ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب0%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

ارشاد القلوب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381
المشاهدات: 84156
تحميل: 18566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84156 / تحميل: 18566
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الباب الثاني عشر: في التوبة وشروطها

قال الله تعالى :( يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) (١) ، يعني بالنصوح لا رجوع فيها إلى ذنب .

وقال سبحانه :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) (٢) .

قوله ( بجهالة ) يعني بمواقع العقاب ، وقيل : بعظمة الله ، وأخذه للعبد بعصيانه حال المواقعة ، ثم قال سبحانه :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) (٣) .

نفى سبحانه قبول التوبة عند مشاهدة أشراط الموت من العاصي والكافر ، وإنّما هي مقبولة ما لم يتيقن الموت ، فانّه سبحانه وعد قبوله بقوله :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ

____________

(١) التحريم : ٨ .

(٢) النساء : ١٧ .

(٣) النساء : ١٨ .

١٠١

التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (١) وبقوله سبحانه مخبراً عن نفسه :( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ) (٢) .

فالتوبة واجبة في نفسها عن القبيح وعن الإخلال بالواجب ، ثمّ إنْ كانت التوبة عن حقّ الله تعالى ، مثل ترك الصلاة والصيام والحج والزكاة وسائر الحقوق اللاّزمة للنفس والبدن أو لأحدهما ، فيجب على التائب الشروع فيها مع القدرة عليها في وقت القدرة ، والندم على الإخلال بها في الماضي ، والعزم على ترك العود .

وإن كانت التوبة عن حق الناس يجب ردّه عليهم إن كانوا أحياء ، وإلى ورثتهم بعد موتهم إن كان ذلك المال بعينه وإلاّ فمثله ، وإن لم يكن لهم وارث تصدّق به عنهم إن علم مقداره ، وإلاّ فيما يغلب على ظنّه مساواته ، والندم على غصبه ، والعزم على ترك العود إلى مثله ، ويستغفر الله على تعدّي أمره وأمر رسوله وتعدّي أمر إمام زمانه ، فلكلّ منهم حق في ذلك يسقط بالاستغفار .

وإن كانت توبته عن أخذ عرض ، أو نميمة ، أو بهتان عليهم بكذب ، فيجب انقياده إليهم ، وإقراره على نفسه بالكذب عليهم والبهتان ، وليستبرئ لهم عن حقّهم إن نزلوا ، أو يراضيهم بما يرضوا به عنه .

وإن كانت عن قتل نفس عمداً أو جراح ، أو شيء في أبدانهم ، فينقاد إليهم للخروج عن [ حقوقهم على ](٣) الوجه المأمور به من قصاص عن جراح ، أو ديّة عن قتل نفس عمداً إن شاء أو رضوا بالديّة ، وإلاّ فالقتل بالقتل .

وإن كانت التوبة عن معصية من زنا ، أو شرب خمر وأمثاله ، فالتوبة عنه الندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إليه ، وليست التوبة قول الرجل ( استغفر الله وأتوب إليه ) وهو لا يؤدّي حقّه ولا حق رسوله ولا إمامه ولا حق

____________

(١) الشورى : ٢٥ .

(٢) الشورى : ٢٥ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٠٢

الناس .

فقول الرجل هذا من دون ذلك استهزاء بنفسه ، ويجرِ عليها ذنباً ثانياً بكذبه ، كما روي أنّ بعض الناس اجتاز على رجل وهو يقول : استغفر الله ، ويشتم الناس ويكرّر الاستغفار ويشتم ، فقال السامع له : استغفر الله من هذا الاستغفار والتكرار .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وأصلحوا بينكم وبين ربّكم تسعدوا ، وأكثروا من الصدقة ترزقوا ، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تنصروا .

أيّها النّاس إنّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وإنّ أحزمكم أحسنكم استعداداً له ، وإنّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهّب ليوم النشور(١) .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في دعائه :( اللّهمّ اغفر لي (٢) وتب عليّ انّك أنت التوّاب الرحيم ) .

وقيل : إنّ إبليس قال : وعزّتك لا أزال أغوي [ وأدعو ](٣) ابن آدم إلى المعصية ما دامت الروح في بدنه ، فقال الله تعالى :( وعزّتي وجلالي لا أمنعه التوبة حتّى يغرغر بروحه ) (٤) .

