديث «الأريكة»، وفيه قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يوشك رجل جالس على أريكته يقول: حسبُنا كتاب الله ...» منكراًصلى‌الله‌عليه‌وآله على صاحب الحكم من بعده، مانعاً لحديثه متذرّعاً لئلاّ يختلط القرآن بشيء غيره! وقلنا: كلّ كلام أيًّا كان مصدره، لا يرقى في بلاغته إلى بلاغة القرآن، والسنّة معضّدة للقرآن شارحة له وفيها ما ليس فيه، فهدمها هدم للنصف الأكبر من الإسلام! إذن: فالمصلحة المنشودةُ من هذا التدبير، هي: إخفاء الأحاديث النبويّة التي تدلّ على خلافة أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وإمامة أهل البيتعليهم‌السلام بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهذه المصلحة تحتوي على العناصر المطلوبة، التي ذكرناها:

1 - فهي خطِرةٌ للسلطة.

إذ لو نُشرتْ هذه الأحاديث واُذيعت، وتداولها الناس كما استقرّ الحكم، الذي اعتمد على أساليب أصدق ما يُقالُ فيها أنّها «فَلْتَةٌ»(1) .

____________________

(1) وقد روى البخاري في صحيحه، كتاب المتحاربين، باب رجم الحبلى من الزنى، الحديث الوحيد في الباب - وهو طويل - من خطبة عمر يوم الجمعة وفيه قوله: بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: (والله، لو مات عمر بايعتُ فلاناً) فلا يغترّن امرؤٌ أن يقول: (إنّما كانت بيعة أبي بكر فلْتةً وتمّتْ) ألا، وإنّها كانت كذلك، ولكنّ الله وقى شرّها.

وفي الحديث: مَن بايع رجلاً على [ أو: عن ] غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع [ أو: يتابع ] هو ولا الذي بايعه تغرّةً أن يُقتلا. =

٢٦١

فإذا تمكّن الإمامعليه‌السلام وأنصاره من إظهار النصوص الشرعيّة الكثيرة المسندة الدالّة بوضوح على أنّ عليّاًعليه‌السلام :

هو وليّ الأمر من بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهو الذي جعله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنزلة هارون من موسى، في كلّ شيء إلاّ النبوّة.

وهو الذي قال فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَن كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذله».

فإذا ظهرت هذه النصوص للنّاس، لما بقي الوضع على قراره(1) .

2 - إنّ هذا الإخفاء لم يُقبَلْ من قِبَل الإمامعليه‌السلام وأنصاره.

____________________

= صحيح البخاري - دار إحياء التراث العربيّ - 8: 210 - 211. وقال الخطابي، في حديث عمر: أنّه قال: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلْتةً، وقى الله شرّها. وبهذا اللفظ، ورد في مصادر كثيرة هذا بعضها.

المصنّف، لعبد الرزّاق الصنعانيّ (5: 441 و 3: 355)، مسند أحمد 1: 56، السيرة النبويّة، لابن هشام 4: 308، تاريخ الطبري 3: 200 - 205، الملل والنِحَل، للشهرستاني 1: 30 - 31، الرياض النضرة 1: 232، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 23، الكامل في التاريخ 2: 326، النهاية 3: 175 و 467، تاريخ الخلفاء 51.

والفلتة: فسّرها أهل الغريب بالأمر الفُجائي يحدث من غير رويّة ولا إحكام. انظر الفائق، للزمخشري 3: 139، وغريب الحديث، لأبي عبيد 2: 231 و 3: 356، والنهاية، لابن الأثير.

والإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول عن بيعة الناس له: إنّ هذه بيعةٌ عامّةٌ مَن ردّها رغب عن الإسلام، وإنّها لم تكن فلتةً (الأخبار الطوال 140). وفي الخطبة (136) من نهج البلاغة قولهعليه‌السلام : لم تكن بيعتُكم إيّاي فلتةً.

(1) تكلّمنا عن هذه الأحاديث وخرّدنا مصادرها في فصول قادمة.

٢٦٢

بل تزعَم الإمامُ القولَ بإباحة التدوين، ولم ينصَعْ هو وأنصاره لأوامر المنع من التدوين، ولا منع نقل الحديث - كما سيأتي - فقاوموا ذلك بكلّ صلابة.

3 - إنّ تلك الأحاديث فيها الكثير ممّا قرَنَ فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بينَ عليّ وأهل بيته، وبين القرآن.

كما في حديث: «عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ»(1) .

وحديث الثقلين، الذي فيه: «إنّي مخلّفٌ فيكم الثقلين: كتابَ الله، وعترتي أهلَ بيتي»(2) .

4 - إنّ الإخفاء قد أثّرَ أثره العميق في الأمّة في صدر القرن الأوّل وامتداد المنع الرسميّ إلى نهاية القرن الأوّل كان كافياً لطمس معالم تلك الأحاديث بشكل كافٍ، فلذلك لم يعد لإظهارها بعد ذلك أيّ أثر معاكس على السلطات؛ فلذلك رُفع المنع المذكور.

