ابن تيميه الجزء ١

ابن تيميه0%

ابن تيميه مؤلف:
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 432

ابن تيميه

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
المحقق: جعفر البياتي
تصنيف: الصفحات: 432
المشاهدات: 117595
تحميل: 5803


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 432 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 117595 / تحميل: 5803
الحجم الحجم الحجم
ابن تيميه

ابن تيميه الجزء 1

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي الرياضيات: سعيد بن محمّد الصفديّ (712 هـ).

وفي علم الاجتماع وفلسفة التاريخ: ابن الطِقطِقي (709 هـ) في كتابه (الفخريّ في الآداب السلطانيّة والدول الإسلاميّة) وكان سابقاً لابن خلدون.

وفي اللغة: بعد أبي حيّان الأندلسي كان ابن منظور (711 هـ)، ثمّ ابن هشام الأنصاريّ (761 هـ).

وبرز من المؤرّخين عدد كبير، كأبي شامة (665 هـ)، وابن العديم (666 هـ)، وابن خلّكان (681 هـ)، وابن الفوطي (723 هـ) ن والمِزّي (742)، والذهبيّ (748 هـ)، وآخرون.

وأمّا أوسع الناس تصنيفاً في العلوم الدينيّة خاصّة كالفقهِ والأُصول والتفسير والحديث فكان: العلاّمة ابن المطهّر الحلّي (726 هـ) وله تآليف أُخرى كالهيئة والرياضيات والفلسفة، شرح فيها كثيراً من كتب شيخه نصير الدين الطوسيّ حتّى قيل: لو لا شرح ابن المطهّر لم يفهم أحد كلام نصير الدين.

وإمام الزيديّة يحيى بن حمزة المؤيّد بالله (669 - 749 هـ) والشيخ عليّ بن عبد الكافي السُّبكي (686 - 756 هـ) إمام الشافعيّة، وله نح من مائة وخمسين مصنّفاً في العلوم الدينيّة.

عصره الدينيّ

الحالة الدينيّة في هذا العصر مليئة بكلّ ما هو مثير.

فالعصر الذي شهد سقوط عاصمة الخلافة على أيدي التتار المغول وما تبعه

٤٠١

من دمار وخراب، شهد أيضاً تدفّق هؤلاء التتار سلاطين وجنوداً إلى اعتناق الإسلام وتطبيق شيء من أحكامه.

والعلاقة بين الديانات السماويّة الثلاث كانت على أسوئها، لما شهده اليهود والنصارى من دعم وحماية من قبل الصليبيّين ثمّ التتار - قبل إسلامهم فخلّف ذلك فِتَناً كثيرة، ومذاهب إسلاميّة منحرفة نشطت أهمّها:

1 - الإسماعيليّة: وهي فرقة شيعيّة قديمة نسبيّاً شذّت بعد الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، وكان لها شوكة ونفوذ، ومركزها في سَلَمية من نواحي حماه، والمذهب الإسماعيليّ هو مذهب الدولة الفاطميّة التي حكمت قرابة ثلاثة قرون، وعُرفوا بالباطنيّة لإغراقهم في الباطن.

2 - الكرّاميّة: فرقة من العامّة تقول بالتجسيم والتشبيه، تسرّبت عقائدهم حتّى إلى بعض خصومهم، ومن ذلك قولهم باستقرار الله تعالى على العرش مماسّاً له من جهته العليا، وجوّزوا عليه الانتقال والتحوّل والنزول. تعالى الله عمّا يصفون.

3 - النصيريّة: فرقة من غلاة الشيعة، زعمت أنّ الروح الإلهية حلّت في الإمام عليّعليه‌السلام ، ثمّ اعتقدوا أنّ ابن ملجم هو أفضل أهل الأرض لأنّه خلّص روح اللاّهوت من ظُلمة الجَسَد، وكان لهم في هذا العصر قوّة أزعجت السلطان فوجّه إليهم جيشين لمقاتلتهم، مرّة سنة 705 هـ) ومرّة سنة 717 هـ.

4 - اليزيديّة: أو العَدَويّة، نسبة إلى الشيخ عَدِيّ بن مسافر المرواني الأُمويّ المتوفّى سنة 557 هـ وكان صوفيّاً استوطن أرض الأكراد في الجزيرة الشاميّة

٤٠٢

(الحدود العراقيّة السوريّة). وكان يعتقد في يزيد بن معاوية أنّه إمام حقّ وابن إمام، فغلا فيه أتباعه من بعده وكان لهم انتشار وفِتَن في تلك الديار، وديار بكر وبلاد الأرمن من آسيا الوسطى. وانتشر التصوّف انتشاراً هائلاً، ساعده على ذلك الجهل العامّ بفحوى الدين وأهدافه الكبرى، في أجواءٍ من اليأس والقنوط والخمول، مع تأييد السلاطين لذلك خدمةً لحكمهم. وهذا لا يعني أنّ التصوّف كان منسجماً على الدوام مع السلطة، فمِن شيوخهم مَن اُوذي وسُجن، كالشيخ السهروردي (587 هـ) والشيخ محيي الدين بن عربي (638 هـ) والشيخ خضر العدوي (671 هـ) ومهما يكن فإنّ انتشار التصوّف يُعدّ من أبرز الظواهر الدينيّة في ذلك العصر.

