ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب15%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88243 / تحميل: 19611
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الباب الثاني عشر: في التوبة وشروطها

قال الله تعالى :( يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) (١) ، يعني بالنصوح لا رجوع فيها إلى ذنب .

وقال سبحانه :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ ) (٢) .

قوله ( بجهالة ) يعني بمواقع العقاب ، وقيل : بعظمة الله ، وأخذه للعبد بعصيانه حال المواقعة ، ثم قال سبحانه :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) (٣) .

نفى سبحانه قبول التوبة عند مشاهدة أشراط الموت من العاصي والكافر ، وإنّما هي مقبولة ما لم يتيقن الموت ، فانّه سبحانه وعد قبوله بقوله :( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ

____________

(١) التحريم : ٨ .

(٢) النساء : ١٧ .

(٣) النساء : ١٨ .

١٠١

التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (١) وبقوله سبحانه مخبراً عن نفسه :( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ) (٢) .

فالتوبة واجبة في نفسها عن القبيح وعن الإخلال بالواجب ، ثمّ إنْ كانت التوبة عن حقّ الله تعالى ، مثل ترك الصلاة والصيام والحج والزكاة وسائر الحقوق اللاّزمة للنفس والبدن أو لأحدهما ، فيجب على التائب الشروع فيها مع القدرة عليها في وقت القدرة ، والندم على الإخلال بها في الماضي ، والعزم على ترك العود .

وإن كانت التوبة عن حق الناس يجب ردّه عليهم إن كانوا أحياء ، وإلى ورثتهم بعد موتهم إن كان ذلك المال بعينه وإلاّ فمثله ، وإن لم يكن لهم وارث تصدّق به عنهم إن علم مقداره ، وإلاّ فيما يغلب على ظنّه مساواته ، والندم على غصبه ، والعزم على ترك العود إلى مثله ، ويستغفر الله على تعدّي أمره وأمر رسوله وتعدّي أمر إمام زمانه ، فلكلّ منهم حق في ذلك يسقط بالاستغفار .

وإن كانت توبته عن أخذ عرض ، أو نميمة ، أو بهتان عليهم بكذب ، فيجب انقياده إليهم ، وإقراره على نفسه بالكذب عليهم والبهتان ، وليستبرئ لهم عن حقّهم إن نزلوا ، أو يراضيهم بما يرضوا به عنه .

وإن كانت عن قتل نفس عمداً أو جراح ، أو شيء في أبدانهم ، فينقاد إليهم للخروج عن [ حقوقهم على ](٣) الوجه المأمور به من قصاص عن جراح ، أو ديّة عن قتل نفس عمداً إن شاء أو رضوا بالديّة ، وإلاّ فالقتل بالقتل .

وإن كانت التوبة عن معصية من زنا ، أو شرب خمر وأمثاله ، فالتوبة عنه الندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إليه ، وليست التوبة قول الرجل ( استغفر الله وأتوب إليه ) وهو لا يؤدّي حقّه ولا حق رسوله ولا إمامه ولا حق

____________

(١) الشورى : ٢٥ .

(٢) الشورى : ٢٥ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٠٢

الناس .

فقول الرجل هذا من دون ذلك استهزاء بنفسه ، ويجرِ عليها ذنباً ثانياً بكذبه ، كما روي أنّ بعض الناس اجتاز على رجل وهو يقول : استغفر الله ، ويشتم الناس ويكرّر الاستغفار ويشتم ، فقال السامع له : استغفر الله من هذا الاستغفار والتكرار .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس توبوا إلى الله توبة نصوحاً قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وأصلحوا بينكم وبين ربّكم تسعدوا ، وأكثروا من الصدقة ترزقوا ، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تنصروا .

أيّها النّاس إنّ أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وإنّ أحزمكم أحسنكم استعداداً له ، وإنّ من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهّب ليوم النشور(١) .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول في دعائه :( اللّهمّ اغفر لي (٢) وتب عليّ انّك أنت التوّاب الرحيم ) .

وقيل : إنّ إبليس قال : وعزّتك لا أزال أغوي [ وأدعو ](٣) ابن آدم إلى المعصية ما دامت الروح في بدنه ، فقال الله تعالى :( وعزّتي وجلالي لا أمنعه التوبة حتّى يغرغر بروحه ) (٤) .

وما يقبض الله عبداً إلاّ بعد أن يعلم منه أنّه لا يتوب لو أبقاه ، كما أخبر الله سبحانه عن جواب أهل النار من قولهم :( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ) (٥) ، فقال

____________

(١) راجع البحار ٧٧ : ١٧٦ ضمن حديث ١٠ .