وما يقبض الله عبداً إلاّ بعد أن يعلم منه أنّه لا يتوب لو أبقاه ، كما أخبر الله سبحانه عن جواب أهل النار من قولهم :( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ) (٥) ، فقال

____________

(١) راجع البحار ٧٧ : ١٧٦ ضمن حديث ١٠ .

(٢) في ( ج ) : اغفر لي كلّ ذنب عليّ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) .

(٤) راجع البحار ٦ : ١٦ .

(٥) فاطر : ٣٧ .

١٠٣

تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر في كل يوم سبعين مرّة ، يقول :( استغفر الله ربّي وأتوب إليه ) ، وكذلك أهل بيتهعليهم‌السلام وصالحوا أصحابه ، لقوله تعالى :( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (٢) .

وقال رجل : يا رسول الله إنّي أذنبت ، فقال :استغفر الله ، فقال : انّي أتوب ثم أعود ، فقال :كلّما أذنبت استغفر الله ، فقال : إذن تكثر ذنوبي ، فقال له :عفو الله أكثر ، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور (٣) .

وقال :إنّ الله تعالى أفرح بتوبة العبد منه لنفسه ، وقد قال : ( إنّ الله يحب التوابين ويحب المتطهّرين ) (٤) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من عبد أذنب ذنباً ، فقام وتطهّر وصلّى ركعتين ، واستغفر الله إلاّ غفر الله له ، وكان حقيقاً على الله أن يقبله ؛ لأنّه سبحانه قال : ( ومَن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ) (٥) .

وقال :إنّ العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة ، فقيل : وكيف ذلك يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك ؟ قال :يكون نصب عينيه ، لا يزال يستغفر منه ويندم عليه فيدخله الله به الجنّة ، ولم أر أحسن من حسنة حدثت بعد ذنب قديم ، ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) .

وقال :إذا أذنب العبد ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه ، فإن هو تاب وأقلع

____________

(١) الأنعام : ٢٨ .

(٢) هود : ٥٢ .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ نحوه .

(٤) البقرة : ٢٢٢ .

(٥) عنه الوسائل ١١ : ٣٦٣ ح٣ ، ومجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ ، والآية في سورة النساء : ١١٠ .

١٠٤

واستغفر صفا قلبه منها ، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب ، وذلك قوله : ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، يعني غطّي (١) .

والعاقل يحسب نفسه قد مات وسأل الله الرجعة ليتوب ويقلع ويصلح ، فأجابه الله فيجد ويجتهد .

وجاء في قوله تعالى :( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) وقال : المصائب في المال والأهل والولد والنفس دون العذاب الأكبر ، [ والعذاب الأكبر ](٣) عذاب جهنّم ، وقوله تعالى :( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يعني عن المعصية ، وهذا لا يكون إلاّ في الدنيا .

وأوحى الله تعالى إلى داودعليه‌السلام :احذر أن آخذك على غرّة فتلقاني بغير حجّة ( يريد التوبة ) .

وروي أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قوله تعالى :( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٤) وروي أنّه وزوجته حوّاء رأيا على باب الجنّة( محمد ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين صفوتي من الخلق ) فسألا الله بهم فتاب عليهما .

والتوبة على أربعة خصال : ندم بالقلب ، وعزم على ترك العود ، وخروج من الحقوق ، وترك بالجوارح وتوبة النصوح أن يتوب فلا يرجع فيما تاب عنه ، والتائب من الذنب كمَن لا ذنب له ، والمصرّ على الذنب مع الاستغفار يستهزئ بنفسه ويسخر منه الشيطان ، وإنّ الرجل إذا قال : ( أستغفرك يا ربّ وأتوب إليك ) ثم عاد

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٣٣٣ ح١٣١٩٠ ، والآية في سورة المطففين : ١٤ .

(٢) السجدة : ٢١ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) الأعراف : ٢٣ .

١٠٥

ثم قال ، ثم عاد ثم قال ، كتب(١) في الرابعة من الكذّابين .

وقال بعضهم : كن وصيّ نفسك ، ولا تجعل الرجال أوصياءك ، وكيف تلومهم على تضييع وصيّتك وقد ضيّعتها أنت في حياتك ؟!(٢) .

وسمع أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلاً يقول : ( استغفر الله ) ، فقال :ثكلتك أُمّك ، أو تدري ما حدّ الاستغفار ؟ الاستغفار درجة في العلّيين ، وهو اسم واقع على ستّة معان ، أوّلها : الندم على ما مضى والثاني : العزم على ترك العود إليه أبداً والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : ( استغفر الله ) (٣) .