المذاهب الكبرى

شهدت دمشق في هذا العصر حدثاً جديداً، فقد أنشأ الظاهر بيبرس نظاماً جديداً يقضي بتعيين أربعة قضاة موزّعين على المذاهب الأربعة، وطبّق هذا النظام في القاهرة سنة 663 هـ، ثم في دمشق سنة 664 هـ، بعد أن كان القضاء محصوراً بالشافعيّة.

قال السُّبكيّ الشافعيّ: لم يكن يلي قضاء الشام، والخطابة والإمامة بجامع بني أميّة إلاّ مَن يكون على مذهب الأوزاعيّ، إلى أن انتشر مذهب الشافعيّ فصار لا يلي ذلك إلاّ الشافعيّة. وأرّخ ذلك السُّبكي بسنة 302 هـ منذ عهد القاضي

____________________

(1) طبقات الشافعية الكبرى 8: 320.

٤٠٣

أبي زُرعة محمّد بن عثمان الدمشقيّ(1) .

وإذا قرار بيبرس هذا يُعدّ انتصاراً للمذاهب الثلاثة حيث أشركهم في القضاء، فإنّه كان قراراً قاسياً على الشافعيّة الذين لم يعتادوا رؤية مشارك لهم في القرار، رغم أنّ بيبرس قد احتفظ لهم ببعض المزايا، كاختصاص القاضي الشافعي بالأوقاف وتقديمه في الأيّام الرسميّة، إلاّ أنّ ذلك لم يحدّ من سخطهم الذي بلغ إلى حدّ اعتقادهم أنّ هذا النظام قد أوجب على فاعله الظاهر بيبرس دخول النار والعذاب الشديد، كما أوجب ضياع ملكه!. يقول السُّبكي: حُكي أنّ الظاهر بيبرس رأى الشافعيّ في النوم لمّا ضمّ إلى مذهبه بقيّة المذاهب، فقال له الشافعيّ: تُهين مذهبي! البلادُ لي، أو لك؟! أنا قد عزلتك وعزلتُ ذريّتك إلى يوم القيامة.

قال: فلم يمكث إلاّ قليلاً ومات، ولم يمكث ولده السعيد إلاّ يسيراً وزالت دولته، وذرّيته إلى الآن فقراء!.

بهذه البساطة يروي العلاّمة السُّبكي أحلام البسطاء فيقول بعكس ما تراه عيناه، فهو يعلم أنّ بيبرس قد بقي في السلطنة ثلاث عشرة سنةً بعد قراره بضمّ القضاة، وأنّه أحسن السلاطين سيرةً، فعطّل الخمرة والحشيشة في كلّ البلاد ولم يفعل ذلك أحد غيره، وهزم المغول والصليبيّين وحقّق ما عجز عنه صلاح الدين حتّى توفّي سنة 676 هـ! ولكنّ ذلك لم يكن شافعاً له، فالسُّبكيّ يقول: حُكيّ أنّه رُئيَ في النوم بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: عذّبني عذاباً شديداً بجعل

٤٠٤

القضاة أربعةً.(1)

ولم يكن ذلك شأن الشافعيّة وحدهم، فما تناقله أصحاب المذاهب الأخرى كثير، فمثلاً ما رواه الذهبيّ الحنبليّ وأثبته العماد الحنبليّ في أحداث سنة 725 هـ: كان غرق بغداد المهول، وساوى الماء الأسوار، وغرِق أُممٌ لا تُحصى، ودام خمس ليالٍ، قال الذهبيّ: ومن الآيات أنّ مقبرة الإمام أحمد بن حنبل غرقت سوى البيت الذي ضريحه فيه، فإن الماء دخل في الدهليز علوّ ذراع ووقف بإذن الله وبقيت البواري عليها غبار حول القبر(2) !.

ذكر ذلك عن قبر أحمد، ولم يُخبر بمصير قبر أبي حنيفة أو الشيخ عبد القادر الجيلاني وكلاهما في بغداد، ولعلّه رأى أنّ ذلك من مسؤوليّة الأحناف والصوفيّة!.

وثمّ أحداث كبيرة كان سببها التعصّب المذهبيّ، فحَجْرُ الملك الأشرف الأيّوبيّ على العزّ بن عبد السلام شيخ الشافعيّة، إنّما كان جرّاء خلاف بينه وبين الحنابلة الذين استمالوا الملك الأشرف وأقنعوه أنّ قولهم قولُ السَّلَف وأنذ عبد السلام زائغ عن الصراط المستقيم(3) .

وفي قضيّة أحمد بن إسماعيل التبريزيّ الشافعيّ الذي قضى عليه القاضي الحنفيّ بالجلد ثمانين ضربةً، ثمّ بنفيهِ وإخراجه من التدريس بسبب شتمِه أحد

____________________

(1) طبقات الشافعية الكبرى 8: 321.

(2) شذرات الذهب 6: 66. والبواري: الحُصُر من قَصَب.