إنّ وجود هذه العناصر في هذه المصلحة، وعدم تصوّر مصلحة أخرى، تؤكّد صحّة أن يكون السبب الأساس لمنع تدوين الحديث هو هذا التدبير السياسيّ.

وللمعلمي - من كبار علماء العامّة المعاصرين - تعليق على مرسَل ابن أبي مليكة، المحتوي على منع أبي بكر للناس عن الحديث بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال:

____________________

(1) ذكرناهما مع مصادرهما في فصول قادمة.

(2) ذكرناهما مع مصادرهما في فصول قادمة.

٢٦٣

«إنْ كان لمـُرسَل ابن أبي مليكة أصلٌ، فكونُه عقب الوفاة النبويّة يُشعر بأنّه يتعلّق بأمر (الخلافة).

كأنّ الناسَ عقبَ البيعة بقوا يختلفون، يقولُ أحدُهم: أبو بكر أهلُها، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «كيت وكيت» فيقول آخر: وفلان! قد قال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «كيت وكيت».

فأحبّ أبوبكر صرفهم عن الخوض في ذلك، وتوجيههم إلى القرآن(1) .

ولذا لا نستبعد أنّه كان يتخوّف من اشتهار أحاديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل عليّعليه‌السلام وأبنائهعليهم‌السلام .

ويوضّح هذا الهدف ما رواه عروة بن الزبير (ت 94 هـ)، بسنده عن عبد الرحمان بن يزيد، قال: قدم علينا سليمان بن عبد الملك حاجّاً، سنة (82)، وهو وليّ عهد، فمرّ بالمدينة، فدخل عليه الناس، فسلّموا عليه، وركب إلى مشاهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، التي صلّى فيها، وحيث اُصيب أصحابه باُحُد، ومعه أبان بن عثمان، وعمرو بن عثمان، وأبوبكر بن عبد الله، فأتَوا به قُباء، ومسجد الفضيخ، ومشربة اُمّ إبراهيم، وكلّ ذلك يسألهم؟ ويُخبرونه عمّا كان.

ثمّ أمر أبان بن عثمان أن يكتب له سِيَر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومغازيه.

فقال أبان: هي عندي، قد أخذتها مصحّحةً، ممّن أثِقُ به. فأمر بنسخها، وألقى بها إلى عشرة من الكُتّاب، فكتبوها في رَقٍّ، فلمّا صارت إليه، نظر، فإذا فيها ذِكرُ الأنصار في العقبتين، وذكر الأنصار في بَدْرٍ.

____________________

(1) الأنوار الكاشفة 54.

٢٦٤

فقال: ما كنتُ أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل! فإمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم(1) ، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان بن عثمان: لا يمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحقّ، هم على ما وصفنا لك في كتابنا هذا.

قال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لأمير المؤمنين، لعلّه يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فخُرّق، وقال: أسأل أمير المؤمنين إذا رجعت، فإنْ يوافقه فما أيسر نسخه.

فرجع سليمان بن عبد الملك، فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان، فقال عبد الملك: وما حاجتك أن تُقدِم بكتابٍ ليس لنا فيه فضل؟ تُعرّفُ أهلَ الشام اُموراً لا نُريد أن يعرفوها! قال سليمان: فلذلك أمرتُ بتخريق ما كنتُ نسخته حتّى أستطلع رأي أمير المؤمنين.

فصوّب رأيه(2) .

فإذا كانوا لا يتحمّلون ذكر فضل الأنصار، فكيف يتحمّلون ذكر فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وسيّدهم أميرالمؤمنينعليه‌السلام ؟!

واسمع ما روي عن خالد القسريّ - أحد ولاة بني اُميّة - وقد طلب من أحدهم أن يكتب له السيرة، فقال له الكاتب: فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة عليّ

____________________

(1) غمص عليه: عابه وطعنَ عليه. ومنه حديث تَوبة كعب «إلا مَغْمُوصٌ عليه النِّفاق» أي مَطْعون في دِينه مُتَّهم بالنِّفاق. ومغموص: محتقر، ليس بشيء. (النهاية 3: 386).

(2) مغازي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لعروة بن الزبير 28، الموفّقيّات، لزبير بن بكّار 222 - 223.

٢٦٥

ابن أبي طالب، أفأذكره؟

فقال خالد: لا، إلاّ أن تراه في قعر جهنّم(1) !!

ولذلك، لا نشكّ في أنّ السبب الأساسيّ لمنع تدوين الحديث هو هذا الهدف، لما حقّقناه من عدم وجود سبب صحيح آخر له، غيره.