(٢) في ( ج ) : اغفر لي كلّ ذنب عليّ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) .

(٤) راجع البحار ٦ : ١٦ .

(٥) فاطر : ٣٧ .

١٠٣

تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغفر في كل يوم سبعين مرّة ، يقول :( استغفر الله ربّي وأتوب إليه ) ، وكذلك أهل بيتهعليهم‌السلام وصالحوا أصحابه ، لقوله تعالى :( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) (٢) .

وقال رجل : يا رسول الله إنّي أذنبت ، فقال :استغفر الله ، فقال : انّي أتوب ثم أعود ، فقال :كلّما أذنبت استغفر الله ، فقال : إذن تكثر ذنوبي ، فقال له :عفو الله أكثر ، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور (٣) .

وقال :إنّ الله تعالى أفرح بتوبة العبد منه لنفسه ، وقد قال : ( إنّ الله يحب التوابين ويحب المتطهّرين ) (٤) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من عبد أذنب ذنباً ، فقام وتطهّر وصلّى ركعتين ، واستغفر الله إلاّ غفر الله له ، وكان حقيقاً على الله أن يقبله ؛ لأنّه سبحانه قال : ( ومَن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ) (٥) .

وقال :إنّ العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنّة ، فقيل : وكيف ذلك يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك ؟ قال :يكون نصب عينيه ، لا يزال يستغفر منه ويندم عليه فيدخله الله به الجنّة ، ولم أر أحسن من حسنة حدثت بعد ذنب قديم ، ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ) .

وقال :إذا أذنب العبد ذنباً كان نكتة سوداء على قلبه ، فإن هو تاب وأقلع

____________

(١) الأنعام : ٢٨ .

(٢) هود : ٥٢ .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ نحوه .

(٤) البقرة : ٢٢٢ .

(٥) عنه الوسائل ١١ : ٣٦٣ ح٣ ، ومجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ ، والآية في سورة النساء : ١١٠ .

١٠٤

واستغفر صفا قلبه منها ، وإن هو لم يتب ولم يستغفر كان الذنب على الذنب ، وذلك قوله : ( بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) ، يعني غطّي (١) .

والعاقل يحسب نفسه قد مات وسأل الله الرجعة ليتوب ويقلع ويصلح ، فأجابه الله فيجد ويجتهد .

وجاء في قوله تعالى :( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (٢) وقال : المصائب في المال والأهل والولد والنفس دون العذاب الأكبر ، [ والعذاب الأكبر ](٣) عذاب جهنّم ، وقوله تعالى :( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يعني عن المعصية ، وهذا لا يكون إلاّ في الدنيا .

وأوحى الله تعالى إلى داودعليه‌السلام :احذر أن آخذك على غرّة فتلقاني بغير حجّة ( يريد التوبة ) .

وروي أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، قوله تعالى :( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٤) وروي أنّه وزوجته حوّاء رأيا على باب الجنّة( محمد ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين صفوتي من الخلق ) فسألا الله بهم فتاب عليهما .

والتوبة على أربعة خصال : ندم بالقلب ، وعزم على ترك العود ، وخروج من الحقوق ، وترك بالجوارح وتوبة النصوح أن يتوب فلا يرجع فيما تاب عنه ، والتائب من الذنب كمَن لا ذنب له ، والمصرّ على الذنب مع الاستغفار يستهزئ بنفسه ويسخر منه الشيطان ، وإنّ الرجل إذا قال : ( أستغفرك يا ربّ وأتوب إليك ) ثم عاد

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٣٣٣ ح١٣١٩٠ ، والآية في سورة المطففين : ١٤ .

(٢) السجدة : ٢١ .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) الأعراف : ٢٣ .

١٠٥

ثم قال ، ثم عاد ثم قال ، كتب(١) في الرابعة من الكذّابين .

وقال بعضهم : كن وصيّ نفسك ، ولا تجعل الرجال أوصياءك ، وكيف تلومهم على تضييع وصيّتك وقد ضيّعتها أنت في حياتك ؟!(٢) .

وسمع أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلاً يقول : ( استغفر الله ) ، فقال :ثكلتك أُمّك ، أو تدري ما حدّ الاستغفار ؟ الاستغفار درجة في العلّيين ، وهو اسم واقع على ستّة معان ، أوّلها : الندم على ما مضى والثاني : العزم على ترك العود إليه أبداً والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقّها والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت والمعاصي فتذيبه والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : ( استغفر الله ) (٣) .