ولقد أحسن بعضهم :

مضى أمسك الماضي شهيداً معدّلا

وأصبحت في يومٍ عليك شهيدُ

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً

فثنّ بإحسانٍ وأنت حميدُ

ولا تؤجل (٤) فعل الصالحات إلى غدٍ

لعلّ غداً يأتي وأنت فقيدُ

وقال آخر :

تمتّع إنّما الدنيا متاع

وإنّ دوامها لا يستطاع

وقدّم ما ملكت وأنت حيّ

أمير فيه متّبع مطاع

ولا يغررك مَن توصي إليه

فقصر وصيّة المرء الضياع

وما لي أن أُملّك ذاك غيري

وأوصيه به لولا الخداع

____________

(١) في ( ج ) : كان .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ .

(٣) نهج البلاغة : قصار الحكم ٤١٧ .

(٤) في ( ألف ) : ترج .

١٠٦

وقال آخر :

إذا ما كنت متخذاً وصيّاً

فكن فيما ملكت وصيّ نفسك

ستحصد ما زرعت غداً وتجني

إذا وضع الحساب ثمار غرسك

الباب الثالث عشر : في ذكر الموت ومواعظه

قال الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي ، مصنّف هذا الكتاب ، تغمّده الله برحمته : إنّه مَن جعل الموت نصب عينيه زهّده في الدنيا ، وهوّن عليه المصائب ، ورغّبه في فعل الخير ، وحثّه على التوبة ، وقيّده عن الفتك ، وقطعه عن بسط الأمل في الدنيا ، وقلّ أن يعود يفرح قلبه بشيء من الدنيا .

وما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة أعظم من أن يجعل [ ذكر ](١) الدار الآخرة نصب عينيه ، ولهذا امتنّ الله على إبراهيم وذريّتهعليهم‌السلام بقوله تعالى :( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أكثروا من ذكر هادم اللذّات ، فإنّكم إن كنتم في ضيق وسّعه عليكم فرضيتم به فأُثبتم ، وإن كنتم في غنىً بغّضه إليكم فجدتم به فأُجرتم ؛ لأنّ المنايا قاطعات الآمال ، والليالي مدنيات الآجال إنّ المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه ، يرى جزاء ما قدّم وقلّة غنى ما خلّف ، ولعلّه من باطل

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) ص : ٤٦ .

١٠٧

جمعه أو من حق منعه (١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :مَن علم أنّ الموت مصدره ، والقبر مورده ، وبين يدي الله موقفه ، وجوارحه شهيدة له ، طالت حسرته ، وكثرت عبرته ، ودامت فكرته .

وقالعليه‌السلام :مَن علم أنّه يفارق الأحباب ، ويسكن التراب ، ويواجه الحساب ، كان حريّاً بقطع الأمل ، وحسن العمل (٢) .

فاذكروا رحمكم الله قوله تعالى :( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * . فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) ، يعني شاهدته ما بقي عندك فيه شك ولا ارتياب بعدما كنت ناسياً له غير مكترث به .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أتدرون مَن أكيسكم ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال :أكثركم للموت ذكراً ، وأحسنكم استعداداً له ، فقالوا : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال :التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهّب ليوم النشور .

ولقد أحسن مَن قال :

اذكر الموت هادم اللذّات

وتجهّز لمصرعٍ سوف يأتي

 [ وقال آخر : ](٤)

ماذا تقول وليس عندك حجّة

لو قد أتاك منغّص اللذّاتِ

ماذا تقول إذا دُعيت فلم تجب

وإذا تركت وأنت في غمراتِ

ماذا تقول إذا حللت محلّة

ليس الثقات لأهلها بثقاتِ

____________

(١) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٣٣٥ ، وفي البحار ٧٧ : ١٧٩ .

(٢) البحار ٧٣ : ١٦٧ ح٣١ ، عن كنز الفوائد .

(٣) تلفيق من سورة ق : ١٩ و٢٢ .