(3) طبقات الشافعية الكبرى 8: 818 وما بعدها.

٤٠٥

ذريّة الإمام أبي حنيفة. يقول الشوكاني:

قد لَطفَ اللهُ به بمرافعته إلى حاكم حنفيّ، فلو رُوفع إلى حاكم مالكيّ لحكم بضرب عنقه! وقبّح الله هذه المجازفات والاستحلال للدماء والأعراض لمجرّد أشياء لم يوجب الله فيها إراقة دمٍ ولا هَتْكَ عِرْض(1) . هذا كلّه لا يعني أنّ هناك تجافياً تامّاً وقطيعةً بين أصحاب المذاهب، بل على العكس كانت إفادة بعضهم من البعض مألوفةً جدّاً في التعليم والتأليف والحوار، وربّما كان الحوار ينتهي بانتقالِ فقيهٍ من مذهب إلى مذهب وقد حصل كثيراً.

كما كان جوٌّ من التفاهم بين أتباع المذاهب الأربعة والصوفيّة، فالمدرسة التي تُنشَأ لتدريس المذاهب الأربعة يُخصّص فيه رباط للصوفيّة.

وفي سنة 716 هـ وقع اختيار الصوفيّة على قاضي القضاة الشافعيّ نجم الدين ابن صصرى ليتولّى مشيخة الشيوخ عند الصوفيّة بدمشق(2) .

الشيعة الإماميّة: ومع أنّ الشيعة تجمعهم مع المذاهب الكبرى جامعة لا ينكرونها تلك هي حبّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وكتبهم مشحونة بأحاديث منزلتهم الخاصّة! وتفاسيرهم كذلك؛ إلاّ أنّه شتّان بين الحبّ والولاء، والثاني هو الذي ميّز الشيعة الإماميّة كخطٍّ مقابل جميع الفرق فإذا ما كتبوا عن أحد رجالهم قالوا عنه: ثقة صدوق واسع العلم إلاّ أنّه يتشيّع! وفي حال مناقشة حديث فأرادوا إبطاله قالوا في سنده فلان يتشيّع أو شيعي، ولم ينظروا فيما قبله وما بعده، إذ غالباً ما

____________________

(1) البدر الطالع 1: 40.

(2) النجوم الزاهرة 5: 345.

٤٠٦

يكونوا (حنفيّ وشافعيّ وحنبليّ وربّما مالكيّ) مع ورود الحديث أو الخبر في الصحاح والمسانيد والسُّنن والتاريخ، إلاّ أنّ كلمة شيعيّ على الأقل تبرز أمامك!

وعلى صعيد آخر: فعلى الرغم ممّا تركه الوزير الإماميّ أحمد بن بدر الجمالي من أثرٍ شكره الجميع، ثمّ ما أبداه طلائع بن رزيك الإماميّ من سيرة أثنى عليها المؤاف والمخالف حتّى جُمعت مدائحه في كتاب سُمّي (الدّر النظيم)(1) .

ورغم أنّ هذين الحاكمين الإماميَّين قد قُتلا على أيدي الإسماعيليّة، فيما كانت كتب العامّة تكنّ لهما كلّ التقدير.

وبالرغم من أن موقف الإماميّة من غلاة الشيعة - كالإسماعيليّة والنصيريّة - لا يختلف عن موقف العامّة، إلاّ أنّ كلّ ذلك لم يصحّح المسار لموقف أولئك من الشيعة الإماميّة وبقي الحديث عنهم كالحديث عن أيّ فرقة من الغلاة بدون تمييز، فحصلت أخطاء كبيرة تعمّدها الكِبار، وتلقّاها التابعون تلقّي المقلّد الذي سلّم لشيخه بكلّ ما يقول.

هذا هو عصر ابن تَيمِيه بأهمّ ملامحه، وذاك مكانه الذي أشرفنا عليه، وتلك أُسرته التي عرفناها من قبل. وتلك بيئتُه الأُولى: حَرَّان وهذه بيئتُه الثانية التي ترعرع فيها وتعلّم وفيها مات دمشق.

____________________

(1) النجوم الزاهرة 5: 345.

٤٠٧

دراسته:

ابتدأ درسه على أبيه في دمشق، ثمّ تنقّل بين عدد من مشايخها، رجالاً ونساءً منهم:

- أحمد بن عبد الدائم المقدسي (575 - 668 هـ) الحنبلي. ومن تاريخ وفاته يظهرأنّ ابن تَيمِيه قد باشر التعلّم عليه مبكّراً ولمّا يجاوز السابعة من عمره.

- أبو زكريّا، سيف الدين يحيى بن عبد الرحمان الحنبليّ (ت 669 هـ).

- ابن أبي اليُسر التنوخي (ت 672 هـ).

- أبو زكريّا، كمال الدين يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح الحرّانيّ الحنبليّ (ت 678 هـ).

- عبد الرحمان بن أبي عمر، ابن قدامة المقدسيّ الحنبليّ (ت 682 هـ).

أُمّ العرب، فاطمة بنت أبي القاسم بن القاسم بن عليّ - المعروف بابن عساكر مؤرّخ الشام - (ت 683 هـ).

