ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب0%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

ارشاد القلوب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381
المشاهدات: 84155
تحميل: 18566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84155 / تحميل: 18566
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) (١) .

قال : ويتعلّق الزوج بزوجته ، فيقول : يا فلانة ! أيّ زوج كنت لك في الدنيا ؟ فتثني عليه خيراً وتقول : نعم الزوج كنت لي ، فيقول لها : أطلب منك حسنة واحدة لعلّي أنجو بها ممّا ترين من دقّة الحساب ، وخفّة الميزان ، والجواز على الصراط ، فتقول له : لا والله ، إنّي لا أُطيق ذلك ، وإنّي أخاف مثل ما تخافه أنت ، فيذهب عنها بقلب حزين حيران في أمره .

وذلك ورد في تأويل قوله تعالى :( وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ) (٢) ، يعني إنّ النفس المثقلة بالذنوب تسأل أهلها وقرابتها أن يحملوا عنها شيئاً من حملها وذنوبها ، فإنّهم لا يحملونه بل يكون حالهم يوم القيامة نفسي نفسي ، كما قال تعالى :( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٣) .

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبرني جبرئيل قال : بينما الخلائق وقوف في عرصة القيامة إذ أمر الله تعالى ملائكة النار أن يقودوا جهنّم ، فيقودوها سبعون ألف ملك في سبعين ألف زمام ، فيجد الخلائق حرّها ووهجها من مسيرة شهر للراكب المجد ، وقد تطاير شررها وعلا زفيرها .

فإذا دنت من عرصة القيامة صارت ترمي بشرر كالقصر ، فلا يبقى يومئذ من نبي ولا وصي نبي ولا شهيد إلاّ وقع من قيامه جاثياً على ركبتيه وغيرهم من سائر الخلائق إلاّ ويخرّ على وجهه ، وكل منهم ينادي بأعلى صوته : يا ربّ نفسي نفسي إلاّ أنت يا نبي الله ، فإنّك قائم تقول : يا ربّ نجّ ذرّيتي وشيعتي ومحبّ ذريتي .

____________

(١) المؤمنون : ١٠١ .

(٢) فاطر : ١٨ .

(٣) عبس : ٣٧ـ٣٤ .

١٢١

قال : فيطلب النبي أن تتأخّر عنهم جهنّم ، فيأمر الله تعالى خزنتها أن يرجعوها إلى حيث أتت منه ، وذلك في تفسير قوله تعالى في سورة الفجر :( وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) (١) ، معنى يومئذ : أي يوم القيامة ، ومعنى يتذكّر : أي ابن آدم يتذكّر ذنوبه ومعاصيه ، ويندم كيف ما قدم ماله ليقدم عليه يوم القيامة ، وقوله تعالى( وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ) أي أنّى له الذكرى يوم القيامة حيث ترك الذكرى في دار الأعمال ، وما تذكّر حاله في دار الجزاء ، فما عاد تنفعه الذكرى يومئذ .

وقوله يحكي عن ابن آدم :( يقول يا ليتني قدّمت لحياتي ) (٢) أي قدّمت أمامي ، فتصدّقت به لوجه ربّي ، وتزيّدت من عمل الخير والصلاة والعبادات والتسبيح ، وذكر الله تعالى حتّى نلت به في هذا اليوم درجات العلى في الآخرة ، والنعيم الدائم في أعلى الجنان مع الشهداء والصالحين .

وإنّما سمّى الله الآخرة الحياة ؛ لأنّ نعيم الجنّة خالد دائم لا نفاد له ، باقٍ ببقاء الله تعالى ، بخلاف الدنيا فإنّ الحياة فيها منقطعة ، مع أنّه مشوب بالهمّ والغمّ والمرض والخوف والضعف والشيب والدين وغير ذلك .

فاستيقظ يا أخي من نومك ، واخرج من غفلتك ، حاسب نفسك قبل يوم الحساب ، واخرج من تبعات العباد ، وصالح الذين أخذت منهم الربا ، واعتذر إلى مَن قذفته بالزنا واغتبته ونلت من عرضه ، فإنّ العبد مادام في الدنيا تُقبل توبته إذا تاب من ذنوبه ، وإذا اعتذر من غرمائه رحموه وعفو عنه وأسقطوا عنه حقوقهم الذي عليه ، فأمّا في الآخرة فلا حق يوهب ، ولا معذرة تقبل ، ولا ذنب يغفر ، ولا بكاء ينفع ](٣) .

____________

(١) الفجر : ٢٣ .

(٢) الفجر : ٢٤ .

(٣) إلى هنا تمّ ما نقلناه من ( ج ) و ( د ) .

١٢٢

وقالعليه‌السلام :ما فرغ امرء فرغة إلاّ كانت فرغته عليه حسرة (١) يوم القيامة ، فما خلق امرء ليلهوا (٢) .

