ارشاد القلوب الجزء ١

ارشاد القلوب15%

ارشاد القلوب مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
تصنيف: كتب الأخلاق
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
الصفحات: 381

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 381 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88249 / تحميل: 19613
الحجم الحجم الحجم
ارشاد القلوب

ارشاد القلوب الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار الأسوة للطباعة والنشر
ISBN: ( دوره ) ٢ ـ ٤٢ ـ ٨٠٧٣ ـ ٩٦٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الألبّاء (١) ، والخالصة النجباء ، وهم الروّاغون (٢) فراراً بدينهم ، إن شهدوا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفقدوا ، أولئك من شيعتي الأطيبين وإخواني الأكرمين ، ألا هاهٍ شوقاً إليهم (٣) .

وعن عليّعليه‌السلام قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا الشجرة وفاطمة فرعها وعليّ لقاحها والحسن والحسين ثمرتها ، وشيعتنا أغصانها ، فما من عبد أحبّنا أهل البيت وعمل بأعمالنا ، وحاسب نفسه قبل أن يحاسب إلاّ أدخله الله الجنّة (٤) .

وعن عليّعليه‌السلام انّه قال :يا نبيّ الله بيّنه لي لأهتدي بهداك لي ، فقال : يا عليّ من يهدي الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وانّه عزّ وجل هاديك ومعلّمك وحق لك أن تعي ، لقد أخذ الله ميثاقي وميثاقك وميثاق شيعتك وأهل مودّتك إلى يوم القيامة ، فهم شيعتي وذووا مودّتي وهم ذووا الألباب ، يا عليّ حق على الله أن ينزلهم في جنّاته ويسكنهم مساكن الملوك ، وحق لهم أن يطيبوا (٥) .

وبإسناده مرفوعاً إلى الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام أنّه سئل : أيّ الأعمال أفضل بعد المعرفة ؟ قال :ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة ، ولا بعد المعرفة والصلاة شيء يعدل الزكاة ، ولا بعد الزكاة شيء يعدل الحج ، وفاتحة ذلك كلّه معرفتنا وخاتمته معرفتنا ولا شيء بعد ذلك كبرّ الإخوان ، والمواساة ببذل الدينار والدرهم فإنّهما حجران ممسوخان ، بهما امتحن الله خلقه بعد الذي عدّدت لك ، وما رأيت شيئاً أسرع غنىً ولا أنفى

____________

(١) في ( ج ) : الأولياء .

(٢) قال في البحار : أي يميلون عن الناس ومخالطتهم .

(٣) أمالي الطوسي : ٥٧٦ ح٣ مجلس ٢٣ ، عنه البحار ٦٨ : ١٧٧ ح٣٤ .

(٤) أمالي الطوسي : ٦١١ ح١٢ مجلس ٢٨ ، عنه البحار ٦٨ : ٦٩ ح١٢٦ باختلاف .

(٥) أمالي الطوسي : ٦١٢ ح١ مجلس ٢٩ ، عنه البحار ٣٨ : ٣١٦ ضمن حديث ٢١ .

٢٨١

للفقر من إدمان حج هذا البيت ، وصلاة فريضة تعدل عند الله ألف حجّة وألف عمرة مبرورات متقبّلات ، ولحجّة عند الله خير من بيت مملوء ذهباً ، لا بل خير من ملئ الدنيا ذهباً وفضّة ينفق في سبيل الله عزّ وجل والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً لقضاء حاجة امرئ مسلم وتنفيس كربته أفضل عند الله من حجّة وطواف ، وحجّة وطواف وعمرة حتّى عدّ عشرة ، ثمّ رفع يده .

وقال :اتّقوا الله ولا تملّوا من الخير ولا تكسلوا فإنّ الله عزّ وجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غنيّان عنكم وعن أعمالكم وأنتم الفقراء إلى الله عزّ وجل ، وإنّما أراد الله عزّ وجل بلطفه سبباً يدخلكم الجنّة به (١) .

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :مصافحة المؤمن بألف حسنة (٢) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال :قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ لله عباداً من خلقه تفزع الناس إليهم في حوائجهم ، أولئك الآمنون من عذاب الله عزّ وجل (٣) .

وعنهعليه‌السلام ،عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أفضل الأعمال عند الله عزّ وجل إبراد الأكباد (٤) الحارّة ، وإشباع الأكباد الجائعة ، والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبيت شبعاناً وأخوه ـ أو قال : جاره ـ المسلم جائعاً (٥) .

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :مَن كسا مؤمناً كُسي ألف حلّة ، وقُضي له ألف حاجة ، وكتب الله له عبادة سنة ، وغفر له ذنوبه كلّها وإن كانت أكثر من نجوم السماء ، وأعطاه الله يوم القيامة ثواب ألف شهيد ، وزوّجه الله تعالى ألف

____________

(١) أمالي الطوسي : ٦٩٤ ح٢١ مجلس ٣٩ ، عنه البحار ٢٧ : ٢٠٢ ح٧١ .

(٢) مستدرك الوسائل ٩ : ٥٨ ح١٠٢٠٠ عن مشكاة الأنوار .

(٣) البحار ٧٤ : ٣١٨ ح٨١ عن دعوات الراوندي .

(٤) في ( ج ) : الأفئدة .

(٥) أمالي الطوسي : ٥٩٨ ح١٥ مجلس ٢٦ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٦٨ ح٥٨ .

٢٨٢

حوراء ، وكتب له براءة من النار وجواز على الصراط .

