منهاج السالكين

منهاج السالكين9%

منهاج السالكين مؤلف:
تصنيف: شخصيات إسلامية
الصفحات: 413

منهاج السالكين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140642 / تحميل: 6572
الحجم الحجم الحجم
منهاج السالكين

منهاج السالكين

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

معروف يمشي على الماء ويطير في الهواء

إنّ عبادة معروف وزهده وعرفانه كلّ ذلك هيّأه أن يتربّع ذروة سنام الكرامات، ويشاطر أولي العزم المعجزات! فموسى عليه‌السلام قد فلق الله تعالى له البحر ليجوزه بمن تبعه من بني إسرائيل، ومعروف يجمع الله له طرفي الماء ليتخطّاها!

قال ابن شيرويه: كنت أجالس معروف الكرخيّ كثيراً، فلمّا كان ذات يوم رأيت وجهه قد خلا، فقلت له: يا أبا محفوظ! بلغني أنّك تمشي على الماء! فقال لي: ما مشيت على الماء، ولكن إذا هممت بالعبور جمع لي طرفاها، فأتخطّاها. (١)

وعن محمّد بن مخلّد قال: قرئ على الحسن بن عبد الوهّاب - وأنا أسمع - قال: سمعت ابي يقول: قالوا إنّ معروفاً الكرخيّ يمشي على الماء، لو قيل لي إنّه يمشي في الهواء لصدّقت. (٢)

معروف يمطر السّماء

بلغت كرامة معروف عند الله تعالى: أن تتغيّر الأنواء بفضل دعائه فيأمر السّماء في الصّيف فتمطر. عن يعقوب ابن أخي معروف، قال: قالوا لمعروف: يا أبا محفوظ، لو سألت الله أن يمطرنا! قال: وكان يوماً صائفاً شديد الحرّ. قال: ارفعوا إذاً ثيابكم. فما استتمّوا رفع ثيابهم حتّى جاء المطر. (٣)

في ضيافة كليم الله

قال أبو جعفر السّقّاء صاحب بشر بن الحارث: رأيت بشراً الحافي ومعروف الكرخيّ وهما جائيان - أي قادمان - فقلت: من أين؟ فقالا: من جنّة الفردوس، زرنا كليم الله

____________________

(١) تاريخ بغداد ٣: ٢٠٦.

(٢) نفس المصدر ١٣: ٢٠٧.

(٣) نفس المصدر.

١٤١

موسى. (١)

كرامات بشر الحافي

بشر الحافي، من طبقة معروف الكرخيّ، وأحمد بن حنبل. (٢) وقد ذكروا لبشر كرامات

____________________

(١) الرّوح / ٤١.

(٢) عاش ثلاثتهم وماتوا في النّصف الأوّل من القرن الثالث الهجريّ، ببغداد. مع جامعة في المشيخة والتلمذة ووحدة الأصول والمبادئ.

وفي ترجمة بشر جاء: هو بشر بن الحارث بن عبد الرّحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان، مروزيّ من مرو، موطن ولادة أحمد. وسكن الحافي بغداد، وتوفّي بها سنة ٢٢٧. يعرف بالحافي ويكنّى أبا نصر. سمع شريك، ومالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد الزّهريّ، وحمّاد بن زيد. روى عنه أحمد بن حنبل، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، ويحيى بن أكثم القاضي، وإبراهيم بن إسحاق الحربيّ (الطبقات الكبرى لابن سعد ٧: ٣٤٢؛ المعارف لابن قتيبة: ٣٩٢؛ تاريخ الطّبريّ ٩: ١١٨؛ تاريخ بغداد ٧: ٦٧؛ وفيات الأعيان ١: ٣٢؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٦: ١٠٥؛ تهذيب الكمال للمزّيّ ٤: ٩٩).

وقيل: كان بشر يلحن ولا يعرف العربيّة (تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٦: ١٠٨).