ولقد أحسن بعضهم :

مضى أمسك الماضي شهيداً معدّلا

وأصبحت في يومٍ عليك شهيدُ

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً

فثنّ بإحسانٍ وأنت حميدُ

ولا تؤجل (٤) فعل الصالحات إلى غدٍ

لعلّ غداً يأتي وأنت فقيدُ

وقال آخر :

تمتّع إنّما الدنيا متاع

وإنّ دوامها لا يستطاع

وقدّم ما ملكت وأنت حيّ

أمير فيه متّبع مطاع

ولا يغررك مَن توصي إليه

فقصر وصيّة المرء الضياع

وما لي أن أُملّك ذاك غيري

وأوصيه به لولا الخداع

____________

(١) في ( ج ) : كان .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٣ .

(٣) نهج البلاغة : قصار الحكم ٤١٧ .

(٤) في ( ألف ) : ترج .

١٠٦

وقال آخر :

إذا ما كنت متخذاً وصيّاً

فكن فيما ملكت وصيّ نفسك

ستحصد ما زرعت غداً وتجني

إذا وضع الحساب ثمار غرسك

الباب الثالث عشر : في ذكر الموت ومواعظه

قال الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي ، مصنّف هذا الكتاب ، تغمّده الله برحمته : إنّه مَن جعل الموت نصب عينيه زهّده في الدنيا ، وهوّن عليه المصائب ، ورغّبه في فعل الخير ، وحثّه على التوبة ، وقيّده عن الفتك ، وقطعه عن بسط الأمل في الدنيا ، وقلّ أن يعود يفرح قلبه بشيء من الدنيا .

وما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة أعظم من أن يجعل [ ذكر ](١) الدار الآخرة نصب عينيه ، ولهذا امتنّ الله على إبراهيم وذريّتهعليهم‌السلام بقوله تعالى :( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) (٢) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أكثروا من ذكر هادم اللذّات ، فإنّكم إن كنتم في ضيق وسّعه عليكم فرضيتم به فأُثبتم ، وإن كنتم في غنىً بغّضه إليكم فجدتم به فأُجرتم ؛ لأنّ المنايا قاطعات الآمال ، والليالي مدنيات الآجال إنّ المرء عند خروج نفسه وحلول رمسه ، يرى جزاء ما قدّم وقلّة غنى ما خلّف ، ولعلّه من باطل

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) ص : ٤٦ .

١٠٧

جمعه أو من حق منعه (١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :مَن علم أنّ الموت مصدره ، والقبر مورده ، وبين يدي الله موقفه ، وجوارحه شهيدة له ، طالت حسرته ، وكثرت عبرته ، ودامت فكرته .

وقالعليه‌السلام :مَن علم أنّه يفارق الأحباب ، ويسكن التراب ، ويواجه الحساب ، كان حريّاً بقطع الأمل ، وحسن العمل (٢) .

فاذكروا رحمكم الله قوله تعالى :( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * . فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٣) ، يعني شاهدته ما بقي عندك فيه شك ولا ارتياب بعدما كنت ناسياً له غير مكترث به .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أتدرون مَن أكيسكم ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال :أكثركم للموت ذكراً ، وأحسنكم استعداداً له ، فقالوا : وما علامة ذلك يا رسول الله ؟ قال :التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهّب ليوم النشور .

ولقد أحسن مَن قال :

اذكر الموت هادم اللذّات

وتجهّز لمصرعٍ سوف يأتي

 [ وقال آخر : ](٤)

ماذا تقول وليس عندك حجّة

لو قد أتاك منغّص اللذّاتِ

ماذا تقول إذا دُعيت فلم تجب

وإذا تركت وأنت في غمراتِ

ماذا تقول إذا حللت محلّة

ليس الثقات لأهلها بثقاتِ

____________

(١) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٣٣٥ ، وفي البحار ٧٧ : ١٧٩ .

(٢) البحار ٧٣ : ١٦٧ ح٣١ ، عن كنز الفوائد .

(٣) تلفيق من سورة ق : ١٩ و٢٢ .

(٤) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

١٠٨

الباب الرابع عشر : في المبادرة بالعمل

يقول مصنّف هذا الكتابرحمه‌الله : انتبه أيّها الإنسان من رقدتك ، وأفق من سكرتك ، واعمل وأنت في مهل قبل حلول الأجل ، وجد بما(١) في يديك لما بين يديك(٢) ، فإنّ أمامك عقبةً كؤداً لا يقطعها إلاّ المخفّون ، فأحسن الاستعداد لها من دار تدخلها عرياناً وتخرج منها عرياناً ، كما قال تعالى :

( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :اعملوا في الصحّة قبل السقم ، وفي الشباب قبل الهرم ، وفي الفراغ قبل الشغل ، وفى الحياة قبل الموت ، وقد نزل جبرئيل عليه‌السلام إليّ وقال لي : يا محمد ربّك يقرئك السلام ويقول لك : ( كل ساعة تذكرني

____________

(١) في ( ب ) : وخذ مما .

