ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب0%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

ارشاد القلوب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381
المشاهدات: 84190
تحميل: 18566


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84190 / تحميل: 18566
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء 1

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وقالعليه‌السلام :من كفّ لسانه ستر الله عوراته (١) ، ومَن ملك غضبه وقاه الله عذابه ، ومَن اعتذر إلى الله قبل عذره .

وقال أعرابي : يا رسول الله دلّني على عمل أنجو به ، فقال :أطعم الجائع ، وارو العطشان ، وأمر بالمعروف وإنّه عن المنكر ، فإن لم تطق فكفّ لسانك فإنّك بذلك تغلب الشيطان (٢) .

وقال :إنّ الله عند لسان كل قائل ، فليتق الله امرء وليعلم ما يقول (٣) .

وقال :إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة (٤) .

وقال عيسى بن مريمعليه‌السلام :العبادة عشرة أجزاء ، تسعة منها في الصمت وجزء واحد في الفرار من الناس (٥) .

وفي حكمة آل داود : على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه ، حافظاً للسانه ، مقبلاً على شأنه(٦) ، مستوحشاً من أوثق إخوانه ، ومَن أكثر ذكر الموت رضي باليسير ، وهان عليه من الأمور الكثير ، ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ من خير .

واعلم أنّ أحسن الأحوال أن تحفظ لسانك من الغيبة والنميمة ولغو القول ، وتشغل لسانك بذكر الله تعالى أو في تعلّم علم(٧) فإنّه من ذكر الله ، فإنّ العمر متجر عظيم كلّ نَفَس منه جوهرة ، فإذا ترك الذكر وشغل لسانه باللغو كان كمن رأى درّة فأراد أن يأخذها فأخذ عوضها مدرة ؛ لأنّ الإنسان إذا عاين ملك الموت لقبض(٨)

____________

(١) في ( ب ) : عورته .

(٢) مجموعة ورام ١ : ١٠٥ .

(٣) مجموعة ورام ١ : ١٠٥ .

(٤) مجموعة ورام ١ : ١٠٦ .

(٥) مجموعة ورام ١ : ١٠٦ .

(٦) إلى هنا في الكافي ٢ : ١١٦ ح٢٠ ، مجموعة ورام ١ : ١٠٦ .

(٧) في ( ب ) : او في علم تعلّمه .

(٨) في ( ب ) : ليقبض .

٢٠١

روحه فلو طلب منه المفاداة(١) على أن يتركه ساعة أو نفساً واحداً يقول فيه : ( لا إله إلاّ الله ) بملك الدنيا لم يقبل منه .

وكم يضيّع الإنسان من ساعة في لا شيء ، بل ساعات وأيام ، فهذا هو الغبن العظيم ، وإنّ المؤمن هو الذي يكون نطقه ذكراً ، وصمته فكراً ، ونظره اعتباراً .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر :ألا أُعلّمك عملاً ثقيلاً في الميزان خفيفاً على اللسان ؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال :الصمت ، وحسن الخلق ، وترك ما لا يعنيك (٢) .

وروي أنّ لقمان رأى داود يعمل الزرد ، فأراد أن يسأله ثم سكت ، فلمّا لبسها داودعليه‌السلام عرف لقمان حالها بغير سؤال(٣) .

وقال : مَن كثر كلامه كثر سقطه ، ومَن كثر سقطه كثر لغوه ، ومَن كثر لغوه كثر كذبه ، ومَن كثر كذبه كثرت ذنوبه ، ومَن كثرت ذنوبه فالنار أولى به ، ولقد حجب الله اللسان بأربع مصاريع لكثرة ضرره ، الشفتان مصرعان ، والأسنان مصرعان .

وقال بعض العلماء : إنّما خلق للإنسان لسان واحد وأُذنان وعينان ، ليسمع ويبصر أكثر مما يقول وروي أنّ الصمت مثراة(٤) الحكمة .

____________

(١) في ( ج ) : التأخير .

(٢) مجموعة ورام ١ : ١٠٧ .

(٣) مجموعة ورام ١ : ١٠٨ .

(٤) في ( ج ) : مرآة .

٢٠٢

الباب التاسع والعشرون : في الخوف من الله تعالى

روي أنّ إبراهيمعليه‌السلام [كان](١) يسمع منه في صلاته أزير كأزير المرجل من خوف الله تعالى في صدره ، وكان سيّدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك(٢) وكان أمير المؤمنينعليه‌السلام إذا قال :( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) يتغيّر وجهه ، ويصفرّ لونه ، فيعرف ذلك في وجهه من خيفة الله تعالى .