ولم يكن بشر في أوّل أمره حسن السّيرة، فقد ذكروا: كان بشر بن الحارث شاطراً (وجمعه شطّار، وهي جماعة ظهرت وانتشرت ببغداد وغيرها، ويعرفون في مصر الفتوّة كانوا يمارسون إيذاء النّاس والتعدّي عليهم) يجرح بالحديد. وكان سبب توبته أنّه وجد قرطاساً في أتون حمّام فيه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم». فعظم ذلك عليه، ورفع طرفه إلى السّماء، وقال: سيّدي، اسمك هاهنا ملقىً! فرفعه من الأرض، وقلع عنه السحاة - أي قشر موضع الاسم - الّتي هو فيها، وأتى عطّاراً، فاشترى بدرهم غالية - أي طيباً - ولطخ تلك السحاة بالغالية، فأدخله شقّ حائط وانصرف إلى زجّاج كان يجالسه، فقال له الزجّاج: والله يا أخي لقد رأيت لك في هذه الليلة رؤيا ما رأيت أحسن منها، ولست أقول لك، حتّى تحدّثني ما فعلت في هذه الأيّام فيما بينك وبين الله تعالى. فقال: ما فعلت شيئاً أعلمه، غير أنّي أجتزت اليوم بأتون حمّام، فذكره. فقال الزجّاج: رأيت كأنّ قائلاً يقول لي في المنام: قل لبشر: ترفع اسماً لنا من الأرض إجلالاً أن يداس! لننوّهنّ باسمك في الدنيا والآخرة (المصادر السابقة).

ولقد كان أحمد يطريه كثيراً، قال محمّد بن المثنّى: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في هذا الرجل؟ فقال لي: أيّ الرجال؟ فقلت له: بشر، فقال لي: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال (تاريخ بغداد ٧: ٧٢).

ويبدو من سيرة أحمد، وبشر أنّهما مولعان بسفيان الثوريّ، قال أحمد: إن كان رجل تأدّب بمذهب رجل - يعني سفيان الثوريّ - ففاقه، لقلت بشر، لو لا ما سبق لسفيان الثوريّ من السنّ والعلم (تاريخ بغداد ٧: ٧٢).

١٤٢

من جنس كرامات معروف، وأحمد، وطبقتهما وكلّها يحوم في دائرة الرؤية - رؤية الله تعالى - وتكليمه سبحانه لهم في اليقظة والمنام، وخرق العادة ممّا يباهي الشّمس وحبسها.

نصف الجنّة لبشر الحافي

قال أبو جعفر السّقّاء: رأيت بشر بن الحارث في النّوم، فقلت: أبا نصر، ما فعل الله بك؟ قال: ألطفني ورحمني، وقال لي: يا بشر! لو سجدت لي في الدّنيا على الجمر، ما أدّيت شكر ما حشوت قلوب عبادي منك. وأباح لي نصف الجنّة فأسرح فيها حيث شئت، ووعدني أن يغفر لمن تبع جنازتي. (١)

لعلّ هذه النّعم والمنازل الرّفيعة لبشر، مقابل العمل الصالح الّذي لم يفعله لا نبيّ ولا وصيّ نبيّ! ذلك حينما رفع الحافي تلك الورقة الّتي وجدها في أتون الحمّام وفيها اسم الله تعالى، فرفع الله ذكره!

رسول الله إلى الحافي

تثبيتاً من الله تعالى لوليّه الحافي، وكيما يطمئنّ قلبه، بعث إليه رسولاً يبلّغه رسالة من لدنه تعالى: عبد الله بن حنبل قال: حدّثني أبو حفص عمر بن أخت بشر بن الحارث، قال: حدّثتني أمّي قالت: جاء رجل إلى الباب فدّقه، فأجابه بشر: من هذا؟ قال: أريد بشراً فخرج إليه، فقال له: حاجتك، عافاك الله! فقال له: أنت بشر؟ فقال: نعم، حاجتك؟ فقال: إنّي رأيت ربّ العزّة تعالى في المنام وهو يقول لي: اذهب إلى بشر، فقل له: يا بشر لو سجدت لي على الجمر ما أدّيت شكري فيما قد بثثت لك في النّاس. فقال له: أنت رأيت هذا؟! فقال: نعم، رأيته ليلتين متواليتين. فقال: لا تخبر به أحداً. (٢)

____________________

(١) الروح / ٤١.

