ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب15%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88218 / تحميل: 19602
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إرشاد القلوب ( المجلد الأوّل )

تأليف : الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي

تحقيق : سيد هاشم الميلاني

الناشر : دار الأسوة للطباعة والنشر ( التابعة لمنظّمة الأوقاف والشؤون الخيرية )

المطبعة والتجليد : الأسوة

الطبعة : الثانية

تاريخ النشر : ١٤٢٤ هـ ق

عدد المطبوع : ٢٠٠٠ نسخة

 ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤ ISBN

( ج ١ ) ٠ ـ ٤٣ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤ ISBN

١

لمحة من حياة المؤلِّف (١)

اسمه واسم أبيه :

اتّفقت المصادر المترجمة له على أنّ اسمه ( الحسن ) ولكنّها اختلفت اختلافاً شديداً في اسم أبيه .

قال صاحب أعيان الشيعة في ترجمته : اقتصر بعضهم في اسم أبيه على أبي الحسن ، وبعض سمّاه محمّداً ولم يذكر أبا الحسن ، وبعض قال : الحسن بن أبي الحسن محمد ، فجعل كنية أبيه أبا الحسن واسمه محمد ، وبعضهم قال : الحسن بن أبي الحسن بن محمد .

وعنونه في الرياض مرّة الحسن بن أبي الحسن محمد ، وأخرى الحسن بن أبي الحسن بن محمد .

وعنونه صاحب أمل الآمل : الحسن بن محمد الديلمي .

____________

(١) أخذنا أكثر هذه الترجمة من مقدّمة كتاب ( أعلام الدين في صفات المؤمنين ) للمؤلّف ، والذي عنى بتحقيقه ونشره مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام لإحياء التراث .

٢

قال صاحب الرياض : لعلّه كان في نسخة صاحب الأمل لفظة ( ابن ) بعد أبي الحسن ساقطة ، فظنّ أنّ أبا الحسن كنية والده محمد فأسقط الكنية رأساً ولعلّه سهواً .

وقال : السيد الأمين أيضاً : وفي صدر نسخ إرشاده وكذا في بعض المواضع منه : الحسن بن محمد الديلمي .

أقول : الصواب إنّه الحسن بن أبي الحسن محمد ، وأبو الحسن كنية أبيه واسم أبيه محمد ، أمّا الحسن بن أبي الحسن بن محمد فزيادة ( ابن ) قبل محمد من سهو النسّاخ ، ومثله يقع كثيراً ، فحين يرى الناظر الحسن بن أبي الحسن محمد يسبق إلى ذهنه زيادة ابن قبل محمد .

انتهى ما ذكره السيد الأمين في ج٥/٢٥٠ من أعيان الشيعة .

وعاد في ج٤/٦٢٩ أيضاً قائلاً : الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي ، يأتي في ترجمة الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي ، احتمال أن يكون أبو الحسن كنية والده واسمه ، وأن يكون محمد اسم جدّه ، فراجع .

هذا مجمل القول في اختلافهم في اسم أبيه ، والذي نطمئنّ إليه ما جاء في بداية إرشاد القلوب ، حيث يقول ما نصّه : ( يقول العبد الفقير إلى رحمة ربّه ورضوانه أبو محمد الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي ، جامع هذه الآيات من الذكر الحكيم ) .

وقال في ص٩٧ من كتاب أعلام الدين في صفات المؤمنين : ( يقول العبد الفقير إلى رحمة الله وعفوه ، الحسن بن عليّ بن محمد بن الديلمي . ) .

وهذا ما يحلّ المشكلة في اسم أبيه ؛ إذ تبيّن من كتاب إرشاد القلوب أنّ كنية أبيه ( أبو الحسن ) ، وتبيّن من كتاب أعلام الدين أنّ اسم أبيه ( عليّ ) وعليّ يكنّى أبا الحسن ، فيكون محمد جدّاً للمؤلّف ، فالمحصل أنّ المؤلف هو : الحسن بن أبي الحسن عليّ بن محمد الديلمي .

٣

القول في طبقته وعصره :

ينقسم العلماء في تحديد طبقة المترجم له إلى قسمين :

الأوّل : يرى أنّه من المتقدّمين على الشيخ المفيد أو من معاصريه ، وهو ما ذهب إليه صاحب الرياض ، ونقله عنه السيد الأمين في الأعيان ، وهذا الرأي غير صحيح كما سيتّضح لك .

الثاني : يرى أنّ المؤلّف كان معاصراً للعلاّمة الحلّي (٧٢٦ هـ) أو الشهيد الأوّل (٧٨٦ هـ) أو متأخّراً عنهما بقليل ، وأنّه معاصر لفخر المحقّقين ابن العلاّمة الحلّي المتوفّي سنة (٧٧١) أي إنّه من أعلام المائة الثامنة ، وهذا ما ذهب إليه السيد الخوانساري في الروضات ، والشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة .

وممّا يؤيّد هذا الرأي أُمور :

١ ـ إنّ الديلمي نقل في الجزء الأوّل من إرشاد القلوب في الباب الثاني والخمسون والثالث والخمسون عن كتاب ورّام ، فهو متأخّر عن الشيخ ورّام المتوفّي سنة (٦٠٥) قطعاً .

٢ ـ إنّه قال في الجزء الثاني من إرشاد القلوب : ( . فإنّ علماء الشيعة ـ رضوان الله عليهم ـ قد ألّفوا في فضائله [ أي فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام ] والأدلّة على إمامته كتباً كثيرة ، من جملتها كتاب واحد من جملة تصانيف الشيخ الأعظم ، والبحر الخضم ، ينبوع الفضائل والحكم ، جمال الإسلام والمسلمين ، الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّي قدّس الله روحه الزكيّة ، سمّاه كتاب الألفين ، فيه ألف دليل من الكتاب العزيز . ( فيكون إذاً متأخّراً عنه أو معاصراً له لأنّ العلاّمة توفّى سنة (٧٢٦) .

مضافاً إلى أنّه ذكر في الجزء الثاني روايات كثيرة من كتاب المناقب للخوارزمي المتوفّي سنة (٥٦٨) وذكر حكايتين من كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي المتوفّي سنة (٦٥٤) .

٤

٣ ـ إنّ المترجم له قال في كتاب ( غرر الأخبار ) ما لفظه : ( وفي كتاب العيون والمحاسن للشيخ المفيد . وقال بعد ذكر ما جرى من بني أُمية ، ثمّ من بني العباس على المسلمين بتأثير اختلاف ملوك المسلمين شرقاً وغرباً في ضعف الإسلام وتقوية الكفّار ـ إلى قوله ـ فالكفّار اليوم دون المائة سنة قد أباحوا المسلمين قتلاً ونهباً )(١) .

فيظهر من هذا النص أنّه ألّف كتابه المذكور بعد انقراض دولة بني العباس في سنة (٦٥٦) بما يقرب من مائة سنة ، أي أواسط المائة الثامنة .

وعلى هذا يمكن حصر طبقة المترجم له والفترة التي عاش فيها من ما بعد سنة (٧٢٦) إلى ما قبل سنة (٨٤١) ( بما أنّ ابن فهد الحلّي المتوفّى سنة (٨٤١) روى عنه في كتاب عدّة الداعي ) تقريباً ، وهذا الاحتمال أقرب للواقع .

أقوال العلماء فيه :

١ ـ الشيخ الحرّ العاملي في أمل الآمل ٢/٧٧ : ( كان فاضلاً محدّثاً صالحاً ) .

٢ ـ وقال العلاّمة المجلسي في البحار ١/١٦ ، بعد ذكر مؤلّفاته : ( كلّها للشيخ العارف أبي محمد الحسن بن محمد الديلمي ) .

وفي ١/٣٣ ، بعد ذكر كتابي أعلام الدين وغرر الأخبار : ( وإن كان يظهر من الجميع ونقل الأكابر عنهما جلالة مؤلّفهما ) .

____________

(١) راجع الذريعة ١٦ : ٣٦ .