وأعتق ألف عبد من كدّ يمينه ، وكان يغرس النخل ويبيعها ويشتري بثمنها العبيد ويعتقهم ، ويعطيهم مع ذلك ما يغنيهم عن الناس ، وأخبره بعض عبيده أنّه قد نبع في بستانه عين ، ينبع الماء منها مثل عنق البعير ، فقال :بشر الوارث ، بشر الوارث ، ثم أحضر شهوداً فأشهدهم أنّه أوقفها في سبيل الله حتّى يرث الله الأرض ومَن عليها ، وقال :إنّما فعلت ذلك ليصرف الله عن وجهي النار .

____________

(١) أثبتناه من ( ج ) .

(٢) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٣٢ ح ١٢٨٣٤ .

٢٠٣

وأعطى معاوية للحسنعليه‌السلام فيها مائتي ألف دينار ، فقال :ما كنت أبيع شيئاً أوقفه أبي في سبيل الله ، وما عرض له أمران إلاّ عمل بأشدّهما طاعة ، وكان إذا سجد سجدة الشكر غشي عليه من خيفة (١) الله تعالى .

وكانت فاطمةعليها‌السلام تنهج في صلاتها من خوف الله تعالى ، وكان علي بن الحسينعليه‌السلام يتغيّر وجهه في صلاته من خوف الله تعالى .

وقال لقمان لابنه : يا بني خف الله خوفاً لو أتيته بعمل الثقلين خفت أن يعذّبك ، وارجه رجاء لو أتيته بذنوب الثقلين رجوت أن يغفر لك(٢) .

وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام :يا ابن آدم انّك لا تزال بخير ما دام (٣) لك واعظاً من نفسك ، وما كان الخوف شعارك ، والحزن دثارك ، يا ابن آدم انّك ميّت ومحاسب فاعد الجواب .

وأوحى الله إلى موسى بن عمرانعليه‌السلام :خفني في سر أمرك (٤) احفظك في عوراتك ، واذكرني في سرائرك وخلواتك وعند سرور لذّاتك أذكرك عند غفلاتك ، واملك غضبك عمّن ملّكتك أمره أكفّ غضبي عنك ، واكتم مكنون سرّي ، وأظهر في علانيتك المداراة عنّي لعدوّك وعدوّي (٥) .

وقال الصادقعليه‌السلام :ما الدنيا عندي إلاّ بمنزلة الميتة ، إذا اضطررت إليها أكلت منها ، يا حفص إنّ الله تعالى علم ما العباد عاملون ، وإلى ما هم صائرون ، فحلم عنهم عند أعمالهم السيّئة بعلمه السابق فيهم ، وإنّما يعجّل مَن يخاف الفوت ، فلا يغرّنّك من الله تأخير العقوبة ، ثمّ تلا قوله تعالى :( تلك الدار الآخرة نجعلها

____________

(١) في ( ج ) : خشية .

(٢) البحار ٧٠ : ٣٨٤ ح ٤٠ ، عن أمالي الصدوق .

(٣) في ( ج ) : كان .

(٤) في ( ب ) و ( ج ) : سرائرك .

(٥) أمالي الصدوق : ٢١٠ ح ٦ مجلس :٤٤ ، عنه البحار ١٣ : ٣٢٨ ح٦ .

٢٠٤

للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) (١) وجعل يبكي ويقول :ذهبت الأماني عند هذه الآية .

ثم قال : فاز والله الأبرار وخسر الأشرار ، أتدري من الأبرار ؟! هم الذين خافوه واتقوه وتقرّبوا إليه بالأعمال الصالحة ، وخشوه في سرائرهم وعلانيتهم ، كفى بخشية الله علماً وكفى بالإغترار به جهلاً .

يا حفص إنّ الله يغفر للجاهلين سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً ، يا حفص من تعلّم وعمل كتب في الملكوت عظيماً ، إنّ أعلم الناس بالله أخوفهم منه ، وأخشاهم له ، وأزهدهم في الدنيا ، فقال له رجل : يا ابن رسول الله أوصني ، فقال : اتق الله حيث كنت فانّك لا تستوحش(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم قاعداً إذ نزل عليه جبرئيلعليه‌السلام كئيباً حزيناً ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أخي جبرئيل ما لي أراك كئيباً حزيناً ؟

فقال : كيف لا أكون كذلك وقد وضعت منافيخ جهنّم اليوم ، قال : وما منافيخ جهنّم ؟ فقال : إنّ الله أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ، ثم أوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت ، ثم أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت ، فهي سوداء مظلمة ، ظلمات بعضها فوق بعض فلو أنّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الجبال لذابت من حرّها ، ولو أنّ قطرة من الزقوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكى جبرئيل ، فأوحى الله إليهما : قد أمنتكما من أن تذنبا ذنباً تستحقان به النار ، ولكن هكذا كونا(٣) .