(٤) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٠٨

الباب الرابع عشر : في المبادرة بالعمل

يقول مصنّف هذا الكتابرحمه‌الله : انتبه أيّها الإنسان من رقدتك ، وأفق من سكرتك ، واعمل وأنت في مهل قبل حلول الأجل ، وجد بما(١) في يديك لما بين يديك(٢) ، فإنّ أمامك عقبةً كؤداً لا يقطعها إلاّ المخفّون ، فأحسن الاستعداد لها من دار تدخلها عرياناً وتخرج منها عرياناً ، كما قال تعالى :

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :اعملوا في الصحّة قبل السقم ، وفي الشباب قبل الهرم ، وفي الفراغ قبل الشغل ، وفى الحياة قبل الموت ، وقد نزل جبرئيل عليه‌السلام إليّ وقال لي : يا محمد ربّك يقرئك السلام ويقول لك : ( كل ساعة تذكرني

____________

(١) في ( ب ) : وخذ مما .

(٢) في ( ج ) : بعد موتك .

(٣) الأنعام : ٩٤ .

١٠٩

فيها فهي لك عندي مدّخرة ، وكل ساعة لا تذكرني فيها فهي منك ضائعة ) .

وأوحى الله إلى داود :[ يا داود ] (١) كل ساعة لا تذكرني فيها عدمتها من ساعة .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :إنّ امرءً ضيّع من عمره ساعة في غير ما خلق له لجدير أن يطول عليها حسرته يوم القيامة (٢) .

[(٣) وقد روي إنّ شاباً ورث من أبيه مالاً جزيلاً ، فجعل يخرجه في سبيل الله ، فشكت أُمّه ذلك إلى صديق كان لأبيه وقالت : إنّي أخاف عليه الفقر ، فأمره ذلك الصديق أن يستبقي لنفسه من الأموال .

فقال له الشاب : ما تقول في رجل ساكن في ربط البلد ، وقد عزم على أن يتحوّل إلى داخل المدينة ، فجعل يبعث غلمانه برحله ومتاعه إلى داره بالمدينة ، فذلك خير أم مَن كان يرحل بنفسه ويترك متاعه خلفه لا يدري يُبعث به إليه أو لا ؟ فعرف الصديق أنّه صادق في مثاله ، فأمره بإنفاقه في الصدقات .

فعليك يا أخي بدوام الصدقات ، فدوامها من دليل سعادات الدنيا والآخرة ، ولا تحقرنّ قليلها فذلك القليل ينتظم إلى قليل مثله فيصير كثيراً .

وبادر بإخراج الزكاة إذا وجبت من المال أو كانت تطوّعاً ، فإنّ الصدقة لا تخرج من يد المؤمن حتّى يفك بها سبعين شيطاناً ، كلّهم [ قد عضّ على قلب ابن آدم ](٤) ينهونه عن إخراجها ، ولا تستكثر يا أخي ما تعطيه في الصدقة ، وطاعة الله إذا استكثرها المؤمن صغرت عند الله ، وإذا صغرت عند المؤمن كبرت عند الله .

وفي خبر أنّ موسىعليه‌السلام قال لإبليس :أخبرني بالذنب الذي إذا

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٢٤٥ .

(٣) من هنا إلى ص ١٢٦ لم يرد في ( ألف ) و ( ب ) ، بل أثبتناه من ( ج ) و ( د ) .

(٤) أثبتناه من ( د ) .

١١٠

عمله ابن آدم استحوذت عليه ، فقال إبليس : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله وصدقته ، ونسي ذنوبه ، استحوذت عليه(١) .

وإيّاك ثمّ إيّاك أن تنهر سائلاً أو تردّه خائباً ولو بشقّ تمرة ، وإن ألحّ في السؤال لا تسأم بل ردّه ردّاً جميلاً إذا لم يكن عندك شيء تعطيه ، فإنّه أبقى لنعمة الله عليك ، فإنّه ربّما كان السائل ملكاً بعثه الله إليك في صورة بشر ، يختبرك به ليرى كيف تصنع بما رزقك وأعطاك ففي الحديث إنّ الله تعالى لمّا ناجى موسى قال :يا موسى أنل السائل ولو باليسير وإلاّ فردّه ردّاً جميلاً ، فإنّه يأتيك مَن ليس بإنس ولا جان ، بل ملك من ملائكة الرحمان يسألونك عمّا خوّلك ، ويختبرونك فيما رزقك .

وروي أنّ بعض العلماء كان جالساً في المسجد وحوله أصحابه ، فدخل مسكين فسأل شيئاً فقال لهم العالم : أتدرون ما يقول لكم هذا المسكين ؟ يقول : أعطوني أحمله لكم إلى دار الآخرة يكون لكم ذخيرة ، تقدمون عليه غداً في عرصة المحشر .