- أُمّ الخير، ستّ العرب بنت يحيى بن قايماز (ت 684 هـ).

- زينب بنت أحمد المقدسيّة (ت 687 هـ).

- زينب بنت مكّي الحرّانيّة (ت 688 هـ).

وآخر مَن ذُكر في شيوخه موتاً: أحمد بن نعمة المقدسيّ (694 هـ).

وهو القائل: أنا الذي أذنت لابن تَيمِيه في الإفتاء(1) .

____________________

(1) عقد الجُمان 3: 285.

٤٠٨

- وأمّا الشيخ: عبد السيّد، اليهوديّ، الذي أسلم وتوفّي سنة 715 هـ فمنهم مَن عدّه في شيوخه، ومنهم مَن عدّه في رُفقته وأصحابه(1) .

عودته، ممّا أدّى إلى الحكم عليه بالزندقة والكفر وانتقاله من سجن لآخر وكان من دواعي ذلك فتواه في الزيارة مبثوثة في كتاباته على غير النحو الذي ذكره ابن كثير، وسنعرض له في محلّه.

وما سنذكره من ردود علماء عصره عليه، أو مَن جاء بعدهم كفاية في إظهار حقيقة ابن تَيمِيه، ومن ثمّ دحض أباطيله والردّ على مَن ينتصر له.

سمع المسند مرّات، والكتب الستّة، ونسخ سنن أبي داود، ثمّ أخذ كتاب سيبويه فتأمّله وفهمه، وأقبل على تفسير القرآن الكريم وأحكم أصول الفقه والفرائض ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وأكابرهم، ونظر في الرجال والعلل، وصار عجباً في سرعة الاستحضار والتوسّع في المنقول والمعقول ...»(2) .

ولما كانت عائلته حنبليّة المذهب؛ كان طبيعيّاً أن ينهل ابن تَيمِيه من دروسها: «وكان للحنابلة بين المدارس الفقهيّة والاعتقاديّة مدارس خاصّة بهم، مثل المدرسة الجوزيّة والمدرسة السكرية، كما كان لهم المدرسة العمريّة الّتي أنشأها أبو عمر بن قدامة، بناها بسفحِ قيسون للفقراء والمشتغلين بالقرآن والفقه.

____________________

(1) انظر في شيوخه: العقود الدريّة، لابن عبد الهادي (744 هـ)، الدرر الكامنة 1: 144، تاريخ ابن الوردي 2: 276، الوافي بالوفيات 7: 275 - 276، علم الحديث لابن تَيمِيه، المقدّمة.

(2) الدرر الكامنة 1: 144.

٤٠٩

وفي هذه المدارس الحنبليّة تخرج ابن تَيمِيه، ودرس في كنف أبيه ورعايته وتوجيهه، وكان لا بدّ قد رأى الأشاعرة، وهم يهاجمون الحنابلة، ويرمونهم بالتجسيم والتّشبيه ...، فندب نفسه للجدلِ مع الأشاعرة»(1) .

إلاّ أنّ كون عائلته حنبليّة، وأنّه درس يافعاً في مدارسهم ...، فكلّ ذلك لم يخلق من ابن تَيمِيه شخصيّة حنبليّة؛ وإن تركت بصماتها في تكوين فكرِ وجعلت منه شخصاً هو أقرب إلى المذهب الحنبليّ منه إلى غيره من المذاهب الاُخرى.

إلاّ أنّه كانت له اجتهاداته الفقهيّة الخاصّة، فلم يكن مقلّداً. قال تلميذه «الذهبيّ»: «شيخنا وشيخ الإسلام وفريد العصر علماً ومعرفة وشجاعة وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وبرع في تفسير القرآن، وبرع في الحديث، وفاق النّاسَ في معرفة الفقه بحيث إنّه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب؛ بل بما يقوم دليله عنده»(2) .

وقال أبو زهرة: «وبعقلِه العميق النّافذ وصل إلى ما وصل إليه من اختيارات ليست في المذاهب الأربعة أو منها، كاعتبار الطّلاق الثلاث بلفظ الثلاث، والطّلاق المتتابع طلقه واحدة ...»(3) .

لقد جرت سيرة البشر على أنْ يرث الخَلَفُ السَّلَفَ في الموقع الاجتماعيّ

____________________

(1) ابن تيميه، حياته وعصره: 26.

(2) علم الحديث: 43، والبداية والنهاية، لابن كثير 14: 67.

(3) ابن تيميه، حياته وعصره: 28.

٤١٠

والمنصب الدينيّ. وقد كان لأبي المترجم له - ابن تَيمِيه - مشيخة الحديث في بعض مدارس الجامع الكبير في دمشق، وكان له كرسيّ فيه. فتوفّي سنة 682 هـ , وابنه أحمد في الحادية والعشرين من عمره؛ وبعد وفاة أبيه بسنة، حلّ محلّه، وجلس مجلسه.