مع التذكير مرّةً اُخرى، وربّما نُعيد التذكير! لخطورة الموقف وجسامته، بل والوقاحة التي أبداها الرجال بحقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا طلب أن يقدّموا له قرطاساً وقلماً ليكتب لهم كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً! فأنبرى عمر قائلاً: «كفى بكتاب الله» ومنع بشدّة، وتابعه آخرون، لم يكن فيهم عليٌّعليه‌السلام . وكثُر اللَّغط حتّى طردهم رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وذكرنا في موضعه: أنّ طاعة رسول الله من طاعة الله تعالى بأمر الله وصريح القرآن الذي يدعو إليه عمر! ومخالفته مخالفة لله تعالى وردّ عليه!

وذكرنا هناك أنّ ردّ السنّة وإنكارها، ردّ للنبوّة وهدم لركن عظيم لولاه لما صدّقناه بالأركان الأخرى: التوحيد، والمعاد، وهي من وظائف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في التبليغ. والتلازم واضح بيّن بين المرسل والرسالة والرسول.

فإنّ ما ذهبنا إليه من أنّ السبب السياسيّ هو الحاكم في حسم مسألة المنع من الحديث، تتجلّى في ذلك الموقف العصيب «يوم الرزيّة»!

وأيّ عاقل لا يفسّر موقف الذين منعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من كتابة الكتاب، بعد أن تكلّم فأوصى بكتاب الله تعالى، وعترته، وهو أمرٌ جرى منهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل هذا

____________________

(1) الأغاني 22: 25.

٢٦٦

الوقت والموقف أكثر من مرّة؛ فلا يفسّره بأنّهم علموا أنّه يريد أن يؤكّد تلك الوصيّة في كتاب مكتوب تتداوله الأُمّة من بعده، فتفلت الزعامة وتضيع الأريكة! فكان ذلك الموقف، ثمّ تواصلت الحملة التي وجد فيها بنو أُميّة وشيعتهم ضالَّتهم وعبّروا بها عن أحقادهم الموروثة فلم يقفوا عند حدّ المنع من الحديث والمعاقبة عليه، وإنّما صاروا إلى أمر أدهى ذلك هو الوضع في الحديث!

فعمدوا إلى اختلاق أحاديث في الفضائل ما كان أصحابها ليرضوا بذلك لو كان في عهدهم! لعلمهم أنّ ذلك تنقيصاً لا تفضيلاً، ومدعاةً للسخرية والاستخفاف بهم. إلاّ أنّ معاوية وقد تربّع على «الأريكة»، قد جمع إليه رجالاً ممّن عُرفوا بانحرافهم عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وجعل لهم جعلاً يُرغبُ فيه. فكتبوا له ما يريد: من تعظيم الثلاثة وضمّوا إليهم كاتب الوحي وخال المؤمنين - كذا - معاوية، ووزّعوا الجنّة على هؤلاء و ...، ووضعوا قبال هذه ما يتنقّصون به أهل البيتعليهم‌السلام ، حتّى بات الشاميّ لا يعرف مَن هو عليعليه‌السلام فمهّدوا لمـَن جاء بعد ليجد البيئة ناصبيّة ملتهبةً ...

الإسكافي يفضح أسباب الفُرقة عن عليٍّعليه‌السلام

إنّ ابن تَيمِيه، بحكم تربيته البيئيّة وما اشتبكت عليها الأَعْصُرُ وضربتها الفِتَنُ بأجرانها..، فورث خلاصة ضلالها، وباءَ ببوائِقِ فِتَنِها، فهَمْلَج بمُوازنةٍ باطلة ومِعْيارٍ مُجْحِفٍ، إذ رمى الشّيعة الّذين سمّاهم: الرَّوافض، بالضَّلالِ، وهو أَوْلى بهِ! إذ وازَنَ بين عليٍّ وأهلِ بَيْتِهعليهم‌السلام ، وبين معاوية وابنه يزيد، والحجّاج، والخوارج؛ وإنّ

٢٦٧

الشّيعة لا تستطيع انْ تثبت ايمانَ أهل البيت، فضلاً عن عدالتهم، ما لم تثبت مثل ذلك لأولئك!! وقد جاء من رفع عقيرته بأقوالِ ابن تَيمِيه وتحمّس لها ونشرها بين الملأ؛ وظهرتْ جماعات شاكية السّلاح تنشر الرُّعب وتعيث فساداً وتنتقم ممّن لم يأخذ بمبادئ ابن تَيمِيه، وهذه الجماعات لها جذور تاريخيّة قذرة واُصول فاسدة في بيئة معقّدة لا تبعد عن بيئة ابن تَيمِيه!