وعن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا تلاقيتم فتلاقوا بالتسليم والتصافح ، وإذا تفرّقتم فتفرّقوا بالاستغفار .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام :مَن مشى في حاجة أخيه المؤمن أظلّه الله عزّ وجل بخمسة وسبعين ألف ملك ، ولم يرفع قدماً إلاّ كتب له بها حسنة ، وحطّ بها عنه سيّئة ، ورفع له بها درجة ، فإذا فرغ من حاجته كتب الله له بها بكلّ ما قضاه له أجر حاجّ ومعتمر .

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام :مَن مشى في حاجة أخيه المؤمن كان أحبّ إلى الله من عتق ألف نسمة ، وحمل ألف فرس في سبيل الله مسرّجة ملجّمة .

وقالعليه‌السلام :مَن سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله ، كتب الله له ألف ألف حسنة يغفر فيها لأقاربه وجيرانه وإخوانه ومعارفه .

وقالعليه‌السلام :مَن أغاث (١) أخاه المؤمن اللهفان عند جهده فنفّس كربته وأعانه على نجاح حاجته ، كتب الله له بذلك اثنين وسبعين رحمة يعجّل الله له منها واحدة يصلح بها أمر معيشته ، ويدّخر له إحدى وسبعين رحمة لإفزاع يوم القيامة وأهواله .

وقالعليه‌السلام :أيّما مؤمن نفّس عن مؤمن كربته وهو معسر ، يسّر الله له حوائجه في الدنيا والآخرة (٢) .

وقالعليه‌السلام :مَن أشبع مؤمناً وجبت له الجنّة ، ومَن أشبع كافراً كان حقّاً على الله أن يملأ جوفه من الزقوم ، وإنّ إشباع (٣) رجل من المسلمين أحبّ إليّ

____________

(١) في ( ج ) : أعان .

(٢) الكافي ٢ : ٢٠٠ ح٥ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٢٢ ح٨٩ .

(٣) في ( ج ) : ولئن أشبع .

٢٨٣

من إطعام (١) أفقاً من الناس ، قلت : وما الأُفق ؟ قال : مائة ألف أو يزيدون (٢) .

وعن أبي جعفرعليه‌السلام قال :مَن أطعم ثلاثة نفر من المسلمين أطعمه الله عزّ وجل من ثلاث جنان في ملكوت السماوات : الفردوس ، وجنّة عدن ، وطوبى (٣) .

وقال عليّعليه‌السلام :ما من رجل يدخل بيته مؤمنان ويشبعهما إلاّ كان ذلك أفضل من عتق نسمة (٤) .

وعن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال :مَن أطعم مؤمناً من جوع أطعمه الله من ثمار الجنّة ، ومَن سقى مؤمناً من ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم (٥) .

وقال الصادقعليه‌السلام :مَن أطعم مؤمناً حتّى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ما له من الأجر في الآخرة ، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلاّ الله ربّ العالمين ، ثمّ قال :من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان ، قال تعالى : ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة ) (٦) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن سقى مؤمناً شربة ماء من حيث يقدر على الماء أعطاه الله عزّ وجل بكلّ شربة سبعين ألف حسنة ، وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء فكأنّما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل (٧) .

وقال الصادقعليه‌السلام :لإطعام مؤمن أحبّ إليّ من عتق عشر رقاب وعشر حجج (٨) ، ومَن كساه ثوباً كسوة شتا أو صيف كان حقّاً على الله أن يكسوه

____________

(١) في ( ج ) : أن أطعم .

(٢) الكافي ٢ : ٢٠٠ ح١و٢ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٦٩ ح٦٣ و٦٤ ، والمحاسن ٢ : ١٤٩ ح٣١ .

(٣) الكافي ٢ : ٢٠٠ ح٣ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٧١ ح٦٥ ، والمحاسن ٢ : ١٥٢ ح٤٤ .

(٤) المحاسن ٢ : ١٥٥ ح٥٥ ، عنه البحار ٧٥ : ٤٦٠ ح١٠ ، والكافي ٢ : ٢٠١ ح٤ .

(٥) الكافي ٢ : ٢٠١ ح٥ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٧٣ ح٦٧ ، والمحاسن ٢ : ١٥٢ ح٤٣ .

(٦) المحاسن ٢ : ١٤٥ ح١٧ ، عنه البحار ٧١ : ٣٩٢ ح٥٧ ، والآية في سورة البلد : ١٤ـ١٦ .

(٧) الكافي ٢ : ٢٠١ ح٧ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٧٤ ح٦٩ .

(٨) الكافي ٢ : ٢٠٤ ح٢٠ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٧٩ ح٨٢ .

٢٨٤

من ثياب الجنّة ، وأن يهوّن عليه سكرات الموت ، وأن يوسّع عليه في قبره ، وأن تلقاه الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى ، كما قال تعالى : ( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (١) (٢) .

وقالعليه‌السلام :مَن كسا أحداً من فقراء المسلمين ثوباً من عرى ، أو عانه بشيء ممّا يقوته من معيشة ، وكّل الله عزّ وجل به سبعة آلاف ملك يستغفرون لكلّ ذنب عمله إلى أن ينفخ في الصور (٣) .

وقالعليه‌السلام :مَن كسا مؤمناً ثوباً من عرى كساه الله من استبرق الجنّة ، ومَن كساه ثوباً من غنى لم يزل في ستر الله عزّ وجل ما بقي من الثوب خرقة (٤) .