وانظروا إلى قوله تعالى :( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) (٣) .

وقال تعالى :( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) (٤) .

واعلموا أيّها الإخوان أنّ العمر متجر عظيم الربح ، وكلّ نَفَس منه جوهرة ، وكيف لا يكون ذلك وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن قال ( أشهد أن لا اله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً ، لم يتخذ صاحبة ولا ولد ) ، كتب الله له بكلامه خمساً وأربعين ألف ألف حسنة ، ومحى عنه خمساً وأربعين ألف ألف سيّئة ، ورفع له خمساً وأربعين ألف ألف درجة في علّيين (٥) .

وقال له جبرئيل : يا رسول الله صلّى الله عليك وآلك ، كل شيء يحصى ثوابه إلاّ قول الرجل : ( لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له ) فإنّه لا يحصي ثوابه إلاّ الله تعالى ، فإنّ الله تعالى ادخر لك ولاُمّتك قوله :( فاذكروني أذكركم ) (٦) .

وأنّه سبحانه يقول :أهل ذكري في ضيافتي ، وأهل طاعتي في نعمتي ، وأهل شكري في زيادتي ، وأهل معصيتي لا اؤيسهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن مرضوا فأنا طبيبهم ، أداويهم بالمحن والمصائب لأُطهرهم من الذنوب والمعايب (٧) .

وقال علي بن الحسينعليه‌السلام :العقل دليل الخير ، والهوى مركب المعاصي ، والفقه وعاء العمل ، والدنيا سوق الآخرة ، والنفس تاجر ، والليل والنهار

____________

(١) في ( ج ) : ما فزع امرء فزعة إلاّ كانت فزعته .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٢٤٥ .

(٣) القيامة : ٣٦ .

(٤) المؤمنون : ١١٥ .

(٥) التوحيد للصدوق : ٣٠ ح ٣٥ ، عنه البحار ٩٣ : ٢٠٦ ح٥ .

(٦) البقرة : ١٥٢ .

(٧) راجع البحار ٧٧ : ٤٢ ح١٠ .

١٢٣

رأس المال ، والمكسب الجنّة ، والخسران النار ، وهذه والله هي التجارة التي لا تبور ، والبضاعة التي لا تخسر .

سوق مثله(١) صلوات الله عليه وآله ، وسوق الفائزين من شيعته وشيعة آبائه وأبنائهعليهم‌السلام ، ولقد جمع الله هذا كلّه بقوله :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) (٢) .

وقال سبحانه :( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ) (٣) .

وقال سبحانه :( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) (٤) .

وقال سبحانه :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) (٥) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاءً للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، وتبصر به بعد الغشوة ، وتنقاد به بعد المعاندة ، وما برح لله عزّت أسماؤه في البرهة بعد البرهة ، وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم(٦) ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة .

يذكّرون بأيّام الله ،[ ويخوّفون مقامه ](٧) ، بمنزلة الأدلّة في الفلوات(٨) ، مَنْ أَخَذ القصد حمدوا إليه الطريق ، وبشّروه بالنجاة ، ومَنْ أَخَذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق ،

____________

(١) كذا ، وفي ( ج ) : وقال مثله .

(٢) المنافقون : ٩ ٣ـ النور : ٣٧ .

(٣) النجم : ٢٩ـ٣٠ .

(٤) الكهف : ٢٨ .

(٥) في ( ج ) : قلوبهم .

(٦) أثبتناه من نهج البلاغة .

(٧) في النسخ : القلوب ، وأثبتنا قوله : ( الفلوات ) من نهج البلاغة .

١٢٤

وحذّروه من الهلكة .

كانوا لذلك مصابيح تلك الظلمات ، وأدلّة تلك الشبهات ، وإنّ للذكر أهلاً أخذوه بدلاً من الدنيا فلم تشغلهم تجارة ولا بيع ، يقطعون به أيّام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين .

يأمرون بالمعروف ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، وكأنّما اطلعوا على عيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحقّقت القيامة عليهم عذابها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون .

فلو مثّلتهم بعقلك(١) في مقاماتهم المحمودة ، ومجالسهم المشهودة ، قد نشروا دواوين أعمالهم ، ففزعوا لحساب أنفسهم على كل صغيرة وكبيرة أُمروا بها فقصّروا عنها ، أو نُهوا عنها ففرّطوا فيها ، وحملوا ثقل أوزارهم على ظهورهم فضعفوا عن الاستقلال بها ، فنشجوا نشيجاً(٢) ، وتجاوبوا نحيباً ، يعجّون إلى الله من مقام ندم واعتراف بذنب ، لرأيت أعلام هدى ، ومصابيح دجى .