وللإسكافي كلام جيّدٌ معَ مخالفي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، نذكر أكثره لما فيه من فائدة:

«باب سبب انحراف النّاس عن عليّ هو الحقد والضَّغينة، والعداوة الطّائفيّة، والحميّة الجاهليّة قال: ثمّ اعلموا - سلّمكم الله من الهلكة وأيّدكم بالاستقامة والصواب في المقالة - إنّ هذا باب قد كثر قولُ القائلين فيه وطالَ اختلافُهم وتشعَّبت أهواؤهم وتوغَّرتْ من أجله صُدورهم..؛ وذلك لأنّ أوّله كان على الضغن والعداوة والعصبيّة والحميّة، ولم يكن القول فيه على طريق الخطأ من أجلِ شُبْهةٍ دخلتْ أو لبس حدثَ؛ فاتّصلتْ أسبابُه على ذلك، وانشعبت فروعه على حسب ما ذكرناه من حدوث اُصوله، فزرعتْ في القلوب الهوى والمـَيْل، فتكلّم كلّ إنسان على قدر هواه ومَيْلِه وما سبق إلى قلبه فنصَر رأْيَه وناظَرَ في تقوية قوله: فتاهوا على طول الأيّام وألْفوا الخطأ والضَّلال، وتعدّى ذلك إلى العوامّ من النّساء والرِّجال، فعظُمَ فيه الخَطْب وكثر القِيل والقال وتوارثوا تلك الأضغان والأحقاد حتّى ظلَّ الرّاجع المبين لرُشْدِه مشتوماً قد نبذوه بالألقاب

٢٦٨

ورموه بالبدعة والضَّلال!..»(1) .

قال: وأمّا أهل الحشو(2) من أصحاب الحديث وسائر العوامّ وعندهم من التعسُّف في هذا الباب، والعناية به والانكماش فيه على قدر جهلهم بأوَّلِه وآخره وعلى حسب ما عندهم من قلّة المعرفة بالنظر والتمييز بين السُّنَّة والفريضة والشَّرع، إلى التقليد والقول بما دعت إليه ملوك بني أُميّة. وإنّ ملوك بني أميّة وإنْ كانتْ قدْ بادتْ، فإنّ عامّتها وشيعتها فينا اليوم ظاهرة متعلِّقة بما ورثوه من ملوكهم وأسلافهم الباغية.

فبلغَ من عنايتهم بخطئهم في هذا الباب أن أخذوا معلِّميهم بتعليمِ الصِّبيان في الكتاتيب لينشئوا عليه صغيرهم ولا يخرج من قلب كبيرهم وجعلوا لذلك رسالة يتدارسونها بينهم، ويكتب لهم مبتدأ الأئمّة: أبو بكر بن أبي قَحافة، وعمر ابن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، حتّى أنّ أكثر العامّة منهم ما يعرف عليّ بنَ أبي طالب ولا نسَبَه، ولا يجري على لسان أحد منهم ذِكْرُه!

وممّا يؤكّد هذا ما يُؤْثَر عن محمّد بن الحنفيّة يوم الجَمَل، قال: حملتُ على رجُلٍ فلمّا غشيته برمحي، قال: انا على دين عمر بن أبي طالب!! قال: فعلمتُ أنّه يريد عليّاً! فأمسكتُ عنه(3) .

____________________

(1) المعْيارث والمـُوازَنة، أبو جعفر الإسكافي محمّد بن عبد الله المعتزلي، المتوفّى سنة 240 هـ، صفحة: 17.

(2) الحشوية طائفة من المبتدعة.

(3) المعيار والموازنة 18 - 19.

٢٦٩

قال: وممّا يدلّك على أنّ العامّة مخدوعة متحيّرة بفقدِ العلم، مغرورة في هذا الباب: أنّهم جميعاً يشهدون أن أبا بكر أفضلُ من عمر ويسندون تفضيل أبي بكر على عليّ إلى حديث عبد الله بن عمر فيقلِّدونه الخبر.

وقدْ جاءهم الإسناد في تفضيل عليّ وتقديمه على كافّة النّاس عن محمّد ابن أبي بكر، وسلمان، وعمّار بن ياسر، وما كان من شهرة قيامهم مع عليّ بن أبي طالب، فلم يلتفتوا إلى ذلك!

فإن كانوا مالوا إلى تصديق عبد الله بن عمر لأنّه أفضل وأعبد وأخيَر - وإنْ لم يكن عندنا على ذلك - فتقليدُ عليّ بن أبي طالب ومَنْ ذكرناه أَوْلى لأنّه خير من عبد الله بن عمر وأفضل، لا يشكّون في ذلك ولا يمترون. وإنْ كانوا مالوا إلى عبد الله بن عمر لأنّ أباه كان إماماً فاضلاً، فالمـَيْلُ إلى محمّد بن أبي بكر أَوْجبُ لتقديمهم لأبي بكر على عمر وتفضيلهم إيّاه عليه(1) . ولا أجد لهم في ذلك علّة يوجبها التميّز والنظر غير ما ذكرنا من الخديعة وتقليد الخبر.

وأبْيَن من هذا في جهل الأنعام الضالّة والحُمر المـُستنفِرة: أنّ عائشة عندهم في أزواجصلى‌الله‌عليه‌وآله النبيّ صلّى الله عليه، أشهرُ وهي عندهم أعظم وأفضل من بنت أبي سفيان، وأكثر في الشهرة والمعرفة. فإذا ذكرَ أحدٌ معاويةَ بسوءٍ، غضبوا وأنكروا ولعنوا من ذكره بسوء، وعلّتهم أنّه خالُ المؤمنين! وإذا ذُكر محمّد بن أبي بكر

____________________

(1) نفسه. (ولو كان غير عليّ هو الأفضل لطهّره الله تعالى وزَوْجه وبنيه، وهي العصمة؛ ولباهل به وبزوجه وبولده ونصبهم آية؛ ولأنزله منزلة هارون من موسى والّتي اختصّ بها عليّ، ولنزل بولايته آية كما نزل في عليّ لمّا تصدّق بخاتمه، ولا كلام في سابقته ومؤاخاته ...