____________

(١) القصص : ٨٣ .

(٢) تفسير القمّي ٢ : ١٤٦ ، عنه البحار ٧٨ : ١٩٣ ح٧ .

(٣) عنه معالم الزلفى : ٣٣٧ ، وانظر روضة الواعظين : ٥٠٦ و٥٠٨ ، وفي البحار ٨ : ٢٨٠ ح ١ ، عن تفسير القمّي .

٢٠٥

وما جاء من الخوف والخشية في القرآن فكثير ، مثل قوله تعالى :( وخافون إن كنتم مؤمنين ) (١) .

وقال :( وإيّاي فارهبون ) (٢) .

وقال في مدح قوم :( يخافون ربّهم من فوقهم ) (٣) .

وقال :( ولمَن خاف مقام ربّه جنتان ) (٤) .

وقال :( وأمّا مَن خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى * فإنّ الجنّة هي المأوى ) (٥) .

وقال :( إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ) (٦) .

فالخشية ثمرة العلم ولا علم لمَن لا خشية له ، والخوف(٧) سراج النفس به يُهدى من ظلمتها ، وليس الخوف من يبكي ويمسح الدموع إنّما ذلك خوف كاذب ، وإنّما الخائف الذي يترك الذنب(٨) الذي يُعذّب عليه .

ولو خاف الرجل النار كما يخاف الفقر لأمن منها ، وإنّ المؤمن لا يطمئنّ قلبه ، ولا تسكن روعته حتّى يترك جسر جهنّم وراءه ويستقبل باب الجنّة ، ولا يسكن الخوف اليوم إلاّ قلب مَن يأمن غداً ، وكذلك قال الله تعالى :( وعزّتي وجلالي لا أجمع لعبدي بين خوفين وأمنين ، إذا خافني في الدنيا أمنته في الآخرة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة ) (٩) .

____________

(١) آل عمران : ١٧٥ .

(٢) البقرة : ٤٠ .

(٣) النحل : ٥٠ .

(٤) الرحمن : ٤٦ .

(٥) النازعات : ٤٠ـ٤١ .

(٦) فاطر : ٢٨ .

(٧) في ( ج ) : الخشية .

(٨) في ( ج ) : الأمر .

(٩) الخصال : ٧٩ ح ١٢٧ باب ٢ ، عنه البحار ٧٠ : ٣٧٩ ح ٢٨ .

٢٠٦

والخوف توقّع العقوبة في كل ساعة ، وما فارق الخوف إلاّ قلباً خراباً ، ودوام المراقبة لله تعالى في السر والعلانية يهيّج الخوف في القلب ، ومن علاماته قصر الأمل وشدّة العمل والورع .

وقال رجل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قول الله تعالى :( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) (١) ، يعني بذلك الرجل الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو خائف ؟ قال :لا ولكن الرجل الذي يصلّي ويصوم ويتصدّق وهو مع ذلك يخاف ألاّ يقبل منه .

ومتى سكن الخوف في القلب أحرق منه موضع الشهوات ، وطرد عنه رغبة الدنيا ، وأظهر آثار الحزن على الوجه .

____________

(١) المؤمنون : ٦٠ .

٢٠٧

الباب الثلاثون : في الرجاء لله تعالى

عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه فليقطع رجاءه من الناس وليصله به ، فإذا علم ذلك منه لم يسأله شيئاً إلاّ أعطاه (١) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :قال جبرئيل : قال الله تعالى : عبدي إذا عرفتني وعبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك ، ولو استقبلتني بملئ الأرض خطايا وذنوباً استقبلتك بملئها مغفرة وعفواً ، وأغفر لك ولا أُبالي .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يقول الله عزّ وجل : أخرجوا من النار مَن كان في قلبه مقدار حبّة ايماناً ، ثم يقول : وعزّتي وجلالي لا أجعل مَن آمن بي ساعة من ليل أو نهار مع مَن لم يؤمن بي .

وحقيقة الرجاء انبساط الأمل في رحمة الله تعالى وحسن الظنّ به ، واعلم أنّ

____________

(١) أمالي المفيد : ٢٠٣ مجلس : ٣٩ ، عنه البحار ٩٣ : ٣٥٥ ح٤ باختلاف قليل .