وقد ورد أنّ مشركاً تلطّف بمؤمن فلمّا مات أوحى الله إليه :لو كان في جنّتي سكن لمشرك لأسكنتك فيها ، ولكنّها محرّمة على من مات بي مشركاً ، ولكن يا نار حاذيه ولا تؤذيه ، قال :ويؤتى رزقه طرفي النهار من حيث يشاء الله (٥) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن أدخل على مؤمن سروراً خلق الله عزّ وجل من ذلك السرور تمثالا لا يزال معه في كلّ هول يبشّره بالجنّة (٦) .

____________

(١) فصلت : ٣٠ .

(٢) الكافي ٢ : ٢٠٤ ح١ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٧٩ ح٨٣ والآية فيه تختلف .

(٣) الكافي ٢ : ٢٠٤ ح٢ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٨٠ ح٨٤ .

(٤) الكافي ٢ : ٢٠٥ ح٥ ، عنه البحار ٧٤ : ٣٨١ ح٨٧ .

(٥) الكافي ٢ : ١٨٨ ضمن حديث ٣ ، عنه البحار ٧٤ : ٢٨٨ ح١٦ .

(٦) الكافي ٢ : ١٩١ ح١٢ باختلاف ، معالم الزلفى : ١٤١ .

٢٨٥

الباب الثامن والأربعون : في الدعاء وبركته وفضله

قال الله تعالى :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم ) (١) .

وقال سبحانه :( أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السوء ) (٢) .

وقال سبحانه :( إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين ) (٣) يعني عن دعائي .

وقال سبحانه :( ولقد أرسلنا إلى أُمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلّهم يتضرّعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم ) (٤) .

وقال :( قل مَن ينجّيكم من ظلمات البرّ والبحر تدعونه تضرّعاً وخفية ) (٥) .

ومدح قوماً على الدعاء فقال :( إنّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا

____________

(١) غافر : ٦٠ .

(٢) النمل : ٦٢ .

(٣) غافر : ٦٠ .

(٤) الأنعام : ٤٢ـ٤٣ .

(٥) الأنعام : ٦٣ .

٢٨٦

رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :أفضل العبادة الدعاء (٢) .

وقال :الدعاء مخّ العبادة (٣) .

وقال :إذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له باب الإجابة بالرحمة ، وإنّه لن يهلك مع الدعاء هالك (٤) ، وإنّ الله سبحانه وتعالى يغضب إذا ترك سؤاله ، فليسأل أحدكم ربّه حتّى شسع نعله إذا انقطع ، إنّ سلاح المؤمن الدعاء .

وقالعليه‌السلام :إنّه سبحانه يبتلي العبد حتّى يسمع دعاءه وتضرّعه (٥) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :ما كان الله ليفتح على العبد باب الدعاء ويغلق عنه باب الإجابة وهو يقول : ( اُدعوني أستجب لكم ) (٦) وما كان الله ليفتح باب التوبة فيغلق باب [الرحمة و] (٧) المغفرة ، لأنّه يقول : ( هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات ) (٨) .

وما كان الله ليفتح باب الشكر ويغلق باب الزيادة لأنّه يقول :( لئن شكرتم لأزيدنّكم ) (٩) وما كان الله ليفتح باب التوكّل ولم يجعل للمتوكّل مخرجاً فإنّه سبحانه يقول :( ومَن يتّق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومَن يتوكّل على الله فهو حسبه ) (١٠) .

____________

(١) الأنبياء : ٩٠ .

(٢) كنز العمال ٢ : ٦٤ ح٣١٣٤ .

(٣) كنز العمال ٢ : ٦٢ ح٣١١٣ .

(٤) إلى هنا في البحار ٩٣ : ٣٠٢ ح٣٩ عن عدّة الداعي .

(٥) مجموعة ورام ١ : ٤ نحوه .

(٦) غافر : ٦٠ .

(٧) أثبتناه من ( ب ) .

(٨) غافر : ٦٠ .

(٩) إبراهيم : ٧ .

(١٠) الطلاق : ٢ـ٣ .

٢٨٧

وقالعليه‌السلام :الدعاء يردّ القضاء المبرم (١) .

وقالعليه‌السلام :مَن سرّه أن يكشف عنه البلاء فليكثر من الدعاء .

وينبغي للعبد أن يدعو بهمّ مجموع ، وقلب خاشع ، وسريرة خالصة ، وبدن خاضع ، وجوارح متذلّلة ، ويقين واثق بالإجابة ليصدق قوله تعالى :( ادعوني أستجب لكم ) ، ولا يكون قلبه متشاغلاً لغير الله تعالى .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :للدعاء شروط أربعة ، الأوّل : إحضار النيّة ، الثاني : إخلاص السريرة ، الثالث : معرفة المسؤول ، الرابع : الإنصاف في المسألة ، فإنّه روي أنّ موسى عليه‌السلام مرّ برجل ساجد يبكي ويتضرّع ويدعو ، فقال موسى : يا ربّ لو كانت حاجة هذا العبد إليّ (٢) لقضيتها ، فأوحى الله إليه : يا موسى إنّه يدعوني وقلبه مشغول بغنم له ، فلو سجد حتّى ينقطع صلبه وتتفقّأ عيناه لم أستجب له ، وفي رواية اُخرى : حتّى يتحوّل عمّا أبغض إلى ما أُحبّ .

وقال تعالى : إنّ العبد يدعوني للحاجة فآمر بقضائها ، فيذنب فأقول للملك : إنّ عبدي قد تعرّض لسخطي بالمعصية فاستحقّ الحرمان ، وانّه لا ينال ما عندي إلاّ بطاعتي (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ العبد ليرفع يديه إلى الله تعالى ومطعمه حرام وملبسه حرام ، فكيف يُستجاب له وهذه حالته ؟! (٤) .