٢٧٠

بسوءٍ رضوا وأمسكوا ومالوا مع ذاكره، وخؤولته ظاهرة بائنة.

وقد نفرت قلوبهم من عليّ بن أبي طالب لأنّه حارب معاوية وقاتله، وسكنت قلوبهم عند قتلِ عمّار ومحمّد بن أبي بكر، وله حُرمة الخؤولة، وهو أفضلُ من معاوية، وأبوه خيرٌ من أبي معاوية.

فتدبّروا فيما ذكرناه لتعلموا أنّ علّة القوم الخديعة والجهالة، وإلاّ فما بالهم لا يستنكرون قتْلَ محمّد بن أبي بكر، ولا يذكرون خؤولته للمؤمنين؟ قاتلهم الله أنّى يُؤفكون.

وقد مالوا عن إمامة عليّ بن أبي طالب وضعَّفوها، وبعضهم نفاها بما كان من خلاف عائشة وطلحة والزبير، وقعود ابن عمر ومحمّد بن مسلمة وأسامة بن زيد. وهؤلاء النّفر الذين أوجبوا الشكّ في عليّ عندهم وضعّفوا إمامته بقولهم؛ هم الذين طعنوا على عثمان وألبّوا عليه وذكروه بالتبديل والاستيثار، وأوّلهم بادرةً عليه عائشة كانت تُخرج إليه قميص رسول الله وهو على المنبر وتقول: يا عثمان هذا قميص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يَبْلُ وقد أبليتَ سنَّته. فو اللهِ ما قدح الشكّ في قلوبهم في عثمان بقولهم ولا قصّروا عن تفضيله وتقديمه بطعنهم ولا أثّر ذلك في صدورهم!

وعللهم في استنكارهم على عثمان مأثورة مذكورة مشهورة.

فلمّا قعدوا عن عليّ جعلتم قعودهم حجّة وطعنهم علّة في الشكّ والتنقيص وصرف الإمامة عنه، من غير أن يذكروا علّة تبديل ولا استيثار ولا تغيير أكثر من نكثهم وطعنهم.

٢٧١

وقد رويتم أنّ عثمان نفى أباذرّ، وقد عرفتم تقدّم أبي ذرّ وسابقته، وأقررتم ما صنع عثمان بابن مسعود و غير من أكابر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولا تجدون أحداً مدَّ عليّ بن أبي طالب إليه يده قبل أن يبدأه بالبغي والخلاف، ولا ذُكر عنه استيثار ولا خيانة ولا خطأ وجدوه عليه.

على أنّا نوجدكم لكلّ مَن ذكرتم معارضين في دعواهم مخطئين لهم في خلافهم وقعودهم.

أمّا عائشة فقد عارضتها أمّ سَلَمة بالخلاف عليها والتخطئة لها بحُججٍ أوردتها لم تستطع إنكارها.

وأمّا عبد الله بن عمر فقد عارضه عبد الله بن عبّاس وهو أكبر منه علماً وفضلاً. وأمّا طلحة والزبير فقد أقرّا بالبيعة، ونكثا وهما أوّل مَن بايع.

وأمّا محمّد بن مسلمة، فأكبرُ منه: سلمان.

فلِمَ مِلْتم مع مَن ذكرنا وقد عارضهم مَن وصفنا؟

وزاد عليهم سبعون بدريّاً وسبع مائة من المهاجرين والأنصار منهم المقداد ابن الأسود، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبو أيوب الأنصاريّ، وأبو الهيثم ابن التيّهان، وغيرهم من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكيف تمّت بيعة أبي بكر عندكم بأبي عبيدة بن الجرّاح وعمر بن الخطّاب مع خلاف سعد [بن عُبادة] وامتناعة من البيعة، وخلاف الأنصار، وأبو بكر هو الساعي إليها والداعي لها؟! ولم تتمّ بيعةُ عليّ بن أبي طالب بالمهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإيمان وهم الطالبون له والمجتمعون عليه وليس له

٢٧٢

نظيرٌ يشاكله ويعادله.

أفٍ لهذا من مقال! ما أبينَ تناقضه وأقلّ حياء الداين به! فخلافُ مَن لم يبايع أبا بكر حتى مات أكثر في تضعيف الإمامة من خلاف مَن نكث البيعة وادّعى بعد الإقرار.

فإن قلتم: إنّ الأنصار اتّفقت بعد خلافها، لا يمكّنكم ادّعاء ذلك في سعد بن عُبادة وما تروونه من قول سلمان.