(٢) تاريخ بغداد ٧: ٧٨؛ تهذيب الكمال في أسماء الرجال ٤: ١٠٨؛ المنتظم لأبي الفرج ١١: ١٢٤، ولم يقل عنه موضوع كما قال عن ردّ الشمس لعليّ بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

١٤٣

إنّهم يزعمون أنّ الله تعالى يرى يوم القيامة! فكيف رآه هذا الرّجل، وعلى أيّ صورة تمثّل له - جلّ وعلا عن ذلك -؟ أم أنّ الشّيطان كان من وراء ذلك؟! ولم يجعل الله سبحانه واسطة بينه وبين أوليائه من نظراء الحافي، ألم يكن حريّاً أن يتجلّى للفاضل دون المفضول؟!

الجنّ تنوح على بشر

لقد كان خبر وفاة الحافي صاعقاً! ليس على المؤمنين البشر ممّن سحرتهم شخصيّة بشر وإنّما حلّت المصيبة لذلك بساحة الجنّ. قال أبو حفص ابن أخت بشر بن الحارث: كنت أسمع الجنّ تنوح على خالي في البيت الّذي كان يكون فيه غير مرّة. (١)

حبّ الحافي شفاعة

ولمن فاته أجر تشييع الحافي غدت محبّته شفاعة تغفر معها الذّنوب، وذلك لخطر منزلة الحافي عند الله تعالى! قال القاسم بن منبّه: رأيت بشر بن الحارث في النّوم، فقلت: ما فعل الله بك يا بشر؟ قال: قد غفر لي، وقال لي: يا بشر! قد غفرت لك ولمن تبع جنازتك. فقلت: يا ربّ ولكلّ من أحبّني؟! قال: ولكلّ من أحبّك إلى يوم القيامة. (٢)

عوج بن عنق

كان الحافي قليل الرّواية للغاية في الحديث. قال الخطيب: وكان - الحافي - كثير الحديث، إلاّ أنّه لم ينصب نفسه للرّواية، وكان يكرهها، ودفن كتبه لأجل ذلك، وكلّ ما سمع منه فإنّما هو على سبيل المذاكرة. (٣)

وفي الحلية: قال رجل لبشر: يا أبا نصر! ما تقول لله غداً إذا لقيته وسألك لم لا تحدّث؟

____________________

(١) تاريخ بغداد ٧: ٨٠؛ تهذيب الكمال ٤: ١٠٩.

(٢) نفس المصدر.

(٣) تاريخ بغداد ٧: ٦٧؛ تهذيب الكمال ٤: ١٠٢.

١٤٤

قال: أقول يا ربّ، كانت نفسي تشتهي أن تحدّث، فامتنعت من أن أحدّث ولم أعطها شهوتها. (١)

فقد صرف بشر همّته للزّهد والعبادة ومعرفة ما يقرّبه إلى الله سبحانه، فتحرّز من رواية الحديث، إلاّ أنّه لم يتحرّج من الحديث عن: «عوج بن عنق»! قال جعفر البردانيّ: سمعت بشر بن الحارث يقول: إنّ عوج بن عنق، كان يأتي البحر فيخوضه برجله، ويحتطب السّاج. وكان أوّل من دلّ على السّاج وجلبه. وكان يأخذ من البحر حوتاً بيده، فيشويه في عين الشّمس. (٢)

بيد أنّ بشراً لم يذكر نسب عوج بن عنق، أجنّيّ هو أم من الإنس؟ أعجميّ أم عربيّ؟ من ولد سام أم من ولد حام؟ أين ولد وفي أيّ بلد مات؟ وهل ترك من بعده خلفاً، أم أنّهم بادوا؟!

ولعلّه من قوم عاد. أخرج ابن عساكر عن الزّهريّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل ربّه أن يريه رجلاً من قوم عاد، فأراه رجلاً رجلاه في المدينه ورأسه بذي الحليفة! (٣)

أثقال الجرّاح تفزع أهل الجنّة

قال ابن القيّم: لما مات رجاء بن حيوة (٤) رأته امرأة عابدةٌ، فقالت: يا أبا المقدام، إلام

____________________

(١) حلية الأولياء لأبي نعيم ٨: ٣٥٥.

(٢) تاريخ الإسلام للذهبيّ ١٦: ١١٢؛ حلية الأولياء لأبي نعيم ٨: ٣٥١.