وقال :ثلاث خصال يدرك بها خير الدنيا والآخرة : الشكر عند النعماء ، والصبر عند الضرّاء ، والدعاء عند البلاء .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :لو أنّ الناس إذا زالت عنهم النعم ونزلت

____________

(١) البحار ٩٣ : ٢٨٩ ضمن حديث ٥ ، عن الخصال ، حديث الأربعمائة .

(٢) في ( ج ) : بيدي .

(٣) الكافي ٢ : ٢٧١ ح١٤ ، عنه البحار ٧٣ : ٣٢٩ ح١١ باختلاف .

(٤) كنز العمال ٢ : ٨١ ح٣٢٣٦ نحوه .

٢٨٨

بهم النقم ، فزعوا إلى الله بوله من نفوسهم ، وصادق من نيّاتهم ، وخالص من سرائرهم ، لردّ عليهم كلّ شارد ، ولأصلح لهم كلّ فاسد ، ولكنّهم أخلوا بشكر النعم فسلبوها ، وإنّ الله تعالى يعطي النعم بشرط الشكر لها والقيام فيها بحقوقها ، فإذا أخلّ المكلّف بذلك كان لله التغيير .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :التعلّل زكاة البدن ، والمعروف زكاة النعم ، وكلّ نعمة أُنيل منها المعروف فمأمونة السلب ، محصنة من الغير .

وقال :والله ما نزع من قوم نعماً إلاّ بذنوب اجترحوها ، فاربطوها بالشكر وقيّدوها بالطاعة ، والدعاء مفتاح الرحمة ، وسراج الزاهدين ، وشوق العابدين ، وأقرب الناس إلى الإجابة والرحمة الطائع المضطر الذي لابدّ له ممّا سأله وخصوصاً عند نفوذ الصبر .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :فعند فناء الصبر باب الفرج .

وجاءت امرأة إلى الصادقعليه‌السلام فقالت : يا ابن رسول الله إنّ ابني سافر عنّي وقد طالت غيبته وقد اشتدّ شوقي إليه فادع الله لي ، فقال لها :عليك بالصبر ، فمضت وأخذت صبراً واستعملته ، ثمّ جاءت بعد ذلك فشكت إليه فقال لها :عليك بالصبر ، فاستعملته .

ثمّ جاءت فشكت إليه طول غيبة ابنها ، فقال لها :ألم أقل لك عليك بالصبر ؟ فقالت : يا ابن رسول الله كم الصبر ، فو الله لقد فنا الصبر ، فقال :ارجعي إلى منزلك تجدي ولدك قد قدم من سفره ، فمضت فوجدته قد قدم ، فأتت به إليه ، فقالوا : يا ابن رسول الله أوحيٌ بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال :لا ولكنّه قد قال : عند فناء الصبر يأتي الفرج ، فلمّا قالت قد فنا الصبر عرفت أنّ الله قد فرّج عنها بقدوم ولدها .

والدعاء إظهار العبد الفاقة والافتقار إلى الله تعالى مع الاستكانة والتذلّل

٢٨٩

والمسكنة والخضوع ، وإذا فعل العبد ذلك فقد فعل ما عليه من العبوديّة ، ولله سبحانه المشيئة في الاستجابة على قدر ما يراه من مصلحة العبد وما يقتضيه العدل والحكمة ؛ لأنّ جوده وكرمه لا يتعدّيان حكمته ، فإنّه سبحانه لا يمنع لبخل ولعُدم بل للمصلحة وما تقتضيه الحكمة ، لا على سؤال العبد فيما يقترحه ويهواه ، ولهذا قال :( لو اتبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهنّ ) (١) .

لأنّ الداعي يدعو بما يظنّه انّه مصلحة له ، والله يعمل على ما يعلم ، كمن دعا الله تعالى أن يعطيه مالا وعلم انّه يطغى به فمنعه إشفاقاً عليه ورحمة له ، فسبحان من عطاؤه كرم ، ومنعه فضل .

ومَن أكثر من الدعاء والذكر والشكر والحمد والثناء على الله أعطاه الله أفضل ما يعطي السائلين ، فإنّه تعالى يقول في بعض كتبه :( إذا شغل عبدي ذكري عن مسألته أعطيته أفضل ممّا أعطي السائلين ) .

وينبغي أن يكون الداعي بلسانه راضياً بقلبه فيما يجري له وعليه ليجمع بين الأمرين : الرجاء والرضا ، ولا ينبغي للعبد أن يملّ ، والتطويل له أفضل ما لم يتضيّق وقت فريضة .

وفي الخبر إنّ الله إذا أحبّ أن يسمع صوت عبده ودعاءه أخّر حاجته(٢) ، يقول : يا جبرئيل أخّر حاجته فإنّي اُحبّ تضرّعه وسماع صوته ، وإذا كره سماع صوت عبده قال : يا جبرئيل عجّل حاجته فإنّي أكره أن أسمع صوته(٣) .

هذا إذا كان عاصياً ، وإنّ العبد ليدعو الله تعالى وهو عليه غضبان فيردّه ، ثمّ يدعو فيردّه ، ثمّ يدعوه فيقول : أبى عبدي أن يدعو غيري فقد استجبت له(٤) .

____________

(١) المؤمنون : ٧١ .

(٢) في ( ج ) : إجابته .

(٣) كنز العمّال ٢ : ٨٥ ح٣٢٦١ ، جامع الأخبار : ٣٧٠ ح١٠٢٥ ، عدّة الداعي : ٣١ .