(٢) في ( ج ) : بعد موتك .

(٣) الأنعام : ٩٤ .

١٠٩

فيها فهي لك عندي مدّخرة ، وكل ساعة لا تذكرني فيها فهي منك ضائعة ) .

وأوحى الله إلى داود :[ يا داود ] (١) كل ساعة لا تذكرني فيها عدمتها من ساعة .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :إنّ امرءً ضيّع من عمره ساعة في غير ما خلق له لجدير أن يطول عليها حسرته يوم القيامة (٢) .

[(٣) وقد روي إنّ شاباً ورث من أبيه مالاً جزيلاً ، فجعل يخرجه في سبيل الله ، فشكت أُمّه ذلك إلى صديق كان لأبيه وقالت : إنّي أخاف عليه الفقر ، فأمره ذلك الصديق أن يستبقي لنفسه من الأموال .

فقال له الشاب : ما تقول في رجل ساكن في ربط البلد ، وقد عزم على أن يتحوّل إلى داخل المدينة ، فجعل يبعث غلمانه برحله ومتاعه إلى داره بالمدينة ، فذلك خير أم مَن كان يرحل بنفسه ويترك متاعه خلفه لا يدري يُبعث به إليه أو لا ؟ فعرف الصديق أنّه صادق في مثاله ، فأمره بإنفاقه في الصدقات .

فعليك يا أخي بدوام الصدقات ، فدوامها من دليل سعادات الدنيا والآخرة ، ولا تحقرنّ قليلها فذلك القليل ينتظم إلى قليل مثله فيصير كثيراً .

وبادر بإخراج الزكاة إذا وجبت من المال أو كانت تطوّعاً ، فإنّ الصدقة لا تخرج من يد المؤمن حتّى يفك بها سبعين شيطاناً ، كلّهم [ قد عضّ على قلب ابن آدم ](٤) ينهونه عن إخراجها ، ولا تستكثر يا أخي ما تعطيه في الصدقة ، وطاعة الله إذا استكثرها المؤمن صغرت عند الله ، وإذا صغرت عند المؤمن كبرت عند الله .

وفي خبر أنّ موسىعليه‌السلام قال لإبليس :أخبرني بالذنب الذي إذا

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٢٤٥ .

(٣) من هنا إلى ص ١٢٦ لم يرد في ( ألف ) و ( ب ) ، بل أثبتناه من ( ج ) و ( د ) .

(٤) أثبتناه من ( د ) .

١١٠

عمله ابن آدم استحوذت عليه ، فقال إبليس : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله وصدقته ، ونسي ذنوبه ، استحوذت عليه(١) .

وإيّاك ثمّ إيّاك أن تنهر سائلاً أو تردّه خائباً ولو بشقّ تمرة ، وإن ألحّ في السؤال لا تسأم بل ردّه ردّاً جميلاً إذا لم يكن عندك شيء تعطيه ، فإنّه أبقى لنعمة الله عليك ، فإنّه ربّما كان السائل ملكاً بعثه الله إليك في صورة بشر ، يختبرك به ليرى كيف تصنع بما رزقك وأعطاك ففي الحديث إنّ الله تعالى لمّا ناجى موسى قال :يا موسى أنل السائل ولو باليسير وإلاّ فردّه ردّاً جميلاً ، فإنّه يأتيك مَن ليس بإنس ولا جان ، بل ملك من ملائكة الرحمان يسألونك عمّا خوّلك ، ويختبرونك فيما رزقك .

وروي أنّ بعض العلماء كان جالساً في المسجد وحوله أصحابه ، فدخل مسكين فسأل شيئاً فقال لهم العالم : أتدرون ما يقول لكم هذا المسكين ؟ يقول : أعطوني أحمله لكم إلى دار الآخرة يكون لكم ذخيرة ، تقدمون عليه غداً في عرصة المحشر .

فيا أخي يجب عليك أن تبعث معهم شيئاً جزيلاً من مالك إلى دار البقاء ، ليكون ثوابك غداً الجنّة في دار النعيم الباقي الدائم .