فيا أخي يجب عليك أن تبعث معهم شيئاً جزيلاً من مالك إلى دار البقاء ، ليكون ثوابك غداً الجنّة في دار النعيم الباقي الدائم .

ولله درّ القائل حيث يقول :

يا صاح إنّك راحل فتزوّد

فعساك في ذا اليوم ترحل أو غد

لا تغفلنّ فالموت ليس بغافلٍ (٢)

هيهات بل هو للأنام بمرصد

فليأتينّ منه عليك بساعة

فتودّ أنّك قبلها لم تولد

ولتخرجنّ إلى القبور مجرّداً

ممّا شقيت (٣) بجمعه صفر اليد

____________

(١) البحار ١٣ : ٣٥٠ ح٣٩ ، عن قصص الأنبياء .

(٢) في ( د ) : الموت يأتيك بغتة .

(٣) في ( د ) : سعيت .

١١١

قال الخليل بن أحمد لصديق له من الأغنياء : إنّما تجمع مالك لأجل ثلاثة أنفس كلّهم أعداؤك ، إمّا زوج امرأتك بعدك ، وإمّا زوج ابنتك ، أو ولدك ، وكل يتمنّى موتك ويستطيل عمرك ، فإن كنت عاقلاً ناصحاً لنفسك فخذ مالك معك زاداً لآخرتك ، ولا تؤثر أحد هؤلاء على نفسك .

ولقد أجاد الشاعر حيث قال :

تورّع ما حرّم الله وامتثل

أوامره وانظر غداً ما أنت عامله

فأنت بذي الدار لا شكّ تاجر

لدار غدٍ فانظر غداً مَن تعامله

وقال رجل صالح لبعض العلماء : أوصني ، قال : أوصيك بشيء واحد ، اعلم أنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما .

وهذا القول إذا تدبّره العاقل علم أنّه أبلغ العظات ، وقيل لعالم : ما أحمد الأشياء وأحلاها في قلب المؤمن ؟ قال : شيء واحد وهو ثمرة العمل الصالح ، قيل له : فما نهاية السرور ؟ قال : الأمن من الوجل عند حلول الأجل ، ثم تمثّل بهذين البيتين :

ولدتك إذ ولدتك أُمّك باكياً

والناس حولك يضحكون سروراً

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : أوصني ، قال له :أعد جهازك ، وأكثر من زادك لطول سفرك ، وكن وصيّ نفسك ، ولا تأمن غيرك أن يبعث إليك بحسناتك إلى قبرك ، فإنّه لن يبعثها أحد من ولدك إليك (١) .

ما أبين الحق لذي عينين

أنّ الرحيل أحد اليومين

تزوّدوا من صالح الأعمال

وتصدّقوا من خالص الأموال

فقد دنى الرحلة والزوال

____________

(١) البحار ٧٨ : ٢٧٠ ح١١١ نحوه .

١١٢

خرجت من الدنيا فقامت قيامتي

غداة أقلّ الحاملون جنازتي

وعجّل أهلي (١) حفر قبري فصيّروا

خروجي عنهم من أجل كرامتي

يجب على العاقل أن يحافظ على أوّل أوقات الصلاة ، ويسارع إلى فعل الخيرات ، فيكثر من أعمال البر والصدقات ، فإنّ العمر لحظات ، يقال : فلان قد مات ، فإذا عاين في قبره الأهوال والحسرات قال : أعيدوني إلى الدنيا لأتصدّق بمالي ، فيقال : هيهات .

فاغتنم أيّها اللبيب ما بقي لك من الأوقات ، فإنّ بقيّة عمرك لا بقاء لها فاستدرك بها ما فات ، واجتهد أن تجعل بصرك لأُخراك ، فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك ، فإنّ الدنيا فانية والأُخرى باقية ، والسعيد مَن استعدّ لما بين يديه ، وأسلف عملاً صالحاً يقدم عليه قبل نزول المنون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون .

وبادر شبابك أن يهرما

وصحّة جسمك أن يسقما

وأيّام عزّك قبل الممات

فما كل مَن عاش أن يسلما

وقدّم فكل امرءٍ قادم

على كل ما كان قد قدّما

أقول في جمع المال والبخل به على نفسه وإنفاقه في مرضات الله تعالى كما قال تعالى في كتابه :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (٢) .