(٤) مجموعة ورام ١ : ٧ نحوه .

٢٩٠

فلا تيأسوا من تأخير الإجابة ، وقد كان بين إجابة موسى وهارون في فرعون أربعين سنة من حين قال الله لهما :( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ) (١) .

وروي أنّ تاجراً كان في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسافر من المدينة إلى الشام ولا يصحب القوافل توكّلا على الله ، فعرض له لصّ في طريقه وصاح به ، فوقف فقال له : خذ المال ودعني ، فقال : لا غنى لي عن نفسك ، فقال : دعني أتوضّأ وأُصلّي أربع ركعات ، فقال : افعل ما شئت ، فتوضّأ وصلّى ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال :

( يا ودود يا ودود ، يا ذا العرش المجيد ، يا مبدئ يا معيد ، يا ذا البطش الشديد ، يا فعّالا لما يريد ، أسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك ، وأسألك بقدرتك التي قدّرت بها على جميع خلقك ، وبرحمتك التي وسعت كلّ شيء ، لا إله إلاّ أنت ، يا مغيث أغثني ، يا مغيث صلّ على محمّد وآل محمد وأغثني ) .

فإذا هو بفارس على فرس أشهب عليه ثياب خضر وبيده رمح ، فشدّ على اللص فطعنه طعنة فقتله ، ثمّ قال للتاجر : اعلم إنّي ملك من السماء الثالثة حين دعوت سمعنا أبواب السماء قد فتحت ، فنزل جبرئيلعليه‌السلام وأمرني بقتله ، واعلم يا عبد الله أنّه ما دعا بدعائك هذا مكروب ولا محزون إلاّ فرّج الله عنه وأغاثه ، فرجع التاجر إلى المدينة سالماً ، فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك فقال له :لقد لقّنك الله أسماءه الحسنى التي إذا دُعي بها أجاب وإذا سُئل بها أعطى .

قال مصنّف هذا الكتاب شمله الله تعالى بواسع رحمته : إنّ من شرائط الدعاء وآدابه استحضار العبد ذهنه وفطنته ، وأن لا يكون قلبه متشاغلا بغير الله ، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :إنّ الله لا يستجيب دعاء عبد وقلب لاه (٢) .

____________

(١) راجع الكافي ٢ : ٤٨٩ ح٥ ، والآية في سورة يونس : ٨٩ .

(٢) الدعوات : ٣٠ ح٦١ ، عنه البحار ٩٣ : ٣١٣ ضمن حديث ١٧ .

٢٩١

ومن شرائطه أن يكون مطعم العبد وملبسه من حلال ، فإنّ الله سبحانه قال :( إنّما يتقبّل الله من المتّقين ) (١) ، وقال رجل للصادقعليه‌السلام : إنّا ندعوا الله فلا يستجيب لنا ، قال :إنّكم تدعون مَن لا تهابونه وتعصونه ، فكيف يستجيب لكم ؟! .

وروى عثمان بن عيسى عمّن حدّثه ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : آيتين في كتاب الله أطلبهما ولا أجدهما ، قال :ما هما ؟ قلت : قول الله عزّ وجل :( أُدعوني أستجب لكم ) (٢) فندعوه فلا نرى إجابة ، قال :أفترى الله أخلف وعده ؟ قلت : لا ، قال :فممّ ذلك ؟ قلت : لا أدري ، فقال :ولكنّي أُخبرك ، مَن أطاع الله فيما أمره ثمّ دعاه من جهة الدعاء أجابه .

قلت : وما جهة الدعاء ؟ قال :تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ، ثمّ تشكره ثمّ تصلّي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها ، ثمّ تستغفر الله منها ، فهذا جهة الدعاء ، قال :وما الآية الأخرى ؟

قلت : قول الله تعالى :( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) (٣) وإنّي أنفق ولا أرى خلفاً ، قال :أفترى الله أخلف وعده ؟ قلت : لا ، قال :فممّ ؟ قلت : لا أدري ، قال :لو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه وأنفقه في حقّه ، لم ينفق رجل درهماً إلاّ أخلفه الله عليه (٤) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما من عبد دعا الله سبحانه دعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلاّ أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث : أمّا أن تعجّل دعوته ، وأمّا أن تؤخّر له ، وأمّا أن تدفع عنه من السوء مثلها ، قالوا : يا رسول الله

____________

(١) المائدة : ٢٧ .

(٢) غافر : ٦٠ .

(٣) سبأ : ٣٩ .

(٤) الكافي ٢ : ٤٨٦ ح٨ ، عدّة الداعي : ٢١ .

٢٩٢

إذن نُكْثِر ، قال :الله أكثر ، وفي رواية :الله أكثر وأطيب ـ ثلاث مرّات(١) .

وفيما أوحى الله إلى موسىعليه‌السلام :ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من عبدي المؤمن ، وإنّي إنّما ابتليته لما هو خير له ، وعافيته لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عبدي ، فليصبر على بلائي وليشكر على نعمائي أثبته في الصدّيقين عندي إن عمل برضائي وأطاع أمري (٢) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام :يقول الله عزّ وجل : يا عبادي أطيعوني فيما أمرتكم ولا تعلموني بما يصلحكم ، فإنّي أعلم به ولا أبخل عليكم بمصالحكم (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يا عباد الله أنتم كالمرضى وربّ العالمين كالطبيب ، فصلاح المرضى فيما يعلمه الطبيب ويدبّره ، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه ، ألا فسلّموا الله أمره تكونوا من الفائزين (٤) .