٥

٣ ـ الميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء ١/٣٣٨ : ( الشيخ العارف أبو محمد الحسن بن أبي الحسن بن محمد الديلمي قدّس الله سرّه ، العالم المحدّث الجليل المعروف بالديلمي ) .

٤ ـ السيد الخوانساري في روضات الجنّات ٢/٢٩١ : ( العالم العارف الوجيه أبو محمد الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي ، الواعظ المعروف الذي هو بكلّ جميل موصوف . وبالجملة فهذا الشيخ من كبراء أصحابنا المحدّثين ) .

٥ ـ السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة ٥/٢٥٠ : ( هو عالم عارف عامل محدّث كامل وجيه ، من كبار أصحابنا الفضلاء في الفقه والحديث والعرفان والمغازي والسير ) .

٦ ـ الشيخ عباس القمّي في الكنى والألقاب ٢/٢١٢ : ( أبو محمد الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي الشيخ المحدّث الوجيه النبيه ) .

٧ ـ وقال أيضاً في الفوائد الرضوية ص٩٤ : ( قال صاحب التكملة : الحسن بن أبي الحسن الديلمي صاحب كتاب إرشاد القلوب ، كان هذا الشيخ من أهل القرن السابع ، ومن كبار أصحابنا الفضلاء في الفقه والحديث والعرفان والمغازي والسير . ) .

بعض سلوكه وأحواله :

في تواضعه لله تعالى :

قال في كتاب إرشاد القلوب ، الباب الثاني والثلاثون : ( . كنت في شبيبتي إذا دعوت بالدعاء المقدّم على صلاة الليل ، ووصلت إلى قوله :( اللّهمّ إنّ ذكر الموت وهول المطلع والوقوف بين يديك نغّصني مطعمي ومشربي ، وأغصّني بريقي ، وأقلقني عن وسادي ، ومنعني رقادي ) أخجل حيث لا أجد هذا كلّه في نفسي ،

٦

فاستخرجت له وجهاً يخرجه عن الكذب ، فأضمرت في نفسي أنّي أكاد أن يحصل عندي ذلك .

فلمّا كبرت السن ، وضعفت القوّة ، وقربت سرعة النقلة إلى دار الوحشة والغربة ما بقي يندفع هذا عن الخاطر ، فصرت ربّما أرجو أن لا أُصبح إذا أمسيت ، ولا أُمسي إذا أصبحت ، ولا إذا مددت خطوة أن أتبعها أُخرى ، ولا أن يكون في فمي لقمة أسيغها ، فصرت أقول : ( اللّهمّ إنّ ذكر الموت وهول المطلع والوقوف بين يديك نغّصني مطعمي ومشربي ، وأغصني بريقي ، وأقلقني عن وسادي ، ومنعني رقادي ، ونغّص عليّ سهادي ، وابتزّني راحة فؤادي .

إلهي وسيّدي ومولاي مخافتك أورثتني طول الحزن ، ونحول الجسد ، وألزمتني عظيم الهمّ والغمّ ودوام الكمد ، وأشغلتني عن الأهل والولد والمال والعبيد ، وتركتني مسكيناً غريباً وحيداً ، وإن كنت بفناء الأهل والولد ، ما أحسّ بدمعة ترقأ من آماقي ، وزفير يتردّد بين صدري والتراقي .

سيّدي فبرّد حزني ببرد عفوك ، ونفّس غمّي وهمّي ببسط رحمتك ومغفرتك ، فإنّي لا آمن إلاّ بالخوف منك ، ولا أعزّ إلاّ بالذلّ لك ، ولا أفوز إلاّ بالثقة بك والتوكّل عليك يا أرحم الراحمين وخير الغافرين ) .

في غربته :

قد ابتلى المؤلّف بالغربة والوحشة وضيق ذات اليد ، وهذا ما تنبّأ له والده ، قال المؤلّف في كتاب أعلام الدين ص٣٢٦ بعد ذكر عدّة آيات في الموالاة في الله والمعاداة فيه :

( يقسم بالله جلّ جلاله مملي هذا الكتاب : إنّ أوثق وأنجح ما توخّيته فيما بيني وبين الله عزّ وجلّ بعد المعرفة والولاية هذا المعنى ، ولقد فعل الله تعالى معي به كلّ

٧

خير ، وإن كان أكسبني العداوة من الناس ، فقد ألبسني ثوب الولاية لله تعالى ؛ لأنّ الله تعالى علم منّي مراعاة هذا الأمر صغيراً وكبيراً ، وما عرفني به معرفة صحيحة غير والديرحمه‌الله ، فإنّه قال لي يوماً من الأيام : يا ولدي ، أنت تريد الأشياء بيضاء نقيّة خالية من الغشّ من كلّ الناس ، وهذا أمر ما صحّ منهم لله ، ولا لرسوله ، ولا لأمير المؤمنين ، ولا لأولاده الأئمّةعليهم‌السلام ، فإذاً تعيش فريداً وحيداً غريباً فقيراً ، وكان الأمر كما قال ، ولست بحمد الله بندمان على ما فات حيث كان في ذلك حفاظ جنب الله تعالى ، وكفى به حسيباً ونصيراً ) .

وقال في مدح الحزن في إرشاد القلوب ، الباب الثاني والثلاثون : ( ليس العجب من أن يكون الإنسان حزيناً بل العجب أن يخلو من الحزن ساعة واحدة . ) .

في ذمّه لعلماء السوء :

قالرحمه‌الله في الباب السابع عشر من كتاب إرشاد القلوب في ذمّ علماء السوء : ( . ومثل ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوّة فيها ماء ، فأراد أن يشرب منها فقال له رجل : لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً ، فامتنع الرجل من ذلك ، ثمّ إنّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها ، فقال العطشان : لو كان فيها سمّاً لما أدخل يده .

وكذلك حال الناس مع علماء السوء ، زهدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها ، وحسنوا إليهم أفعالهم ، ووعدوهم بالسلامة ، لا بل قالوا لهم : قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول . ) .

٨

في شعره :

قال في أعلام الدين :

تخيّر قريناً من فعالك صالحاً

يُعِنْكَ على هول القيامة والقبرِ

ويسعى به نوراً لديك ورحمة

تعمّك يوم الروع في عرصة الحشرِ

وتأتي به يوم التغابن آمناً

أمانك في يمناك من روعة النشرِ

فما يصحب الإنسان من جلّ ماله

سوى صالح الأعمال أو خالص البرِّ

بهذا أتى التنزيل في كلّ سورةٍ

يفصّلها ربّ الخلائق في الذكرِ

وفي سنّة المبعوث للناس رحمةً

سلام عليه بالعشيّ وفي الفجرِ

حديثٌ رواه ابن الحصين خليفة

يحدّثه قيس بن عاصم ذو الوفرِ

قاله بعد ذكر حديث عن خليفة بن الحصين ، وقال أيضاً في إرشاد القلوب :

لا تنسوا الموت في غمٍّ ولا فرح

والأرض ذئب وعزرائيل قصّاب

وقال أيضاً :

صبرت ولم أُطلع هواي على صبري

وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبرِ

مخافة أن يشكو ضميري صبابتي

إلى دمعتي سرّاً فيجري ولا أدري

مؤلّفاته :

١ ـ الأربعون حديثاً :

ذكره الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة ، قال : ( قال الفاضل المعاصر الشيخ علي أكبر البجنوردي : إنّه كانت عندي نسخة منه وتلفت ، وكان أوّل أحاديثه حديث جنود العقل والجهل ، وثالثها حديث الغدير )(١) .

____________

(١) الذريعة ١ : ٤١٤ .

٩

٢ ـ غرر الأخبار ودرر الآثار في مناقب الأطهار :

ذكر الشيخ آقا بزرك الطهراني في الذريعة ، وقال : ( ينقل عنه المجلسي في أوّل البحار ، وأيضاً ينقل عن الغرر المولى محمد حسين الكوهرودي المعاصر المتوفّي بالكاظمية في (١٣١٤ هـ) في تأليفاته كثيراً ، منها حديث الكساء بالترتيب الموجود في منتخب الطريحي باختلاف يسيرٍ جداً ، بأسانيد عديدة ) .