قد حفّت بهم الملائكة ، ونزلت عليهم السكينة ، وفتحت لهم أبواب السماء ، وأُعدّت لهم مقاعد الكرامات في مقعد اطلع الله عليهم فيه فرضي سعيهم ، وحمد مقامهم ، يتنسّمون بدعائه روح التجاوز ، رهائن فاقة إلى فضله ، وأُسارى ذلّة لعظمته .

جرح طول الأذى قلوبهم ، وأقرح طول البكاء عيونهم ، لكل باب رغبة إلى الله منهم يدٌ قارعة ، يسألون مَن لا تضيق لديه المنادح ، ولا يخيب عليه السائلون ، فحاسب نفسك لنفسك ، فإنّ غيرها من النفوس لها حسيب غيرك(٣) .

____________

(١) في ( ب ) : بقلبك .

(٢) نشج الباكي ينشج نشيجاً : غصّ بالبكاء في حلقه .

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ٢٢٢ ، عنه البحار ٦٩ : ٣٢٥ ح٣٩ .

١٢٥

وروي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :ارتعوا في رياض الجنّة ، فقالوا : وما رياض الجنّة ؟ فقال :الذكر غدوّاً ورواحاً ، فاذكروا (١) .

ومَن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإنّ الله تعالى ينزل العبدَ حيث أنزل اللهَ العبدُ من نفسه ، ألا إنّ خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها عند ربّكم في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه وتعالى ، وقد أخبر عن نفسه وقال : ( أنا جليس مَن ذكرني ) وأيّ منزلة أرفع منزلة من جليس الله تعالى (٢) .

وروي أنّهما اجتمع قوم يذكرون الله إلاّ اعتزل الشيطان عنهم والدنيا ، فيقول الشيطان للدنيا : ألا ترين ما يصنعون ؟ فتقول الدنيا : دعهم فلو قد تفرّقوا أخذت بأعناقهم (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يقول الله تعالى : مَن أحدث ولم يتوضّأ فقد جفاني ، ومَن أحدث وتوضّأ ولم يصلّ ركعتين (٤) فقد جفاني ، ومَن أحدث وتوضّأ وصلّى ركعتين ودعاني فلم أجبه فيما يسأل من أمر دينه ودنياه فقد جفوته ، ولست بربٍّ جاف (٥) .

وروي انّهإذا كان آخر الليل يقول الله سبحانه : هل من داع فأجيبه ؟ هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ (٦) .

وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى داودعليه‌السلام :يا داود ! مَن أحبّ حبيباً صدّق قوله ، ومَن آنس بحبيب قبل قوله ورضي فعله ، ومَن وثق بحبيب اعتمد

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ٥ : ٣٠١ ح٥٩٢٠ .

(٢) راجع البحار ٩٣ : ١٦٣ ضمن حديث ٤٢ ، عن عدّة الداعي .

(٣) عنه مستدرك الوسائل ٥ : ٢٨٧ ح٥٨٧٦ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٣ .

(٤) زاد في ( ج ) : ولم يدعني .

(٥) عنه البحار ٨٠ : ٣٠٨ ح ١٨ .

(٦) راجع البحار ٨٧ : ١٦٧ ح ٩ ، عن عدّة الداعي ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٧ .

١٢٦

عليه ، ومَن اشتاق إلى حبيب جدّ في المسير إليه يا داود ! ذكري للذاكرين ، وجنّتي للمطيعين ، وزيارتي للمشتاقين ، وأنا خاصّة المحبّين (١) .

وقالعليه‌السلام :على كل قلب جاثم من الشيطان ، فإذا ذكر الله تعالى خنس ، وإذا ترك الذكر التقمه ، فجذبه وأغواه واستزلّه وأطغاه (٢) .

وروى كعب الأحبار قال : أوحى الله إلى نبي من أنبيائه : إن أردت أن تلقاني غداً في حضرة القدس فكن في الدنيا ذاكراً غريباً محزوناً مستوحشاً ، كالطير الوحداني الذي يطير في الأرض المقفرة ، ويأكل من رؤوس الأشجار المثمرة ، فإذا جاءه الليل آوى إلى وكره ، ولم يكن مع الطير استيحاشاً من الناس واستيناساً بربّه(٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الملائكة يمرّون على مجالس الذكر ، فيقفون على رؤوسهم ويبكون لبكائهم ، ويؤمّنون على دعائهم ، وإذا صعدوا إلى السماء يقول الله : ملائكتي أين كنتم ؟ وهو أعلم بهم فيقولون : ربّنا أنت أعلم ، كنّا حضرنا مجلساً من مجالس الذكر ، فرأيناهم يسبحونك ويقدّسونك ويستغفرونك ، يخافون نارك ، ويرجون ثوابك .