وعن الصادقعليه‌السلام :عجبت للمؤمن لا يقضي الله بقضاء إلاّ كان خيراً له ، وإن قرض بالمقاريض كان خيراً له ، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له (٥) .

وفيما أوحى الله إلى داودعليه‌السلام : مَن انقطع إليّ كفيته ، ومَن سألني أعطيته ، ومَن دعاني أجبته ، وإنّما أؤخّر دعوته وهي معلّقة وقد استجبتها حتّى يتمّ قضائي ، فإذا تمّ قضائي أنفذت ما سأل قل للمظلوم : إنّما أُؤخّر دعوتك وقد استجبتها لك على من ظلمك لضروب

____________

(١) كنز العمّال ٢ : ٧٠ ح٣١٧١ ، دعوات الراوندي : ١٩ ح١٢ ، عنه البحار ٩٣ : ٣٦٦ ح١٦ ، جامع الأخبار : ٣٦٩ ح١٠٢٢ .

(٢) أمالي المفيد : ٦٣ ، عنه البحار ٦٧ : ٢٣٥ ح٥٢ ، وأمالي الطوسي : ٢٣٨ ح١٣ مجلس ٩ .

(٣) مجموعة ورام ٢ : ١٠٨ ، عدّة الداعي : ٣٧ .

(٤) الاحتجاج ١ : ٨٥ ، احتجاجه في تحويل القبلة ، عنه البحار ٨٤ : ٦١ ضمن حديث ١٢ ، مجموعة ورام ٢ : ١١٧ .

(٥) الكافي ٢ : ٦٢ ح٨ ، عنه البحار ٧٢ : ٣٣١ ح١٥ ، مجموعة ورام ٢ : ١٨٤ .

٢٩٣

كثيرة غابت عنك ، وأنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين ، امّا أن يكون قد ظلمت رجلاً فدعا عليك فتكون هذه بهذه لا لك ولا عليك ، وأمّا أن تكون لك درجة في الجنّة لا تبلغها عندي إلاّ بظلمه لك ؛ لأنّي أختبر عبادي في أموالهم وأنفسهم وربّما أمرضت العبد فقلّت صلاته وخدمته ، ولصوته إذا دعاني في كربته أحبّ إليّ من صلاة المصلّين .

ولربّما صلّى العبد فأضرب بها وجهه ، وأحجب عنّي صوته ، أتدري من ذلك يا داود ؟ ذلك الذي يكثر الالتفات إلى حرم المؤمنين بعين الفسق ، وذلك الذي حدّثته نفسه لو ولّي أمراً لضرب فيه الرقاب ظلماً .

يا داود نح على خطيئتك كالمرأة الثكلى على ولدها ، لو رأيت الذين يأكلون الناس بألسنتهم وقد بسطتها بسط الأديم ، وضربت نواحي ألسنتهم بمقامع من نار ثمّ سلّطت عليهم موبخاً لهم يقول : يا أهل النار هذا فلان السليط فاعرفوه ، كم من ركعة طويلة فيها بكى وخشيته ما تساوي عند الله فتيلاً ، حين نظرت في قلبه فوجدته إن سلّم من صلاته وبرزت له امرأة وعرضت عليه نفسها أجابها ، وإن عامله مؤمن خاتله(١) .

وقالعليه‌السلام في صفة رفع اليدين بالدعاء :هكذا الرغبة ، وبسط راحتيه باطنهما إلى السماء ، وهكذا الرهبة وجعل ظهرهما إلى السماء ، وقال :هكذا التضرّع ورفع إصبعيه السبابتين وحرّكهما يميناً وشمالاً ، وقال :هكذا التبتّل ورفع سبابتيه عالياً ونصبهما ، وقال :هكذا الابتهال وبسط يديه رافعاً لهما ، وقال :مَن ابتهل منكم فمع الدمعة يجريها على خدّيه ، وينبغي للداعي أن يكون متطهّراً مستقبل القبلة (٢) .

ومن آداب الدعاء المواضع الشريفة ، والأوقات الشريفة ، وعقيب الصلاة ،

____________

(١) البحار ١٤ : ٤٢ ح٣٤ ، عن عدّة الداعي : ٣٨ .

(٢) مكارم الأخلاق : ٢٧٢ في الأوقات المرجوّة لإجابة الدعاء .

٢٩٤

وأن يكون في يده خاتم عقيق أو ذي فص عقيق ، فقد روي انّه لا ترد يد فيها عقيق ، وقال : ما رفع إلى الله كفّ أحبّ إليه من كف فيها عقيق ، وانّه لا يفتقر كفّ فيها عقيق ، وهو أمن في السفر(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام :صلاة ركعتين بخاتم عقيق أفضل من سبعين ركعة بغيره .

وقالعليه‌السلام :العقيق أوّل جبل أقرّ لله تعالى بالعبوديّة والوحدانيّة ، ولمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة ، ولعليّ بالولاية ، آلى (٢) الله على نفسه أنّه لا يرد كفّاً رفعت إليه بالعقيق ولا يعذّبها .

وكان قد أضرّ رجل فشكا إلى الله تعالى ، فرأى في منامه قائلاً يقول له : قل يا قريب يا مجيب يا سميع يا بصير يا لطيف يا خبير ، يا لطيفاً لما يشاء ، صلّ على محمد وآل محمد وردّ عليّ بصري ، فردّ الله تعالى عليه بصره .