وقال أيضاً : ( وينقل في الغرر أيضاً عن كتاب ( نزهة السامع ) الملقّب بالمحبوبي جملة من مطاعن معاوية وفضائحه ، وينقل فيه أيضاً عن كتاب ( السقيفة ) رواية أبي صالح السليل أحمد بن عيسى .

وذكره الشيخ عباس القمّي في الكنى والألقاب قائلا : ( وله كتاب غرر الأخبار ودرر الآثار . قيل إنّ حديث الكساء المشهور الذي يعدّ من متفرّدات منتخب الطريحي موجود في غرر هذا الشيخ ) .

٣ ـ أعلام الدين في صفات المؤمنين :

وقد عنى بتحقيقه وطبعه مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام لإحياء التراث .

وهو كتاب مهمّ نقل فيه تمام كتاب ( البرهان على ثبوت الإيمان ) لأبي الصلاح الحلبي ، ونقل أيضاً ( الأربعون الودعانيّة ) بكاملها ، وهي أربعون حديثاً رواها ابن ودعان الموصلي .

٤ ـ إرشاد القلوب إلى الصواب المنجي مَن عمل به من أليم العقاب :

وهو هذا الكتاب الذي بين يديك ، ويعدّ من أشهر مؤلّفاته ويعرف بإرشاد الديلمي ، نقل عنه العلاّمة المجلسي في البحار ، وقال عنه : ( وكتاب إرشاد القلوب

١٠

كتاب لطيف مشتمل على أخبار متينة غريبة )(١) .

واعتمده الشيخ الحرّ في موسوعته وسائل الشيعة ، وعنونه في الفائدة الرابعة من خاتمة الكتاب بعد أن قال : ( الفائدة الرابعة : في ذكر الكتب التي نقلت منها أحاديث هذا الكتاب ، وشهد بصحّتها مؤلّفوها وغيرهم ، وقامت القرائن على ثبوتها ، وتواترت عن مؤلّفيها ، أو علمت صحّة نسبتها إليهم ، وقامت بحيث لم يبق فيها شكّ ولا ريب ، كوجودها بخطوط أكابر العلماء ، وتكرّر ذكرها في مصنّفاتهم ، وشهادتهم بنسبتها ، وموافقة مضامينها لروايات الكتب المتواترة ، أو نقلها بخبر واحد محفوف بالقرينة ، وغير ذلك وهي . كتاب الإرشاد للديلمي الحسن بن محمد ) .

وقال عنه الشيخ آقا بزرك الطهراني : ( وهو كتاب جليل قرّظه السيد عليّ صدر الدين المدني المتوفّي سنة (١١٢٠) برباعيّتين ، إحداهما :

إذا ضلّت قلوب عن هداها

فلم تدر العقاب من الثوابِ

فأرشدها جزاك الله خيراً

بإرشاد القلوب إلى الصوابِ

وثانيتهما :

هذا كتاب في معانيه حسن

للديلمي أبي محمد الحسن

أشهى إلى المضني العليل من الشفا

وألذّ للعينين من غمض الوسن (٢)

وذكره إسماعيل باشا في إيضاح المكنون قائلا : ( إرشاد القلوب إلى الصواب المنجي مَن عمل به من أليم العقاب ، للشيخ أبي محمد الحسن بن أبي الحسن بن محمد ، الواعظ الشيعي )(٣) .

____________

(١) البحار ١ : ٣٣ .

(٢) الذريعة ١ : ٥١٧ .

(٣) إيضاح المكنون ٣ : ٦٢ .

١١

وقال السيد الخوانساري في الروضات : ( وله كتب ومصنّفات منها كتاب إرشاد القلوب في مجلّدين ، رأيت منه نسخاً كثيرة ، وينقل عنه صاحب الوسائل والبحار كثيراً ، معتمدين عليه )(١) .

يقع الكتاب في مجلّدين ، المجلّد الأوّل في المواعظ والنصائح ونحوها ، والمجلّد الثاني في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام .

قال الشيخ الحرّ بعد الثناء على المؤلّف : ( له كتاب إرشاد القلوب مجلّدان )(٢) .

وقد شكّك صاحب الرياض في نسبة المجلّد الثاني من الكتاب للديلمي ، وقال : ( وبالجملة ، المجلّد الثاني من كتاب إرشاده كثيراً ما يشتبه الحال فيه ، بل لا يعلم الأكثر أنّه المجلّد الثاني من ذلك الكتاب )(٣) .

وقال السيد الخوانساري : ( إلاّ أنّ في كون المجلّد الثاني منه المخصوص بأخبار المناقب تصنيفاً له أو جزءاً من الكتاب نظراً بيّناً ، حيث إنّ وضعه كما استفيد لنا من خطبته على خمس وخمسين باباً كلّها في الحكم والمواعظ ، فبتمام المجلّد الأوّل تتصرّم عدّة الأبواب ، مضافاً إلى أنّ في الثاني توجد نقل أبيات في المناقب عن الحافظ رجب البرسي ، مع انّه من علماء المائة التاسعة )(٤) .

وقال السيد الأمين بعد ذكره قول الميرزا الأفندي والسيد الخوانساري : ( ويرشد إليه ما ستعرف من اسمه الدال على أنّه في المواعظ خاصة )(٥) .

ويقوى هذا التشكيك أنّه لا يوجد في الجزء الثاني من الكتاب ما يدلّ على كونه للديلمي ، مع أنّه يذكر في المجلّد الأوّل عدّة مرّات عبارات تؤكّد نسبته إليه ،

____________

(١) روضات الجنّات ٢ : ٢٩١ .

(٢) أمل الآمل ٢ : ٧٧ .

(٣) رياض العلماء ١ : ٣٤٠ .

(٤) روضات الجنّات ٢ : ٢٩١ .

(٥) أعيان الشيعة ٥ : ٢٥٠ .

١٢

مثل عبارة : ( يقول العبد الفقير إلى رحمة الله ورضوانه الحسن بن محمد الديلمي تغمّده الله برحمته ) ، وغيرها ، ولكن لا توجد أيّ عبارة هكذا وعلى هذا السياق العام للكتاب في الجزء الثاني .

وأيضاً فقد ذُكر في الجزء الثاني ـ في النسخة المطبوعة في منشورات الرضي ـ بعد ذكر حديث يرفعه إلى الشيخ المفيد :

( وذكره المجلسيرحمه‌الله في المجلّد التاسع من كتاب بحار الأنوار ، والسيد البحراني في كتاب مدينة المعاجز بتغيير ما ، فمَن أراده فليراجعهما ) .

أقول : إنّ ما ذكره السيد الخوانساري من إيراد أبيات للحافظ رجب البرسي ، فإنّها جاءت في ابتداء الجزء الثاني ومعها عدّة أحاديث ، ثمّ بعد تمامها يبدأ الكتاب هكذا : ( بسم الله الرحيم الرحيم ، رُوي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :لأخي عليّ بن أبي طالب فضائل لا تحصى كثرة . ) .

فيحتمل أن تكون هذه الأشعار من زيادة النسّاخ ، مضافاً إلى أنّها لم ترد في النسخة المطبوعة في منشورات الشريف الرضي ، بل ذكر الناشر عدّة أبيات للحافظ البرسي في نهاية الكتاب .

وكذلك الحال بالنسبة إلى قوله : ( وذكره المجلسيرحمه‌الله في المجلّد التاسع من كتاب بحار الأنوار ، والسيد البحراني في كتاب مدينة المعاجز . ) فنحن نجزم بعدم كون هذه الجملة من أصل الكتاب ؛ لعدم ورودها في النسخ التي اعتمدنا عليها في تحقيق الكتاب .