فيقول سبحانه : أُشهدكم أنّي قد غفرت لهم ، وآمنتهم من ناري ، وأوجبت لهم الجنّة ، فيقولون : ربّنا تعلم أنّ فيهم مَن لا يذكرك ؟! فيقول سبحانه : قد غفرت له بمجالسته أهل ذكري ، فإنّ الذاكرين لا يشقى بهم جليسهم(٤) .

وروي عن بعض الصالحين أنّه قال : نمت ذات ليلة فسمعت هاتفاً يقول : أتنام عن حضرة الرحمان وهو يقسم الجوائز بالرضوان ، بين الأحبّة والخلاّن ، فمَن

____________

(١) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح ٢٣ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٢) راجع البحار ٧٠ : ٦١ ح ٤٢ ، عن عدّة الداعي ، وفي أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٣) أورده في أعلام الدين : ٢٧٩ .

(٤) البحار ٧٥ : ٤٦٨ ح ٢٠ ، وأورده في أعلام الدين : ٢٨٠ .

١٢٧

أراد منّا المزيد فلا ينانم ليله الطويل ، ولا يقنع من نفسه بالقليل(١) .

وقال كعب الأحبار : مكتوب في التوراة : يا موسى مَن أحبّني لم ينسني ، ومَن رجى معروفي ألحّ في مسألتي ، يا موسى لست بغافل عن خلقي ، ولكن أحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء ، وترى حفظتي تقرّب بني آدم إليّ ممّا أنا مقوّيهم عليه ومسبّبه لهم .

يا موسى قل لبني إسرائيل : لا تبطركم النعمة فيعاجلكم السلب ، ولا تغفلوا عن الذكر والشكر فتسلبوا النعم ، ويحلّ بكم الذلّ ، وألحّوا بالدعاء تشملكم الإجابة وتهنّيكم النعمة بالعافية(٢) .

وجاء في قوله تعالى :( اتقوا الله حقّ تقاته ) (٣) قال : يُطاع فلا يُعصى ، ويُذكر فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر :يا أبا ذر ! أقلل من الشهوات يقلل عليك الفقر ، وأقلل من الذنوب يخف عليك الحساب ، واقنع بما أُوتيته يسهل عليك الموت ، وقدّم مالك أمامك يسرّك اللحاق به ، وانظر العمل الذي تحب أن يأتيك الموت وأنت عليه فاعمله ، ولا تتشاغل عمّا فرض عليك بما ضمن لك ، واسع لملك لا زوال له في منزل لا انتقال عنه (٤) .

____________

(١) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٢٨١ .

(٢) راجع البحار ٧٧ : ٤٢ ح ١١ .

(٣) آل عمران : ١٠٢ .

(٤) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٣٤٤ .

١٢٨

الباب الخامس عشر : في حال المؤمن عند موته

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المؤمن إذا حضره الموت جاءت إليه ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء ، فيقولون لنفسه : اخرجي راضية مرضية إلى روح وريحان وربٍّ غير غضبان فتخرج كأطيب من المسك حتّى يتناولها بعض من بعض ، فينتهي بها إلى باب السماء ، فيقول سكّانها : ما أطيب رائحة هذه النفس ، وكلّما صعدوا بها من سماء إلى سماء قال أهلها مثل ذلك ، حتّى يؤتى بها إلى الجنّة مع أرواح المؤمنين ، فيستريح من غم الدنيا .

وأمّا الكافر فتأتيه ملائكة العذاب فيقولون لنفسه : اخرجي كارهة مكروهة إلى عذاب الله ونكاله وربٍّ عليك غضبان(١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أما ترون المحتضر يشخص ببصره ، قالوا : بلى ، قال :يتبع بصره نفسه (٢) .

____________

(١) عنه معالم الزلفى : ٦٧ .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٦٧ .

١٢٩

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من بيت إلاّ وملك الموت يأتيه كل يوم خمس مرّات ، فإذا وجد الرجل قد انقطع أجله ، ونفذ أكله ، ألقى عليه غم الموت ، فغشيته كرباته ، وغمرته غمراته ، فمن أهل بيته الناشرة شعرها ، والضاربة وجهها ، والباكية شجوها ، والصارخة بويلها .

فيقول ملك الموت : ويلكم فما الفزع وما الجزع ، والله ما أذهبت لواحد منكم رزقاً ، ولا قرّبت له أجلاً ، ولا أتيته حتّى أُمرت ، ولا قبضت روحه حتّى استأمرت ، وإنّ لي فيكم عودة ثم عودة حتّى لا يبقى (١) منكم أحداً .

قال :والذي نفسي بيده لو يرون مكانه ، ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميّتهم ، ولبكوا على نفوسهم ، حتّى إذا حمل الميت في نعشه رفرفت روحه فوق نعشه ، ينادي : يا أهلي ! يا ولدي ! لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بي ، مال جمعته من حلّه ومن غير حلّه وخلّفته لكم ، فالمهناة لكم والتبعة عليّ ، فاحذروا مثل ما نزل بي (٢) .