ولله درّ القائل حيث يقول :

يا صاح إنّك راحل فتزوّد

فعساك في ذا اليوم ترحل أو غد

لا تغفلنّ فالموت ليس بغافلٍ (٢)

هيهات بل هو للأنام بمرصد

فليأتينّ منه عليك بساعة

فتودّ أنّك قبلها لم تولد

ولتخرجنّ إلى القبور مجرّداً

ممّا شقيت (٣) بجمعه صفر اليد

____________

(١) البحار ١٣ : ٣٥٠ ح٣٩ ، عن قصص الأنبياء .

(٢) في ( د ) : الموت يأتيك بغتة .

(٣) في ( د ) : سعيت .

١١١

قال الخليل بن أحمد لصديق له من الأغنياء : إنّما تجمع مالك لأجل ثلاثة أنفس كلّهم أعداؤك ، إمّا زوج امرأتك بعدك ، وإمّا زوج ابنتك ، أو ولدك ، وكل يتمنّى موتك ويستطيل عمرك ، فإن كنت عاقلاً ناصحاً لنفسك فخذ مالك معك زاداً لآخرتك ، ولا تؤثر أحد هؤلاء على نفسك .

ولقد أجاد الشاعر حيث قال :

تورّع ما حرّم الله وامتثل

أوامره وانظر غداً ما أنت عامله

فأنت بذي الدار لا شكّ تاجر

لدار غدٍ فانظر غداً مَن تعامله

وقال رجل صالح لبعض العلماء : أوصني ، قال : أوصيك بشيء واحد ، اعلم أنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما .

وهذا القول إذا تدبّره العاقل علم أنّه أبلغ العظات ، وقيل لعالم : ما أحمد الأشياء وأحلاها في قلب المؤمن ؟ قال : شيء واحد وهو ثمرة العمل الصالح ، قيل له : فما نهاية السرور ؟ قال : الأمن من الوجل عند حلول الأجل ، ثم تمثّل بهذين البيتين :

ولدتك إذ ولدتك أُمّك باكياً

والناس حولك يضحكون سروراً

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا

في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : أوصني ، قال له :أعد جهازك ، وأكثر من زادك لطول سفرك ، وكن وصيّ نفسك ، ولا تأمن غيرك أن يبعث إليك بحسناتك إلى قبرك ، فإنّه لن يبعثها أحد من ولدك إليك (١) .

ما أبين الحق لذي عينين

أنّ الرحيل أحد اليومين

تزوّدوا من صالح الأعمال

وتصدّقوا من خالص الأموال

فقد دنى الرحلة والزوال

____________

(١) البحار ٧٨ : ٢٧٠ ح١١١ نحوه .

١١٢

خرجت من الدنيا فقامت قيامتي

غداة أقلّ الحاملون جنازتي

وعجّل أهلي (١) حفر قبري فصيّروا

خروجي عنهم من أجل كرامتي

يجب على العاقل أن يحافظ على أوّل أوقات الصلاة ، ويسارع إلى فعل الخيرات ، فيكثر من أعمال البر والصدقات ، فإنّ العمر لحظات ، يقال : فلان قد مات ، فإذا عاين في قبره الأهوال والحسرات قال : أعيدوني إلى الدنيا لأتصدّق بمالي ، فيقال : هيهات .

فاغتنم أيّها اللبيب ما بقي لك من الأوقات ، فإنّ بقيّة عمرك لا بقاء لها فاستدرك بها ما فات ، واجتهد أن تجعل بصرك لأُخراك ، فهو أعود عليك من نظرك إلى دنياك ، فإنّ الدنيا فانية والأُخرى باقية ، والسعيد مَن استعدّ لما بين يديه ، وأسلف عملاً صالحاً يقدم عليه قبل نزول المنون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون .

وبادر شبابك أن يهرما

وصحّة جسمك أن يسقما

وأيّام عزّك قبل الممات

فما كل مَن عاش أن يسلما

وقدّم فكل امرءٍ قادم

على كل ما كان قد قدّما

أقول في جمع المال والبخل به على نفسه وإنفاقه في مرضات الله تعالى كما قال تعالى في كتابه :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) (٢) .

وفي الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :يصوّر الله مال أحدكم شجاعاً أقرع ، فيطوق في حلقه ويقول : أنا مالك الذي منعتني أن تتصدّق به ، ثم ينهشه بأنيابه ، فيصيح عند ذلك صياحاً عظيماً .

ثمّ عليك يا طالب الجنّة ونعيمها بترك حب الدنيا وزينتها ؛ لأنّ الله تعالى قد

____________

(١) في ( د ) : عجّلوا .

