ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب10%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88214 / تحميل: 19600
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الباب الثاني عشر: في التوبة وشروطها

قال الله تعالى :( يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) (١) ، يعني بالنصوح لا رجوع فيها إلى ذنب .

وقال سبحانه :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) (٢) .

قوله ( بجهالة ) يعني بمواقع العقاب ، وقيل : بعظمة الله ، وأخذه للعبد بعصيانه حال المواقعة ، ثم قال سبحانه :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) (٣) .

نفى سبحانه قبول التوبة عند مشاهدة أشراط الموت من العاصي والكافر ، وإنّما هي مقبولة ما لم يتيقن الموت ، فانّه سبحانه وعد قبوله بقوله :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ

____________

(١) التحريم : ٨ .

(٢) النساء : ١٧ .

(٣) النساء : ١٨ .

١٠١

التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (١) وبقوله سبحانه مخبراً عن نفسه :( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ) (٢) .

فالتوبة واجبة في نفسها عن القبيح وعن الإخلال بالواجب ، ثمّ إنْ كانت التوبة عن حقّ الله تعالى ، مثل ترك الصلاة والصيام والحج والزكاة وسائر الحقوق اللاّزمة للنفس والبدن أو لأحدهما ، فيجب على التائب الشروع فيها مع القدرة عليها في وقت القدرة ، والندم على الإخلال بها في الماضي ، والعزم على ترك العود .

وإن كانت التوبة عن حق الناس يجب ردّه عليهم إن كانوا أحياء ، وإلى ورثتهم بعد موتهم إن كان ذلك المال بعينه وإلاّ فمثله ، وإن لم يكن لهم وارث تصدّق به عنهم إن علم مقداره ، وإلاّ فيما يغلب على ظنّه مساواته ، والندم على غصبه ، والعزم على ترك العود إلى مثله ، ويستغفر الله على تعدّي أمره وأمر رسوله وتعدّي أمر إمام زمانه ، فلكلّ منهم حق في ذلك يسقط بالاستغفار .

وإن كانت توبته عن أخذ عرض ، أو نميمة ، أو بهتان عليهم بكذب ، فيجب انقياده إليهم ، وإقراره على نفسه بالكذب عليهم والبهتان ، وليستبرئ لهم عن حقّهم إن نزلوا ، أو يراضيهم بما يرضوا به عنه .

وإن كانت عن قتل نفس عمداً أو جراح ، أو شيء في أبدانهم ، فينقاد إليهم للخروج عن [ حقوقهم على ](٣) الوجه المأمور به من قصاص عن جراح ، أو ديّة عن قتل نفس عمداً إن شاء أو رضوا بالديّة ، وإلاّ فالقتل بالقتل .

وإن كانت التوبة عن معصية من زنا ، أو شرب خمر وأمثاله ، فالتوبة عنه الندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إليه ، وليست التوبة قول الرجل ( استغفر الله وأتوب إليه ) وهو لا يؤدّي حقّه ولا حق رسوله ولا إمامه ولا حق

____________

(١) الشورى : ٢٥ .

(٢) الشورى : ٢٥ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٠٢

الناس .

فقول الرجل هذا من دون ذلك استهزاء بنفسه ، ويجرِ عليها ذنباً ثانياً بكذبه ، كما روي أنّ بعض الناس اجتاز على رجل وهو يقول : استغفر الله ، ويشتم الناس ويكرّر الاستغفار ويشتم ، فقال السامع له : استغفر الله من هذا الاستغفار والتكرار .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وأصلحوا بينكم وبين ربّكم تسعدوا ، وأكثروا من الصدقة ترزقوا ، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تنصروا .

أيّها النّاس إنّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وإنّ أحزمكم أحسنكم استعداداً له ، وإنّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهّب ليوم النشور(١) .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في دعائه :( اللّهمّ اغفر لي (٢) وتب عليّ انّك أنت التوّاب الرحيم ) .

وقيل : إنّ إبليس قال : وعزّتك لا أزال أغوي [ وأدعو ](٣) ابن آدم إلى المعصية ما دامت الروح في بدنه ، فقال الله تعالى :( وعزّتي وجلالي لا أمنعه التوبة حتّى يغرغر بروحه ) (٤) .

وما يقبض الله عبداً إلاّ بعد أن يعلم منه أنّه لا يتوب لو أبقاه ، كما أخبر الله سبحانه عن جواب أهل النار من قولهم :( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ) (٥) ، فقال

____________

(١) راجع البحار ٧٧ : ١٧٦ ضمن حديث ١٠ .

(٢) في ( ج ) : اغفر لي كلّ ذنب عليّ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) .

(٤) راجع البحار ٦ : ١٦ .

(٥) فاطر : ٣٧ .

١٠٣

تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر في كل يوم سبعين مرّة ، يقول :( استغفر الله ربّي وأتوب إليه ) ، وكذلك أهل بيتهعليهم‌السلام وصالحوا أصحابه ، لقوله تعالى :( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (٢) .

وقال رجل : يا رسول الله إنّي أذنبت ، فقال :استغفر الله ، فقال : انّي أتوب ثم أعود ، فقال :كلّما أذنبت استغفر الله ، فقال : إذن تكثر ذنوبي ، فقال له :عفو الله أكثر ، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور (٣) .

وقال :إنّ الله تعالى أفرح بتوبة العبد منه لنفسه ، وقد قال : ( إنّ الله يحب التوابين ويحب المتطهّرين ) (٤) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من عبد أذنب ذنباً ، فقام وتطهّر وصلّى ركعتين ، واستغفر الله إلاّ غفر الله له ، وكان حقيقاً على الله أن يقبله ؛ لأنّه سبحانه قال : ( ومَن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ) (٥) .

وقال :إنّ العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة ، فقيل : وكيف ذلك يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك ؟ قال :يكون نصب عينيه ، لا يزال يستغفر منه ويندم عليه فيدخله الله به الجنّة ، ولم أر أحسن من حسنة حدثت بعد ذنب قديم ، ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) .

وقال :إذا أذنب العبد ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه ، فإن هو تاب وأقلع

____________

(١) الأنعام : ٢٨ .

(٢) هود : ٥٢ .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ نحوه .

(٤) البقرة : ٢٢٢ .

(٥) عنه الوسائل ١١ : ٣٦٣ ح٣ ، ومجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ ، والآية في سورة النساء : ١١٠ .

١٠٤

واستغفر صفا قلبه منها ، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب ، وذلك قوله : ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، يعني غطّي (١) .

والعاقل يحسب نفسه قد مات وسأل الله الرجعة ليتوب ويقلع ويصلح ، فأجابه الله فيجد ويجتهد .

وجاء في قوله تعالى :( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) وقال : المصائب في المال والأهل والولد والنفس دون العذاب الأكبر ، [ والعذاب الأكبر ](٣) عذاب جهنّم ، وقوله تعالى :( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يعني عن المعصية ، وهذا لا يكون إلاّ في الدنيا .

وأوحى الله تعالى إلى داودعليه‌السلام :احذر أن آخذك على غرّة فتلقاني بغير حجّة ( يريد التوبة ) .

وروي أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قوله تعالى :( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٤) وروي أنّه وزوجته حوّاء رأيا على باب الجنّة( محمد ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين صفوتي من الخلق ) فسألا الله بهم فتاب عليهما .

والتوبة على أربعة خصال : ندم بالقلب ، وعزم على ترك العود ، وخروج من الحقوق ، وترك بالجوارح وتوبة النصوح أن يتوب فلا يرجع فيما تاب عنه ، والتائب من الذنب كمَن لا ذنب له ، والمصرّ على الذنب مع الاستغفار يستهزئ بنفسه ويسخر منه الشيطان ، وإنّ الرجل إذا قال : ( أستغفرك يا ربّ وأتوب إليك ) ثم عاد

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٣٣٣ ح١٣١٩٠ ، والآية في سورة المطففين : ١٤ .

(٢) السجدة : ٢١ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) الأعراف : ٢٣ .

١٠٥

ثم قال ، ثم عاد ثم قال ، كتب(١) في الرابعة من الكذّابين .

وقال بعضهم : كن وصيّ نفسك ، ولا تجعل الرجال أوصياءك ، وكيف تلومهم على تضييع وصيّتك وقد ضيّعتها أنت في حياتك ؟!(٢) .

وسمع أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلاً يقول : ( استغفر الله ) ، فقال :ثكلتك أُمّك ، أو تدري ما حدّ الاستغفار ؟ الاستغفار درجة في العلّيين ، وهو اسم واقع على ستّة معان ، أوّلها : الندم على ما مضى والثاني : العزم على ترك العود إليه أبداً والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : ( استغفر الله ) (٣) .