ولقد أحسن القائل :

لقد لهوت وجدّ الموت في طلبي

وإنّ في الموت لي شغل عن اللعبِ

لو شمّرت فكرتي فيما خلقت له

ما اشتدّ حزني (٣) على الدنيا ولا طلبي

وقال محمود الورّاق :

أبقيت مالك ميراثاً لوارثه

فليت شعري ما أبقى لك المالُ

القوم بعدك في حالٍ يسرّهم

فكيف بعدهم حالت بك الحالُ

ملّوا البكاء فما يبكيك من أحدٍ

واستحكم القيل في الميراث والقالُ

أنستهم العهد دنياً أقبلت لهم

وأدبرت عنك والأيّام أحوالُ

____________

(١) في ( ب ) : أُبقي .

(٢) عنه معالم الزلفى : ٦٧ .

(٣) في ( ج ) : حرصي .

١٣٠

وقال آخر :

هوّن الدنيا وما فيها عليك

واجعل الهمّ لما بين لديك

إنّ هذا الدهر يدنيك إلى

ملك الموت ويدنيه إليك

فاجعل العدّة ما عشت له

إنّه يأتيك إحدى ليلتيك

وقال سلمانرحمه‌الله : أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث ، أضحكني غافلاً وليس بمغفول عنه ، وضاحك ملأ فيه والموت يطلبه ، ومؤمّل الدنيا ولا يدري متى أجله وأبكاني فراق الأحبّة ، وهول المطلع ، والوقوف بين يدي الله تعالى ، لا أدري(١) أساخط هو أم راض(٢) .

واعلموا رحمكم الله إنّما يتوقّع الصحيح سقماً يرديه ، وموتاً من البلاء يدنيه ، فكأنّه لم يكن في الدنيا ساكن ، وإليها راكن ، نزل به الموت فأصبح بين أهله وولده لا يفهم كلاماً ، ولا يردّ سلاماً ، قد اصفرّ وجهه ، وشخص بصره ، وشرح(٣) صدره ، ويبس ريقه ، واضطربت أوصاله ، وقلقلت أحشاؤه ، والأحبّة حوله .

يرى فلا يعرف ، ويسمع فلا يرد ، وينادي فلا يجيب ، خلّف القصور ، وخلت منه الدور ، وحمل على أعتاق الرجال ، يسرعون به إلى محلّة الأموات ، ودار الحسرات(٤) ، وبيت الوحدة والغربة والوحشة ، ثم قسّموا أمواله ، وسكنوا داره ، وتزوّجوا أزواجه ، وحصل هو برهنه(٥) ، فرحم الله مَن جعل الهمّ همّاً واحداً ، وأكل قوته ، وأحسن عمله ، وقصر ليله(٦) .

____________

(١) في ( ب ) : لا يُدرى .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٤ .

(٣) في ( ب ) : تحرج ، وفي ( ج ) : حشرج .

(٤) في ( ج ) : دار الخسران .

(٥) في ( ج ) : برمسه .

(٦) في ( ج ) : قصر أمله .

١٣١

وروي أنّه إذا حمل عدوّ الله إلى قبره ، نادى إلى من تبعه : يا إخوتاه ! احذروا مثل ما وقعت فيه ، إنّي أشكو دنياً غرّتني حتّى إذا اطمأننت إليها وضعتني ، وأشكو إليكم أخلاّء الهوى حتّى إذا وافقتهم تبرّؤوا منّي وخذلوني ، وأشكو إليكم أولاداً آثرتهم على نفسي فأسلموني .

وأشكو إليكم مالاً كدحت في جمعه البر والبحر ، وقاسيت الأهوال ، فأخذه أعدائي وصار وبالاً عليّ ، وعاد نفعه لغيري وأصبحت مرتهناً به ، وأشكو إليكم بيت الوحدة والوحشة والظلمة والمساءلة عن الصغيرة من عملي والكبيرة ، فاحذروا مثل ما قد نزل بي ، فوا طول بلائي ، وعظم عنائي ، مالي شفيع ولا رحيم حميم(١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل الجبانة يقول :السلام عليكم أيّها الأبدان البالية ، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا بحسراتها ، وحصلت منها برهنها ، اللّهمّ أدخل عليهم روحاً منك وسلاماً منّا ومنك يا أرحم الراحمين .