(٢) آل عمران : ١٨٠ .

١١٣

ذمّها في كتابه العزيز فقال :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ) (١) ، أي لا ينقصون من المال والجاه ، ثم قال تعالى :( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ) (٢) ، والإحباط هو إبطال أعمالهم في الدنيا .

وقال الله تعالى :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) (٣) .

وقال تعالى :( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (٤) ، وحرث الآخرة هو العمل للآخرة الذي يستحق به العبد دخول الجنّة ؛ لأنّ الحرث هو زرع الأرض .

وقال بعض الصالحين :

وما الناس إلاّ هالك وابن هالك

وذو نسبٍ في الهالكين عريق

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت

له عن عدوٍّ في ثياب صديق

وقال آخر :

كأحلام نوم أو كظل زائل

إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ أهل الجنّة لا يندمون على شيء من أمور الدنيا إلاّ على ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا الله تعالى فيها .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من يوم يمر إلاّ والباري عزّ وجل ينادي : عبدي ما أنصفتني أذكرك وتنسى ذكري ، وأدعوك إلى عبادتي وتذهب إلى غيري ، وأرزقك من خزانتي وآمرك لتتصدّق لوجهي فلا تطيعني ، وأفتح عليك أبواب

____________

(١) هود : ١٥ .

(٢) هود : ١٥ .

(٣) الإسراء : ١٨ .

(٤) الشورى : ٢٠ .

١١٤

الرزق وأستقرضك من مالي فتجبهني (١) ، وأُذهب عنك البلاء وأنت معتكف على فعل الخطايا ، يا ابن آدم ! ما يكون جوابك لي غداً إذا جئتني ؟ .

وقال بعض العلماء : يا أخي ! إنّ الموتى لم يبكوا من الموت لأنّه محتوم لابد منه ، وإنّما يبكون من حسرة الفوت ، كيف لا يتزوّدون من الأعمال الصالحة التي يستحقون بها الدرجات العلى ، بل ارتحلوا من دار لم يتزوّدوا منها ، وحلّوا بدار لم يعمّروها ولم يتزوّدوا لها ، فيقولون حينئذ : يا حسرتا على ما فرّطنا في جنب الله .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من ليلة إلاّ وملك ينادي : يا أهل القبور بم تغتبطون اليوم وقد عاينتم هول المطلع ، فيقول الموتى : إنّما نغبط المؤمنون في مساجدهم ؛ لأنّهم يصلّون ولا نصلّي ، ويؤتون الزكاة ولا نزكّي ، ويصومون شهر رمضان ولا نصوم ، ويتصدّقون بما فضل عن عيالهم ونحن لا نتصدّق ، [ ويذكرون الله كثيراً ونحن لا نذكر ، فو احسرتنا على ما فاتنا في دار الدنيا ] (٢) .

وقال لقمان لابنه : يا بني ! إن كنت تحب الجنّة فإنّ ربّك يحب الطاعة ، فأحب ما يحب [ ليعطيك ما تحبّ ](٣) ، وإن كنت تكره النار فإنّ ربّك يكره المعصية ، فاكره ما يكرهه لينجيك ممّا تكره .

واعلم أنّ من وراء الموت ما هو أعظم وأدهى ، قال الله تعالى في محكم كتابه :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) (٤) .

وقد روت الثقات عن زين العابدينعليه‌السلام :إنّ الصور قرن عظيم له رأس واحد وطرفان ، وبين الطرف الأسفل الذي يلي الأرض إلى الطرف الأعلى

____________

(١) في ( د ) : فتبخلني .

(٢) أثبتناه من ( د ) .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

(٤) الزمر : ٦٨ .

١١٥

الذي يلي السماء مثل ما بين تخوم الأرضين السابعة إلى فوق السماء السابعة فيه أثقاب بعدد أرواح الخلائق ، ووسْع فمه ما بين السماء والأرض ، وله في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الموت ، ونفخة البعث .

فإذا فنيت أيام الدنيا أمر الله عزّ وجل إسرافيل أن ينفخ فيه نفخة الفزع ، فإذا رأت الملائكة إسرافيل وقد هبط ومعه الصور قالوا : قد أذن الله في موت أهل السماء والأرض ، فيهبط إسرافيل عند بيت المقدس مستقبل الكعبة ، فينفخ في الصور نفخة الفزع .

قال الله تعالى :( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) إلى قوله تعالى :( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ ) (١) .

وتزلزلت الأرض و( تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ) ، ويصير الناس يميدون ، ويقع بعضهم على بعض كأنّهم سكارى ، وما هم بسكارى ولكن من عظيم ما هم فيه من الفزع ، وتبيضّ لحى الشبان من شدّة الفزع .