ولقد أحسن بعضهم :

مضى أمسك الماضي شهيداً معدّلا

وأصبحت في يومٍ عليك شهيدُ

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً

فثنّ بإحسانٍ وأنت حميدُ

ولا تؤجل (٤) فعل الصالحات إلى غدٍ

لعلّ غداً يأتي وأنت فقيدُ

وقال آخر :

تمتّع إنّما الدنيا متاع

وإنّ دوامها لا يستطاع

وقدّم ما ملكت وأنت حيّ

أمير فيه متّبع مطاع

ولا يغررك مَن توصي إليه

فقصر وصيّة المرء الضياع

وما لي أن أُملّك ذاك غيري

وأوصيه به لولا الخداع

____________

(١) في ( ج ) : كان .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ .

(٣) نهج البلاغة : قصار الحكم ٤١٧ .

(٤) في ( ألف ) : ترج .

١٠٦

وقال آخر :

إذا ما كنت متخذاً وصيّاً

فكن فيما ملكت وصيّ نفسك

ستحصد ما زرعت غداً وتجني

إذا وضع الحساب ثمار غرسك

الباب الثالث عشر : في ذكر الموت ومواعظه

قال الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي ، مصنّف هذا الكتاب ، تغمّده الله برحمته : إنّه مَن جعل الموت نصب عينيه زهّده في الدنيا ، وهوّن عليه المصائب ، ورغّبه في فعل الخير ، وحثّه على التوبة ، وقيّده عن الفتك ، وقطعه عن بسط الأمل في الدنيا ، وقلّ أن يعود يفرح قلبه بشيء من الدنيا .

وما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة أعظم من أن يجعل [ ذكر ](١) الدار الآخرة نصب عينيه ، ولهذا امتنّ الله على إبراهيم وذريّتهعليهم‌السلام بقوله تعالى :( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أكثروا من ذكر هادم اللذّات ، فإنّكم إن كنتم في ضيق وسّعه عليكم فرضيتم به فأُثبتم ، وإن كنتم في غنىً بغّضه إليكم فجدتم به فأُجرتم ؛ لأنّ المنايا قاطعات الآمال ، والليالي مدنيات الآجال إنّ المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه ، يرى جزاء ما قدّم وقلّة غنى ما خلّف ، ولعلّه من باطل

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) ص : ٤٦ .

١٠٧

جمعه أو من حق منعه (١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :مَن علم أنّ الموت مصدره ، والقبر مورده ، وبين يدي الله موقفه ، وجوارحه شهيدة له ، طالت حسرته ، وكثرت عبرته ، ودامت فكرته .

وقالعليه‌السلام :مَن علم أنّه يفارق الأحباب ، ويسكن التراب ، ويواجه الحساب ، كان حريّاً بقطع الأمل ، وحسن العمل (٢) .

فاذكروا رحمكم الله قوله تعالى :( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * . فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) ، يعني شاهدته ما بقي عندك فيه شك ولا ارتياب بعدما كنت ناسياً له غير مكترث به .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أتدرون مَن أكيسكم ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال :أكثركم للموت ذكراً ، وأحسنكم استعداداً له ، فقالوا : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال :التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهّب ليوم النشور .

ولقد أحسن مَن قال :

اذكر الموت هادم اللذّات

وتجهّز لمصرعٍ سوف يأتي

 [ وقال آخر : ](٤)

ماذا تقول وليس عندك حجّة

لو قد أتاك منغّص اللذّاتِ

ماذا تقول إذا دُعيت فلم تجب

وإذا تركت وأنت في غمراتِ

ماذا تقول إذا حللت محلّة

ليس الثقات لأهلها بثقاتِ

____________

(١) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٣٣٥ ، وفي البحار ٧٧ : ١٧٩ .

(٢) البحار ٧٣ : ١٦٧ ح٣١ ، عن كنز الفوائد .

(٣) تلفيق من سورة ق : ١٩ و٢٢ .

(٤) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٠٨

الباب الرابع عشر : في المبادرة بالعمل

يقول مصنّف هذا الكتابرحمه‌الله : انتبه أيّها الإنسان من رقدتك ، وأفق من سكرتك ، واعمل وأنت في مهل قبل حلول الأجل ، وجد بما(١) في يديك لما بين يديك(٢) ، فإنّ أمامك عقبةً كؤداً لا يقطعها إلاّ المخفّون ، فأحسن الاستعداد لها من دار تدخلها عرياناً وتخرج منها عرياناً ، كما قال تعالى :

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :اعملوا في الصحّة قبل السقم ، وفي الشباب قبل الهرم ، وفي الفراغ قبل الشغل ، وفى الحياة قبل الموت ، وقد نزل جبرئيل عليه‌السلام إليّ وقال لي : يا محمد ربّك يقرئك السلام ويقول لك : ( كل ساعة تذكرني

____________

(١) في ( ب ) : وخذ مما .

(٢) في ( ج ) : بعد موتك .

(٣) الأنعام : ٩٤ .

١٠٩

فيها فهي لك عندي مدّخرة ، وكل ساعة لا تذكرني فيها فهي منك ضائعة ) .

وأوحى الله إلى داود :[ يا داود ] (١) كل ساعة لا تذكرني فيها عدمتها من ساعة .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :إنّ امرءً ضيّع من عمره ساعة في غير ما خلق له لجدير أن يطول عليها حسرته يوم القيامة (٢) .

[(٣) وقد روي إنّ شاباً ورث من أبيه مالاً جزيلاً ، فجعل يخرجه في سبيل الله ، فشكت أُمّه ذلك إلى صديق كان لأبيه وقالت : إنّي أخاف عليه الفقر ، فأمره ذلك الصديق أن يستبقي لنفسه من الأموال .

فقال له الشاب : ما تقول في رجل ساكن في ربط البلد ، وقد عزم على أن يتحوّل إلى داخل المدينة ، فجعل يبعث غلمانه برحله ومتاعه إلى داره بالمدينة ، فذلك خير أم مَن كان يرحل بنفسه ويترك متاعه خلفه لا يدري يُبعث به إليه أو لا ؟ فعرف الصديق أنّه صادق في مثاله ، فأمره بإنفاقه في الصدقات .

فعليك يا أخي بدوام الصدقات ، فدوامها من دليل سعادات الدنيا والآخرة ، ولا تحقرنّ قليلها فذلك القليل ينتظم إلى قليل مثله فيصير كثيراً .

وبادر بإخراج الزكاة إذا وجبت من المال أو كانت تطوّعاً ، فإنّ الصدقة لا تخرج من يد المؤمن حتّى يفك بها سبعين شيطاناً ، كلّهم [ قد عضّ على قلب ابن آدم ](٤) ينهونه عن إخراجها ، ولا تستكثر يا أخي ما تعطيه في الصدقة ، وطاعة الله إذا استكثرها المؤمن صغرت عند الله ، وإذا صغرت عند المؤمن كبرت عند الله .

وفي خبر أنّ موسىعليه‌السلام قال لإبليس :أخبرني بالذنب الذي إذا

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٢٤٥ .

(٣) من هنا إلى ص ١٢٦ لم يرد في ( ألف ) و ( ب ) ، بل أثبتناه من ( ج ) و ( د ) .

(٤) أثبتناه من ( د ) .

١١٠

عمله ابن آدم استحوذت عليه ، فقال إبليس : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله وصدقته ، ونسي ذنوبه ، استحوذت عليه(١) .

وإيّاك ثمّ إيّاك أن تنهر سائلاً أو تردّه خائباً ولو بشقّ تمرة ، وإن ألحّ في السؤال لا تسأم بل ردّه ردّاً جميلاً إذا لم يكن عندك شيء تعطيه ، فإنّه أبقى لنعمة الله عليك ، فإنّه ربّما كان السائل ملكاً بعثه الله إليك في صورة بشر ، يختبرك به ليرى كيف تصنع بما رزقك وأعطاك ففي الحديث إنّ الله تعالى لمّا ناجى موسى قال :يا موسى أنل السائل ولو باليسير وإلاّ فردّه ردّاً جميلاً ، فإنّه يأتيك مَن ليس بإنس ولا جان ، بل ملك من ملائكة الرحمان يسألونك عمّا خوّلك ، ويختبرونك فيما رزقك .

وروي أنّ بعض العلماء كان جالساً في المسجد وحوله أصحابه ، فدخل مسكين فسأل شيئاً فقال لهم العالم : أتدرون ما يقول لكم هذا المسكين ؟ يقول : أعطوني أحمله لكم إلى دار الآخرة يكون لكم ذخيرة ، تقدمون عليه غداً في عرصة المحشر .

فيا أخي يجب عليك أن تبعث معهم شيئاً جزيلاً من مالك إلى دار البقاء ، ليكون ثوابك غداً الجنّة في دار النعيم الباقي الدائم .