وقال عبد الله الجرهمي ـ وكان من المعمّرين : تبعت جنازة فخنقتني العبرة ، فأنشدت :

يا قلب إنّك في الدنيا لمغرور

فاذكر فهل ينفعنّ اليوم تذكيرُ

فبينما المرء في الأحياء مغتبطاً

إذ صار في الرمس تقفوه الأعاصيرُ

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

وذوا قرابته في الحيّ مسرورُ

واسترزق الله خيراً ثمّ إرض به

فبينما العسر إذ دارت مياسيرُ

فقال رجل من أصحاب الجنازة : تعرف لمَن هذا الشعر ؟ فقلت : لا والله ، فقال : هو [ والله ](٢) لصاحب هذه الجنازة ، وأنت غريب تبكي عليه وأهله

____________

(١) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٤ .

(٢) أثبتناه من ( ب ) .

١٣٢

مسرورون بتركته ، فقال أبو العتاهيّة :

أرى الدنيا تجهز بانطلاقِ

مشمّرة على قدمٍ وساقِ

فلا الدنيا بباقية لحيٍّ

ولا حيّ على الدنيا بباقِ

وقال بعضهم : محلّة الأموات أبلغ العظات ، فزوروا القبور واعتبروا للنشور(١) .

وكان(٢) بعضهم يدخل المقبرة ليلاً فينادي : يا أهل القبور من أنتم ؟ ثم يجيب عن نفسه : نحن الآباء والأمهات والإخوة ، نحن الأصدقاء والإخوان والأخوات ، نحن الأحباب والجيران ، نحن الأحبّة والخلاّن ، طحننا البلاء ، وأكلتنا الجنادل والثرى .

وأنشد بعضهم :

خمدوا فليس يُجاب من ناداهم

موتى وكيف إجابة الأمواتِ

قال براء بن عازب : بينما نحن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أبصر بجنازة تدفن ، فبادر إليها مسرعاً حتّى وقف عليها ، ثم بكى حتّى بلّ ثوبه ، ثم التفت إلينا فقال :يا إخوتي ! لمثل هذا فليعمل العاملون ، احذروا هذا واعملوا له (٣) .

وكتب بعضهم إلى ملك يعظه : أيّها الملك أعدل برعيّتك ، وارحم مَن تحت يدك ولا تتجبّر عليهم ، ولا تعل قدرك ، ولا تنس قبرك الذي هو منتهى أمرك ، فإنّ الموت يأتيك وإن طال عمرك ، والحساب أمامك ، والقيامة موعدك ، وقد كان هذا الأمر الذي أنت فيه بيد غيرك ، فلو بقي له لم يصل إليك ، وسينقل عنك كما انتقل عنه ، وإنّه لا يبقى لك ولا تبقى له .

____________

(١) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٤ .

(٢) في ( ج ) : وروي .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ٢٢٥ ، مستدرك الوسائل ٢ : ٤٦٥ ح ٢٤٧٦ .

١٣٣

فقدّم لنفسك خيراً تجده محضراً ، وتزوّد من دار الغرور لدار الفرح والسرور ، واعتبر بمَن كان قبلك ممّن خزن الأموال ، وخلّد الأقلال ، وجمع الرجال ، فلم يستطع دفع المنيّة ، ولا ردّ الرزيّة ، فلا تغتر بدنيا دنيّة ، لم يرضها الله جزاء لأوليائه ولا عذاباً لأعدائه ، واعتبر بقول الشاعر :

وكيف يلذّ العيش مَن كان موقناً

بأنّ المنايا بغتة ستعاجله

وكيف يلذّ النوم مَن كان موقناً

بأنّ إله الخلق لابد سائله

وكيف يلذّ العيش مَن كان صائراً

إلى جدث تبلى الثياب (١) منازله

وكيف يلذّ النوم مَن أثبتوا له

مثاقيل أوزار الذي هو فاعله

____________

(١) في ( ألف ) : الشباب .

١٣٤

الباب السادس عشر : من كلام المصنّف في الموعظة

قال جامع هذا الكتاب : إنّ الموعظة لا تنجع فيمن لا زاجر له ولا واعظ من نفسه ، وما وهب الله تعالى لعبده هبة أنفع له من [زاجر](١) من نفسه ، وقلّ أن تنجع الموعظة في أهل التجبّر والتكبّر .

وإنّي لأعجب من قوم غدوا في المطارف(٢) العتاق ، والثياب الرقاق ، يحيطون الولايات ، ويتحمّلون الأمانات ، ويتعرّضون للخيانات ، حتّى إذا بلغوا بغيتهم ونالوا أُمنيتهم أخافوا مَن فوقهم مِن أهل الفضل والعفّة(٣) ، وظلموا مَن دونهم مِن أهل الضعف والحرفة .

وسمّنوا براذينهم(٤) ، وأهزلوا دينهم ، وعمّروا دنياهم ، وخرّبوا أُخراهم ، وأوسعوا دورهم ، وضيّقوا قبورهم ، يتّكئ أحدهم على شماله ويأكل غير ماله ،

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) المِطرَف والمُطرَف ـ واحد المطارف : وهي أردية من خزّ مربّعة لها أعلام (لسان العرب) .