وتطير الشياطين هاربة إلى أقطار الأرض ، ولولا أنّ الله تعالى يمسك أرواح الخلائق في أجسادهم لخرجت من هول تلك النفخة ، فيمكثون على هذه الهيئة ما شاء الله تعالى ، ثم يأمر الله تعالى إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق ، فيخرج الصوت من الطرف الذي يلي الأرض ، فلا يبقى في الأرض إنس ولا جن ولا شيطان ولا غيرهم ممّن له روح إلاّ صعق ومات .

ويخرج الصوت من الطرف الذي يلى السماء ، فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ مات ، قال الله تعالى :( إِلاّ مَنْ شَاءَ اللهُ ) ، وهو جبرئيل وميكائيل وإسرافيل

____________

(١) النمل : ٨٩ ـ ٨٧ .

١١٦

وعزرائيل فأؤلئك الذين شاء الله ، فيقول الله تعالى : يا ملك الموت مَن بقي من خلقي ؟ فقال : يا ربّ أنت الحي الذي لا يموت ، بقي جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وبقيت أنا .

فيأمر الله بقبض أرواحهم فيقبضها ، ثم يقول الله : يا ملك الموت مَن بقي من خلقي ؟ فيقول ملك الموت : يا ربّ بقي عبدك الضعيف المسكين ملك الموت ، فيقول الله له : مت يا ملك الموت بإذني ، فيموت ملك الموت ويصيح عند خروج روحه صيحة عظيمة لو سمعها بنو آدم قبل موتهم لهلكوا ، ويقول ملك الموت : لو كنت أعلم أنّ في نزع أرواح بني آدم هذه المرارة والشدّة والغصص لكنت على قبض أرواح المؤمنين شفيقاً .

فإذا لم يبق أحد من خلق الله في السماء والأرض ، نادى الجبّار جلّ جلاله : يا دنيا أين الملوك وأبناء الملوك ؟ أين الجبابرة وأبناؤهم ؟ وأين مَن ملك الدنيا بأقطارها ؟ أين الذين كانوا يأكلون رزقي ولا يخرجون من أموالهم حقّي ؟ ، ثم يقول :( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَِ ) فلا يجيبه أحد ، فيجيب هو عن نفسه فيقول :( للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ) (١) .

ثم يأمر الله السماء فتمور أي تدور بأفلاكها ونجومها كالرحى ، ويأمر الجبال فتسير كما تسير السحاب ، ثم تبدل الأرض بأرض أخرى لم يكتسب عليها الذنوب ولا سفك عليها دم ، بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها أوّل مرّة ، وكذا تبدل السماوات كما قال الله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (٢) .

ويعيد عرشه على الماء ، كما كان قبل خلق السماوات والأرض ، مستقلاً بعظمته وقدرته ، ثم يأمر الله السماء أن تمطر على الأرض [ أربعين يوماً ] (٣) حتّى يكون

____________

(١) غافر : ١٦ .

(٢) إبراهيم : ٤٨ .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

١١٧

الماء فوق كل شيء اثنى عشر ذراعاً ، فتنبت به أجساد الخلائق كما ينبت البقل .

فتساق أجزاؤهم التي صارت تراباً بعضها إلى بعض بقدرة العزيز الحميد ، حتّى أنّه لو دفن في قبر واحد ألف ميت وصارت لحومهم وأجسادهم وعظامهم النخرة كلّها تراباً مختلطة بعضها في بعض ، لم يختلط تراب ميت بميت آخر ؛ لأنّ في ذلك القبر شقيّاً وسعيداً ، جسد ينعم بالجنّة وجسد يعذّب بالنّار ( نعوذ بالله منها ) .

ثم يقول الله تعالى : ليحيى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش ، فيحيون بإذن الله فيأمر الله إسرافيل أن يأخذ الصور بيده ، ثم يأمر الله أرواح الخلائق فتأتي فتدخل في الصور ، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور للحياة ، وبين النفختين أربعين سنة .

قال : فتخرج الأرواح من أثقاب الصور كأنّها الجراد المنتشر ، فتملأ ما بين السماء والأرض ، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد وهم نيام في القبور كالموتى ، فتدخل كل روح في جسدها ، فتدخل في خياشيمهم فيحيون بإذن الله تعالى ، فتنشق الأرض عنهم كما قال :( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (١) .