ولله درّ القائل حيث يقول :

يا صاح إنّك راحل فتزوّد

فعساك في ذا اليوم ترحل أو غد

لا تغفلنّ فالموت ليس بغافلٍ (٢)

هيهات بل هو للأنام بمرصد

فليأتينّ منه عليك بساعة

فتودّ أنّك قبلها لم تولد

ولتخرجنّ إلى القبور مجرّداً

ممّا شقيت (٣) بجمعه صفر اليد

____________

(١) البحار ١٣ : ٣٥٠ ح٣٩ ، عن قصص الأنبياء .

(٢) في ( د ) : الموت يأتيك بغتة .

(٣) في ( د ) : سعيت .

١١١

قال الخليل بن أحمد لصديق له من الأغنياء : إنّما تجمع مالك لأجل ثلاثة أنفس كلّهم أعداؤك ، إمّا زوج امرأتك بعدك ، وإمّا زوج ابنتك ، أو ولدك ، وكل يتمنّى موتك ويستطيل عمرك ، فإن كنت عاقلاً ناصحاً لنفسك فخذ مالك معك زاداً لآخرتك ، ولا تؤثر أحد هؤلاء على نفسك .

ولقد أجاد الشاعر حيث قال :

تورّع ما حرّم الله وامتثل

أوامره وانظر غداً ما أنت عامله

فأنت بذي الدار لا شكّ تاجر

لدار غدٍ فانظر غداً مَن تعامله

وقال رجل صالح لبعض العلماء : أوصني ، قال : أوصيك بشيء واحد ، اعلم أنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما .

وهذا القول إذا تدبّره العاقل علم أنّه أبلغ العظات ، وقيل لعالم : ما أحمد الأشياء وأحلاها في قلب المؤمن ؟ قال : شيء واحد وهو ثمرة العمل الصالح ، قيل له : فما نهاية السرور ؟ قال : الأمن من الوجل عند حلول الأجل ، ثم تمثّل بهذين البيتين :

ولدتك إذ ولدتك أُمّك باكياً

والناس حولك يضحكون سروراً

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : أوصني ، قال له :أعد جهازك ، وأكثر من زادك لطول سفرك ، وكن وصيّ نفسك ، ولا تأمن غيرك أن يبعث إليك بحسناتك إلى قبرك ، فإنّه لن يبعثها أحد من ولدك إليك (١) .

ما أبين الحق لذي عينين

أنّ الرحيل أحد اليومين

تزوّدوا من صالح الأعمال

وتصدّقوا من خالص الأموال

فقد دنى الرحلة والزوال

____________

(١) البحار ٧٨ : ٢٧٠ ح١١١ نحوه .

١١٢

خرجت من الدنيا فقامت قيامتي

غداة أقلّ الحاملون جنازتي

وعجّل أهلي (١) حفر قبري فصيّروا

خروجي عنهم من أجل كرامتي

يجب على العاقل أن يحافظ على أوّل أوقات الصلاة ، ويسارع إلى فعل الخيرات ، فيكثر من أعمال البر والصدقات ، فإنّ العمر لحظات ، يقال : فلان قد مات ، فإذا عاين في قبره الأهوال والحسرات قال : أعيدوني إلى الدنيا لأتصدّق بمالي ، فيقال : هيهات .

فاغتنم أيّها اللبيب ما بقي لك من الأوقات ، فإنّ بقيّة عمرك لا بقاء لها فاستدرك بها ما فات ، واجتهد أن تجعل بصرك لأُخراك ، فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك ، فإنّ الدنيا فانية والأُخرى باقية ، والسعيد مَن استعدّ لما بين يديه ، وأسلف عملاً صالحاً يقدم عليه قبل نزول المنون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون .

وبادر شبابك أن يهرما

وصحّة جسمك أن يسقما

وأيّام عزّك قبل الممات

فما كل مَن عاش أن يسلما

وقدّم فكل امرءٍ قادم

على كل ما كان قد قدّما

أقول في جمع المال والبخل به على نفسه وإنفاقه في مرضات الله تعالى كما قال تعالى في كتابه :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (٢) .

وفي الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :يصوّر الله مال أحدكم شجاعاً أقرع ، فيطوق في حلقه ويقول : أنا مالك الذي منعتني أن تتصدّق به ، ثم ينهشه بأنيابه ، فيصيح عند ذلك صياحاً عظيماً .

ثمّ عليك يا طالب الجنّة ونعيمها بترك حب الدنيا وزينتها ؛ لأنّ الله تعالى قد

____________

(١) في ( د ) : عجّلوا .

(٢) آل عمران : ١٨٠ .

١١٣

ذمّها في كتابه العزيز فقال :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) (١) ، أي لا ينقصون من المال والجاه ، ثم قال تعالى :( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ) (٢) ، والإحباط هو إبطال أعمالهم في الدنيا .

وقال الله تعالى :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) (٣) .

وقال تعالى :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (٤) ، وحرث الآخرة هو العمل للآخرة الذي يستحق به العبد دخول الجنّة ؛ لأنّ الحرث هو زرع الأرض .

وقال بعض الصالحين :

وما الناس إلاّ هالك وابن هالك

وذو نسبٍ في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت

له عن عدوٍّ في ثياب صديق

وقال آخر :

كأحلام نوم أو كظل زائل

إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ أهل الجنّة لا يندمون على شيء من أمور الدنيا إلاّ على ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من يوم يمر إلاّ والباري عزّ وجل ينادي : عبدي ما أنصفتني أذكرك وتنسى ذكري ، وأدعوك إلى عبادتي وتذهب إلى غيري ، وأرزقك من خزانتي وآمرك لتتصدّق لوجهي فلا تطيعني ، وأفتح عليك أبواب

____________

(١) هود : ١٥ .

(٢) هود : ١٥ .

(٣) الإسراء : ١٨ .

(٤) الشورى : ٢٠ .

١١٤

الرزق وأستقرضك من مالي فتجبهني (١) ، وأُذهب عنك البلاء وأنت معتكف على فعل الخطايا ، يا ابن آدم ! ما يكون جوابك لي غداً إذا جئتني ؟ .

وقال بعض العلماء : يا أخي ! إنّ الموتى لم يبكوا من الموت لأنّه محتوم لابد منه ، وإنّما يبكون من حسرة الفوت ، كيف لا يتزوّدون من الأعمال الصالحة التي يستحقون بها الدرجات العلى ، بل ارتحلوا من دار لم يتزوّدوا منها ، وحلّوا بدار لم يعمّروها ولم يتزوّدوا لها ، فيقولون حينئذ : يا حسرتا على ما فرّطنا في جنب الله .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من ليلة إلاّ وملك ينادي : يا أهل القبور بم تغتبطون اليوم وقد عاينتم هول المطلع ، فيقول الموتى : إنّما نغبط المؤمنون في مساجدهم ؛ لأنّهم يصلّون ولا نصلّي ، ويؤتون الزكاة ولا نزكّي ، ويصومون شهر رمضان ولا نصوم ، ويتصدّقون بما فضل عن عيالهم ونحن لا نتصدّق ، [ ويذكرون الله كثيراً ونحن لا نذكر ، فو احسرتنا على ما فاتنا في دار الدنيا ] (٢) .

وقال لقمان لابنه : يا بني ! إن كنت تحب الجنّة فإنّ ربّك يحب الطاعة ، فأحب ما يحب [ ليعطيك ما تحبّ ](٣) ، وإن كنت تكره النار فإنّ ربّك يكره المعصية ، فاكره ما يكرهه لينجيك ممّا تكره .

واعلم أنّ من وراء الموت ما هو أعظم وأدهى ، قال الله تعالى في محكم كتابه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) (٤) .

وقد روت الثقات عن زين العابدينعليه‌السلام :إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان ، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى

____________

(١) في ( د ) : فتبخلني .

(٢) أثبتناه من ( د ) .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

(٤) الزمر : ٦٨ .

١١٥

الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق ، ووسْع فمه ما بين السماء والأرض ، وله في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الموت ، ونفخة البعث .

فإذا فنيت أيام الدنيا أمر الله عزّ وجل إسرافيل أن ينفخ فيه نفخة الفزع ، فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط ومعه الصور قالوا : قد أذن الله في موت أهل السماء والأرض ، فيهبط إسرافيل عند بيت المقدس مستقبل الكعبة ، فينفخ في الصور نفخة الفزع .

قال الله تعالى :( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) إلى قوله تعالى :( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ) (١) .

وتزلزلت الأرض و( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) ، ويصير الناس يميدون ، ويقع بعضهم على بعض كأنّهم سكارى ، وما هم بسكارى ولكن من عظيم ما هم فيه من الفزع ، وتبيضّ لحى الشبان من شدّة الفزع .

وتطير الشياطين هاربة إلى أقطار الأرض ، ولولا أنّ الله تعالى يمسك أرواح الخلائق في أجسادهم لخرجت من هول تلك النفخة ، فيمكثون على هذه الهيئة ما شاء الله تعالى ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض ، فلا يبقى في الأرض إنس ولا جن ولا شيطان ولا غيرهم ممّن له روح إلاّ صعق ومات .