٢٠٨

علامة الراجي حسن الطاعة ؛ لأنّ الرجاء ثلاث مراتب : رجل عمل الحسنة فيرجو قبولها ، ورجل عمل السيّئة فيرجو غفرانها ، ورجل كذّاب مغرور يعمل المعاصي ويتمنّى المغفرة مع الإصرار والتهاون بالذنوب .

وقال رجل للصادقعليه‌السلام : إنّ قوماً من شيعتكم يعملون بالمعاصي ويقولون نرجو ، فقال :كذبوا ليسوا من شيعتنا ، كل مَن رجا شيئاً عمل له ، فو الله ما شيعتنا منكم إلاّ مَن اتقى الله (١) .

وقال :إنّ قوماً استقبلوا عليّاً عليه‌السلام فسلّموا عليه وقالوا : نحن شيعتكم يا أمير المؤمنين ، قال : فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة ؟! قالوا : وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين ؟ فقال : صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، خمص البطون من الطوى ، ذبل الشفاه من الدعاء ، حدب الظهور من القيام ، عليهم غبرة الخاشعين (٢) .

وقال رجل : يا ابن رسول الله إنّي ألمّ بالمعاصي وأرجو العفو مع ذلك ، فقال له :يا هذا اتق الله ، واعمل بطاعته ، وارج مع ذلك القبول ، فإنّ أحسن الناس بالله ظنّاً وأعظمهم رجاءً أعملهم بطاعته .

ولقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنينعليه‌السلام أحسن الناس بالله ظنّاً ، وأبسطهم له وجهاً ، وكانا أعظم الناس منه خوفاً ، وأشدّهم له هيبة ومنه رهبة صلّى الله عليهما ، وكذلك سائر الأنبياءعليهم‌السلام ، لم يكن في زمان كل واحد منهم أحد أحسن منه رجاءً ، ولا أشد منه خوفاً .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأصحابه :إن استطعتم أن يشتد من الله خوفكم ويحسن ظنّكم به فأجمعوا بينهما ، فإنّما يكون حسن ظنّ العبد بربّه على قدر

____________

(١) الكافي ٢ : ٦٨ ح ٦ ، عنه البحار ٧٠ : ٣٥٧ ح ٤ .

(٢) أمالي الطوسي : ٢١٦ ح ٢٧ مجلس : ٨ ، عنه البحار ٧٧ : ٤٠٤ ح ٣٠ .

٢٠٩

خوفه منه ، وإنّ أحسن الناس بالله ظنّاً أشدّهم منه خوفاً ، فدعوا الأماني منكم ، وجدّوا واجتهدوا وأدّوا إلى الله حقّه وإلى خلقه ، فما مع أحد براءة من النار ، وليس لأحد على الله حجّة ، ولا بين أحد وبين الله قرابة (١) .

فما ضرب الله تعالى مثل آدم في أنّه عصى بأكل حبة إلاّ عبرة لكم وتذكرة ، ولقد كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول في تسبيحه :( سبحان مَن جعل خطيئة آدم عبرة لأولاده ) ، أراد بها أنّ أباكم آدم الذي هو أصلكم قد اصطفاه وجعله أبا الأنبياء سمّاه عاصياً ، وأهبطه من الجنّة إلى الأرض ، وطفق هو وأُمّكم حوّاء يخصفان عليهما من ورق الجنّة لأجل أكل حبّة واحدة ، فكيف بكم وأنتم تأكلون البيادر كلها ؟! هذا هو الطمع العظيم في جنب الله تعالى .

وينبغي أن يكون الرجاء والخوف كجناحي طائر في قلب المؤمن ، إذا استويا حصل الطيران ، وإذا حصل أحدهما دون الآخر فقد انكسر أحد الجناحين ، وحصل النقص في القلب وفي العمل .

وينبغي للعبد أن يبسط رجاءه في الله تعالى ، ويحدث في نفسه أنّه يعاين من عفوه ورحمته وكرمه عند لقائه ما لم يكن في حسابه ، ولا شك أنّ العاقل يرى نفسه مقصّراً وليس له وثوق بقبول عمله ، فلا يعتمد إلاّ على حسن الظنّ بالله والرجاء لعفوه وحلمه وكرمه ، والرغبة إليه والتضرّع بين يديه والابتهال ، كما قالعليه‌السلام :

( إلهي ذنوبي تخوّفني منك ، وجودك يبشّرني عنك ، فأخرجني بالخوف من الخطايا ، وأوصلني بجودك إلى العطايا حتّى أكون غداً في القيامة عتيق كرمك ، كما كنت في الدنيا ربيب نعمتك ، وليس ما تبذله غداً من النجاة بأعظم ممّا قد منحته من الرجاء ، ومتى خاب مَن في فنائك آمل ، أم متى انصرف بالردّ عنك سائل ؟! إلهي ما

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٠ ح ١٢٩٠٣ .