(٣) الخصائص الكبرى للسيوطيّ ٢: ١٥٢. وذو الحليفة: موضع بينه وبين المدينة ستّة أميال. وفي كتاب العرائس للثّعلبيّ ص ١٣٦ قال: قال ابن عمر: كان طول عوج بن عنق ثلاثة وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً بالذراع الأوّل! وكان عوج يحتجز السّحب، ويشرب منه الماء، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشّمس، يرفعه إليها ثمّ يأكله.

(٤) هو رجاء بن حيوة بن جرول - وقيل: جندل، وخنزل - بن الأحنف بن السّمط بن المرئ القيس الكنديّ يكنّى أبا المقدام. عداده في أهل الشّام، مات سنة ١١٣ هـ. روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرّحمن بن غنم الأشعري، وعبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، وورّاد كاتب المغيرة بن شعبة، وأبي الدّرداء. الطبقات الكبرى لابن سعد ٧: ٤٥٤؛ طبقات خليفة بن =

١٤٥

صرتم؟ قال: إلى خير، ولكن فزعنا بعدكم فزعةً ظننّا أنّ القيامة قد قامت. قالت: قلت: وممّ ذلك؟ قال: دخل الجرّاح وأصحابه الجنّة بأثقالهم، حتّى ازدحموا على بابها. (١) جنّة عرضها السماوات والأرض؛ هلاّ جعل بابها مناسباً لها في السّعة كيما يدخلها الجرّاح وفيلقه من غير جلبة؟! وهل خلت الجنّة ممّا تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، حتّى يحمل الجرّاح وأصحابه أثقال دنياهم يستعينوا بها في حياتهم الجديدة؟! ثمّ كيف وصل ذلك الحطام إلى الجنّة - الّتي لم تفتّح أبوابها بعد، وإنّما ما بعد البعث - أتراه قد دفن معهم؟!

ضيغم يزور الله

ومن وحي روحه قال: «لما ماتت رابعة، رأتها امرأة فقالت: ما فعل أبو مالك؛ تعني ضيغماً؟ فقالت: يزور الله تبارك وتعالى متى شاء. (٢)

ضيوف الرّحمن

وقال ابن القيّم: وكان شعبة (٣) بن الحجّاج، ومسعر (٤) بن كدام، حافظين جليلين. قال أبو أحمد البريديّ: فرأيتهما بعد موتهما، فقلت: أبا بسطام، ما فعل الله بك؟ فقال: وفّقك الله

____________________

خيّاط ٥٦٦؛ المعارف ٤٧٢؛ حلية الأولياء ٥: ١٧٠؛ وفيات الأعيان ٢: ٦٠؛ شذرات الذّهب ١: ١٤٥؛ تهذيب التهذيب لابن حجر ٣: ٢٦٥؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ ٤: ٢٤٩؛ تهذيب الكمال ٩: ١٥١.

(١) الرّوح: ٣٤.

(٢) نفس المصدر ٣٥.

(٣) شعبة بن الحجّاج بن الورد، أبو بسطام العتكيّ، مولاهم. واسطيّ الأصل بصريّ الدّار. ولد سنة ثلاث وسبعين، ومات سنة ستّين ومائة. قال أحمد بن حنبل: كان شعبة أمّة وحده في هذا الشأن - يعني علم الرّجال - وبصره في الحديث وتثبّته، وتنقيته للرّجال، وكان شاعراً. قال يزيد بن زريع: قدم علينا شعبة البصرة ورأيه رأي سوءٍ خبيث، يعني الترفّض! فما زلنا به حتّى ترك قوله وصار معنا. تاريخ بغداد ٩: ٢٥٥ - ٢٦٦.

(٤) مسعر بن كدام الهلاليّ العامريّ، أبو سلمة الكوفيّ، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة. تهذيب الكمال للمزّيّ ٢٧: ٤٦١؛ طبقات ابن سعد ٦: ٣٦٤؛ حلية الأولياء ٧: ٢١٠.وكان السليمانيّ يقول: كان من المرجئة (الميزان للذهبي جـ ٤، رقم ٨٤٧٠).