ويخرج الصوت من الطرف الذي يلى السماء ، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ مات ، قال الله تعالى :( إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ ) ، وهو جبرئيل وميكائيل وإسرافيل

____________

(١) النمل : ٨٩ ـ ٨٧ .

١١٦

وعزرائيل فأؤلئك الذين شاء الله ، فيقول الله تعالى : يا ملك الموت مَن بقي من خلقي ؟ فقال : يا ربّ أنت الحي الذي لا يموت ، بقي جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وبقيت أنا .

فيأمر الله بقبض أرواحهم فيقبضها ، ثم يقول الله : يا ملك الموت مَن بقي من خلقي ؟ فيقول ملك الموت : يا ربّ بقي عبدك الضعيف المسكين ملك الموت ، فيقول الله له : مت يا ملك الموت بإذني ، فيموت ملك الموت ويصيح عند خروج روحه صيحة عظيمة لو سمعها بنو آدم قبل موتهم لهلكوا ، ويقول ملك الموت : لو كنت أعلم أنّ في نزع أرواح بني آدم هذه المرارة والشدّة والغصص لكنت على قبض أرواح المؤمنين شفيقاً .

فإذا لم يبق أحد من خلق الله في السماء والأرض ، نادى الجبّار جلّ جلاله : يا دنيا أين الملوك وأبناء الملوك ؟ أين الجبابرة وأبناؤهم ؟ وأين مَن ملك الدنيا بأقطارها ؟ أين الذين كانوا يأكلون رزقي ولا يخرجون من أموالهم حقّي ؟ ، ثم يقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَِ ) فلا يجيبه أحد ، فيجيب هو عن نفسه فيقول :( للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ) (١) .

ثم يأمر الله السماء فتمور أي تدور بأفلاكها ونجومها كالرحى ، ويأمر الجبال فتسير كما تسير السحاب ، ثم تبدل الأرض بأرض أخرى لم يكتسب عليها الذنوب ولا سفك عليها دم ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة ، وكذا تبدل السماوات كما قال الله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٢) .

ويعيد عرشه على الماء ، كما كان قبل خلق السماوات والأرض ، مستقلاً بعظمته وقدرته ، ثم يأمر الله السماء أن تمطر على الأرض [ أربعين يوماً ] (٣) حتّى يكون

____________

(١) غافر : ١٦ .

(٢) إبراهيم : ٤٨ .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

١١٧

الماء فوق كل شيء اثنى عشر ذراعاً ، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل .

فتساق أجزاؤهم التي صارت تراباً بعضها إلى بعض بقدرة العزيز الحميد ، حتّى أنّه لو دفن في قبر واحد ألف ميت وصارت لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة كلّها تراباً مختلطة بعضها في بعض ، لم يختلط تراب ميت بميت آخر ؛ لأنّ في ذلك القبر شقيّاً وسعيداً ، جسد ينعم بالجنّة وجسد يعذّب بالنّار ( نعوذ بالله منها ) .

ثم يقول الله تعالى : ليحيى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش ، فيحيون بإذن الله فيأمر الله إسرافيل أن يأخذ الصور بيده ، ثم يأمر الله أرواح الخلائق فتأتي فتدخل في الصور ، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور للحياة ، وبين النفختين أربعين سنة .

قال : فتخرج الأرواح من أثقاب الصور كأنّها الجراد المنتشر ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد وهم نيام في القبور كالموتى ، فتدخل كل روح في جسدها ، فتدخل في خياشيمهم فيحيون بإذن الله تعالى ، فتنشق الأرض عنهم كما قال :( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (١) .

وقال تعالى : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) (٢) ، ثم يدعون إلى عرصة المحشر ، [ فإذا دخلوا عرصة القيامة أمر ] (٣) الله الشمس أن تنزل من السماء الرابعة إلى السماء الدنيا قريب حرّها من رؤوس الخلائق ، فيصيبهم من حرّها أمر عظيم حتّى يعرفون من شدّة حرّها كربها ، حتّى يخوضون في عرقهم .

____________

(١) المعارج : ٤٤ ـ ٤٣ .

(٢) الزمر : ٦٨ .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

١١٨

ثم يبقون على ذلك حفاة عراة عطاشاً ، وكل واحد دالع لسانه على شفتيه ، قال :فيبكون عند ذلك حتّى ينقطع الدمع ، ثم يبكون بعد الدموع دماً .

قال الراوي وهو الحسن بن محبوب يرفعه إلى يونس بن أبي فاختة ، قال : رأيت زين العابدينعليه‌السلام عند بلوغه إلى هذا المكان ينتحب ويبكي بكاء الثكلى ويقول :آه ثمّ آه على عمري كيف ضيّعته في غير عبادة الله وطاعته لأكون في هذا اليوم من الناجين الفائزين .

قلت : وذلك في تفسير قوله تعالى آخر سورة المؤمنين :( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ) (١) يعني فيما تركته ورائي لورّاثي ، فأتصدّق به وأكون من الصالحين فيقول له ملك الموت :( كلاّ إنّها كلمة هو قائلها ) (٢) .

أي كلاّ لا رجوع لك إلى دار الدنيا ، وقوله :( إنّها كلمة هو قائلها ) ، أي قال هذه الكلمة لمّا شاهد من شدّة سكرات الموت ، وأهوال ما عاينه من عذاب القبر وهول المطلع ، ومن هول سؤال منكر ونكير .

قال الله تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (٣) أي لو ردّوا إلى دار الدنيا ، ومددنا لهم في العمر لعادوا إلى ما كانوا عليه من بخلهم بأموالهم فلم يتصدّقوا ، ولم يطعموا الجيعان ، ولم يكسوا العريان ، ولم يواسوا الجيران ، بل يطيعون الشيطان في البخل وترك الطاعة .

ثم قال تعالى :( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) (٤) والبرزخ في التفسير القبر .

____________

(١) المؤمنون : ١٠٠ .

(٢) المؤمنون : ١٠٠ .

(٣) الأنعام : ٢٨ .

(٤) المؤمنون : ١٠٠ .

١١٩

ثم قال تعالى :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (١) ، الآية .

قوله :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُم ) ، ففي الخبر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخلائق إذا عاينوا القيامة ودقّة الحساب وأليم العذاب ، فإنّ الأب يومئذ يتعلّق بولده فيقول : أي بُني كنت لك في دار الدنيا ، ألم أُربّك وأُغذّيك وأُطعمك من كدّي ، وأكسيك وأعلّمك الحكم والآداب ، وأُدرّسك آيات الكتاب ، وأُزوّجك كريمة من قومي ، وأنفقت عليك وعلى زوجتك في حياتي ، وآثرتك على نفسي بمالي بعد وفاتي ؟ .

فيقول : صدقت فيما قلت يا أبي ، فما حاجتك ؟ فيقول : يا بني إنّ ميزاني قد خفّت ورجحت سيّئاتي على حسناتي ، وقالت الملائكة : تحتاج كفّة حسناتك إلى حسنة واحدة حتّى ترجح بها ، وإنّي أُريد أن تهب لي حسنة واحدة أثقل بها ميزاني في هذا اليوم العظيم خطره .

قال :فيقول الولد : لا والله يا أبت ، إنّي أخاف ممّا خفته أنت ، ولا أُطيق أعطيك من حسناتي شيئاً . قال :فيذهب عنه الأب باكياً نادماً على ما كان أسدى إليه في دار الدنيا .

وكذلك قيل إنّ الأُم تلقى ولدها في ذلك اليوم فتقول له : يا بني ألم يكن بطني لك وعاءً ؟ فيقول : بلى يا أُمّاه ، فتقول : ألم يكن ثديي لك سقاءً ؟ فيقول : بلى يا أُمّاه ، فتقول له : إنّ ذنوبي أثقلتني فأُريد أن تحمل عنّي ذنباً واحداً ، فيقول : إليك عنّي يا أُمّاه ، فإنّي مشغول بنفسي فترجع عنه باكية ، وذلك تأويل قوله تعالى :( فلا أنساب

____________

(١) المؤمنون : ١٠٤ـ١٠١ .

١٢٠

بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) (١) .

قال : ويتعلّق الزوج بزوجته ، فيقول : يا فلانة ! أيّ زوج كنت لك في الدنيا ؟ فتثني عليه خيراً وتقول : نعم الزوج كنت لي ، فيقول لها : أطلب منك حسنة واحدة لعلّي أنجو بها ممّا ترين من دقّة الحساب ، وخفّة الميزان ، والجواز على الصراط ، فتقول له : لا والله ، إنّي لا أُطيق ذلك ، وإنّي أخاف مثل ما تخافه أنت ، فيذهب عنها بقلب حزين حيران في أمره .

وذلك ورد في تأويل قوله تعالى :( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (٢) ، يعني إنّ النفس المثقلة بالذنوب تسأل أهلها وقرابتها أن يحملوا عنها شيئاً من حملها وذنوبها ، فإنّهم لا يحملونه بل يكون حالهم يوم القيامة نفسي نفسي ، كما قال تعالى :( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٣) .