٢١٠

دعاك من لم تجبه ، لأنّك قلت : ( ادعوني استجب لكم ) وأنت لا تخلف الميعاد ، فصلّ على محمد وآل محمد ، واستجب دعائي ، ولا تقطع رجائي يا أرحم الراحمين ) (١) .

وروي أنّ سبب نزول قوله تعالى :( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٢) ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يضحكون ، فقال :أتضحكون ؟! فلو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم طويلاً ، فنزل جبرئيلعليه‌السلام وقال :يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول لك : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

قالت أُمّ سلمة : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :إنّ الله تعالى ليعجب من أياس العبد من رحمته ، وقنوطه من عفوه مع عظم سعة رحمته .

وروي أنّ علي بن الحسينعليه‌السلام مرّ بالزهري وهو يضحك وقد خولط ، فقال :ما باله ؟ فقالوا : هذا لحقه من قتل النفس ، فقال :والله لقنوطه من رحمة الله أشد عليه من قتله .

وينبغي أن يعتمد العبد على حسن الظنّ بالله تعالى فإنّه وسيلة عظيمة ، فإنّ الله تعالى يقول : أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن ورأى بعضهم في المنام صاحباً له على أحسن الحال ، فقال : بأيّ شيء نلت هذا ؟ فقال : بحسن ظنّي بربّي ، وما ينال أحد خير الدنيا والآخرة إلا بحسن الظنّ بالله تعالى .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :الثقة بالله وحسن الظنّ به حصن لا يتحصّن به إلاّ كل مؤمن ، والتوكّل عليه نجاة من كل سوء ، وحرز من كل عدوّ (٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام :والله ما أُعطي المؤمن خير الدنيا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه بالله ورجائه له ، وحسن خلقه ، والكف عن أعراض الناس ، فإنّ الله تعالى لا يُعذّب عبداً بعد التوبة والاستغفار إلاّ بسوء ظنّه وتقصيره في رجائه ،

____________

(١) راجع البحار ٩٤ : ١١٢ ح ١٦ .

(٢) الحجر : ٤٩ .

(٣) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٠ ح ١٢٩٠٢ ، وأورده الديلمي في أعلام الدين : ٤٥٥ .

٢١١

وسوء خلقه واغتيابه للمؤمنين .

وليس يحسن ظنُّ عبد بربّه إلاّ كان عند ظنّه به(١) ؛ لأنّ الله تعالى كريم يستحي أن يخلف ظنَّ عبدِه بِه ورجاءه له ، فأحسنوا الظنّ بالله وارغبوا فيما عند الله ، فإنّه سبحانه يقول للظانّين بالله ظنّ السوء :( عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً ) (٢) (٣) .

ورأى بعضهم صاحباً له في المنام فقال له : ما فُعل بك ؟ قال : غفر لي ومحى ذنوبي كلها بحسن ظنّي به .

وروي أنّ الله سبحانه يقول :أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن بي ، فلا يظنّ بي إلاّ خيراً (٤) .

وكان بعضهم كثيراً يسأل العصمة ، فرأى في منامه : كلّكم يسألني العصمة ، فإذا عصمتكم جميعاً من الذنوب لمن تشمل وتعمّ رحمتي ؟! .

وأوحى الله إلى داودعليه‌السلام :قل لعبادي : لم أخلقكم لأربح عليكم ، ولكن لتربحوا عليّ صدق الله العظيم ، ودليل ذلك أنّه جعل الحسنة بعشر ، وزاد لمن يشاء بسبعمائة ضعف لقوله :( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبّة ) (٥) .

وجعل السيئة سيئة واحدة ، والاهتمام بالحسنة حسنة وإن لم يفعلها ، ولا شيء في الاهتمام بالسيئة إن لم يفعلها ، وجعل التوبة من الذنب حسنة ، وإنّه تعالى يحب التوابين ، فدلّ ذلك على أنّه خلقنا ليربّحنا عليه في معاملته .

____________

(١) في ( ج ) : عند ظن عبده .

(٢) الفتح : ٦ .

(٣) راجع عدّة الداعي : ١٤٧ ، عنه البحار ٧٠ : ٣٩٩ ح ٧٢ .