وفي الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :يصوّر الله مال أحدكم شجاعاً أقرع ، فيطوق في حلقه ويقول : أنا مالك الذي منعتني أن تتصدّق به ، ثم ينهشه بأنيابه ، فيصيح عند ذلك صياحاً عظيماً .

ثمّ عليك يا طالب الجنّة ونعيمها بترك حب الدنيا وزينتها ؛ لأنّ الله تعالى قد

____________

(١) في ( د ) : عجّلوا .

(٢) آل عمران : ١٨٠ .

١١٣

ذمّها في كتابه العزيز فقال :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) (١) ، أي لا ينقصون من المال والجاه ، ثم قال تعالى :( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ) (٢) ، والإحباط هو إبطال أعمالهم في الدنيا .

وقال الله تعالى :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) (٣) .

وقال تعالى :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (٤) ، وحرث الآخرة هو العمل للآخرة الذي يستحق به العبد دخول الجنّة ؛ لأنّ الحرث هو زرع الأرض .

وقال بعض الصالحين :

وما الناس إلاّ هالك وابن هالك

وذو نسبٍ في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت

له عن عدوٍّ في ثياب صديق

وقال آخر :

كأحلام نوم أو كظل زائل

إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ أهل الجنّة لا يندمون على شيء من أمور الدنيا إلاّ على ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من يوم يمر إلاّ والباري عزّ وجل ينادي : عبدي ما أنصفتني أذكرك وتنسى ذكري ، وأدعوك إلى عبادتي وتذهب إلى غيري ، وأرزقك من خزانتي وآمرك لتتصدّق لوجهي فلا تطيعني ، وأفتح عليك أبواب

____________

(١) هود : ١٥ .

(٢) هود : ١٥ .

(٣) الإسراء : ١٨ .

(٤) الشورى : ٢٠ .

١١٤

الرزق وأستقرضك من مالي فتجبهني (١) ، وأُذهب عنك البلاء وأنت معتكف على فعل الخطايا ، يا ابن آدم ! ما يكون جوابك لي غداً إذا جئتني ؟ .

وقال بعض العلماء : يا أخي ! إنّ الموتى لم يبكوا من الموت لأنّه محتوم لابد منه ، وإنّما يبكون من حسرة الفوت ، كيف لا يتزوّدون من الأعمال الصالحة التي يستحقون بها الدرجات العلى ، بل ارتحلوا من دار لم يتزوّدوا منها ، وحلّوا بدار لم يعمّروها ولم يتزوّدوا لها ، فيقولون حينئذ : يا حسرتا على ما فرّطنا في جنب الله .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من ليلة إلاّ وملك ينادي : يا أهل القبور بم تغتبطون اليوم وقد عاينتم هول المطلع ، فيقول الموتى : إنّما نغبط المؤمنون في مساجدهم ؛ لأنّهم يصلّون ولا نصلّي ، ويؤتون الزكاة ولا نزكّي ، ويصومون شهر رمضان ولا نصوم ، ويتصدّقون بما فضل عن عيالهم ونحن لا نتصدّق ، [ ويذكرون الله كثيراً ونحن لا نذكر ، فو احسرتنا على ما فاتنا في دار الدنيا ] (٢) .

وقال لقمان لابنه : يا بني ! إن كنت تحب الجنّة فإنّ ربّك يحب الطاعة ، فأحب ما يحب [ ليعطيك ما تحبّ ](٣) ، وإن كنت تكره النار فإنّ ربّك يكره المعصية ، فاكره ما يكرهه لينجيك ممّا تكره .

واعلم أنّ من وراء الموت ما هو أعظم وأدهى ، قال الله تعالى في محكم كتابه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) (٤) .

وقد روت الثقات عن زين العابدينعليه‌السلام :إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان ، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى

____________

(١) في ( د ) : فتبخلني .

(٢) أثبتناه من ( د ) .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

(٤) الزمر : ٦٨ .

١١٥

الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق ، ووسْع فمه ما بين السماء والأرض ، وله في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الموت ، ونفخة البعث .

فإذا فنيت أيام الدنيا أمر الله عزّ وجل إسرافيل أن ينفخ فيه نفخة الفزع ، فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط ومعه الصور قالوا : قد أذن الله في موت أهل السماء والأرض ، فيهبط إسرافيل عند بيت المقدس مستقبل الكعبة ، فينفخ في الصور نفخة الفزع .

قال الله تعالى :( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) إلى قوله تعالى :( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ) (١) .