١٤٦

لحفظ ما أقول:

حباني إلهي في الجنان بقبّة

لها ألف باب من لجين وجوهراً

وقال لي الرّحمن: يا شعبة الّذي

تبحّر في جمع العلوم فأكثرا

تنعّم بقربي، إنّني عنك ذو رضى

وعن عبدي القّوام في اللّيل مسعرا

كفى مسعراً عزّاً بأن سيزورني

وأكشف عن وجهي الكريم لينظرا

وهذا فعالي بالّذين تنسّكوا

ولم يألفوا في سالف الدّهر منكرا (١)

إذا كان شعبة قد نال قصب السّبق هذا لعلمه ولتركه الترفّض فصار من القوم، فما بال مسعر يتنعّم بنفس الحظوة، وهو من المرجئة؟!

ويجد المطالع والباحث في أصول ومعتقدات ومؤلّفات ابن القيّم إصراراً واضحاً على الأخذ بمبدأ التجسيم والتشبيه والرؤية، ولذا أين وجد ضالّته المنشودة في هذا الباب: عند شعبة أو مسعر أو غيرهما، إلاّ وجمعه من غير رويّة!

مناقب إبراهيم (٢) بن أدهم

ذكروا لإبراهيم بن أدهم كرامات ومناقب، كلّ واحدة منها تبزّ رواة ردّ الشّمس ويباريهم في حقل التحدّي! وتصكّ الآذان وتقرع القلوب فتأخذ بمجامعها؛ فأيّها أوقع في النّفوس وأبلغ: رواية الرّوافض أم هذا الحقل اليانع من فواضل ابن أدهم الزّاهي؟!

____________________

(١) الروح: ٤٠.

(٢) إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجليّ، وقيل: التّميميّ، أبو إسحاق البلخيّ. هرب من أبي مسلم الخراسانيّ فجاء إلى الشّام. قال خلف بن تميم: سألت إبراهيم بن أدهم: منذكم قدمت الشّام؟ قال: منذ أربع وعشرين سنة، وما جئت لرباط ولالجهاد. فقلت: لم جئت؟ قال: جئت أشبع من خبز الحلال.

روى عن سفيان الثّوري، وسليمان الأعمش، وشعبة بن الحجّاج، والأوزاعيّ، ومقاتل، ومنصور بن المعتمر، وموسى بن عقبة. وروى عنه: سفيان الثّوريّ، وهو من أقرانه، والأوزاعيّ، وقطن بن صالح الدّمشقيّ. قال في الميزان ٣: ٣٩١: أحد الكذّابين ومات إبراهيم بن أدهم سنة ١٦٢. حلية الأولياء ٧: ٣٦٧؛ معجم البلدان لياقوت ٣: ١٩٦؛ تهذيب الكمال للمزّيّ ٢: ٢٧ - ٣٧؛ والوافي بالوفيات للصّفديّ ٥: ٣١٨.

١٤٧

مائده المسيح

قال عديّ الصيّاد - من أهل جبلة -: سمعت يزيد بن قيس، يحلف بالله أنّه كان ينظر إلى إبراهيم بن أدهم، وهو على شطّ البحر في وقت الإفطار، فيرى مائدة توضع بين يديه لا يدري من وضعها، ثمّ يراه يقوم فينصرف حتّى يدخل جبلة وما معه شيء (١) !

هنيئاً للزهّاد أن تخدمهم ملائكة الرّحمن بموائد الجنان في الدّنيا ولهم في الآخرة مزيد، في حين يظلّ عليّ وآله ثلاثة أيّام سغباً خمص البطون لا يفطرون إلاّ على الماء، فهلاّ نزلت عليهم مائدة ابن أدهم؟!

أبو قبيس في طاعة ابن أدهم

كنّا نقرأ في كتب التاريخ والسّيرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقف على جبل أحد، ومعه أبو بكر، وعثمان، فتحرّك الجبل، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : اسكن فما عليك إلاّ نبيّ وصدّيق وشهيد، فسكن الجبل. ولم يدر في خلدنا ولا طرأ في خلجات خواطرنا أن يرث أحد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كراماته ومعاجزه، مثلما لم يرثه أحد في تركته، ولأجله كذّبوا بضعته الطّاهرة الزّهراء عليها‌السلام في دعواها بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد وهبها «فدكاً». إلاّ أنّ إبراهيم بن أدهم وأمثاله من المتزهّدين قد آتاهم الله تعالى من الفضل أنّهم ورثة الأنبياء. فالجبل والبحر دائبان في طاعة ابن أدهم.