(٤) راجع البحار ٩٣ : ٣٠٥ ح ١ .

(٥) البقرة : ٢٦١ .

٢١٢

وروي عن الحسن العسكريعليه‌السلام أنّ أبا دلف تصدّق بنخلة تمر ، ثم أعطاه الله بكل تمرة منها قرية ، وكان فيها ثلاثة آلاف تمرة وستّون تمرة ، فأعطاه الله تعالى بها ثلاثة آلاف قرية وستون قرية .

وروي أنّ امرأة في زمان داودعليه‌السلام خرجت من دارها ومعها ثلاثة أرغفة وثلاثة أرطال شعيراً ، فسألها فقير فأعطته الثلاثة الأرغفة وقالت : أطحن الشعير وآكل منه ، وهو في شيء على رأسها ، فهبّت ريح عاصفة فأخذتها من رأسها ، فوحشت لذلك وضاق صدرها .

فأتت داودعليه‌السلام وشكت إليه ، فقال لها : امضي إلى ابني سليمان فاحكي له ذلك ، فمضت إليه فأعطاها ألف درهم ، فرجعت إلى داود فأخبرته ، فقال لها : ردّيها عليه وقولي له : ما أُريد إلاّ أن تخبرني لم أخذت الريح شعيري ؟ .

فقال لها سليمان : يا امرأة قد أعطيناك ألف درهم ، فقالت : ما آخذها ، فأعطاها ألف أُخرى ، فرجعت إلى داودعليه‌السلام فأخبرته ، فقال لها : رديها عليه وقولي : لم آخذ شيئاً بل اسأل الله يحضر لك الملك الموكل بالريح لم أخذ شعيري ، أعن إذن الله تعالى أم لا ؟ .

فسأل الله تعالى فأحضره وسأله عن شعيرها ، فقال : بإذن الله تعالى أخذناه ، فإنّ تاجراً كان معه مراكب كثيرة وقد نفذ زاده ، ونذر أنّه إن أكل من زاد أحد كان له ثلث أموال المراكب ، وقد أعطيناه الشعير فأكله ووجب عليه الوفاء بالنذر ، فأحضره سليمان وسأله فأقرّ بذلك وسأله إحضار صاحبة الشعير ، فقال التاجر للمرأة : قد حصل لك من ثلث المراكب بحقّك ثلاثمائة ألف دينار وستون ألف دينار ، وأقبضها المال .

فقال داودعليه‌السلام : يا بني مَن أراد المعاملة الرابحة فليعامل هذا الرب الكريم .

٢١٣

ومن هاهنا جاء الحديث :إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة ، [فسبحانه](١) ما أربح معاملته ، وما أنجح مرابحته .

____________

(١) أثبتناه من ( ب ) .

٢١٤

الباب الحادي والثلاثون : في الحياء من الله تعالى

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الحياء من الإيمان (١) .

وقال يوماً لأصحابه :استحيوا من الله حق الحياء ، قالوا : ما نصنع يا رسول الله ؟ قال :إن كنتم فاعلين فليحفظ أحدكم الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وليذكر الموت وطول البلى ، ومَن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا (٢) ، فمَن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء (٣) .

وروي أنّ جبرئيلعليه‌السلام نزل إلى آدم بالحياء والعقل والإيمان ، فقال : ربّك [يقرئك السلام و](٤) يقول لك :تخيّر من هذه الأخلاق واحداً ، فاختار العقل ، فقال جبرئيل للإيمان والحياء : ارحلا ، فقالا : أُمرنا أن لا نفارق العقل (٥) .

____________

(١) راجع البحار ٧١ : ٣٣٦ ح ١٩ .

(٢) في ( ب ) و ( ج ) : الحياة الدنيا .

(٣) روضة الواعظين : ٤٦٠ .

(٤) أثبتناه من ( ب ) .

(٥) راجع الكافي ١ : ١٠ ح٢ نحوه .

٢١٥

وقالعليه‌السلام :الحياء من الإيمان ، فمَن لا حياء له لا خير فيه ولا إيمان له .

وروي أن الله تعالى يقول :عبدي إنّك إذا استحيت منّي أنسيت الناس عيوبك ، وبقاع الأرض ذنوبك ، ومحوت من الكتاب زلاّتك ، ولا أناقشك الحساب يوم القيامة .

وروي أنّ الله تعالى يقول :عبدي إنّك إذا استحيت منّي وخفتني غفرت لك .