وأمّا بالنسبة إلى قول السيد الأمين بأنّ اسم الكتاب يدلّ على أنّه في المواعظ خاصّة ، فإنّا لا نرى هذه الخاصية ؛ لأنّ اسم الكتاب كما عرفت هو ( إرشاد القلوب إلى الصواب المنجي مَن عمل به من أليم العقاب ) فكما أنّ العمل بالمواعظ منجي فكذلك ذكر أهل البيت وذكر فضائلهم سيّما الإمام أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة

١٣

والسلام ، فإنّهم حجج الله ، وصراطه ، وميزانه ، وأنّ حساب الخلق عليهم ، وإيابهم إليهم وفصل الخطاب عندهم .

وبعد هذا كلّه وبعد اعتراف الشيخ الحرّ بأنّ الكتاب يقع في مجلّدين ، وبعد اعتماد العلاّمة المجلسيرحمه‌الله ، والسيد هاشم البحراني في كتبهما على الجزء الثاني ، وإذعانهما بأنّه للمؤلّف بذكرهما أحاديث كثيرة عنه ؛ لا يبقى لنا مجال للتشكيك في أنّ المجلّد الثاني من كتاب إرشاد القلوب للديلمي أم لغيره ، هذا ما توصّلنا إليه من ظاهر الأمر ، والله أعلم بحقائق الأمور .

١٤

منهج التحقيق

اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب على عدّة نسخ :

١ ـ النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الرضاعليه‌السلام في مشهد المقدّسة برقم (١٤٣٧٢) وهي التي اعتمدت عليها في استنساخ الكتاب لجودة خطّها وقلّة خطأها ، ورمزت لها بـ ( ألف ) ، ولم يرد تاريخ نسخها في آخرها لكن ذكر في فهرس المكتبة الرضويّة أنّها نسخت في القرن التاسع الهجري .

٢ ـ النسخة المحفوظة في مدرسة الشهيد المطهّري في طهران ، تحت رقم (٥٢٨٦) ولم يُعلم تاريخ نسخها لانمحاء الأسطر الأخيرة منها ، ورمزت لها بحرف ( ب ) .

٣ ـ النسخة المحفوظة في مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي (قدّس سرّه) ، تحت رقم (٥٧٧) ، وجاء في آخرها : ( ولقد وقع الفراغ من استنساخ هذه النسخة الشريفة عصر يوم السبت ثالث عشر شهر محرّم الحرام في سنة (١١٢٧) ) ولم أعتمد عليها كثيراً إلاّ في ما لم أجده في النسختين المتقدّمتين ، فإنّه

١٥

وقع في هاتين النسختين سقط في موضعين من المجلّد الأوّل ، أحدهما : في الباب الرابع عشر ، والثاني : في الباب الثالث والعشرون .

٤ ـ النسخة المطبوعة من قِبل منشورات الشريف الرضي ، ورمزت لها بحرف ( ج ) ، وهي نسخة كثيرة الأخطاء والأغلاط ، وقد حذف الناشر من آخرها ـ للظروف التي كانت آنذاك في بغداد ـ فصلاً كاملاً في ذكر صفات أعداء أمير المؤمنينعليه‌السلام ومثالبهم والبدع التي ابتدعوها .

وممّا يؤيّد أنّ هذا الفصل من أصل الكتاب ، مجيئه أوّلاً في النسخ الخطّية ، وثانياً نَقْلُ العلاّمة المجلسيرحمه‌الله إيّاه في المجلّد الثامن من البحار ونسبته إلى المؤلّف .

٥ ـ راجعنا في بعض الأحيان إلى ما أورده العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار وذكرنا موارد الاختلاف في الهامش .

وإنّي بعد الاستنساخ والمقابلة حاولت ـ حسب وسعي وجهدي ـ في تخريج الأحاديث ، ولكن بقيت أحاديث لم أستطع تخريجها ، أو وجدت ما يشابهها فذكرت المصدر مع الإشارة إلى أنّ هذا ليس نصّ الحديث بقولي : ( نحوه ) أو ( مثله ) أو ( باختلاف ) ، وأرجعت بعضها الآخر إلى البحار ، وهو وإن كان متأخّراً إلاّ أنّي رأيت عدم الإهمال أولى من الإهمال .

وذكر المؤلّف (قدّس سرّه) في الباب الثاني والخمسون ، وكذلك في الباب الثالث والخمسون أحاديث كثيرة من كتاب ورّام بن أبي فراس ، ولكن مع الفحص الشديد ـ بحيث تصفّحت ورقة ورقة من الكتاب ـ لم أعثر على بعض الأحاديث ، ولا يبعد أن يكون هذا الكتاب ناقصاً ، مع كونه جديراً بإعادة الطبع والتحقيق لمَن يتمكّن ذلك ويُوَفَّق .

وفي الختام أسأل الله العليّ الأعلى أن يتقبّل منّا هذا القليل ، وأن ينفع به

١٦

إخواننا المؤمنين ، ويوفّقنا لخدمة هذا الدين المبين ، فهو خير ناصر ومعين ، والحمد لله ربّ العالمين .

 السيد هاشم الميلاني

 قم المقدّسة ـ ذو الحجّة ١٤١٦ هـ ق

١٧

الصفحة الأُولى من نسخة ( أ )

١٨

الصفحة الأخيرة من نسخة ( أ )

١٩

الصفحة الأُولى من نسخة ( ب )

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

قوله تعالى: ( حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) قيد للتكذيب، و فسّروا اليقين بالموت لكونه ممّا لا شكّ فيه فالمعنى و كنّا في الدنيا نكذّب بيوم الجزاء حتّى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنّا نكذّب به ما دامت الحياة.

و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقّيّة يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخيّة حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.

قوله تعالى: ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ ) تقدّم في بحث الشفاعة أنّ في الآية دلالة على أنّ هناك شافعين يشفعون فيشفّعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنّهم محرومون من نيلها.

و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

١٨١

( سورة المدّثّر الآيات 49 - 56)

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ( 49 ) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ ( 50 ) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ( 51 ) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ( 52 ) كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ ( 53 ) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ( 54 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 55 ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَىٰ وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 56 )

( بيان‏)

في معنى الاستنتاج ممّا تقدّم من الوعيد و الوعد اُورد في صورة التعجّب من إعراضهم عن تذكرة القرآن و تنفّرهم عن الحقّ الصريح كأنّه قيل: فإذا كان كذلك فعليهم أن يجيبوا دعوة الحقّ و يتذكّروا بالتذكرة فمن العجب أنهم معرضون عن ذلك كلّا بل لا يؤمنون بالرسالة و يريد كلّ امرئ منهم أن ينزل عليه كتاب من الله. كلّا بل لا يخافون الآخرة فلا يرتدعون عن وعيد.

ثمّ يعرض عليهم التذكرة عرضاً فهم على خيرة من القبول و الردّ فإن شاؤا قبلوا و إن شاؤا ردّوا، لكن عليهم أن يعلموا أنّهم غير مستقلّين في مشيّتهم و ليسوا بمعجزين لله سبحانه فليس لهم أن يذكروا إلّا أن يشاء الله، و حكم القدر جار فيهم البتّة.

قوله تعالى: ( فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ) تفريع على ما تقدّم من التذكرة و الموعظة، و الاستفهام للتعجيب، و( لَهُمْ ) متعلّق بمحذوف و التقدير فما كان لهم: و( مُعْرِضِينَ ) حال من ضمير( لَهُمْ ) و( عَنِ التَّذْكِرَةِ ) متعلّق بمعرضين.

١٨٢

و المعنى: فإذا كان كذلك فأيّ شي‏ء كان - عرض - للمشركين الّذين يكذّبون بتذكرة القرآن حال كونهم معرضين عنها أي كان من الواجب عليهم أن يصدّقوا و يؤمنوا لكنّهم أعرضوا عنها و هو من العجب.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تشبيه لهم من حيث حالهم في الإعراض عن التذكرة، و الحمر جمع حمار، و المراد الحمر الوحشيّة و الاستنفار بمعنى النفرة و القسورة الأسد و الصائد، و قد فسّر بكلّ من المعنيين.

و المعنى: معرضين عن التذكرة كأنّهم حمر وحشيّة نفرت من أسد أو من الصائد.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) المراد بالصحف المنشّرة الكتاب السماويّ المشتمل على الدعوة الحقّة.