(٣) في ( ج ) : الفقه .

(٤) في ( ج ) : أبدانهم .

١٣٥

يدعو بحلو بعد حامض ، ورطب بعد يابس ، وحار بعد بارد ، حتّى إذا غصّته الكظّة ، وأثقلته البطنة ، وغلبه البشم قال : يا جارية ! هاتي هاضوماً ، هاتي حاطوماً .

والله يا جاهل يا مغرور ، ما حطمت طعامك بل حطمت دينك ، وأزلت يقينك ، فأين مسكينك ، وأين يتيمك ، وأين جارك ، وأين مَن غصبته وظلمته ؟! استأثرت بهذا عليه ، وتجبّرت بسلطانك عليه حتّى إذا بالغ هذا في المظالم ، وارتطم في المآثم ، قال : قد زرت وقد حججت وقد تصدّقت ، ونسى قول الله تعالى :( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) .

وقوله تعالى :( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) (٢) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه (٣) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال مؤمن حراماً (٤) .

إنّما يعيش صاحب هذا الحال مفتوناً ، ويموت مغروراً ، يقول يوم القيامة لمَن دخل الجنّة من أهل السعادة هو وأمثاله : ألم نكن معكم ؟ قالوا : بلى ، ولكنّكم فتنتم أنفسكم وتربّصتم وارتبتم وغرّتكم الأمانيّ ، حتّى جاء أمر الله وغرّكم بالله الغرور ، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ، ( دل هذا على أنّه غير الكافرين )(٥) .

____________

(١) المائدة : ٢٧ .

(٢) القصص : ٨٣ .

(٣) كنز الفوائد : ١٦٣ ، عنه البحار ٩٢ : ١٨٥ ح ٢٣ ، مستدرك الوسائل ٤ : ٢٥٠ ح ٤٦٢٠ .

(٤) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح ١٧ ، عن مجموعة ورام .

(٥) في ( ج ) : على أنّهم غير الكفّار .

١٣٦

الباب السابع عشر : في أشراط الساعة وأهوالها

قال الله تعالى :( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) (١) .

وقال سبحانه :( السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (٢) .

وقال تعالى :( إنّ الساعة آتية لا ريب فيها ) (٣) .

وخطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :أصدق الحديث كتاب الله ، وأفضل الهدى هدى الله ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، فقام إليه رجل وقال : يا رسول الله متى الساعة ؟

فقال :ما المسؤول بأعلم بها من السائل ، لا تأتيكم إلاّ بغتة ، فقال : فأعلمنا أشراطها ، فقال :لا تقوم الساعة حتّى يقبض العلم ، وتكثر الزلازل ، وتكثر الفتن ،

____________

(١) محمد : ١٨ .

(٢) القمر : ٤٦ .

(٣) الحج : ٧ .

١٣٧

ويظهر الهرج والمرج ، وتكثر فيكم الأموال(١) ، ويخرّب العامر ، ويعمّر الخراب ، ويكون خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب .

وتطلع الشمس من مغربها ، وتخرج الدابة ، ويظهر الدجّال ، وينتشر يأجوج ومأجوج ، وينزل عيسى بن مريمعليه‌السلام ، فهناك تأتي ريح من جهة اليمن ألين من الحرير ، فلا تدع أحداً فيه مثقال ذرّة من الإيمان إلاّ قبضته إنّه لا تقوم الساعة إلاّ على الأشرار ، ثم تأتي نار من قِبل عدن تسوق سائر مَن على الأرض تحشرهم ، فقالوا : فمتى يكون ذلك يا رسول الله ؟ .

قال : إذا داهن قرّاؤكم أمراءكم ، وعظّمتم أغنياءكم ، وأهنتم فقراءكم ، وظهر فيكم الغناء ، وفشا الزنا ، وعلا البناء ، وتغنّيتم بالقرآن ، وظهر أهل الباطل على أهل الحق ، وقلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأُضيعت الصلاة ، واتبعت الشهوات ، وميل مع الهوى ، وقدّم أُمراء الجور فكانوا خونة ، والوزراء فسقة ، وظهر الحرص في القرّاء ، والنفاق في العلماء ، فعند ذلك ينزل بهم البلاء .

إنّه ما تقدست أُمّة لا ينتصر لضعيفها من قويّها ، وتزخرف المساجد ، وتزوّق(٢) المصاحف ، وتعلى المنابر ، وتكثر الصفوف ، وترتفع الضجّات في المساجد ، وتجتمع الأجساد والألسن مختلفة ، ودين أحدهم لعقة على لسانه .