وكان الشّائع أنذاك في العقائد هو مذهب أبي الحسن الأشعريّ، وكان الأشاعرة ينتهجون في العقائد منهج الاستدلال العقليّ والبرهان المنطقيّ؛ فقد كانت نشأة أبي الحسن الأشعريّ؛ نشأة اعتزاليّة، فطُبع بطريقتهم في الاستدلال، ولكنّه خالفهم بعد في النتائج من غير أن يتحوّل عن طريقتهم في الاستدلال.

ومذهب الأشعريّ في العقائد هو مذهب أهل العامّة، وكان الأيّوبيّون قد بالغوا في نشره؛ فكان أتباعه من الكثرة في الشرق والغرب. وقد خالفهم الحنابلة، ليس فقط في منهج البحث في العقائد؛ وإنّما في الفقه أيضاً: «كان الحنابلة يسلكون في دراسة عقائدهم مسلكهم في دراسة الفقه. يستخرجون العقائد من النصوص، كما يستخرجون الأحكام الفرعيّة من النصوص، لأنّ الدّين مجموع الأمرين، فما يُسلك في تعرّف أحدهما يُسلك لا محالة لاستخراجِ الثّاني، وكانت في القرآن آيات فيها وصف الله سبحانه وتعالى بما يُفيد في ظاهره التشبيه بالحوادث، وفي الأحاديث ما يشبه ذلك؛ فكانوا يفسّرونها على مقتضى ما تؤدّيه اللغة بحقيقتها ومجازها»(1) .

____________________

(1) ابن تيميه، حياته وعصره: 25. [من غير تأويل بما يناسب ذات الله تعالى وينزّهه عن التجسيم والتشبيه وغيرها من صفات المخلوقات].

٤١١

من هنا احتدمت الحرب الكلاميّة بين الحنابلة وخصومهم، وكانت التّهمة الموجّهة إلى الحنابلة هي رميهم بالتجسيم , وتشبيه الله تعالى وعدم تأويلهم النّصوص والألفاظ بما يناسب الله تعالى من التنزيه. وقد حمل ابن تَيمِيه لواء المعركة الجدليّة فخاضها بعنفٍ؛ ليس مع الحنابلة وحسب، وإنّما مع فِرَق الإسلام ومذاهبها جميعاً وتسعّرت لظاها بعد خوضه في حديث المساجد الثلاث، وإفتائه بحرمة زيارة قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والتّمسّح به رجاء البركة، ومنعه من التّوسّل بالنبيّ إلى الله تعالى.

وقد نال الحنابلةَ بسببهِ بعض الأذى، حتّى اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم أنّهم على معتقد الشافعيّ - على ما سنرى -.

وقد أعان على التأليب عليه إضافة لما تقدّم، ما عرف منه من حدّةٍ في الطبع نفّرت أقرب تلامذته ومحبّيه، ولهم ردودٌ عليه - سنعرض لهما في فصل أصحاب الردود على ابن تَيمِيه - فالذهبي قال: «ومَن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومَن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده، وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصليّة وفرعيّة، فإنّه كان مع سعة علمه، وفرط شجاعته ...، تعتريه حدّة في البحث، وغضب وصدمة للخصوم تزرع له عداوة في النفوس ...»(1) .

____________________

(1) ابن تيميه، حياته وعصره: 31.

٤١٢

بداية المعركة

قلنا: إنّ ابتداء المعركة الطويلة الّتي خاضها ابن تيميه، كانت مع فقهاء المذاهب في عصره، وذلك حينما وجّه إليه أهل حماة مجموعة أسئلة تتعلّق باللهِ تعالى، وصفاته المذكورة في القرآن الكريم، من الاستواء على العرش، وإضافة الكرسيّ للهِ سبحانه؛ ومسألة اليد، والوجه وغير ذلك ممّا عرف بالعقيدةِ الحمويّة؛ نسبةً إلى أصحاب تلك الأسئلة من أهل حماة، فأجاب ابن تَيمِيه عليها وقال إنّها صفات حقيقيّة للباري عزّ وجلّ، من غير تأويل لتلك الألفاظ.

ذكر تلميذه ابن كثير في حوادث سنة 698 هـ:

«قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدّين الحنفي فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة الّتي كان قد سأله أهل حماة المسمّاة بالحمويّة، وأرسل فطلب الّذين قاموا عنده. فاختفى كثير، وضرب جماعة ممّن نادوا على العقيدة، فسكت الباقون ...»(1) .

وذكر الحادثة ابن حجر العسقلاني، قال:

«وأوّل ما أنكروا عليه من مقالاته سنة (698)، قام عليه جماعة من الفقهاء بسببِ الفتوى الحمويّة، وبحثوا معه؛ ومُنع من الكلام ...»(2) .

إنّ ما حلّ بساحة ابن تَيمِيه، والحنابلة، لم يكن من العامّة، بل من الخاصّة «الفقهاء» وعلى رأسهم الحنفيّ يناصرهم في ذلك بعض الأمراء.

____________________

(1) البداية والنهاية، لابن كثير 4: 14.

(2) الدرر الكامنة 1: 145.