و في الكلام إضراب عمّا ذكر من إعراضهم، و المعنى ليس إعراضهم عن التذكرة لمجرّد النفرة بل يريد كلّ امرئ منهم أن ينزّل عليه كتاب من عند الله مشتمل على ما تشتمل عليه دعوة القرآن.

و هذه النسبة إليهم كناية عن استكبارهم على الله سبحانه أنّهم إنّما يقبلون دعوته و لا يردّونها لو دعا كلّ واحد منهم بإنزال كتاب سماويّ إليه مستقلّاً و أمّا الدعوة من طريق الرّسالة فليسوا يستجيبونها و إن كانت حقّة مؤيّدة بالآيات البيّنة.

فالآية في معنى ما حكاه الله سبحانه من قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) الأنعام: 124، و في معنى قول الاُمم لرسلهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ) على ما قرّرنا من حجّتهم على نفي رسالة الرسل.

و قيل: إنّ الآية في معنى قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي حكاه الله في قوله:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) إسراء: 93.

و يدفعه أنّ مدلول الآية أن ينزل على كلّ واحد منهم صحف منشّرة غير ما ينزل على غيره لا نزول كتاب واحد من السماء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرؤه الجميع كما هو مدلول آية الإسراء.

١٨٣

و قيل: المراد نزول كتب من السماء عليهم بأسمائهم أن آمنوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المراد أن ينزل عليهم كتب من السماء بالبراءة من العذاب و إسباغ النعمة حتّى يؤمنوا و إلّا بقوا على كفرهم و قيل غير ذلك.

و هي جميعاً معان بعيدة من السياق و التعويل على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) ردع لهم بما يريدونه من نزول كتاب سماويّ على كلّ واحد منهم فإنّ دعوة الرسالة مؤيّدة بآيات بيّنة و حجج قاطعة لا تدع ريباً لمرتاب فالحجّة تامّة قائمة على الرسول و غيره على حدّ سواء من غير حاجة إلى أن يؤتى كلّ واحد من الناس المدعوّين صحفاً منشّرة.

على أنّ الرسالة تحتاج من طهارة الذات و صلاحيّة النفس إلى ما يفقده نفوس سائر الناس كما هو مدلول جوابه تعالى في سورة الأنعام عن قولهم:( لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ ) بقوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

و قوله:( بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ) إضراب عن قوله:( يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و المراد أنّ اقتراحهم نزول كتاب على كلّ امرئ منهم قول ظاهريّ منهم يريدون به صرف الدعوة عن أنفسهم، و السبب الحقيقيّ لكفرهم و تكذيبهم بالدعوة أنّهم لا يخافون الآخرة، و لو خافوها لآمنوا و لم يقترحوا آية بعد قيام الحجّة بظهور الآيات البيّنات.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ) ردع ثان لاقتراحهم نزول كتاب سماويّ لكلّ امرئ منهم، و المعنى لا ننزل كتاباً كذلك إنّ القرآن تذكرة و موعظة نعظهم به لا نريد به أزيد من ذلك، و أثر ذلك ما أعدّ للمطيع و العاصي عندنا من الجزاء.

قوله تعالى: ( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أي فمن شاء اتّعظ به فإنّما هي دعوة في ظرف الاختيار من غير إكراه.

قوله تعالى: ( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) دفع لما يمكن أن يتوهّموه من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) أنّ الأمر إليهم و أنّهم

١٨٤

مستقلّون في إرادتهم و ما يترتّب عليها من أفعالهم فإن لم يشاؤا الذكر و لم يذكروا غلبوه تعالى فيما أراد و أعجزوه فيما شاء من ذكرهم.

و المحصّل من الدفع أنّ حكم القدر جاء في أفعالهم كغيرها من الحوادث، و تذكّرهم إن تذكّروا و إن كان فعلاً اختياريّاً صادراً عنهم باختيارهم من غير إكراه فالمشيّة الإلهيّة متعلّقة به بما هو اختياريّ بمعنى أنّ الله تعالى يريد بإرادة تكوينيّة أن يفعل الإنسان الفعل الفلانيّ بإرادته و اختياره فالفعل اختياريّ ممكن بالنسبة إلى الإنسان و هو بعينه متعلّق الإرادة الإلهيّة ضروريّ التحقّق بالنسبة إليها و لولاها لم يتحقّق.

و قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) أي أهل لأن يتّقى منه لأنّ له الولاية المطلقة على كلّ شي‏ء، و بيده سعادة الإنسان و شقاوته، و أهل لأن يغفر لمن اتّقاه لأنّه غفور رحيم.

و الجملة أعني قوله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) صالحة لتعليل ما تقدّم من الدعوة في قوله:( إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) و هو ظاهر، و لتعليل قوله:( وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) فإنّ كونه تعالى أهل التقوى و أهل المغفرة لا يتمّ إلّا بكونه ذا إرادة نافذة فيهم سارية في أعمالهم فليسوا بمخلّين و ما يهوونه و هم معجزون لله بتمرّدهم و استكبارهم.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) و ذلك أنّهم قالوا: يا محمّد قد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يذنب الذنب فيصبح و ذنبه مكتوب عند رأسه و كفّارته.

فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: يسألك قومك سنّة بني إسرائيل

١٨٥

في الذنوب فإن شاؤا فعلنا ذلك بهم و أخذناهم بما كنّا نأخذ بني إسرائيل فزعموا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كره ذلك لقومه.

أقول: و القصّة لا تلائم لحن الآية و الرواية لا تخلو من إيماء إلى ضعف القصّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن السدّيّ عن أبي صالح قال: قالوا: إن كان محمّد صادقاً فليصبح تحت رأس كلّ رجل منّا صحيفة فيها براءته و أمنته من النار فنزلت:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) .

أقول: سياق الآيات و ما فيها من الردع لا يلائم القصّة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن مجاهد( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: إلى فلان بن فلان من ربّ العالمين يصبح عند رأس كلّ رجل صحيفة موضوعة يقرؤها.

أقول: ما في الرواية يقبل الانطباق على الرواية السابقة و على ما قدّمناه من معنى الآية.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن قتادة في قوله تعالى:( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى‏ صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) قال: قد قال قائلون من الناس لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن سرّك أن نتابعك فأتنا بكتاب خاصّة يأمرنا باتّباعك.

أقول: الرواية قابلة التطبيق لما في تفسير الآية من القول بأنّ الآية في معنى قوله تعالى:( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) الآية و قد تقدّم ما فيه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: هو أهل أن يتّقى و أهل أن يغفر.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: قال الله عزّوجلّ: أنا أهل أن اُتّقى و لا يشرك بي عبدي شيئاً و أنا أهل إن لم يشرك بي عبدي شيئاً أن اُدخله الجنّة.

١٨٦

و قال: إنّ الله تبارك و تعالى أقسم بعزّته و جلاله أن لا يعذّب أهل توحيده بالنار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن دينار قال: سمعت أباهريرة و ابن عمر و ابن عبّاس يقولون: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( هُوَ أَهْلُ التَّقْوى‏ وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ) قال: يقول الله: أنا أهل أن اُتّقى فلا يُجعل معي شريك فإذا اتّقيت و لم يجعل معي شريك فأنا أهل أن أغفر ما سوى ذلك.

أقول: و في معناه غير واحد من الروايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٧

( سورة القيامة مكّيّة و هي أربعون آية)

( سورة القيامة الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ( 1 ) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ( 2 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ( 3 ) بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ( 4 ) بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ( 5 ) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ( 6 ) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ ( 7 ) وَخَسَفَ الْقَمَرُ ( 8 ) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( 9 ) يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ( 10 ) كَلَّا لَا وَزَرَ ( 11 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( 12 ) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ( 13 ) بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ( 14 ) وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ( 15 )

( بيان‏)

يطوف بيان السورة حول القيامة الكبرى فتنبئ بوقوع يوم القيامة أوّلاً ثمّ تصفه ببعض أشراطه تارة، و بإجمال ما يجري على الإنسان اُخرى، و ينبئ أنّ المساق إليه يبدأ من يوم الموت، و تختتم بالاحتجاج على القدرة على الإعادة بالقدرة على الابتداء.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ) إقسام بيوم القيامة سواء قيل بكون( لا أُقْسِمُ ) كلمة قسم أو بكون لا زائدة أو نافية على اختلاف الأقوال.