إن أُعطي شكر ، وإن منع كفر ، لا يرحمون صغيراً ، ولا يوقّرون كبيراً ، يستأثرون أنفسهم ، توطأ حريمهم ، ويجوروا في حكمهم ، تحكم عليهم العبيد ، وتملكهم الصبيان ، وتدبّر أُمورهم النساء ، تتحلّى الذكور بالذهب والفضّة ، ويلبسون الحرير والديباج ، يسرون الجواري ، ويقطعون الأرحام ، ويخيفون(٣)

____________

(١) في ( ج ) : الأهواء .

(٢) في ( ج ) : تُذَهّب .

(٣) يحيفون : ( خل ) .

١٣٨

السبيل ، وينصبون العشّارين .

يجاهدون المسلمين ، ويسالمون الكافرين ، فهناك يكثر المطر ، ويقلّ النبات ، وتكثر الهزّات ، وتقلّ العلماء ، وتكثر الأُمراء ، وتقلّ الأُمناء ، فعند ذلك يحسر الفرات عن جبل من ذهب ، فيقتتل الناس عليه ، فيقتل من المائة تسعة وتسعون ، ويسلم واحد .

وقال [رجل](١) : صلّى بنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غلس(٢) فنادى رجل : متى الساعة يا رسول الله ؟ فزبره حتّى إذا أسفرنا رفع طرفه إلى السماء فقال :تبارك خالقها وواضعها وممهّدها ومحلّيها بالنبات ، ثم قال :أيّها السائل عن الساعة ، تكون عند خبث الأُمراء ، ومداهنة القرّاء ، ونفاق العلماء ، وإذا صدّقت أُمتي بالنجوم ، وكذّبت بالقدر ، ذلك حين يتخذون الأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، والفاحشة رباحة ، والعبادة تكبّراً واستطالة على الناس .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتّى يكون عليكم أُمراء فجرة ، ووزراء خونة ، وعرفاء ظلمة ، وقرّاء فسقة ، وعبّاد جهّال ، يفتح الله عليهم فتنة غبراء مظلمة ، فيتيهون فيها كما تاهت اليهود ، فحينئذ ينقص الإسلام عروة عروة حتّى يقال : الله الله .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :ما من سلطان آتاه الله قوّة ونعمة فاستعان بها على ظلم عباده إلاّ كان حقّاً على الله أن ينزعها منه ، ألم تروا إلى قول الله تعالى : ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا تزال هذه الأُمّة تحت يد الله وفي كنفه ما لم

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) الغلس : ظلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح ( لسان العرب ) .

(٣) الرعد : ١١ .

١٣٩

يمالئ قرّاؤها أُمراؤها ، ولم يوال (١) صلحاؤها أشرارها ، فإذا فعلوا نزع الله يده منهم ، ورماهم بالفقر والفاقة ، وسلّط عليهم شرارهم ، وملأ قلوبهم رعباً ، ورمى جبابرتهم بالعذاب المهين ، ويدعون دعاء الغريق لا يستجيب لهم (٢) .

وقالعليه‌السلام :بئس العبد عبد يسأل المغفرة وهو يعمل بالمعصية ، ويرجو النجاة ولا يعمل لها ، ويخاف العذاب ولا يحذره ، يعجّل الذنب ويؤخّر التوبة ، ويتمنّى على الله الأماني الكاذبة ، فويل له ثم ويل له ثم ويل له من يوم العرض على الله .

وروي أنّ عمر بن هبيرة لمّا ولي العراق من قبل هشام بن عبد الملك أحضر السبعي(٣) والحسن البصري وقال لهما : إنّ هشام بن عبد الملك أخذ بيعتي له على السمع والطاعة ، ثم ولاّني عراقكم من غير أن أسأله ، ولا تزال كتبه تأتيني بقطع(٤) قطائع الناس ، وضرب الرقاب ، وأخذ الأموال ، فما تريان في ذلك ؟

فأمّا السبعي فداهنه وقال قولاً ضعيفاً ، وأمّا الحسن البصري فإنّه قال له : يا عمر ! إنّي أنهاك عن التعرّض لغضب الله برضى هشام ، واعلم أنّ الله تعالى يمنعك من هشام ، ولا يمنعك هشام من الله تعالى ولا أهل الأرض .

أيأتيك كتاب من الله بالعمل بكتابه والعدل والإحسان ، وكتاب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّك ، وكتاب من هشام بخلاف ذلك فتعمل بكتاب هشام وتترك كتاب الله وسنّة رسوله ، إنّ هذا لهو الحرب الكبير ، والخسران المبين ، فاتق الله تعالى واحذره ، فإنّه يوشك أن ينزل إليك ملك من السماء فينزلك من علوّ سريرك ، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، ثم لا يوسعه عليك إلاّ عملك

____________

(١) في ( ألف ) و ( ب ) : لم تزل .

(٢) أورده المصنّف في أعلام الدين : ٢٨١ .

(٣) في ( ب ) : الشبقي .

(٤) في ( ب ) : قبض .

١٤٠