وروي أنّ شاباً تعلّق بأستار الكعبة باكياً وقال : إلهي ليس لك شريك فيؤتى ، ولا وزير فيرشى ، ولا حاجب فينادى ، إن أطعتك فلك الحمد والفضل ، وإن عصيتك فلك الحجّة ، فبإثبات حجّتك عليّ وقطع حجّتي اغفر لي ، فسمع هاتفاً يقول : أنت معتوق من النار ، وخير الدعاء ما هيّجته الأحزان ، وحرّكته الأشجان ، وشفيع المذنبين دموعهم(٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :عليكم بالبكاء من خشية الله ، يبنى لكم بكلّ دمعة ألف بيت في الجنّة ، وما من شيء أحبّ إلى الله من قطرة دمع من خشية الله ، وقطرة دم جرت في سبيل الله ، وإذا أراد الله بعبد خيراً نصب في قلبه نائحة من الحزن ، وانّ الله يحبّ كلّ قلب حزين ، وخير الدعاء الخفي ، قال الله تعالى : ( ادعوا

____________

(١) عدّة الداعي : ١٢٩ .

(٢) في ( ج ) : قدر .

(٣) هكذا وفي ( ألف ) : ذنوبهم .

٢٩٥

ربّكم تضرّعاً وخفيةً ) (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خير العبادة أخفاها (٢) .

وقال :خير الذكر الخفي (٣) .

وقال :دعاء السرّ يزيد على الجهر سبعين ضعفاً (٤) .

وأثنى الله سبحانه على زكرياعليه‌السلام بقوله :( إذ نادى ربّه نداءً خفيّاً ) (٥) ، وسمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقواماً يجاهرون بالدعاء ، فقال :أربعوا (٦) بأصواتكم فإنّ ربّكم ليس بأصمّ (٧) .

____________

(١) الأعراف : ٥٥ .

(٢) قرب الإسناد : ١٣٥ ح٤٧٥ ، وفيه : أعظم العبادة أجراً .

(٣) كنز العمّال ١ : ٤١٧ ح١٧٧١ .

(٤) البحار ٩٣ : ٣١٢ ضمن حديث ١٧ ، عن الدعوات : ١٨ ح٧ .

(٥) مريم : ٣ .

(٦) في ( ج ) : لا ترفعوا .

(٧) كنز العمال ٢ : ٨٢ ح٣٢٤٣ نحوه .

٢٩٦

الباب التاسع والأربعون : في فضيلة الفقر وحسن عاقبته

الشاهد على فضيلة الفقراء على الأغنياء قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يدخل الفقراء الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم ، ومقداره خمسمائة عام (١) .

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام :إنّ الفقراء المؤمنين يتقلّبون في رياض الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً ، ثمّ قال :سأضرب لكم مثلاً ، إنّما مثل ذلك سفينتين مرّ بهما ناخس (٢) ، فنظر في إحداهما فلم يجد فيها شيئاً فقال : أسربوها ، ونظر في الأُخرى فإذا هي موفورة فقال : احبسوها (٣) .

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام :إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان للحساب كلاهما من أهل الجنّة فقير وغني ، فيقول الفقير : يا ربّ على ما أُحاسب ، فو عزّتك لقد علمت أنّي ما وليت ولاية لأعدل فيها أو أجور ، ولم تملكني مالاً فأعطي حقّه أو أمنعه ، ولقد كان يأتيني رزقي كفافا ً .

____________

(١) كنز العمال ٦ : ٤٦٨ ح١٦٥٨٠ .

(٢) في ( ب ) : ناظر .

(٣) الكافي ٢ : ٢٦٠ ح١ ، عنه البحار ٧٢ : ٦ ح٤ ، عدّة الداعي : ١١٦ .

٢٩٧

فيقول الله : صدق عبدي أدخلوه الجنّة ، ويبقى الغني حتّى يسيل منه العرق ما لو شرب منه أربعون بعيراً لأصدرها ، ثمّ يدخل الجنّة فيقول له الفقير : ما أخّرك ؟ فيقول : طول الحساب ، ما زال يحاسبني بالشيء بعد الشيء ويغفره الله لي ، ثمّ يحاسبني بآخر حتّى تغمّدني الله برحمته ، فمن أنت؟ فيقول له : أنا الفقير الذي كنت واقفاً معك في الحساب ، فيقول له الغني : لقد غيّرك النعيم بعدي (١) وهذا من أعظم نعم الله تعالى على الفقير ، خفّة حسابه ودخوله الجنّة قبل الغني .

ومن سعادة الفقير وراحته أنّه لا يطالب في الدنيا بخراج ، ولا في الآخرة بحساب ، ولا يشتغل قلبه عن الله تعالى بهموم الغني من حراسة المال ، والخوف من السلطان ، ومن اللصوص والحاسد ، وكيف يدبره وكيف ينميه ومقاسات عمارة الأملاك والوكلاء والأكاري ، وقسمة الزروع ، وتعب الأسفار ، وغرق المراكب ، وتمنّي الورّاث موته ليرثوه ، وإذا خلا من آفة تذهبه حال حياته كان حسرة له عند الموت ، وطول حسابه في الآخرة ، ويرثه منه إمّا من يتزوّج بامرأته أو امرأة ابنه أو زوج ابنته ، لابدّ من أحد هؤلاء يرثه ويحصل هو التعب والهموم وشغله به عن العبادة ، وتحظى به أعداؤه الذين لا يغنون عنه شيئاً .