٤١٣

بعد تلك الحادثة، عاش ابن تَيمِيه سبع سنوات بعيدا عن ملاحقة القضاء والمحاكمات؛ وسبب ذلك أنّ التتار ألحقوا هزيمةً بالجيوش المصريّة والشاميّة وباتوا يهدّدون دمشق. فانشغل العلماء عنه في مواجهة المحنة، وانشغل هو بأمورٍ اُخرى، إذ فتح نار قلمه مختصّاً به الشيعة، والصوفيّة.

ولعلّ أحد الأسرار الّتي حملت ابن تَيمِيه على أن لا يوضّب قلمه للنيلِ من علماء المذاهب الذين هاجموه وحكموا عليه بالسجنِ، وإنّما يشحذ همّته لشنّ الغارة على فرقاء من المسلمين؛ هو أنّ نائب السلطنة تلقى كتاباً فيه أنّ ابن تَيمِيه ومعه أفراد يناصحون التتار ويكاتبونهم، ويؤيّدون مَنْ يمالئهم(1) . فراح يطعن في معتقداتهم، كما حملته سَوْرةُ الغضب وما عُهد عنه من الحدّة على العودة إلى إثارة موضوع الزيارة وما يتفرّع منها من التوسّل والتقرّب إلى الله تعالى بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالأولياء.

كما استخدم ابن تَيمِيه نفس السلاح؛ فاتّهم الرفاعيّة الأحمديّة أتباع السيّد أحمد الرفاعيّ بالدجلش والشعوذة وممالأة التتار(2) .

مهاجمة الشيعة: ولقد وجد ابن تَيمِيه الفرصة سانحة للطّعنِ في الشيعة ومعتقداتهم وأسقط عليهم نفس التّهمة؛ أي ممالأة التتار، وكتب إلى النّاصر يحرّضه عليهم ويتّهمهم بمناصرة الصليبيّين، وأنّهم قد حملوا راية الصليب، ولمّا جاء التتار فرحوا بهم وأعانوهم على المسلمين، وأنّهم كانوا السبب في خروج

____________________

(1) انظر (ابن تَيمِيه، حياته وعصره: 42)، والبداية والنهاية 14: 22.

(2) ابن تيميه، حياته وعصره: 47.

٤١٤

جنكيزخان، وفي استيلاء هولاكو على بغداد ...

وأكثر من الوقيعة في الشيعة لدى السلطان النّاصر حتّى تمكّن أن يضمّ إليه كتيبة قادها ابنُ تيميه بنفسِه، وهاجم الشيعة في الجبل السوريّ بكلّ شدّة وعنّف وقتل الكثير، وحرّق أشجارهم وهو «يبرّر قطعه لأشجارهم بقولِه: اقطعوا أشجارهم لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حاصر بني النضير قطع أصحابُه نخلَهم وحرّقوه 9(1) .

في هذه المرحلة الصعبة الّتي كان يمرّ بها المجتمع المسلم، كتب ابن تيميه أفكاره ومعتقداته، وسمّى كتابه الّذي ضمّنه ذلك «منهاج السُّنّة النبويّة في نقض كلام الشيعة والقدريّة»، فكان هجوماً عنيفاً على أبرز علماء عصره من الشيعة هو العلاّمة الحلّيّ وعلى كتابه «منهاج الكرامة» وكان كتابه هذا وصلة ووسيلة لإفراغ ما في نفسه من مقْتٍ للشيعةِ ما أنساه مرارة ما عاناه من علماء المذاهب السُّنيّة.

وقد عُرف عن الحلّيّ من النباهة والعلم ما هيّأ له أن يحتلّ من نفس «خُدابَندا(2) ن حفيد هولاكو» ذروة السنام حتّى تمكّن من إقناعه بالمذهب الشيعيّ؛ فأظهر التشيّع ممّا أثار حفيظة ابن تَيمِيه ورجال الحنابلة؛ فشنّوا الغارة على الحلّيّ والشيعة.

ونال ابن تَيمِيه من نصير الدّين الطوسيّ أستاذ الحلّيّ، وأحد كبار علماء الشيعة، ومن ابن العلقميّ وزير آخر حاكم عبّاسيّ وحمّلهما مسؤوليّة سقوط

____________________

(1) البداية والنهاية 14: 35.

(2) وهو الصحيح وتعني بالفارسيّة (عبد الله) إلاّ أنّهم حرّفوها فجعلوها: خربندا! و (خر) بالفارسيّة تعني: حمار؟! فانظر أدب الناصبة الجاهلة، ثمّ احكم!.

٤١٥

بغداد ومقتل حاكمها «المستعصم» من غير أن ينظر في مجمل الظروف والأسباب المتعدّدة الّتي أفضت إلى النتيجة المأساة.

ولمّا كان ابن كثير حنبليّاً وتلميذاً لابنِ تَيمِيه؛ كان لا بدّ أن يشايعه في آرائه، إذ كان مولهاً به يرفع من مقامه ويحطّ من الّذين قاضوه وسجنوه، ولا يخرج عن منهجه في مهاجمة الشيعة ورجالهم. ذكر في تاريخه في أحداث سنة ست عشرة وسبعمائة، قال: «وفي هذا الشهر، أعني ذا القعدة وصلت الأخبار بموتِ ملك التتر خربندا محمّد بن أرغون بن بغا بن هولاكو قان؛ ملك العراق وخراسان وعراق العجم والرّوم وأذربيجان والبلاد الأرمنيّة وديار بكر.