ولا يمكنكم إنكار إقرار طلحة والزبير بالبيعة لأميرالمؤمنينعليه‌السلام ثمّ نكثهما بيعته بلا عذر مقبول في الدين بل ولا عند العقلاء المستقيمين ممّن لا يتديّن بدين. وإن كان رجوعهما عن بيعتهما يدلّ بزعمكم على خطائهما في بدأ الأمر.

وأكبرُ منه: بكاءُ عائشة وندامتُها، وتلهّف ابن عمر على ذلك، حتّى دعا ابن عمر ما استبان له من تقصيره إلى الغلوّ والإفراط في مبايعة الحجّاج بن يوسف، واعتلّ بأنّه سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «مَن مات ولا إمام له مات ميتةً جاهليّةً»! فهذا يدلّ على أنّه قد اعتقد إمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام لأنّ مَن اعتقد إمامة الحجّاج، لم يذهب عن إمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . فما رأيتُ خطأ أعظم ولا تقصيراً أبَين من فعل ابن عمر المغفَّل. مع روايتكم عنه أنّه قال: ما آسي إلاّ على ثلاث: منها أنّي لم أكن قاتلتُ هذه الفئة الباغية(1) .

____________________

(1) المعيار والموازنة 21 - 24. (لم نخرّج الأحاديث لاشتهارها وأيضاً تكلّمنا خصوصاً بشأن عائشة، ولكن نضيف هنا: أن بكاءها لعلّه بسبب خسارتها الحرب! وليس ذكرها بعض فضائل =

٢٧٣

ذكر أصناف المخالفين والمعاندين للإمام عليّعليه‌السلام

وفي مقالة أخرى للإسكافيّ، كشف فيها المستور من سياسة ملوك بني أميّة فقال: «قد علمتم أنّ أقوى الخطأ في هذا الباب - والذي أشكل على أهل النظر - من علماء المرجئة والمعتزلة، فبعضُهم قدّم أبا بكر على عليّ، وبعضُهم أمسكَ ودانَ بالوقفِ.

وأفضحُ من هذا خطأ! موازنةَ عليّ بطلحة والزبير، والوقوف عندهم، وهو ما تعلّقت به خاصّة العامّة.

وأعظمُ من هذا جهلاً وعمىً موازنة عليّ بمعاوية، وهو ما ذهب إليه بعضُ العامّة المتحيّرة وطغام الحشويّة البائنة.

فإذا بدأنا بالقول الأوّل وبينّا باطله، وأوضحنا خطأه وصح ما بعده وبان.

ولعليّ بن أبي طالب عند اختلاف الناس فيه مَثَلٌ من عيسى بن مريمعليه‌السلام ، فاختلفت الأُمّة في عليّ أصنافاً، كما اختلفت أمّة عيسىعليه‌السلام فيه أصنافاً، وأفرط فيه قوم فعبدوه؛ وقصّر فيه قوم فشتموه وقذفوه.

فمنزلة النصارى في الإفراط، منزلة الروافض في الإفراط(1) ومنزلة المرجئة في النَّصْب في عليّ منزلة اليهود في التقصير وشتم عيسى ابن مريمعليهما‌السلام .

وفي ذلك ما يؤثر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعليّ: «يهلك فيك رجلان: محبٌّ

____________________

= أهل البيت كافٍ فقد ذكرت أحاديث كاذبة بحقّ غيرهم! وأمّا ابن عمر فسيرته معروفة في عدائه لأهل البيتعليهم‌السلام !).

(1) مراده من الروافض هم القائلون بربوبيّة عليّعليه‌السلام بقرينة تنزيل منزلتهم منزلة النصارى.

٢٧٤

مفرط، ومبغض مفرط».

وأوّل ما يجب في هذا الباب من التنبيه على الحقّ قبل التلخيص والتفسير: أنّكم تعلمون أنّ بلدان النَّصْب والمقصّرين عن فضل عليّ بن أبي طالب الشام والري والبصرة.

وليعلم أنّ أموره تنكشف على طول الأيّام، وأنّ الحقّ يعلو عند النظر بما ترادف من قوارع الحجج، فيملّ الناس الجهل والتعصب والخطأ.

وأخرى أيضاً: أنك لم تر شيعيّاً قطّ رجع القهقرى بل يزداد في الإفراط، ويغلو في القول ولا يرجع إلى التقصير حتّى يصير بالإفراط رافضيّاً كبيراً!! ولذلك قال بعضُ الناس: أرني شيعيّاً صغيراً أريك رافضيّاً كبيراً. وعلّة ذلك: أنّه إذا قال بالتشيّع اتّسعت عليه الفضائل وكثرت المناقب وترِد عليه عند النظر من فضائل صاحبه، وتقدّمه دلائل تبهر وتلوح كالقمر الأزهر وكالنجوم المضيئة، فيضيق عليه المخرج، فلا يكون عنده من الورع والتوقّي ولطافة النَّظر والعِلم بالمخرج ما يمنعه من الغلوّ ويُقعده من الإفراط، فعندها ترفّض.