وروي أنّ رجلاً رأى رجلاً يصلّي على باب المسجد فقال : لم لا تصلّي فيه ؟ فقال : استحي منه أن أدخل بيته وقد عصيته .

ومن علامات المستحي أن لا يُرى في أمر استحى منه ، وأوحى الله إلى عيسىعليه‌السلام :فإن اتعظت وإلاّ فاستحي منّي أن تعظ الناس .

وعلامات السفهاء خمس :قلّة الحياء ، وجمود العين ، والرغبة في الدنيا ، وطول الأمل ، وقسوة القلب .

وقال الله تعالى في بعض كتبه :ما أنصفني عبدي ، يدعوني فاستحي منه أن أردّه ، ويعصيني ولا يستحي منّي .

ونهاية الحياء ذوبان القلب للعلم بأنّ الله مطّلع عليه ، وطول المراقبة لمَن لا يغيب عن نظره سرّاً وعلانية ، وإذا كان العبد حال عصيانه يعتقد أنّ الله تعالى يراه فإنّه قليل الحياء ، جاهل بقدرة الله ، وإن كان يعتقد أنّه لا يراه فإنّه كافر .

٢١٦

الباب الثاني والثلاثون : في الحزن وفضله

قال الله تعالى :( وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم ) (١) ، وما كان حزنه إلاّ عبادة الله تعالى لا جزعاً .

وروي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان دائم الفكر ، متواصل الحزن ، وإنّ الحزن من أوصاف الصالحين ، وإنّ الله يحب كل قلب حزين ، وإذا أحب الله قلباً نصب فيه نائحة من الحزن ، ولا يسكن الحزن إلاّ قلباً سليماً ، وقلب ليس فيه الحزن خراب ، ولو أنّ محزوناً كان في أُمة لرحم الله تلك الأمّة .

قال مصنّف الكتاب : ليس العجب من أن يكون الإنسان حزيناً ، بل العجب كيف يخلو من الحزن ساعة واحدة ، وكيف لا يكون كذلك وهو يصبح ويمسي على جناح سفر بعيد ، أوّل منازله الموت ، ومورده القبر ، مصدره القيامة ، وموقفه بين يدي الله تعالى .

أعظاؤه شهوده ، وجوارحه جنوده ، وضمائره عيونه ، وخلواته عيانه ، يمسي

____________

(١) يوسف : ٨٤ .

٢١٧

ويصبح بين نعمة يخاف زوالها ، ومنية(١) يخاف حلولها ، وبليّة لا يأمن نزولها ، مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، صريع بطنته ، وعبد شهوته ، وعريف زوجته ، ومتعب في كل أحواله حتّى في أوقات لذّته .

بين أعداء كثيرة : نفسه ، والشيطان ، والعمل(٢) ، والعائلة يطلبونه بالقوت ، وحاسد يحسده ، وجار يؤذيه ، وأهل يقطعونه ، وقرين سوء يريد حتفه ، والموت موجه إليه ، والعلل متقاطرة عليه .

ولقد جمع هذا كله مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله : عين الدهر تطرف بالمكاره والناس بين أجفانه ، والله لقد أفضح الدنيا نعيمها ولذّتها الموت ، وما ترك لعاقل فيها فرحاً ، ولا خلّى القيام بالحق للمؤمن في الدنيا صديقاً ولا أهلاً .

ولا يكاد مَن يريد رضى الله تعالى وموالاته يسلم إلاّ بفراق الناس ، ولزوم الوحدة والتفرّد منهم والبعد عنهم ، كما قال تعالى :( فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) (٣) ، أراد سبحانه بالفرار إليه اللجأ من الذنوب ، والانقطاع عن الخلق ، والاعتماد عليه في كل الأحوال ، وما يكاد يعرف الناس مَن يقاربهم ، والوحشة منهم تدل على المعرفة بهم .

وأوصى حكيم حكيماً فقال له : لا تتعرّف إلى مَن لا تعرف ، فقال له : يا أخي أنا أزيدك في ذلك : وأنكر مَن تعرف لأنّه لا يؤذي الشخص مَن لا يعرفه .

والمعرفة بين الرجلين خطر عظيم لوجوه ، منها قيام الحق بينهما ، وحفظ كل واحد منهما جانب صاحبه في مواساته(٤) ومؤازرته وعيادته في مرضه ، وحفظه في

____________

(١) في ( ج ) : ميتة .

(٢) في ( ج ) : الأمل .

(٣) الذاريات : ٥٠ .

(٤) في ( ب ) : مساواته .