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبرني جبرئيل قال : بينما الخلائق وقوف في عرصة القيامة إذ أمر الله تعالى ملائكة النار أن يقودوا جهنّم ، فيقودوها سبعون ألف ملك في سبعين ألف زمام ، فيجد الخلائق حرّها ووهجها من مسيرة شهر للراكب المجد ، وقد تطاير شررها وعلا زفيرها .

فإذا دنت من عرصة القيامة صارت ترمي بشرر كالقصر ، فلا يبقى يومئذ من نبي ولا وصي نبي ولا شهيد إلاّ وقع من قيامه جاثياً على ركبتيه وغيرهم من سائر الخلائق إلاّ ويخرّ على وجهه ، وكل منهم ينادي بأعلى صوته : يا ربّ نفسي نفسي إلاّ أنت يا نبي الله ، فإنّك قائم تقول : يا ربّ نجّ ذرّيتي وشيعتي ومحبّ ذريتي .

____________

(١) المؤمنون : ١٠١ .

(٢) فاطر : ١٨ .

(٣) عبس : ٣٧ـ٣٤ .

١٢١

قال : فيطلب النبي أن تتأخّر عنهم جهنّم ، فيأمر الله تعالى خزنتها أن يرجعوها إلى حيث أتت منه ، وذلك في تفسير قوله تعالى في سورة الفجر :( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) (١) ، معنى يومئذ : أي يوم القيامة ، ومعنى يتذكّر : أي ابن آدم يتذكّر ذنوبه ومعاصيه ، ويندم كيف ما قدم ماله ليقدم عليه يوم القيامة ، وقوله تعالى( وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) أي أنّى له الذكرى يوم القيامة حيث ترك الذكرى في دار الأعمال ، وما تذكّر حاله في دار الجزاء ، فما عاد تنفعه الذكرى يومئذ .

وقوله يحكي عن ابن آدم :( يقول يا ليتني قدّمت لحياتي ) (٢) أي قدّمت أمامي ، فتصدّقت به لوجه ربّي ، وتزيّدت من عمل الخير والصلاة والعبادات والتسبيح ، وذكر الله تعالى حتّى نلت به في هذا اليوم درجات العلى في الآخرة ، والنعيم الدائم في أعلى الجنان مع الشهداء والصالحين .

وإنّما سمّى الله الآخرة الحياة ؛ لأنّ نعيم الجنّة خالد دائم لا نفاد له ، باقٍ ببقاء الله تعالى ، بخلاف الدنيا فإنّ الحياة فيها منقطعة ، مع أنّه مشوب بالهمّ والغمّ والمرض والخوف والضعف والشيب والدين وغير ذلك .

فاستيقظ يا أخي من نومك ، واخرج من غفلتك ، حاسب نفسك قبل يوم الحساب ، واخرج من تبعات العباد ، وصالح الذين أخذت منهم الربا ، واعتذر إلى مَن قذفته بالزنا واغتبته ونلت من عرضه ، فإنّ العبد مادام في الدنيا تُقبل توبته إذا تاب من ذنوبه ، وإذا اعتذر من غرمائه رحموه وعفو عنه وأسقطوا عنه حقوقهم الذي عليه ، فأمّا في الآخرة فلا حق يوهب ، ولا معذرة تقبل ، ولا ذنب يغفر ، ولا بكاء ينفع ](٣) .

____________

(١) الفجر : ٢٣ .

(٢) الفجر : ٢٤ .

(٣) إلى هنا تمّ ما نقلناه من ( ج ) و ( د ) .

١٢٢

وقالعليه‌السلام :ما فرغ امرء فرغة إلاّ كانت فرغته عليه حسرة (١) يوم القيامة ، فما خلق امرء ليلهوا (٢) .

وانظروا إلى قوله تعالى :( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) (٣) .

وقال تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) (٤) .

واعلموا أيّها الإخوان أنّ العمر متجر عظيم الربح ، وكلّ نَفَس منه جوهرة ، وكيف لا يكون ذلك وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن قال ( أشهد أن لا اله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً ، لم يتخذ صاحبة ولا ولد ) ، كتب الله له بكلامه خمساً وأربعين ألف ألف حسنة ، ومحى عنه خمساً وأربعين ألف ألف سيّئة ، ورفع له خمساً وأربعين ألف ألف درجة في علّيين (٥) .

وقال له جبرئيل : يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك ، كل شيء يحصى ثوابه إلاّ قول الرجل : ( لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له ) فإنّه لا يحصي ثوابه إلاّ الله تعالى ، فإنّ الله تعالى ادخر لك ولاُمّتك قوله :( فاذكروني أذكركم ) (٦) .

وأنّه سبحانه يقول :أهل ذكري في ضيافتي ، وأهل طاعتي في نعمتي ، وأهل شكري في زيادتي ، وأهل معصيتي لا اؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن مرضوا فأنا طبيبهم ، أداويهم بالمحن والمصائب لأُطهرهم من الذنوب والمعايب (٧) .

وقال علي بن الحسينعليه‌السلام :العقل دليل الخير ، والهوى مركب المعاصي ، والفقه وعاء العمل ، والدنيا سوق الآخرة ، والنفس تاجر ، والليل والنهار

____________

(١) في ( ج ) : ما فزع امرء فزعة إلاّ كانت فزعته .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٢٤٥ .

(٣) القيامة : ٣٦ .

(٤) المؤمنون : ١١٥ .

(٥) التوحيد للصدوق : ٣٠ ح ٣٥ ، عنه البحار ٩٣ : ٢٠٦ ح٥ .

(٦) البقرة : ١٥٢ .

(٧) راجع البحار ٧٧ : ٤٢ ح١٠ .

١٢٣

رأس المال ، والمكسب الجنّة ، والخسران النار ، وهذه والله هي التجارة التي لا تبور ، والبضاعة التي لا تخسر .

سوق مثله(١) صلوات الله عليه وآله ، وسوق الفائزين من شيعته وشيعة آبائه وأبنائهعليهم‌السلام ، ولقد جمع الله هذا كلّه بقوله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه :( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (٣) .

وقال سبحانه :( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) (٤) .

وقال سبحانه :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) (٥) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد الغشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله عزّت أسماؤه في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم(٦) ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة .

يذكّرون بأيّام الله ،[ ويخوّفون مقامه ](٧) ، بمنزلة الأدلّة في الفلوات(٨) ، مَنْ أَخَذ القصد حمدوا إليه الطريق ، وبشّروه بالنجاة ، ومَنْ أَخَذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق ،

____________

(١) كذا ، وفي ( ج ) : وقال مثله .

(٢) المنافقون : ٩ ٣ـ النور : ٣٧ .

(٣) النجم : ٢٩ـ٣٠ .

(٤) الكهف : ٢٨ .

(٥) في ( ج ) : قلوبهم .

(٦) أثبتناه من نهج البلاغة .

(٧) في النسخ : القلوب ، وأثبتنا قوله : ( الفلوات ) من نهج البلاغة .

١٢٤

وحذّروه من الهلكة .

كانوا لذلك مصابيح تلك الظلمات ، وأدلّة تلك الشبهات ، وإنّ للذكر أهلاً أخذوه بدلاً من الدنيا فلم تشغلهم تجارة ولا بيع ، يقطعون به أيّام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين .

يأمرون بالمعروف ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، وكأنّما اطلعوا على عيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحقّقت القيامة عليهم عذابها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون .

فلو مثّلتهم بعقلك(١) في مقاماتهم المحمودة ، ومجالسهم المشهودة ، قد نشروا دواوين أعمالهم ، ففزعوا لحساب أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة أُمروا بها فقصّروا عنها ، أو نُهوا عنها ففرّطوا فيها ، وحملوا ثقل أوزارهم على ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها ، فنشجوا نشيجاً(٢) ، وتجاوبوا نحيباً ، يعجّون إلى الله من مقام ندم واعتراف بذنب ، لرأيت أعلام هدى ، ومصابيح دجى .

قد حفّت بهم الملائكة ، ونزلت عليهم السكينة ، وفتحت لهم أبواب السماء ، وأُعدّت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضي سعيهم ، وحمد مقامهم ، يتنسّمون بدعائه روح التجاوز ، رهائن فاقة إلى فضله ، وأُسارى ذلّة لعظمته .

جرح طول الأذى قلوبهم ، وأقرح طول البكاء عيونهم ، لكل باب رغبة إلى الله منهم يدٌ قارعة ، يسألون مَن لا تضيق لديه المنادح ، ولا يخيب عليه السائلون ، فحاسب نفسك لنفسك ، فإنّ غيرها من النفوس لها حسيب غيرك(٣) .

____________

(١) في ( ب ) : بقلبك .

(٢) نشج الباكي ينشج نشيجاً : غصّ بالبكاء في حلقه .