قال عيسى بن حازم: حدّثني إبراهيم بن أدهم، قال: لو أنّ مؤمناً قال لذاك الجبل زل لزال. قال فتحرّك أبو قبيس، فقال: اسكن، إنّي لم أعنك. قال: فسكن. (٢)

البحر مسخّر لابن أدهم

قال خلف بن تميم: كان إبراهيم بن أدهم في البحر، فعصفت الرّيح واشتدّت، وإبراهيم

____________________

(١) حلية الأولياء ٨: ٣.

(٢) نفس المصدر ٨: ٤.

١٤٨

ملفوف في كسائه، فقال له رجل: يا هذا! ما ترى ما نحن فيه من هذا الهول، وأنت نائم في كسائك؟! قال: فكشف إبراهيم رأسه ثمّ رفع رأسه إلى السّماء، فقال: اللّهمّ قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. قال: فسكن البحر حتّى صار كالدّهن. (١)

ملك الغاب

قال خلف بن تميم: كنّا مع إبراهيم بن أدهم في سفر له، فأتاه النّاس فقالوا: إنّ الأسد قد وقف على طريقنا. قال: فأتاه، فقال: يا أبا الحارث! إن كنت أمرت فينا بشيء فامض لما أمرت به، وإن لم تكن أمرت فينا بشيء فتنحّ عن طريقنا. قال: فمضى وهو يهمهم. (٢)

إنّ الجبل له أذن واعية، يسمع كلام ابن أدهم فيزول من مكانه ويعود إليه بدعائه! والأسد يفهم كلام هذا الرّجل فيتنحّى بعيداً، والله تعالى يجيب دعائه، فيسكن البحر بعد هيجانه وتهدأ الرّيح من بعد عصف شديد، وتنزل عليه مائدة من السّماء لتكون عيداً له ولمن سلك سبيله. لكن إذا دعا النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الله تعالى ليحبس الشّمس أو يردّها من بعد مغيب فهذا ممّا لا يعقل، وإن هذا إلاّ اختلاق!

غاية الزهد

ما أكثر قصص انقلاب الأشياء وتحوّلها إلى اُخر، تكريماً لفلان أو فلان، بما يقضي حاجته، وربّما حدثت معجزة في صدق سيرته.

قال عيسى بن حازم: إنّ إبراهيم بن أدهم خرج في غزاة، فحدّثته نفسه أن يقترض من أحد أصحابه، ثمّ ناب إلى الله واعتذر وطلب حاجته منه سبحانه، فإذا أربعمائة دينار، فتناول منها ديناراً فقط. (٣)

____________________

(١) حلية الأولياء ٨: ٥.

(٢) نفس المصدر ٨: ٤.

(٣) نفس المصدر ٨: ٦.

١٤٩

البلّوط يصير رطباً

قال محمّد بن منصور الطّوسيّ: حدّثنا أبو النضر، قال: كان إبراهيم بن أدهم يأخذ الرّطب من شجرة البلّوط. (١)

ومن قبل، أوحى سبحانه إلى مريم عليها‌السلام أن تهزّ جذع النّخلة فتساقط عليها الرّطب جنيّاً، فأكلت مريّاً!

كرامة معلّم الغناء

يبدو أنّ لأصحاب الرذائل منازل وفواضل كما هو للأتقياء والأفاضل! فهذا مثلاً الماجشون (٢) الّذي لا حظّ له من العلم إلاّ أنّه كان معلّماً للغناء، واتّخاذ القيان.

أمّا الكرامة الّتي أثبتوها للماجشون فهي من جنس ذلك الهذيان والغثيان الذي شاع في تلك العهود، ولا تسيغها أذن إلاّ من فم قينة على ضرب طبل وعود!

____________________

(١) حلية الأولياء ٨: ٣.