وأفرط قومٌ في بُغضه فلعنه وشتم وكفر.

وقال قومٌ بنبوّته. وقال آخرون فيه مثل مقالة النصارى في عيسى ابن مريم. ولا تجد أحداً قال ذلك في أبي بكر وعمر. بل قد نجد القائلين بتقديم أبي بكر وعمر قد يرجعون إلى ترك المذهب، ويميلون إلى الاعتقاد الحسَن والصواب في اعتقاد التشيّع.

ولسنا نجعل إفراط مَن أفرط وشتمَ مَن شتم حجّةً في تقديم عليّ بن أبي

٢٧٥

طالب على أبي بكر وعمر، وإنّما جعلنا ذلك تنبيهاً قبلَ النظر لتعلموا أنّ التمييز والمعرفة في تقديمه يحثّان على الفحص والنظر، ولأنّ قوماً دعاهم التعصّب والحُمق إلى أن جعلوا إفراط مَن أفرط فيه، وخلاف من خالفه تنقُّصا لأبي الحسن صلوات الله عليه؛ فأريناهم أنّ ذلك في الفضل أولى من النقص، وعلى التقديم أدلّ منه على التقصير كما قلنا في عيسى ابن مريم.

وبلغ التوهّم إلى حدٍّ حتّى دعا قوماً إلى أن زعموا أنّ كثرة الخلاف عليه في عسكره وما حدث من نكث الناكثين عليه يدلّ على أنّه لم يكن له نفاذ في التدبير ولا كان معه من حسن التأليف ورجاحة السياسة ما كان مع غيره، على ما زعموا.

وهذا غاية ما يكون من التعدّي في القول والإفراط في ترك قلّة الإنصاف وذلك بأنّهم لم يوقفونا من سوء تدبيره وخطأ سياسته على أمر معروف ولا على حديث في ذلك مأثور ومشهور، وإنّما أرادوا أن يوجّهوا ذلك بالقياس قصداً منهم إلى نصرة الخطأ وميلاً إلى العصبيّة والحما.

وهيهات أن ينالوا في عليّ ما قصدوا إليه، ولو كان ما ذهبوا إليه صواباً قلنا: فارتدادُ العرب قاطبةً، واجتماعها على الردّة في أيّام أبي بكر أعظمُ وأدلُّ على الخطأ في الرأي، والغلط في السياسة، لأنّ الفتنة كانت أعظم في أيّامه وكذلك فتنتهم أيّام عثمان أشدّ، واختلافهم عليه أكبر وأجلّ؛ فما قلتم على عثمان أوجب ومن أبي حسن أبعد لأنّ الخلاف عليه كان هو سببه وعلّته وذلك مأثور مشهور في كتب العامّة، فكيف في كتب الخاصّة! وذلك لأنّ القوم خالفوه لما ظهر

٢٧٦

من عواره وضعفه، ولما حدث عندهم من نهمته ودعوى من ادّعى عليه تبديل السنن واستيثار الفيء، وإيواء الطريد(1) ، ورجوعه عن رأيه مرّة بعد مرّة، ومن شيء بعد شيء، وإخراج أبي ذرّرضي‌الله‌عنه .

فهذا عليكم في عثمان قد وجب، وفي عليّ قد بطل، فالحمد لله على تعريفه بهت من كفر، وقمع من عاند.

ومتى اعتلَّ أهل الحيرة في تنقيص أبي حسن بما حدث في زمانه من الخلاف والفتن، فذلك عليهم في أبي بكر أوجب ولعثمان ألزم. ومتى صوّبوا رأي عثمان رأي في كفّه الحرب وخطّأوا عليّاً في إقدامه على القتال؛ لزمهم تخطئة أبي بكر في محاربته لمن منع الزكاة أن يلزموه الضلال والخطأ، إذ زعم أنّه يسفك الدماء ويقتل الأنفس من أجل عقال لو منعوه(2) .

ومتى صوّبوا أبابكر في رأيه، خطّأوا عثمان في كفّه عن الدفع عن نفسه ودينه.

فأين المفرّ والمذهب وقد أحاطت بكم الحجج لو لا المعاندة والتعصّب!

وأبيَن من هذا أنّ أُسامة بن زيد لمّا سُئل عن علّة قعوده عن نصرة أميرالمؤمنين على أعدائه أنّه قال: حلفتُ أيّام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا أقاتل من قال: لا إله إلاّ الله. وذلك أنّه كان في سريّة في بعض محاربة المشركين فقتل رجلاً بعد أن قال:

____________________

(1) هو الحكم بن أبي العاص أبو مروان الذي كان يستهزئ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(2) أي أنّه قاتل القبائل التي رفضت خلافته ولم ترها شرعيّة وهي قبائل واسعة فمنعت إعطاءه الزكاة لذلك وقد تكلّمنا عن هذا الأمر فيما مضى من هذا الفصل، وفي وقعة الجمل - سيأتي -.