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٢ ، عنه البحار ٦٩ : ٣٢٥ ح٣٩ .

١٢٥

وروي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :ارتعوا في رياض الجنّة ، فقالوا : وما رياض الجنّة ؟ فقال :الذكر غدوّاً ورواحاً ، فاذكروا (١) .

ومَن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإنّ الله تعالى ينزل العبدَ حيث أنزل اللهَ العبدُ من نفسه ، ألا إنّ خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها عند ربّكم في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه وتعالى ، وقد أخبر عن نفسه وقال : ( أنا جليس مَن ذكرني ) وأيّ منزلة أرفع منزلة من جليس الله تعالى (٢) .

وروي أنّهما اجتمع قوم يذكرون الله إلاّ اعتزل الشيطان عنهم والدنيا ، فيقول الشيطان للدنيا : ألا ترين ما يصنعون ؟ فتقول الدنيا : دعهم فلو قد تفرّقوا أخذت بأعناقهم (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يقول الله تعالى : مَن أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني ، ومَن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين (٤) فقد جفاني ، ومَن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني فلم أجبه فيما يسأل من أمر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست بربٍّ جاف (٥) .

وروي انّهإذا كان آخر الليل يقول الله سبحانه : هل من داع فأجيبه ؟ هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ (٦) .

وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى داودعليه‌السلام :يا داود ! مَن أحبّ حبيباً صدّق قوله ، ومَن آنس بحبيب قبل قوله ورضي فعله ، ومَن وثق بحبيب اعتمد

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ٥ : ٣٠١ ح٥٩٢٠ .

(٢) راجع البحار ٩٣ : ١٦٣ ضمن حديث ٤٢ ، عن عدّة الداعي .

(٣) عنه مستدرك الوسائل ٥ : ٢٨٧ ح٥٨٧٦ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٣ .

(٤) زاد في ( ج ) : ولم يدعني .

(٥) عنه البحار ٨٠ : ٣٠٨ ح ١٨ .

(٦) راجع البحار ٨٧ : ١٦٧ ح ٩ ، عن عدّة الداعي ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٧ .

١٢٦

عليه ، ومَن اشتاق إلى حبيب جدّ في المسير إليه يا داود ! ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وزيارتي للمشتاقين ، وأنا خاصّة المحبّين (١) .

وقالعليه‌السلام :على كل قلب جاثم من الشيطان ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا ترك الذكر التقمه ، فجذبه وأغواه واستزلّه وأطغاه (٢) .

وروى كعب الأحبار قال : أوحى الله إلى نبي من أنبيائه : إن أردت أن تلقاني غداً في حضرة القدس فكن في الدنيا ذاكراً غريباً محزوناً مستوحشاً ، كالطير الوحداني الذي يطير في الأرض المقفرة ، ويأكل من رؤوس الأشجار المثمرة ، فإذا جاءه الليل آوى إلى وكره ، ولم يكن مع الطير استيحاشاً من الناس واستيناساً بربّه(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الملائكة يمرّون على مجالس الذكر ، فيقفون على رؤوسهم ويبكون لبكائهم ، ويؤمّنون على دعائهم ، وإذا صعدوا إلى السماء يقول الله : ملائكتي أين كنتم ؟ وهو أعلم بهم فيقولون : ربّنا أنت أعلم ، كنّا حضرنا مجلساً من مجالس الذكر ، فرأيناهم يسبحونك ويقدّسونك ويستغفرونك ، يخافون نارك ، ويرجون ثوابك .

فيقول سبحانه : أُشهدكم أنّي قد غفرت لهم ، وآمنتهم من ناري ، وأوجبت لهم الجنّة ، فيقولون : ربّنا تعلم أنّ فيهم مَن لا يذكرك ؟! فيقول سبحانه : قد غفرت له بمجالسته أهل ذكري ، فإنّ الذاكرين لا يشقى بهم جليسهم(٤) .

وروي عن بعض الصالحين أنّه قال : نمت ذات ليلة فسمعت هاتفاً يقول : أتنام عن حضرة الرحمان وهو يقسم الجوائز بالرضوان ، بين الأحبّة والخلاّن ، فمَن

____________

(١) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح ٢٣ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٢) راجع البحار ٧٠ : ٦١ ح ٤٢ ، عن عدّة الداعي ، وفي أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٣) أورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٤) البحار ٧٥ : ٤٦٨ ح ٢٠ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٨٠ .

١٢٧

أراد منّا المزيد فلا ينانم ليله الطويل ، ولا يقنع من نفسه بالقليل(١) .

وقال كعب الأحبار : مكتوب في التوراة : يا موسى مَن أحبّني لم ينسني ، ومَن رجى معروفي ألحّ في مسألتي ، يا موسى لست بغافل عن خلقي ، ولكن أحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء ، وترى حفظتي تقرّب بني آدم إليّ ممّا أنا مقوّيهم عليه ومسبّبه لهم .

يا موسى قل لبني إسرائيل : لا تبطركم النعمة فيعاجلكم السلب ، ولا تغفلوا عن الذكر والشكر فتسلبوا النعم ، ويحلّ بكم الذلّ ، وألحّوا بالدعاء تشملكم الإجابة وتهنّيكم النعمة بالعافية(٢) .

وجاء في قوله تعالى :( اتقوا الله حقّ تقاته ) (٣) قال : يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر :يا أبا ذر ! أقلل من الشهوات يقلل عليك الفقر ، وأقلل من الذنوب يخف عليك الحساب ، واقنع بما أُوتيته يسهل عليك الموت ، وقدّم مالك أمامك يسرّك اللحاق به ، وانظر العمل الذي تحب أن يأتيك الموت وأنت عليه فاعمله ، ولا تتشاغل عمّا فرض عليك بما ضمن لك ، واسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه (٤) .

____________

(١) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٢٨١ .

(٢) راجع البحار ٧٧ : ٤٢ ح ١١ .

(٣) آل عمران : ١٠٢ .

(٤) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٣٤٤ .

١٢٨

الباب الخامس عشر : في حال المؤمن عند موته

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المؤمن إذا حضره الموت جاءت إليه ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء ، فيقولون لنفسه : اخرجي راضية مرضية إلى روح وريحان وربٍّ غير غضبان فتخرج كأطيب من المسك حتّى يتناولها بعض من بعض ، فينتهي بها إلى باب السماء ، فيقول سكّانها : ما أطيب رائحة هذه النفس ، وكلّما صعدوا بها من سماء إلى سماء قال أهلها مثل ذلك ، حتّى يؤتى بها إلى الجنّة مع أرواح المؤمنين ، فيستريح من غم الدنيا .

وأمّا الكافر فتأتيه ملائكة العذاب فيقولون لنفسه : اخرجي كارهة مكروهة إلى عذاب الله ونكاله وربٍّ عليك غضبان(١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أما ترون المحتضر يشخص ببصره ، قالوا : بلى ، قال :يتبع بصره نفسه (٢) .

____________

(١) عنه معالم الزلفى : ٦٧ .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٦٧ .

١٢٩

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من بيت إلاّ وملك الموت يأتيه كل يوم خمس مرّات ، فإذا وجد الرجل قد انقطع أجله ، ونفذ أكله ، ألقى عليه غم الموت ، فغشيته كرباته ، وغمرته غمراته ، فمن أهل بيته الناشرة شعرها ، والضاربة وجهها ، والباكية شجوها ، والصارخة بويلها .

فيقول ملك الموت : ويلكم فما الفزع وما الجزع ، والله ما أذهبت لواحد منكم رزقاً ، ولا قرّبت له أجلاً ، ولا أتيته حتّى أُمرت ، ولا قبضت روحه حتّى استأمرت ، وإنّ لي فيكم عودة ثم عودة حتّى لا يبقى (١) منكم أحداً .

قال :والذي نفسي بيده لو يرون مكانه ، ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميّتهم ، ولبكوا على نفوسهم ، حتّى إذا حمل الميت في نعشه رفرفت روحه فوق نعشه ، ينادي : يا أهلي ! يا ولدي ! لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، مال جمعته من حلّه ومن غير حلّه وخلّفته لكم ، فالمهناة لكم والتبعة عليّ ، فاحذروا مثل ما نزل بي (٢) .

ولقد أحسن القائل :

لقد لهوت وجدّ الموت في طلبي

وإنّ في الموت لي شغل عن اللعبِ

لو شمّرت فكرتي فيما خلقت له

ما اشتدّ حزني (٣) على الدنيا ولا طلبي

وقال محمود الورّاق :

أبقيت مالك ميراثاً لوارثه

فليت شعري ما أبقى لك المالُ

القوم بعدك في حالٍ يسرّهم

فكيف بعدهم حالت بك الحالُ

ملّوا البكاء فما يبكيك من أحدٍ

واستحكم القيل في الميراث والقالُ

أنستهم العهد دنياً أقبلت لهم

وأدبرت عنك والأيّام أحوالُ

____________

(١) في ( ب ) : أُبقي .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٦٧ .