قوله تعالى: ( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) إقسام ثان على ما يقتضيه السياق و مشاكلة اللفظ فلا يعبأ بما قيل: أنّه نفي الأقسام و ليس بقسم، و المراد اُقسم بيوم

١٨٨

القيامة و لا اُقسم بالنفس اللوّامة.

و المراد بالنفس اللوّامة نفس المؤمن الّتي تلومه في الدنيا على المعصية و التثاقل في الطاعة و تنفعه يوم القيامة.

و قيل: المراد به النفس الإنسانيّة أعمّ من المؤمنة الصالحة و الكافرة الفاجرة فإنّها تلوم الإنسان يوم القيامة أمّا الكافرة فإنّها تلومه على كفره و فجوره، و أمّا المؤمنة فإنّها تلومه على قلّة الطاعة و عدم الاستكثار من الخير.

و قيل. المراد نفس الكافر الّتي تلومه يوم القيامة على ما قدّمت من كفر و معصية قال تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) يونس: 54.

و لكلّ من الأقوال وجه.

و جواب القسم محذوف يدلّ عليه الآيات التالية، و التقدير ليبعثنّ، و إنّما حذف للدلالة على تفخيم اليوم و عظمة أمره قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ) الأعراف: 187 و قال:( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) طه: 15 و قال:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) النبأ: 1.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) الحسبان الظنّ، و جمع العظام كناية عن الإحياء بعد الموت، و الاستفهام للتوبيخ، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ) أي بلى نجمعها( و قادِرِينَ ) حال من فاعل مدخول بلى المقدّر، و البنان أطراف الأصابع و قيل: الأصابع و تسوية البنان تصويرها على ما هي عليها من الصور، و المعنى بلى نجمعها و الحال أنّا قادرون على أن نصوّر بنانه على صورها الّتي هي عليها بحسب خلقنا الأوّل.

و تخصيص البنان بالذكر - لعلّه - للإشارة إلى عجيب خلقها بما لها من الصور و خصوصيّات التركيب و العدد تترتّب عليها فوائد جمّة لا تكاد تحصى من أنواع القبض و البسط و الأخذ و الردّ و سائر الحركات اللطيفة و الأعمال الدقيقة و الصنائع الظريفة الّتي يمتاز بها الإنسان من سائر الحيوان مضافاً إلى ما عليها من الهيئات و الخطوط الّتي لا يزال ينكشف للإنسان منها سرّ بعد سرّ.

١٨٩

و قيل: المراد بتسوية البنان جعل أصابع اليدين و الرجلين مستوية شيئاً واحداً من غير تفريق كخفّ البعير و حافر الحمار، و المعنى قادرين على أن نجعلها شيئاً واحداً فلا يقدر الإنسان حينئذ على ما يقدر عليه مع تعدّد الأصابع من فنون الأعمال، و الوجه المتقدّم أرجح.

قوله تعالى: ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال الراغب: الفجر شقّ الشي‏ء شقّاً واسعاً. قال: و الفجور شقّ ستر الديانة يقال: فجر فجوراً فهو فاجر و جمعه فجّار و فجرة. انتهى، و أمام ظرف مكان أستعير لمستقبل الزمان، و المراد من فجوره أمامه فجوره مدى عمره و ما دام حيّاً، و ضمير( أَمامَهُ ) للإنسان.

و قوله:( لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) تعليل سادّ مسدّ معلّله و هو التكذيب بالبعث و الإحياء بعد الموت، و( بَلْ ) إضراب عن حسبانه عدم البعث و الإحياء بعد الموت.

و المعنى: أنّه لا يحسب أن لن نجمع عظامه بل يريد أن يكذّب بالبعث ليفجر مدى عمره إذ لا موجب للإيمان و التقوى لو لم يكن هناك بعث للحساب و الجزاء.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم وجوه اُخر ذكروها في معنى الآية بعيدة لا تلائم السياق أغمضنا عن ذكرها.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه زيادة التوبيخ و المبالغة في التقريع، و قد كرّر ذلك في الآية و ما يتلوها من الآيات أربع مرّات.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ) الظاهر أنّه بيان لقوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) فيفيد التعليل و أنّ السائل في مقام التكذيب و السؤال سؤال تكذيب إذ من الواجب على من دعي إلى الإيمان و التقوى، و اُنذر بهذا النبإ العظيم مع دلالة الآيات البيّنة و قيام الحجج القاطعة أن يتّخذ حذره و يتجهّز بالإيمان و التقوى و يتهيّأ للقاء اليوم قريباً كان أو بعيداً فكلّ ما هو آت قريب لا أن يسأل متى تقوم الساعة؟ و أيّان يوم القيامة؟ فليس إلّا سؤال مكذّب مستهزئ.

قوله تعالى: ( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ ) ذكر

١٩٠

جملة من أشراط الساعة، و بريق البصر تحيّره في إبصاره و دهشته، و خسوف القمر زوال نوره.

قوله تعالى: ( يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) أي أين موضع الفرار، و قوله:( أَيْنَ الْمَفَرُّ ) مع ظهور السلطنة الإلهيّة له و علمه بأن لا مفرّ و لا فرار يومئذ من باب ظهور ملكاته يومئذ فقد كان في الدنيا يسأل عن المفرّ إذا وقع في شدّة أو هدّدته مهلكة و ذلك كإنكارهم الشرك يومئذ و حلفهم كذباً قال تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23، و قال:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: 18.

قوله تعالى: ( كَلَّا لا وَزَرَ ) ردع عن طلبهم المفرّ، و الوزر الملجأ من جبل أو حصن أو غيرهما، و هو من كلامه تعالى لا من تمام كلام الإنسان.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ‏ ) و هو متعلّق بقوله:( الْمُسْتَقَرُّ ) يفيد الحصر فلا مستقرّ إلى غيره فلا وزر و لا ملجأ يلتجأ إليه فيمنع عنه.

و ذلك أنّ الإنسان سائر إليه تعالى كما قال:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الانشقاق: 6 و قال:( إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏ ) العلق: 8 و قال:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فهو ملاقي ربّه راجع و منته إليه لا حاجب يحجبه عنه و لا مانع يمنعه منه و أمّا الحجاب الّذي يشير إليه قوله:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15 فسياق الآيتين يعطي أنّ المراد به حجاب الحرمان من الكرامة لا حجاب الجهل أو الغيبة.

و يمكن أن يكون المراد بكون مستقرّه إليه رجوع أمر ما يستقرّ فيه من سعادة أو شقاوة و جنّة أو نار إلى مشيّته تعالى فمن شاء جعله في الجنّة و هم المتّقون و من شاء جعله في النار و هم المجرمون قال تعالى:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ) المائدة: 40.

١٩١

و يمكن أن يراد به أنّ استقرارهم يومئذ إلى حكمه تعالى فهو النافذ فيهم لا غير قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88.

قوله تعالى: ( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ ) المراد بما قدّم و أخّر ما عمله من حسنة أو سيّئة في أوّل عمره و آخره أو ما قدّمه على موته من حسنة أو سيّئة و ما أخّر من سنّة حسنة سنّها أو سنّة سيّئة فيثاب بالحسنات و يعاقب على السيّئات.

و قيل: المراد بما قدّم ما عمله من حسنة أو سيّئة فيثاب على الأوّل و يعاقب على الثاني، و بما أخّر ما تركه من حسنة أو سيّئة فيعاقب على الأوّل و يثاب على الثاني، و قيل، المراد ما قدّم من المعاصي و ما أخّر من الطاعات، و قيل، ما قدّم من طاعة الله و أخّر من حقّه فضيّعه، و قيل: ما قدّم من ماله لنفسه و ما ترك لورثته و هي وجوه ضعيفة بعيدة عن الفهم.