توفّي في السابع والعشرين من رمضان، ودُفن بتربتهِ بالمدينة الّتي أنشأها  الّتي يُقال لها السلطانيّة، وقد جاوز الثلاثين من العمر. وكان موصوفاً بالكرم ومحبّاً للّهوِ واللّعب والعمائر، وأظهر الرفض. أقام سنةً على السُّنّة ثمّ تحوّل إلى الرّفض. أقام شعائره في بلاده وحظى عنده الشيخ جمال الدّين بن مطهّر الحلّيّ، تلميذ نصير الدّين الطوسيّ، وأقطعه عدّة بلاد، ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أنمات في هذه السنة.

وقد جرت في أيّامه فِتَنٌ كبار ومصائب عظام، فأراح الله منه العباد والبلاد، وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد؛ وله إحدى عشرة سنة، ومدبّر الجيوش والممالك له الأمير جوبان، واستمر في الوزارة علي شاه التبريزي، وأخذ أهلَ دولته بالمصادرةِ وقتْلِ الأعيان ممّن اتّهمهم بقتْلِ أبيه مسموماً، ولعب كثير من النّاس به في أوّل دولته ثمّ عدل إلى العدل وإقامة السُّنّة، فأمر بإقامة الخطبة

٤١٦

بالترضّي عن الشيخين أوّلاً ثمّ عثمان ثمّ عليّ ...»(1) .

لقد شقّ على ابن كثير رواجُ المذهب الشيعيّ، فسلك منهج شيخه ابن تيميه في محاددة الشيعة والطّعن في شيوخهم: الطّوسيّ، والحلّيّ ...، ورمى المذهب الشيعيّ بالفساد؛ كلّ ذلك لأنّ السلطان «خُدا بندا» تشيّع وأخذ بمذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، وعظّم رجاله؛ فوصف أيّامه بالفِتَن والمصائب. إلاّ أنّه غفر مرحلة ما بعد خُدابندا، حيث خلفه ابنه الصبيّ، وما فعله من قتْلِ الأعيان على الشبهة والتّهمة في اغتيال أبيه، ومصادرته أموال النّاس، مع كونه موضع سخرية الآخرين. وذريعته في ذلك: أنّ خُدابندا قد خرج عن السُّنّة بتقديمه أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ فلمّا خلف ابنُه عاد إلى السُّنّة في تأخير الوصيّ عليّ!. وبعد أن شفى بعض ما في نفسه - وهو دمشقيّ حنبليّ - بالحديث كما شاء له الهوى عن مذهب أهل بيت النبوّةعليهم‌السلام ، اختصّ العلاّمة الحلّيّ بحديثٍ خاصٍ، فرماه بالنجاسة ودنس الأخلاق ...؛ شأنه في ذلك شأن شيخه «ابن تَيمِيه» إلاّ أنّ عصبيّته أعمته حتّى عن تسمية الكتاب الّذي تصدّى ابن تَيمِيه للافتراء عليه؛ وهو «منهاج الكرامة» للعلاّمة الحلّيّ، فسمّاه «منهاج الاستقامة». ففي موضع آخر من حديثه عمّن توفّي من الأعيان سنة ستّ وعشرين وسبعمائة، قال: «وممّن توفّي فيها من الأعيان: أبو منصور حسن بن يوسف بن مطهّر الحلّيّ العراقيّ الشيعيّ، شيخ الروافض بتلك النواحي، وله التصانيف الكثيرة، يُقال: تزيد على مائة وعشرين مجلّداً، وعدّتها خمسة وخمسون مصنّفاً، في الفقه والنحو والأصول والفلسفة والرفض، وغير ذلك من

____________________

(1) البداية والنهاية 14: 77.

٤١٧

كبار وصغار، وأشهرها بين الطلبة شرح ابن الحاجب في أصول الفقه، وليس بذاك الفائق، ورأيت له مجلّدين في أصول الفقه على طريقة المحصول والأحكام، فلا بأس بها فإنّها مشتملة على نقلٍ كثير وتوجيهٍ جيّد، وله كتاب منهاج الاستقامة في إثبات الإمامة، خبط فيه في المعقول والمنقول، ولم يدرِ كيف يتوجّه، إذ خرج عن الاستقامة. وقد انتدب في الردّ عليه الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقيّ الدين أبو العبّاس ابن تَيمِيه في مجلّدات أتى فيها بما يبهر العقول من الأشياء المليحة الحسنة ولد ابن المطهّر الّذي لم تطهر خلائقه ولم يتطهّر من دنس الرفض ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وستمائة، وتوفّي ليلة الجمعة عشرين من محرم من هذه السنة - أي سنة 726 - وكان اشتغاله ببغداد وغيرها من البلاد، واشتغل على نصير الدين الطوسي، وعلى غيره، ولمّا ترفّض خدابندا حظي عنده ابن المطهّر وساد جدّاً وأقطعه بلاداً كثيرة»(1) .