ولا يزال الغني مخاطراً بنفسه وبالمال في البراري والقفار ، إن كان في بحر غرق هو والمال ، وإن كان في برّ أخذه منه القطّاع أخذوه وقتلوه ، فهو لا يزال على خطر به وبنفسه ، والفقير قد انقطع إلى الله وقنع بما يسدّ فورته ، ويواري عورته .

وقال بعض العلماء : استراح الفقير من ثلاثة أشياء وبلى بها الغني ، قيل : وما هي ؟ قال : جور السلطان ، وحسد الجيران ، وتملّق الإخوان(٢) .

وقال بعضهم : اختار الفقراء ثلاثة أشياء : اليقين ، وفراغ القلب ، وخفّة

____________

(١) أمالي الصدوق : ٢٩٤ ح١١ مجلس ٥٧ ، عنه البحار ٧٢ : ٣٥ ح٢٨ ، روضة الواعظين : ٤٥٥ .

(٢) عدّة الداعي : ١٠٧ .

٢٩٨

الحساب ، واختار الأغنياء ثلاثة أشياء : تعب النفس ، وشغل القلب ، وشدّة الحساب(١) .

ولا شك أنّ الفقر حلية الأولياء وشعار الصالحين ، ففيما أوحى الله إلى موسىعليه‌السلام :وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل : ذنب عجّلت عقوبته (٢) .

ثمّ انظر في قصص الأنبياء وخصائصهم وما كانوا فيه من ضيق العيش ، فهذا موسى كليم الله الذي اصطفاه لوحيه وكلامه كان يرى خضرة البقل من صفاق بطنه من هزاله ، وما طلب حين آوى إلى الظلّ بقوله :( ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير ) (٣) إلاّ خبزاً يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ، وروي انّهعليه‌السلام قال يوماً :ربّ انّي جائع ، فقال تعالى : أنا أعلم بجوعك ، قال : يا ربّ أطعمني ، قال : إلى أن أُريد (٤) .

وفيما أوحى الله إلى موسىعليه‌السلام :الفقير مَن ليس له مثلي كفيل ، والمريض مَن ليس له مثلي طبيب ، والغريب مَن ليس له مثلي مونس ـ ويُروى حبيب(٥) ـيا موسى ارض بكسرة من شعير تسدّ بها جوعتك ، وبخرقة تواري بها عورتك ، واصبر على المصائب ، وإذا رأيت الدنيا مقبلة عليك فقل : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، عقوبة عجّلت في الدنيا ، وإذا رأيت الدنيا مدبرة عنك فقل : مرحباً بشعار الصالحين ، يا موسى لا تعجبنّ بما أُوتي فرعون وما متّع به ، فإنّما هي زهرة الحياة الدنيا (٦) .

____________

(١) عدّة الداعي : ١٠٦ .

(٢) البحار ٧٢ : ٥٥ ضمن حديث ٨٥ ، عن عدّة الداعي : ١١٧ .

(٣) القصص : ٢٤ .

(٤) البحار ١٣ : ٣٦١ ح٧٥ ، عن عدّة الداعي : ١١٧ .

(٥) في ( ج ) : ويُروى أنّه قال .

(٦) البحار ١٣ : ٣٦١ ح٧٦ ، عن عدّة الداعي : ١١٨ .

٢٩٩

وأمّا عيسى بن مريم روح الله وكلمته فإنّه كان يقول :خادمي يداي ، ودابتي رجلاي ، وفراشي الأرض ، ووسادي الحجر ، ودفائي في الشتاء مشارق الأرض ، وسراجي بالليل القمر ، وإدامي الجوع ، وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ، وفاكهتي وريحانتي ما أنبتت الأرض للوحوش والأنعام ، أبيت وليس لي شيء ، وأصبح وليس لي شيء ، وليس على وجه الأرض أحد أغنى منّي (١) .

وأمّا نوحعليه‌السلام مع كونه شيخ المرسلين ، وعمّر في الدنيا مديداً ، ففي بعض الروايات أنّه عاش ألفي عام وخمسمائة عام ، ومضى من الدنيا ولم يبن فيها بيتاً ، وكان إذا أصبح يقول لا أمسي ، وإذا أمسى يقول لا أصبح(٢) .

وكذلك نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه خرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة ، ورأى رجلاً من أصحابه يبني بيتاً بجصّ وآجر ، فقال : الأمر أعجل من هذا(٣) .

وأمّا إبراهيمعليه‌السلام أبو الأنبياء فقد كان لباسه الصوف ، وأكله الشعير ، وأمّا يحيى بن زكرياعليه‌السلام فكان لباسه الليف ، وأكله ورق الشجر ، وأمّا سليمانعليه‌السلام فقد كان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر ، وإذا جنّه الليل شدّ يديه إلى عنقه ، فلا يزال قائماً حتّى يصبح باكياً ، وكان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده ، وإنّما سأل الملك لأجل القوّة والغلبة على ملوك الكفّار ليقهرهم بذلك ، وقيل : سأل الله القناعة .

وأمّا سيّد المرسلين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد عرفت ما كان من طعامه ولباسه ، وقيل : إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابه يوماً الجوع فوضع حجراً على بطنه ، ثمّ قال :ألا ربّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ، ألا ربّ مهين لنفسه وهو لها مكرم ، ألا

____________

(١) البحار ٧٢ : ٥٥ ضمن حديث ٨٥ ، عن عدّة الداعي : ١١٨ .

(٢) البحار ٧٠ : ٣٢١ ح٣٨ ، عن عدّة الداعي : ١١٨ .

(٣) البحار ٧٦ : ١٥٥ ح٣٧ ، عن عدّة الداعي : ١١٩ .

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381