٢١٨

غيبته برد غيبته ، ويحفظه(١) في أهله بأحسن حفظه وخلفه ونصيحته له بعظة(٢) وأن يريد له في كل أحواله كما يريد لنفسه .

وهذا ثقيل جسيم لا يكاد يقوم به إلاّ مَن أيّده الله بعصمته ، والله لو لا الغفلة والجهل ما التذّ عاقل بعيش ، ولا مهد فراشاً ، ولا توق طعاماً ، ولا طوى له ثوباً ، وكان لا يزال مستوفراً قلقاً مقلقاً متململاً كالأسير في يد مَن يذبحه ، وكذلك نحن مع ملك الموت في الدنيا كذئب الغنم ، وملك الموت قصّابها .

من المصنّف :

لا تنسوا الموت في غمٍّ ولا فرحٍ

فالأرض ذئب وعزرائيل قصّابُ

ومن عجب الدنيا أن يحثو المرء التراب على مَن يحب ، ويعلم أنّه عن قليل يُحثى عليه التراب كما حثاه على غيره وينسى ذلك ، وأعجب من ذلك انّه يضحك والله تعالى يقول :( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ) (٣) .

وروي أنّه كان في الكنز الذي حفظه الله تعالى للغلامين : عجب(٤) لمن أيقن بالموت كيف يفرح ويضحك ، وعجب(٥) لمن أيقن بالحساب كيف يذنب ، وعجب لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجب لمن عرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها ؟! وأعقل الناس وأفضلهم المحسن الخائف ، وأحمقهم وأجهلهم مسيء آمِن(٦) .

وقال المصنّف : كنت في شبيبتي إذا دعوت بالدعاء المقدّم على صلاة الليل ، ووصلت إلى قوله :( اللّهمّ إنّ ذكر الموت ، وهول المطلع ، والوقوف بين يديك نغّصني

____________

(١) في ( ج ) : يخلفه .

(٢) في ( ألف ) : بغبطته .

(٣) النجم : ٥٩ـ٦٠ .

(٤) في ( ج ) : عجبت .

(٥) في ( ج ) : عجبت .

(٦) مجمع البيان ، سورة الكهف ، عنه البحار ٧٠ : ١٥٢ .

٢١٩

مطعمي ومشربي ، وأغّصني (١) بريقي ، وأقلقني عن وسادي ، ومنعني رقادي ) (٢) ، أخجل حيث لا أجد هذا كله في نفسي ، فاستخرجت له وجهاً يخرجه عن الكذب ، فأضمرت في نفسي أنّي أكاد أن يحصل عندي ذلك .

فلمّا كبرت السن ، وضعفت القوّة ، وقربت سرعة(٣) النقلة إلى دار الوحشة والغربة ما بقي يندفع هذا عن الخاطر ، فصرت ربّما أرجو لا أُصبح إذا أمسيت ، ولا أُمسي إذا أصبحت ، ولا إذا مددت خطوة أن أتبعها أُخرى ، ولا أن يكون في فمي لقمة أسيغها ، فصرت أقول : ( إلهي إذا ذكرت الموت وهول المطلع ، والوقوف بين يديك نغّصني مطعمي ومشربي ، وأغصّني بريقي ، وأقلقني عن وسادي ، ومنعني رقادي ، ونغّص عليّ سهادي ، وابتزّني راحة فؤادي .

إلهي وسيّدي ومولاي مخافتك أورثتني طول الحزن ، ونحول الجسد ، وألزمتني عظيم الهمّ والغمّ ودوام الكمد ، واشغلتني عن الأهل والولد والمال والعبيد ، وتركتني مسكيناً غريباً وحيداً ، وإن كنت بفناء الأهل والولد ما أحس بدمعة ترقأ من آماقي ، وزفير يتردّد بين صدري والتراقي .

سيّدي فبرّد حزني ببرد عفوك ، ونفّس غمّي وهمّي ببسط رحمتك ومغفرتك ، فإنّي لا آمن إلاّ بالخوف منك ، ولا أعزّ إلاّ بالذلّ لك ، ولا أفوز إلاّ بالثقة بك والتوكّل عليك يا أرحم الراحمين وخير الغافرين ) .

____________

(١) قال في البحار : أغصّني بريقي من الغصّة بالضم ، وهي الشجى في الحلق ، وهي كناية عن كمال الخوف والاضطراب ، أي صيّرني بحيث لا أقدر على أن أبلع ريقي ، وقد وقف في حلقي .

(٢) راجع البحار ٨٧ : ٢٣٧ ح٤٧ .

(٣) في ( ب ) : ساعة .

٢٢٠