(٣) في ( ج ) : حرصي .

١٣٠

وقال آخر :

هوّن الدنيا وما فيها عليك

واجعل الهمّ لما بين لديك

إنّ هذا الدهر يدنيك إلى

ملك الموت ويدنيه إليك

فاجعل العدّة ما عشت له

إنّه يأتيك إحدى ليلتيك

وقال سلمانرحمه‌الله : أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث ، أضحكني غافلاً وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملأ فيه والموت يطلبه ، ومؤمّل الدنيا ولا يدري متى أجله وأبكاني فراق الأحبّة ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الله تعالى ، لا أدري(١) أساخط هو أم راض(٢) .

واعلموا رحمكم الله إنّما يتوقّع الصحيح سقماً يرديه ، وموتاً من البلاء يدنيه ، فكأنّه لم يكن في الدنيا ساكن ، وإليها راكن ، نزل به الموت فأصبح بين أهله وولده لا يفهم كلاماً ، ولا يردّ سلاماً ، قد اصفرّ وجهه ، وشخص بصره ، وشرح(٣) صدره ، ويبس ريقه ، واضطربت أوصاله ، وقلقلت أحشاؤه ، والأحبّة حوله .

يرى فلا يعرف ، ويسمع فلا يرد ، وينادي فلا يجيب ، خلّف القصور ، وخلت منه الدور ، وحمل على أعتاق الرجال ، يسرعون به إلى محلّة الأموات ، ودار الحسرات(٤) ، وبيت الوحدة والغربة والوحشة ، ثم قسّموا أمواله ، وسكنوا داره ، وتزوّجوا أزواجه ، وحصل هو برهنه(٥) ، فرحم الله مَن جعل الهمّ همّاً واحداً ، وأكل قوته ، وأحسن عمله ، وقصر ليله(٦) .

____________

(١) في ( ب ) : لا يُدرى .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٤ .

(٣) في ( ب ) : تحرج ، وفي ( ج ) : حشرج .

(٤) في ( ج ) : دار الخسران .

(٥) في ( ج ) : برمسه .

(٦) في ( ج ) : قصر أمله .

١٣١

وروي أنّه إذا حمل عدوّ الله إلى قبره ، نادى إلى من تبعه : يا إخوتاه ! احذروا مثل ما وقعت فيه ، إنّي أشكو دنياً غرّتني حتّى إذا اطمأننت إليها وضعتني ، وأشكو إليكم أخلاّء الهوى حتّى إذا وافقتهم تبرّؤوا منّي وخذلوني ، وأشكو إليكم أولاداً آثرتهم على نفسي فأسلموني .

وأشكو إليكم مالاً كدحت في جمعه البر والبحر ، وقاسيت الأهوال ، فأخذه أعدائي وصار وبالاً عليّ ، وعاد نفعه لغيري وأصبحت مرتهناً به ، وأشكو إليكم بيت الوحدة والوحشة والظلمة والمساءلة عن الصغيرة من عملي والكبيرة ، فاحذروا مثل ما قد نزل بي ، فوا طول بلائي ، وعظم عنائي ، مالي شفيع ولا رحيم حميم(١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل الجبانة يقول :السلام عليكم أيّها الأبدان البالية ، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا بحسراتها ، وحصلت منها برهنها ، اللّهمّ أدخل عليهم روحاً منك وسلاماً منّا ومنك يا أرحم الراحمين .

وقال عبد الله الجرهمي ـ وكان من المعمّرين : تبعت جنازة فخنقتني العبرة ، فأنشدت :

يا قلب إنّك في الدنيا لمغرور

فاذكر فهل ينفعنّ اليوم تذكيرُ

فبينما المرء في الأحياء مغتبطاً

إذ صار في الرمس تقفوه الأعاصيرُ

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذوا قرابته في الحيّ مسرورُ

واسترزق الله خيراً ثمّ إرض به

فبينما العسر إذ دارت مياسيرُ

فقال رجل من أصحاب الجنازة : تعرف لمَن هذا الشعر ؟ فقلت : لا والله ، فقال : هو [ والله ](٢) لصاحب هذه الجنازة ، وأنت غريب تبكي عليه وأهله

____________

(١) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٤ .

(٢) أثبتناه من ( ب ) .

١٣٢

مسرورون بتركته ، فقال أبو العتاهيّة :

أرى الدنيا تجهز بانطلاقِ

مشمّرة على قدمٍ وساقِ

فلا الدنيا بباقية لحيٍّ

ولا حيّ على الدنيا بباقِ

وقال بعضهم : محلّة الأموات أبلغ العظات ، فزوروا القبور واعتبروا للنشور(١) .

وكان(٢) بعضهم يدخل المقبرة ليلاً فينادي : يا أهل القبور من أنتم ؟ ثم يجيب عن نفسه : نحن الآباء والأمهات والإخوة ، نحن الأصدقاء والإخوان والأخوات ، نحن الأحباب والجيران ، نحن الأحبّة والخلاّن ، طحننا البلاء ، وأكلتنا الجنادل والثرى .

وأنشد بعضهم :

خمدوا فليس يُجاب من ناداهم

موتى وكيف إجابة الأمواتِ

قال براء بن عازب : بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أبصر بجنازة تدفن ، فبادر إليها مسرعاً حتّى وقف عليها ، ثم بكى حتّى بلّ ثوبه ، ثم التفت إلينا فقال :يا إخوتي ! لمثل هذا فليعمل العاملون ، احذروا هذا واعملوا له (٣) .

وكتب بعضهم إلى ملك يعظه : أيّها الملك أعدل برعيّتك ، وارحم مَن تحت يدك ولا تتجبّر عليهم ، ولا تعل قدرك ، ولا تنس قبرك الذي هو منتهى أمرك ، فإنّ الموت يأتيك وإن طال عمرك ، والحساب أمامك ، والقيامة موعدك ، وقد كان هذا الأمر الذي أنت فيه بيد غيرك ، فلو بقي له لم يصل إليك ، وسينقل عنك كما انتقل عنه ، وإنّه لا يبقى لك ولا تبقى له .

____________

(١) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٤ .

(٢) في ( ج ) : وروي .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٥ ، مستدرك الوسائل ٢ : ٤٦٥ ح ٢٤٧٦ .

١٣٣

فقدّم لنفسك خيراً تجده محضراً ، وتزوّد من دار الغرور لدار الفرح والسرور ، واعتبر بمَن كان قبلك ممّن خزن الأموال ، وخلّد الأقلال ، وجمع الرجال ، فلم يستطع دفع المنيّة ، ولا ردّ الرزيّة ، فلا تغتر بدنيا دنيّة ، لم يرضها الله جزاء لأوليائه ولا عذاباً لأعدائه ، واعتبر بقول الشاعر :

وكيف يلذّ العيش مَن كان موقناً

بأنّ المنايا بغتة ستعاجله

وكيف يلذّ النوم مَن كان موقناً

بأنّ إله الخلق لابد سائله

وكيف يلذّ العيش مَن كان صائراً

إلى جدث تبلى الثياب (١) منازله

وكيف يلذّ النوم مَن أثبتوا له

مثاقيل أوزار الذي هو فاعله

____________

(١) في ( ألف ) : الشباب .

١٣٤

الباب السادس عشر : من كلام المصنّف في الموعظة

قال جامع هذا الكتاب : إنّ الموعظة لا تنجع فيمن لا زاجر له ولا واعظ من نفسه ، وما وهب الله تعالى لعبده هبة أنفع له من [زاجر](١) من نفسه ، وقلّ أن تنجع الموعظة في أهل التجبّر والتكبّر .

وإنّي لأعجب من قوم غدوا في المطارف(٢) العتاق ، والثياب الرقاق ، يحيطون الولايات ، ويتحمّلون الأمانات ، ويتعرّضون للخيانات ، حتّى إذا بلغوا بغيتهم ونالوا أُمنيتهم أخافوا مَن فوقهم مِن أهل الفضل والعفّة(٣) ، وظلموا مَن دونهم مِن أهل الضعف والحرفة .

وسمّنوا براذينهم(٤) ، وأهزلوا دينهم ، وعمّروا دنياهم ، وخرّبوا أُخراهم ، وأوسعوا دورهم ، وضيّقوا قبورهم ، يتّكئ أحدهم على شماله ويأكل غير ماله ،

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) المِطرَف والمُطرَف ـ واحد المطارف : وهي أردية من خزّ مربّعة لها أعلام (لسان العرب) .

(٣) في ( ج ) : الفقه .

(٤) في ( ج ) : أبدانهم .

١٣٥

يدعو بحلو بعد حامض ، ورطب بعد يابس ، وحار بعد بارد ، حتّى إذا غصّته الكظّة ، وأثقلته البطنة ، وغلبه البشم قال : يا جارية ! هاتي هاضوماً ، هاتي حاطوماً .