قوله تعالى: ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) إضراب عن قوله،( يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ‏ ) إلخ، و البصيرة رؤية القلب و الإدراك الباطنيّ و إطلاقها على الإنسان من باب زيد عدل أو التقدير الإنسان ذو بصيرة على نفسه.

و قيل: المراد بالبصيرة الحجّة كما في قوله تعالى،( ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) إسراء: 102 و الإنسان نفسه حجّة على نفسه يومئذ حيث يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده و يشهد عليه سمعه و بصره و جلده و يتكلّم يداه و رجلاه، قال تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) إسراء: 36، و قال( شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ ) حم السجدة: 20. و قال،( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) يس: 65.

و قوله:( وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) المعاذير جمع معذرة و هي ذكر موانع تقطع عن الفعل المطلوب، و المعنى هو ذو بصيرة على نفسه و لو جادل عن نفسه و اعتذر بالمعاذير لصرف العذاب عنها.

١٩٢

و قيل: المعاذير جمع معذار و هو الستر، و المعنى و إن أرخى الستور ليخفي ما عمل فإنّ نفسه شاهدة عليه و مآل الوجهين واحد.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) قال: نفس آدم الّتي عصت فلامها الله عزّوجلّ.

أقول: و في انطباقها على الآية خفاء.

و فيه، في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) قال: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة و يقول: سوف أتوب.

و فيه، في قوله:( فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ) قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف.

و فيه، في قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) قال: يعلم ما صنع و إن اعتذر.

و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: إنّي لأتعشّى مع أبي عبداللهعليه‌السلام و تلا هذه الآية( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ‏ ) ، ثمّ قال: يا أبا حفص ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس بخلاف ما يعلم الله منه؟ إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول: من أسرّ سريرة ألبسه الله رداها إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما يصنع أحدكم أن يظهر حسناً و يستر سيّئاً؟ أ ليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و الله سبحانه يقول:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية.

أقول: و رواه في اُصول الكافي، بإسناده عن فضل أبي العبّاس عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن العيّاشيّ عن زرارة قال، سألت أباعبداللهعليه‌السلام ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال،( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) هو أعلم بما يطيق.

أقول: و رواه في الفقيه، أيضاً.

١٩٣

( سورة القيامة الآيات 16 - 40)

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ( 16 ) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ( 17 ) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ( 18 ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( 19 ) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ( 20 ) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ( 21 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ( 22 ) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ( 23 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ( 24 ) تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ( 25 ) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ( 26 ) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ ( 27 ) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 28 ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ( 29 ) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ( 30 ) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ ( 31 ) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ( 32 ) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ ( 33 ) أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 34 ) ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ ( 35 ) أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ( 36 ) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ( 37 ) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ( 38 ) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 39 ) أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ ( 40 )

( بيان‏)

تتمّة صفة يوم القيامة باعتبار حال الناس فيه و انقسامهم إلى طائفة ناضرة الوجوه مبتهجين و اُخرى باسرة الوجوه عابسين آيسين من النجاة، و الإشارة إلى أنّ هذا

١٩٤

المساق تبتدئ من حين نزول الموت ثمّ الإشارة إلى أنّ الإنسان لا يترك سدىً فالّذي خلقه أوّلاً قادر على أن يحييه ثانياً و به تختتم السورة.

قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ - إلى قوله -ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات الأربع بما يحفّها من الآيات المتقدّمة و المتأخّرة الواصفة ليوم القيامة أنّها معترضة متضمّن أدباً إلهيّاً كلّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتأدّب به حينما يتلقّى ما يوحى إليه من القرآن الكريم فلا يبادر إلى قراءة ما لم يقرأ بعد و لا يحرّك به لسانه و ينصت حتّى يتمّ الوحي.

فالآيات الأربع في معنى قوله تعالى:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

فالكلام في هذه الآيات يجري مجرى قول المتكلّم منّا أثناء حديثه لمخاطبه إذا بادر إلى تتميم بعض كلام المتكلّم باللفظة و اللفظتين قبل أن يلفظ بها المتكلم و ذلك يشغله عن التجرّد للإنصات فيقطع المتكلّم حديثه و يعترض و يقول لا تعجل بكلامي و أنصت لتفقه ما أقول لك ثمّ يمضي في حديثه.

فقوله:( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) الخطاب فيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الضميران للقرآن الّذي يوحى إليه أو للوحي، و المعنى لا تحرّك بالوحي لسانك لتأخذه عاجلاً فتسبقنا إلى قراءة ما لم نقرأ بعد فهو كما مرّ في معنى قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) طه: 114.

و قوله:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) القرآن ههنا مصدر كالفرقان و الرجحان، و الضميران للوحي، و المعنى لا تعجل به إذ علينا أن نجمع ما نوحيه إليك بضمّ بعض أجزائه إلى بعض و قراءته عليك فلا يفوتنا شي‏ء منه حتّى يحتاج إلى أن تسبقنا إلى قراءة ما لم نوحه بعد.

و قيل: المعنى إنّ علينا أن نجمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شي‏ء من معانيه و أن نثبت قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت و لا يخلو من بعد.

و قوله:( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي فإذا أتممنا قراءته عليك وحياً فاتّبع

١٩٥

قراءتنا له و اقرأ بعد تمامها.

و قيل: المراد باتّباع قرآنه اتّباعه ذهناً بالإنصات و التوجّه التامّ إليه و هو معنى لا بأس به.

و قيل: المراد فاتّبع في الأوامر و النواهي قرآنه، و قيل: المراد اتّباع قراءته بالتكرار حتّى يرسخ في الذهن و هما معنيان بعيدان.

و قوله:( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي علينا إيضاحه عليك بعد ما كان علينا جمعه و قرآنه فثمّ للتأخير الرتبيّ لأنّ البيان مترتّب على الجمع و القراءة رتبة.

و قيل، المعنى ثمّ إنّ علينا بيانه للناس بلسانك نحفظه في ذهنك عن التغيّر و الزوال حتّى تقرأه على الناس.

و قال بعضهم في معنى هذه الآيات إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرّك لسانه عند الوحي بما اُلقي إليه من القرآن مخافة أن ينساه فنهي عن ذلك بالآيات و اُمر بالإنصات حتّى يتمّ الوحي فضمير( لا تُحَرِّكْ بِهِ‏ ) للقرآن أو الوحي باعتبار ما قرأ عليه منه لا باعتبار ما لم يقرأ بعد.

و فيه أنّه لا يلائم سياق الآيات، تلك الملاءمة نظراً إلى ما فيها من النهي عن العجل و الأمر باتّباع قرآنه تعالى بعد ما قرأ، و كذا قوله،( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) فذلك كلّه أظهر فيما تقدّم منها في هذا المعنى.

و عن بعضهم في معنى هذه الآيات، الّذي اختاره أنّه لم يرد القرآن، و إنّما أراد قراءة العباد لكتبهم يوم القيامة يدلّ على ذلك ما قبله و ما بعده، و ليس فيه شي‏ء يدلّ على أنّه القرآن و لا شي‏ء من أحكام الدنيا.

و في ذلك تقريع و توبيخ له حين لا تنفعه العجلة يقول: لا تحرّك لسانك بما تقرأه من صحيفتك الّتي فيها أعمالك يعني اقرأ كتابك و لا تعجل فإنّ هذا الّذي هو على نفسه بصيرة إذا رأى سيّئاته ضجر و استعجل فيقال له توبيخاً: لا تعجل و تثبّت لتعلم الحجّة عليك فإنّا نجمعها لك فإذا جمعناه فاتّبع ما جمع عليك بالانقياد

١٩٦

لحكمه و الاستسلام للتبعة فيه فإنّه لا يمكنك إنكاره ثمّ إنّ علينا بيانه لو أنكرت. انتهى.

و يدفعه أنّ المعترضة لا تحتاج في تمام معناها إلى دلالة ممّا قبلها و ما بعدها عليه على أنّ مشاكلة قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) في سياقه لهذه الآيات تؤيّد مشاكلتها له في المعنى.