٢٧٧

أشهد أن لا إله إلاّ الله. فقال رسول الله: قتلته وهو يشهد أن لا إله إلاّ الله، فعاهد أسامةُ رسولَ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يقاتل أحداً يشهد الشهادتين.

فأخطأ أسامة في أوّل مرّة في الحكم في قتْل الكفرة، وغلط في حكم الله في محاربة أهل القبلة؛ لأنّ الكافر إنّما وجبت محارته لإنكاره الشهادة، وأهل الصلاة لم يجب قتالهم لإقرارهم وإنّما وجب قتالهم لبغيهم؛ فالحكم في أهل الصلاة أن يكفّ عن قتلهم إذا رجعوا عن بغيهم، وفاؤا إلى أمر ربّهم كما أنّ الحكم في أهل الكفر أن لا يقاتلوا إذا رجعوا عن كفرهم.

فلم يسلم أسامة من الخطأ في إقدامه ولم يُدرك الصواب في إمساكه، فغلط أسامة الضعيف في الحكمين جميعاً.

على أنّ هذا القول من أسامة يدلّ على تخطئة أبي بكر في رأيه، لأنّ أبا بكر قد رأى محاربة من أقرّ بالشهادة وصلّى القبلة.

والعجب أنّ الخلاف على أبي بكر كان في هذا الرأي أكثر، لأنّ عامّة أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أسندوا رأيهم في خلاف أبي بكر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالوا: سمعنا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فإذا قالوها منعوا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله».

فكان هذا من قولهم أكبر في الخلاف، وأعظم في الشبهة ممّا رواه محمّد بن مسلمة أنّه سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إذا رأيت فتنة فاتّخذ سيفاً من خشب واضرب

٢٧٨

سيفك الحائط(1) .

مع روايتكم الظاهرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ»(2) .

فكيف تكون فتنة قائدها ودليلها عليّ بن أبي طالب؟!

وقول عليّعليه‌السلام : «إنّه لَعهدُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»(3) . وشهادة المهاجرين والأنصار له بما قال، وفيهم عمّار بن ياسر، وأبو أيّوب الأنصاري، وأهل الفضل والسابقة.

وإنّما قدّمنا هذه المقدّمة لتعلموا أنّ شأن مَن ذهبَ عن فضل أميرالمؤمنين ليس إلاّ المعاندة واتِّباع الهوى دون الحجّة(4) .

دستور معاوية في سبّ أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام والبراءة منه

ذكر ابن أبي الحديد في ذلك، قال: إنّ معاوية، أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسبّ عليّعليه‌السلام والبراءة منه.

وخُطب بذلك على منابر الإسلام، وصار ذلك سنّة في أيّام بني أُميّة إلى أن قام عمر بن عبد العزيزرضي‌الله‌عنه فأزاله. وذكر شيخُنا أبو عثمان الجاحظ أنّ معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللّهمّ إنّ أبا تُراب أَلْحد في دينك، وصدّ عن

____________________

(1) قول هذا، مصداق قوله تعالى:( وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) . (التوبة: 49)

(2) ذكرناه ومصادره في موضع آخر من كتابنا هذا.

(3) ذكرناه ومصادره فيما تقدّم من هذا الفضل وفي وقعة الجمل من كتابنا هذا.

(4) المعيار والموازنة 31 - 37.

٢٧٩

سبيلك، فالْعنه لعناً وبيلاً، وعذّبه عذاباً أليماً.

وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يُشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز(1) .

وذكر المبرّد في «الكامل» أنّ خالد بن عبد الله القَسْريّ، لمّا كان أمير العراق في خلافة هشام، كان يلعن عليّاًعليه‌السلام على المِنْبر، فيقول: اللّهمّ الْعن عليّاً بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم، صهِر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على ابنته، وأبا الحسن والحسين!! ثمّ يُقبِل على النّاس فيقول: هل كَنَّيت(2) ؟!

وروى أبو عثمان أيضاً أنّ قوماً من بني أُميّة قالوا لمعاوية: إنّك قد بلغتَ ما أمّلتَ، فلو كَففتَ عن لعنِ هذا الرجل! فقال: لا والله! حتّى يربوَ عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يَذكُر له ذاكرٌ فضلاً(3) !

وروى أهلُ السيرة أنّ الوليد بن عبد الملكك في خلافته ذكر عليّاًعليه‌السلام ، فقال: لعنه «اللهِ» بالجرّ، كان لصّ بن لصّ.

فعجب الناس من لَحْنه فيما لا يلحن فيه أحد [إذ كان ينبغي أن يقول: اللهُ، بالرفع، لا بالجرّ كما فعل!]، ومن نسبته عليّاًعليه‌السلام إلى اللصوصيّة [وهذه لا تعليق لنا عليه] وقالوا: ما ندري أيّهما أعجب! وكان الوليد لحّاناً(4) .

____________________

(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 4: 56 - 57.

(2) الكامل في الأدب، للمبرّد - طبع أوربّا - 414.

(3) شرح نهج البلاغة: 57.

(4) نفسه 58.

٢٨٠