ابن تَيمِيه في مجلس القضاء: ومن جديد مثل ابن تَيمِيه أمام القضاء، وذلك سنة 705 هـ، حيث عُقدت له ثلاث مجالس. قال ابن حجر العسقلاني: «وكان السبب في هذه المحنة أنّ مرسوم السلطان ورد على النائب بامتحانِه في معقتده لما وقع إليه من أمور تُنكر في ذلك فعُقِد له مجلس في سابع رجب وسُئل عن عقيدته فأملأ منها شيئاً ثمّ أحضروا العقيدة الّتي تُعرف بالواسطيّة - للشيخ ابن تَيمِيه - فقرئ منها وبحثوا في مواضع ثمّ اجتمعوا في ثاني عشرة وقرّروا صفيّ الدّين الهنديّ يبحث معه ثمّ أخّروه وقدّموا الكمال الزملكاني، ثمّ انفصل الأمر

____________________

(1) البداية والنهاية 14: 125.

٤١٨

على أنّه شهد علت نفسه انّه شافعيّ المعتقد. فأشاع أتباعه أنّه انتصر؛ فغضب خصومه ورفعوا واحداً من أتباعه إلى الجلال القزوينيّ نائب الحكم بالعدليّة فعزّره، وكذا فعل الحنفيّ باثنين منهم، وأمر النائب مَنْ ينادي أنّ مَنْ تكلّم في العقائد فُعل كذا به، وقصد بذلك تسكين الفتنة(1) .

المجلس الثاني: ثمّ عقد لهم مجلس في سلخ رجب، وجرى فيه بين ابن الزملكاني وابن الوكيل مباحثة ...؛ وذكر ابن حجر أنّ ثمّة خلاف وقع بينهم.

قال: ثمّ وصل في خامس رمضان بطلب القاضي والشيخ وأن يرسلوا بصورة ما جرى للشيخ في سنة 698، ثمّ وصل مملوك النائب وأخبر أنّ الجاشنگير والقاضي المالكيّ قد قاما في الإنكار على الشيخ وأنّ الأمر اشتدّ على الحنابلة حتّى صُفع بعضهم.

المجلس الثالث: توجّه القاقضي والشيخ إلى القاهرة ومعهما جماعة فوصلا في العشر الأخير من رمضان، وعُقد مجلس في ثالث عشر منه بعد صلاة الجمعة، فحكم المالكيّ بحبسهِ وحُبس في برج، ثمّ بلغ المالكيّ أنّ النّاس يتردّدون إليه فقال: يجب التضييق عليه إنْ لم يُقتل وإلاّ فقد ثبت كفرُه. فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجُبّ، وعاد القاضي الشافعيّ إلى ولايته، ونودي بدمشق: مَن اعتقد عقيدة ابن تَيمِيه حلّ دمُه ومالُه خصوصاً الحنابلة. وقُرئ المرسوم، قرأه ابن الشهاب محمود في الجامع. ثمّ جمعوا الحنابلة من الصالحيّة وغيرها واُشهدوا على أنفسهم أنّهم على معتقد الشافعيّ. واتّفق أنّ قاضي الحنابلة شرف الدين الحرّانيّ

____________________

(1) الدرر الكامنة 145 - 146.

٤١٩

كان قليل البضاعة في العلم، فبادر إلى إجابتهم في المعتقد واستكتبوه خطّه بذلك(1) .

كلمة إجماع: لقد كانت كلمة الجميع واحدة في مناهضة ابن تيميه، نلمس هذا من كتاب بعث به ولد الشيخ جمال الدين ابن الظاهريّ لبعضِ معارفهِ بدمشق، فقد ذكر فيه أنّ جميع مَن بمصر من القضاة والشيوخ والفقراء والعلماء والعوام يحطّون على ابن تَيمِيه(2) ...

شروط التخلية: بذل البعض مساعٍ بغية تخلية سبيل ابن تَيمِيه وذلك سنة 706 هـ، وجرى الحديث بذلك مع القضاة الثلاثة: الشافعيّ، والمالكيّ، والحنفيّ؛ فاتّفقوا على أنّهم يشترطون فيه شروطاً، وأنْ يرجع عن بعض العقيدة، فأرسلوا إليه فامتنع من الحضور، فلم يزل في الجُبّ إلى أنْ شفع فيه مهنا أمير آل فضل؛ فاُخرج في ربيع الأوّل في الثالث وعشرين منه واُحضر إلى القلعة ووقع البحث مع بعض الفقهاء، فكُتب عليه محضر بأنّه قال أنا أشعريّ. ثمّ وجد خطّه بما نصّه: الّذي أعتقد أنّ القرآن معنى قائم بذاتِ الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة وهو غير مخلوق وليس بحرف ولا صوت، وأنّ قوله على العرش استوى؛ ليس على ظاهره ولا أعلم كنه المراد؛ بل لا يعلمه إلاّ الله؛ والقول في النزول كالقولِ في الاستواء».

وكتبه أحمد بن تيميه، ثمّ اشهدوا عليه أنّه تاب، وذلك في خامس عشر

____________________

(1) الدرر الكامنة 1: 147، والبداية والنهاية 14: 38.

(2) نفسه.

٤٢٠