وقال تعالى : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) (٢) ، ثم يدعون إلى عرصة المحشر ، [ فإذا دخلوا عرصة القيامة أمر ] (٣) الله الشمس أن تنزل من السماء الرابعة إلى السماء الدنيا قريب حرّها من رؤوس الخلائق ، فيصيبهم من حرّها أمر عظيم حتّى يعرفون من شدّة حرّها كربها ، حتّى يخوضون في عرقهم .

____________

(١) المعارج : ٤٤ ـ ٤٣ .

(٢) الزمر : ٦٨ .

(٣) أثبتناه من ( د ) .

١١٨

ثم يبقون على ذلك حفاة عراة عطاشاً ، وكل واحد دالع لسانه على شفتيه ، قال :فيبكون عند ذلك حتّى ينقطع الدمع ، ثم يبكون بعد الدموع دماً .

قال الراوي وهو الحسن بن محبوب يرفعه إلى يونس بن أبي فاختة ، قال : رأيت زين العابدينعليه‌السلام عند بلوغه إلى هذا المكان ينتحب ويبكي بكاء الثكلى ويقول :آه ثمّ آه على عمري كيف ضيّعته في غير عبادة الله وطاعته لأكون في هذا اليوم من الناجين الفائزين .

قلت : وذلك في تفسير قوله تعالى آخر سورة المؤمنين :( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ) (١) يعني فيما تركته ورائي لورّاثي ، فأتصدّق به وأكون من الصالحين فيقول له ملك الموت :( كلاّ إنّها كلمة هو قائلها ) (٢) .

أي كلاّ لا رجوع لك إلى دار الدنيا ، وقوله :( إنّها كلمة هو قائلها ) ، أي قال هذه الكلمة لمّا شاهد من شدّة سكرات الموت ، وأهوال ما عاينه من عذاب القبر وهول المطلع ، ومن هول سؤال منكر ونكير .

قال الله تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (٣) أي لو ردّوا إلى دار الدنيا ، ومددنا لهم في العمر لعادوا إلى ما كانوا عليه من بخلهم بأموالهم فلم يتصدّقوا ، ولم يطعموا الجيعان ، ولم يكسوا العريان ، ولم يواسوا الجيران ، بل يطيعون الشيطان في البخل وترك الطاعة .

ثم قال تعالى :( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) (٤) والبرزخ في التفسير القبر .

____________

(١) المؤمنون : ١٠٠ .

(٢) المؤمنون : ١٠٠ .

(٣) الأنعام : ٢٨ .

(٤) المؤمنون : ١٠٠ .

١١٩

ثم قال تعالى :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (١) ، الآية .

قوله :( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُم ) ، ففي الخبر الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الخلائق إذا عاينوا القيامة ودقّة الحساب وأليم العذاب ، فإنّ الأب يومئذ يتعلّق بولده فيقول : أي بُني كنت لك في دار الدنيا ، ألم أُربّك وأُغذّيك وأُطعمك من كدّي ، وأكسيك وأعلّمك الحكم والآداب ، وأُدرّسك آيات الكتاب ، وأُزوّجك كريمة من قومي ، وأنفقت عليك وعلى زوجتك في حياتي ، وآثرتك على نفسي بمالي بعد وفاتي ؟ .

فيقول : صدقت فيما قلت يا أبي ، فما حاجتك ؟ فيقول : يا بني إنّ ميزاني قد خفّت ورجحت سيّئاتي على حسناتي ، وقالت الملائكة : تحتاج كفّة حسناتك إلى حسنة واحدة حتّى ترجح بها ، وإنّي أُريد أن تهب لي حسنة واحدة أثقل بها ميزاني في هذا اليوم العظيم خطره .

قال :فيقول الولد : لا والله يا أبت ، إنّي أخاف ممّا خفته أنت ، ولا أُطيق أعطيك من حسناتي شيئاً . قال :فيذهب عنه الأب باكياً نادماً على ما كان أسدى إليه في دار الدنيا .

وكذلك قيل إنّ الأُم تلقى ولدها في ذلك اليوم فتقول له : يا بني ألم يكن بطني لك وعاءً ؟ فيقول : بلى يا أُمّاه ، فتقول : ألم يكن ثديي لك سقاءً ؟ فيقول : بلى يا أُمّاه ، فتقول له : إنّ ذنوبي أثقلتني فأُريد أن تحمل عنّي ذنباً واحداً ، فيقول : إليك عنّي يا أُمّاه ، فإنّي مشغول بنفسي فترجع عنه باكية ، وذلك تأويل قوله تعالى :( فلا أنساب

____________

(١) المؤمنون : ١٠٤ـ١٠١ .

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381