والله يا جاهل يا مغرور ، ما حطمت طعامك بل حطمت دينك ، وأزلت يقينك ، فأين مسكينك ، وأين يتيمك ، وأين جارك ، وأين مَن غصبته وظلمته ؟! استأثرت بهذا عليه ، وتجبّرت بسلطانك عليه حتّى إذا بالغ هذا في المظالم ، وارتطم في المآثم ، قال : قد زرت وقد حججت وقد تصدّقت ، ونسى قول الله تعالى :( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) .

وقوله تعالى :( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) (٢) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه (٣) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال مؤمن حراماً (٤) .

إنّما يعيش صاحب هذا الحال مفتوناً ، ويموت مغروراً ، يقول يوم القيامة لمَن دخل الجنّة من أهل السعادة هو وأمثاله : ألم نكن معكم ؟ قالوا : بلى ، ولكنّكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأمانيّ ، حتّى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور ، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، ( دل هذا على أنّه غير الكافرين )(٥) .

____________

(١) المائدة : ٢٧ .

(٢) القصص : ٨٣ .

(٣) كنز الفوائد : ١٦٣ ، عنه البحار ٩٢ : ١٨٥ ح ٢٣ ، مستدرك الوسائل ٤ : ٢٥٠ ح ٤٦٢٠ .

(٤) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح ١٧ ، عن مجموعة ورام .

(٥) في ( ج ) : على أنّهم غير الكفّار .

١٣٦

الباب السابع عشر : في أشراط الساعة وأهوالها

قال الله تعالى :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (١) .

وقال سبحانه :( السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (٢) .

وقال تعالى :( إنّ الساعة آتية لا ريب فيها ) (٣) .

وخطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :أصدق الحديث كتاب الله ، وأفضل الهدى هدى الله ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، فقام إليه رجل وقال : يا رسول الله متى الساعة ؟

فقال :ما المسؤول بأعلم بها من السائل ، لا تأتيكم إلاّ بغتة ، فقال : فأعلمنا أشراطها ، فقال :لا تقوم الساعة حتّى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ، وتكثر الفتن ،

____________

(١) محمد : ١٨ .

(٢) القمر : ٤٦ .

(٣) الحج : ٧ .

١٣٧

ويظهر الهرج والمرج ، وتكثر فيكم الأموال(١) ، ويخرّب العامر ، ويعمّر الخراب ، ويكون خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب .

وتطلع الشمس من مغربها ، وتخرج الدابة ، ويظهر الدجّال ، وينتشر يأجوج ومأجوج ، وينزل عيسى بن مريمعليه‌السلام ، فهناك تأتي ريح من جهة اليمن ألين من الحرير ، فلا تدع أحداً فيه مثقال ذرّة من الإيمان إلاّ قبضته إنّه لا تقوم الساعة إلاّ على الأشرار ، ثم تأتي نار من قِبل عدن تسوق سائر مَن على الأرض تحشرهم ، فقالوا : فمتى يكون ذلك يا رسول الله ؟ .

قال : إذا داهن قرّاؤكم أمراءكم ، وعظّمتم أغنياءكم ، وأهنتم فقراءكم ، وظهر فيكم الغناء ، وفشا الزنا ، وعلا البناء ، وتغنّيتم بالقرآن ، وظهر أهل الباطل على أهل الحق ، وقلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأُضيعت الصلاة ، واتبعت الشهوات ، وميل مع الهوى ، وقدّم أُمراء الجور فكانوا خونة ، والوزراء فسقة ، وظهر الحرص في القرّاء ، والنفاق في العلماء ، فعند ذلك ينزل بهم البلاء .

إنّه ما تقدست أُمّة لا ينتصر لضعيفها من قويّها ، وتزخرف المساجد ، وتزوّق(٢) المصاحف ، وتعلى المنابر ، وتكثر الصفوف ، وترتفع الضجّات في المساجد ، وتجتمع الأجساد والألسن مختلفة ، ودين أحدهم لعقة على لسانه .

إن أُعطي شكر ، وإن منع كفر ، لا يرحمون صغيراً ، ولا يوقّرون كبيراً ، يستأثرون أنفسهم ، توطأ حريمهم ، ويجوروا في حكمهم ، تحكم عليهم العبيد ، وتملكهم الصبيان ، وتدبّر أُمورهم النساء ، تتحلّى الذكور بالذهب والفضّة ، ويلبسون الحرير والديباج ، يسرون الجواري ، ويقطعون الأرحام ، ويخيفون(٣)

____________

(١) في ( ج ) : الأهواء .

(٢) في ( ج ) : تُذَهّب .

(٣) يحيفون : ( خل ) .

١٣٨

السبيل ، وينصبون العشّارين .

يجاهدون المسلمين ، ويسالمون الكافرين ، فهناك يكثر المطر ، ويقلّ النبات ، وتكثر الهزّات ، وتقلّ العلماء ، وتكثر الأُمراء ، وتقلّ الأُمناء ، فعند ذلك يحسر الفرات عن جبل من ذهب ، فيقتتل الناس عليه ، فيقتل من المائة تسعة وتسعون ، ويسلم واحد .

وقال [رجل](١) : صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غلس(٢) فنادى رجل : متى الساعة يا رسول الله ؟ فزبره حتّى إذا أسفرنا رفع طرفه إلى السماء فقال :تبارك خالقها وواضعها وممهّدها ومحلّيها بالنبات ، ثم قال :أيّها السائل عن الساعة ، تكون عند خبث الأُمراء ، ومداهنة القرّاء ، ونفاق العلماء ، وإذا صدّقت أُمتي بالنجوم ، وكذّبت بالقدر ، ذلك حين يتخذون الأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، والفاحشة رباحة ، والعبادة تكبّراً واستطالة على الناس .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتّى يكون عليكم أُمراء فجرة ، ووزراء خونة ، وعرفاء ظلمة ، وقرّاء فسقة ، وعبّاد جهّال ، يفتح الله عليهم فتنة غبراء مظلمة ، فيتيهون فيها كما تاهت اليهود ، فحينئذ ينقص الإسلام عروة عروة حتّى يقال : الله الله .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :ما من سلطان آتاه الله قوّة ونعمة فاستعان بها على ظلم عباده إلاّ كان حقّاً على الله أن ينزعها منه ، ألم تروا إلى قول الله تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا تزال هذه الأُمّة تحت يد الله وفي كنفه ما لم

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) الغلس : ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح ( لسان العرب ) .

(٣) الرعد : ١١ .

١٣٩

يمالئ قرّاؤها أُمراؤها ، ولم يوال (١) صلحاؤها أشرارها ، فإذا فعلوا نزع الله يده منهم ، ورماهم بالفقر والفاقة ، وسلّط عليهم شرارهم ، وملأ قلوبهم رعباً ، ورمى جبابرتهم بالعذاب المهين ، ويدعون دعاء الغريق لا يستجيب لهم (٢) .

وقالعليه‌السلام :بئس العبد عبد يسأل المغفرة وهو يعمل بالمعصية ، ويرجو النجاة ولا يعمل لها ، ويخاف العذاب ولا يحذره ، يعجّل الذنب ويؤخّر التوبة ، ويتمنّى على الله الأماني الكاذبة ، فويل له ثم ويل له ثم ويل له من يوم العرض على الله .

وروي أنّ عمر بن هبيرة لمّا ولي العراق من قبل هشام بن عبد الملك أحضر السبعي(٣) والحسن البصري وقال لهما : إنّ هشام بن عبد الملك أخذ بيعتي له على السمع والطاعة ، ثم ولاّني عراقكم من غير أن أسأله ، ولا تزال كتبه تأتيني بقطع(٤) قطائع الناس ، وضرب الرقاب ، وأخذ الأموال ، فما تريان في ذلك ؟

فأمّا السبعي فداهنه وقال قولاً ضعيفاً ، وأمّا الحسن البصري فإنّه قال له : يا عمر ! إنّي أنهاك عن التعرّض لغضب الله برضى هشام ، واعلم أنّ الله تعالى يمنعك من هشام ، ولا يمنعك هشام من الله تعالى ولا أهل الأرض .

أيأتيك كتاب من الله بالعمل بكتابه والعدل والإحسان ، وكتاب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّك ، وكتاب من هشام بخلاف ذلك فتعمل بكتاب هشام وتترك كتاب الله وسنّة رسوله ، إنّ هذا لهو الحرب الكبير ، والخسران المبين ، فاتق الله تعالى واحذره ، فإنّه يوشك أن ينزل إليك ملك من السماء فينزلك من علوّ سريرك ، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، ثم لا يوسعه عليك إلاّ عملك

____________

(١) في ( ألف ) و ( ب ) : لم تزل .

(٢) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٢٨١ .

(٣) في ( ب ) : الشبقي .

(٤) في ( ب ) : قبض .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381