و عن بعضهم أنّ الآيات الأربع متّصلة بما تقدّم من حديث يوم القيامة، و خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بِهِ) ليوم القيامة، و المعنى لا تتفوّه بالسؤال عن وقت القيامة أصلاً و لو كنت غير مكذّب و لا مستهزئ( لِتَعْجَلَ بِهِ‏ ) أي بالعلم به( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) أي من الواجب في الحكمة أن نجمع من نجمعه فيه و نوحي شرح وصفه إليك في القرآن( فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) أي إذا قرأنا ما يتعلّق به فاتّبع ذلك بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) أي إظهار ذلك بالنفخ في الصور انتهى ملخّصاً و هو كما ترى.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ ) إنّ هذا النهي عن العجل بالقرآن يؤيّد ما ورد في الروايات أنّ للقرآن نزولاً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة غير نزوله تدريجاً.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) خطاب للناس و ليس من تعميم الخطاب السابق في شي‏ء لأنّ خطاب( لا تُحَرِّكْ‏ ) اعتراضيّ غير مرتبط بشي‏ء من طرفيه.

و قوله:( كَلَّا ) ردع عن قوله السابق:( يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) و قوله:( بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) - أي الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا -( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) أي تتركون الحياة الآخرة، و ما في الكلام من الإضراب إضراب عن حسبان عدم الإحياء بعد الموت نظير الإضراب في قوله:( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) .

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) وصف ليوم القيامة بانقسام الوجوه فيه إلى قسمين: ناضرة و باسرة، و نضرة الوجه و اللون و الشجر و نحوها و نضارتها

١٩٧

حسنها و بهجتها.

و المعنى: نظراً إلى ما يقابله من قوله:( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ ) إلخ وجوه يوم إذ تقوم القيامة حسنة متهلّلة ظاهرة المسرّة و البشاشة قال تعالى:( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) المطفّفين: 24، و قال:( وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الدهر: 11.

و قوله:( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) خبر بعد خبر لوجوه، و( إِلى‏ رَبِّها ) متعلّق بناظرة قدّم عليها لإفادة الحصر أو الأهمّيّة.

و المراد بالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسّيّ المتعلّق بالعين الجسمانيّة المادّيّة الّتي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقّه تعالى بل المراد النظر القلبيّ و رؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان و يدلّ عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمةعليهم‌السلام و قد أوردنا شطراً منها في ذيل تفسير قوله تعالى:( قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) الأعراف: 143، و قوله تعالى:( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) النجم: 11.

فهؤلاء قلوبهم متوجّهة إلى ربّهم لا يشغلهم عنه سبحانه شاغل من الأسباب لتقطّع الأسباب يومئذ، و لا يقفون موقفاً من مواقف اليوم و لا يقطعون مرحلة من مراحله إلّا و الرحمة الإلهيّة شاملة لهم( وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ) النمل: 89 و لا يشهدون مشهداً من مشاهد الجنّة و لا يتنعّمون بشي‏ء من نعيمها إلّا و هم يشاهدون ربّهم به لأنّهم لا ينظرون إلى شي‏ء و لا يرون شيئاً إلّا من حيث إنّه آية لله سبحانه و النظر إلى الآية من حيث إنّها آية و رؤيتها نظر إلى ذي الآية و رؤية له.

و من هنا يظهر الجواب عمّا اُورد على القول بأنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) على( ناظِرَةٌ ) يفيد الحصر و الاختصاص، أنّ من الضروريّ أنّهم ينظرون إلى غيره تعالى كنعم الجنّة.

و الجواب أنّهم لمّا لم يحجبوا عن ربّهم كان نظرهم إلى كلّ ما ينظرون إليه إنّما هو بما أنّه آية، و الآية بما أنّها آية لا تحجب ذا الآية و لا تحول بينه و بين

١٩٨

الناظر إليه فالنظر إلى الآية نظر إلى ذي الآية فهؤلاء لا ينظرون في الحقيقة إلّا إلى ربّهم.

و أمّا ما اُجيب به عنه أنّ تقديم( إِلى‏ رَبِّها ) لرعاية الفواصل و لو سلّم أنّه للاختصاص فالنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعدّ نظراً، و لو سلّم فالنظر إليه تعالى في بعض الأحوال لا في جميعها.

فلا يخلو من تكلّف التقييد من غير مقيّد على أنّه أسند النظر إلى الوجوه لا إلى العيون أو الأبصار و وجوه أهل الجنّة إلى ربّهم دائماً من غير أن يواجهوا بها غيره.

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ ) فسّر البسور بشدّة العبوس و الظنّ بالعلم و( فاقِرَةٌ ) صفة محذوفة الموصوف أي فعله فاقرة، و الفاقرة من فقره إذا أصاب فقار ظهره، و قيل: من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

و المعنى: و وجوه يومئذ شديدة العبوس تعلم أنّه يفعل بها فعلة تقصم ظهورها أو تسم اُنوفها بالنار، و احتمل أن يكون تظنّ خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع و الظنّ بمعناه المعروف.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) ردع عن حبّهم العاجلة و إيثارها على الآخرة كأنّه قيل: ارتدعوا عن ذلك فليس يدوم عليكم و سينزل عليكم الموت فتساقون إلى ربّكم و فاعل( بَلَغَتِ ) محذوف يدلّ عليه السياق كما في قوله تعالى:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) الواقعة: 83 و التقدير إذا بلغت النفس التراقي.

و التراقي العظام المكتنفة للنحر عن يمين و شمال جمع ترقوة، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) اسم فاعل من الرقى أي قال من حضره من أهله و أصدقائه من يرقيه و يشفيه؟ كلمة يأس، و قيل: المعنى قال بعض الملائكة لبعض: من يرقى بروحه من الملائكة أ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب.؟

قوله تعالى: ( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أي و علم الإنسان المحتضر من مشاهدة هذه

١٩٩

الأحوال أنّه مفارقته للعاجلة الّتي كان يحبّها و يؤثرها على الآخرة.

قوله تعالى: ( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) ظاهره أنّ المراد به التفاف ساق المحتضر بساقه ببطلان الحياة السارية في أطراف البدن عند بلوغ الروح التراقي.

و قيل: المراد به التفاف شدّة أمر الآخرة بأمر الدنيا، و قيل: التفاف حال الموت بحال الحياة، و قيل: التفاف ساق الدنيا و هي شدّة كرب الموت بساق الآخرة و هي شدّة هول المطّلع.

و لا دليل من جهة اللفظ على شي‏ء من هذه المعاني نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد بالتفاف الساق بالساق غشيان الشدائد و تعاقبها عليه واحدة بعد اُخرى من حينه ذلك إلى يوم القيامة فينطبق على كلّ من المعاني.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) المساق مصدر ميميّ بمعنى السوق، و المراد بكون السوق يومئذ إليه تعالى أنّه الرجوع إليه، و عبّر بالمساق للإشارة إلى أن لا خيرة للإنسان في هذا المسير و لا مناص له عنه فهو مسوق مسيّر من يوم موته و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) حتّى يرد على ربّه يوم القيامة و هو قوله:( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ) و لو كان تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر أفاد انحصار الغاية في الرجوع إليه تعالى.

و قيل: الكلام على تقدير مضاف و تقديم( إِلى‏ رَبِّكَ ) لإفادة الحصر و التقدير إلى حكم ربّك يومئذ المساق أي يساق ليحكم الله و يقضي فيه بحكمه، أو التقدير إلى موعد ربّك و هو الجنّة و النار، و قيل: المراد برجوع المساق إليه تعالى أنّه تعالى هو السائق لا غير، و الوجه ما تقدّم.

قوله تعالى: ( فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى‏ أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ) الضمائر راجعة إلى الإنسان المذكور في قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ ) إلخ، و المراد بالتصديق المنفيّ تصديق الدعوة الحقّة الّتي يتضمّنها القرآن الكريم، و بالتصلية المنفيّة التوجّه العباديّ إليه تعالى بالصلاة الّتي هي عمود الدين.

و التمطّي - على ما في المجمع - تمدّد البدن من الكسل و أصله أن يلوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381