وتزلزلت الأرض و( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) ، ويصير الناس يميدون ، ويقع بعضهم على بعض كأنّهم سكارى ، وما هم بسكارى ولكن من عظيم ما هم فيه من الفزع ، وتبيضّ لحى الشبان من شدّة الفزع .

وتطير الشياطين هاربة إلى أقطار الأرض ، ولولا أنّ الله تعالى يمسك أرواح الخلائق في أجسادهم لخرجت من هول تلك النفخة ، فيمكثون على هذه الهيئة ما شاء الله تعالى ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض ، فلا يبقى في الأرض إنس ولا جن ولا شيطان ولا غيرهم ممّن له روح إلاّ صعق ومات .

ويخرج الصوت من الطرف الذي يلى السماء ، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ مات ، قال الله تعالى :( إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ ) ، وهو جبرئيل وميكائيل وإسرافيل

____________

(١) النمل : ٨٩ ـ ٨٧ .

١١٦

وعزرائيل فأؤلئك الذين شاء الله ، فيقول الله تعالى : يا ملك الموت مَن بقي من خلقي ؟ فقال : يا ربّ أنت الحي الذي لا يموت ، بقي جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وبقيت أنا .

فيأمر الله بقبض أرواحهم فيقبضها ، ثم يقول الله : يا ملك الموت مَن بقي من خلقي ؟ فيقول ملك الموت : يا ربّ بقي عبدك الضعيف المسكين ملك الموت ، فيقول الله له : مت يا ملك الموت بإذني ، فيموت ملك الموت ويصيح عند خروج روحه صيحة عظيمة لو سمعها بنو آدم قبل موتهم لهلكوا ، ويقول ملك الموت : لو كنت أعلم أنّ في نزع أرواح بني آدم هذه المرارة والشدّة والغصص لكنت على قبض أرواح المؤمنين شفيقاً .

فإذا لم يبق أحد من خلق الله في السماء والأرض ، نادى الجبّار جلّ جلاله : يا دنيا أين الملوك وأبناء الملوك ؟ أين الجبابرة وأبناؤهم ؟ وأين مَن ملك الدنيا بأقطارها ؟ أين الذين كانوا يأكلون رزقي ولا يخرجون من أموالهم حقّي ؟ ، ثم يقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَِ ) فلا يجيبه أحد ، فيجيب هو عن نفسه فيقول :( للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ) (١) .

ثم يأمر الله السماء فتمور أي تدور بأفلاكها ونجومها كالرحى ، ويأمر الجبال فتسير كما تسير السحاب ، ثم تبدل الأرض بأرض أخرى لم يكتسب عليها الذنوب ولا سفك عليها دم ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة ، وكذا تبدل السماوات كما قال الله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٢) .

ويعيد عرشه على الماء ، كما كان قبل خلق السماوات والأرض ، مستقلاً بعظمته وقدرته ، ثم يأمر الله السماء أن تمطر على الأرض [ أربعين يوماً ] (٣) حتّى يكون

____________

(١) غافر : ١٦ .

(٢) إبراهيم : ٤٨ .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

١١٧

الماء فوق كل شيء اثنى عشر ذراعاً ، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل .

فتساق أجزاؤهم التي صارت تراباً بعضها إلى بعض بقدرة العزيز الحميد ، حتّى أنّه لو دفن في قبر واحد ألف ميت وصارت لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة كلّها تراباً مختلطة بعضها في بعض ، لم يختلط تراب ميت بميت آخر ؛ لأنّ في ذلك القبر شقيّاً وسعيداً ، جسد ينعم بالجنّة وجسد يعذّب بالنّار ( نعوذ بالله منها ) .

ثم يقول الله تعالى : ليحيى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش ، فيحيون بإذن الله فيأمر الله إسرافيل أن يأخذ الصور بيده ، ثم يأمر الله أرواح الخلائق فتأتي فتدخل في الصور ، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور للحياة ، وبين النفختين أربعين سنة .

قال : فتخرج الأرواح من أثقاب الصور كأنّها الجراد المنتشر ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد وهم نيام في القبور كالموتى ، فتدخل كل روح في جسدها ، فتدخل في خياشيمهم فيحيون بإذن الله تعالى ، فتنشق الأرض عنهم كما قال :( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (١) .

وقال تعالى : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) (٢) ، ثم يدعون إلى عرصة المحشر ، [ فإذا دخلوا عرصة القيامة أمر ] (٣) الله الشمس أن تنزل من السماء الرابعة إلى السماء الدنيا قريب حرّها من رؤوس الخلائق ، فيصيبهم من حرّها أمر عظيم حتّى يعرفون من شدّة حرّها كربها ، حتّى يخوضون في عرقهم .

____________

(١) المعارج : ٤٤ ـ ٤٣ .

(٢) الزمر : ٦٨ .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

١١٨

ثم يبقون على ذلك حفاة عراة عطاشاً ، وكل واحد دالع لسانه على شفتيه ، قال :فيبكون عند ذلك حتّى ينقطع الدمع ، ثم يبكون بعد الدموع دماً .

قال الراوي وهو الحسن بن محبوب يرفعه إلى يونس بن أبي فاختة ، قال : رأيت زين العابدينعليه‌السلام عند بلوغه إلى هذا المكان ينتحب ويبكي بكاء الثكلى ويقول :آه ثمّ آه على عمري كيف ضيّعته في غير عبادة الله وطاعته لأكون في هذا اليوم من الناجين الفائزين .

قلت : وذلك في تفسير قوله تعالى آخر سورة المؤمنين :( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ) (١) يعني فيما تركته ورائي لورّاثي ، فأتصدّق به وأكون من الصالحين فيقول له ملك الموت :( كلاّ إنّها كلمة هو قائلها ) (٢) .

أي كلاّ لا رجوع لك إلى دار الدنيا ، وقوله :( إنّها كلمة هو قائلها ) ، أي قال هذه الكلمة لمّا شاهد من شدّة سكرات الموت ، وأهوال ما عاينه من عذاب القبر وهول المطلع ، ومن هول سؤال منكر ونكير .

قال الله تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (٣) أي لو ردّوا إلى دار الدنيا ، ومددنا لهم في العمر لعادوا إلى ما كانوا عليه من بخلهم بأموالهم فلم يتصدّقوا ، ولم يطعموا الجيعان ، ولم يكسوا العريان ، ولم يواسوا الجيران ، بل يطيعون الشيطان في البخل وترك الطاعة .

ثم قال تعالى :( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) (٤) والبرزخ في التفسير القبر .

____________

(١) المؤمنون : ١٠٠ .

(٢) المؤمنون : ١٠٠ .

(٣) الأنعام : ٢٨ .

(٤) المؤمنون : ١٠٠ .

١١٩

ثم قال تعالى :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (١) ، الآية .

قوله :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُم ) ، ففي الخبر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخلائق إذا عاينوا القيامة ودقّة الحساب وأليم العذاب ، فإنّ الأب يومئذ يتعلّق بولده فيقول : أي بُني كنت لك في دار الدنيا ، ألم أُربّك وأُغذّيك وأُطعمك من كدّي ، وأكسيك وأعلّمك الحكم والآداب ، وأُدرّسك آيات الكتاب ، وأُزوّجك كريمة من قومي ، وأنفقت عليك وعلى زوجتك في حياتي ، وآثرتك على نفسي بمالي بعد وفاتي ؟ .

فيقول : صدقت فيما قلت يا أبي ، فما حاجتك ؟ فيقول : يا بني إنّ ميزاني قد خفّت ورجحت سيّئاتي على حسناتي ، وقالت الملائكة : تحتاج كفّة حسناتك إلى حسنة واحدة حتّى ترجح بها ، وإنّي أُريد أن تهب لي حسنة واحدة أثقل بها ميزاني في هذا اليوم العظيم خطره .

قال :فيقول الولد : لا والله يا أبت ، إنّي أخاف ممّا خفته أنت ، ولا أُطيق أعطيك من حسناتي شيئاً . قال :فيذهب عنه الأب باكياً نادماً على ما كان أسدى إليه في دار الدنيا .

وكذلك قيل إنّ الأُم تلقى ولدها في ذلك اليوم فتقول له : يا بني ألم يكن بطني لك وعاءً ؟ فيقول : بلى يا أُمّاه ، فتقول : ألم يكن ثديي لك سقاءً ؟ فيقول : بلى يا أُمّاه ، فتقول له : إنّ ذنوبي أثقلتني فأُريد أن تحمل عنّي ذنباً واحداً ، فيقول : إليك عنّي يا أُمّاه ، فإنّي مشغول بنفسي فترجع عنه باكية ، وذلك تأويل قوله تعالى :( فلا أنساب

____________

(١) المؤمنون : ١٠٤ـ١٠١ .

١٢٠