(٢) أبو يوسف يعقوب بن أبي سلمة، واسم أبي سلمة: دينار، وقيل ميمون. ويلقّب: الماجشون، القرشيّ التّيميّ، مولى آل المنكدر. سمع عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وعمر بن عبد العزيز، ومحمّد بن المنكدر، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وأبا هريرة. روى عنه ابناه: عبد العزيز، ويوسف، وابن أخيه عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة. مات سنة أربع وستّين ومائة. قال مصعب الزّبيريّ إنّما سمّي الماجشون للونه. وقال البخاريّ: الماجشون بالفارسيّة: المورّد.

قال مصعب: وكان يعلّم الغناء ويتّخذ القيان ظاهراً أمره في ذلك. وكان يجالس عروة بن الزّبير، وعمر بن عبد العزيز في إمرته. وكان الماجشون أوّل من علّم الغناء من أهل المروءة بالمدينة، وكان يكون مع عمر بن عبد العزيز في ولاية عمر على المدينة، وكان يأنس إليه. وكان الماجشون يعين ربيعة على أبي الزّناد، لأنّ أبا الزّناد يعادي ربيعة.

وكان أبو الزناد يقول: مثلي ومثل الماجشون مثل ذئب كان يلحّ على أهل قرية فيأكل صبيانهم، فاجتمعوا له وخرجوا في طلبه، فهرب منهم وانقطع عنهم، إلاّ صاحب فخّار، فإنّه ألحّ في طلبه، فوقف له الذئب، فقال: هؤلاء أعذرهم، فأنت مالي ولك؟! ما كسرت لك فخّارةً قطّ. والماجشون ما كسرت له كبراً (أي طبلاً) ولا بربطاً (أي عوداً للغناء). وفيات الأعيان لابن خلّكان ٦: ٣٧٦؛ تاريخ الإسلام ٥: ١٩؛ سير أعلام النبلاء ٥: ٣٧٠؛ شذرات الذهب ١: ٢٥٩؛ تهذيب التهذيب ١١: ٣٨٩.

١٥٠

«أخرج الحافظ يعقوب بن أبي شيبة بالإسناد عن ابن الماجشون، قال: عرج بروح الماجشون، فوضعناه على سرير الغسل، فدخل غاسل إليه يغسّله فرأى عرقاً في أسفل قدمه يتحرّك، فأقبل علينا وقال: أرى عرقاً يتحرّك ولا أرى أن أعجّل عليه! فاعتللنا على النّاس بالأمر الّذي رأيناه وفي الغدجاء النّاس، وغدا الغاسل عليه فرأى العرق على حاله، فاعتذرنا إلى النّاس فمكث ثلاثاً على حاله والنّاس يتردّدون إليه ليصلّوا عليه، ثمّ استوى جالساً وقال: ايتوني بسويق، فأتي به فشربه فقلنا له: خبّرنا، ما رأيت؟ فقال: نعم عرج بروحي فصعد بي الملك، حتّى أتى سماء الدّنيا، فاستفتح ففتح له، ثمّ عرج هكذا في السّموات حتّى انتهى إلى السّماء السّابعة، فقيل له: من معك؟ قال: الماجشون. فقيل له: لم يأن له بعد، بقي من عمره كذا وكذا سنةً، وكذا وكذا شهراً، وكذا وكذا يوماً، وكذا وكذا ساعة ثمّ هبط فرأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبا بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعمر بن عبد العزيز بين يديه، فقلت للملك الّذي معي: من هذا؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قلت: إنّه لقريب من رسول الله! فقال: إنّه عمل بالحقّ في زمن الجور، وإنّهما عملا بالحقّ في زمن الحقّ». (١)

ليس من إشكال أن ينال الماجشون هذه المنزلة الرفيعة والكرامة العظيمة جزاءً وثواباً للبرّ الّذي كان يقوم به والعمل الصالح الّذي ضرب به القدح المعلّى ألا وهو اقتناء القيان وتعليم أهل المروءة (كذا) الغناء والضرب بالعود والطنبور فلا عدم الشيطان أولياءً!

إلاّ أنّ الإشكال هو: هل إنّ ملك الموت مستقلّ في عمله وحركته، فاشتبه عليه أوان قبض روح الماجشون؟ أم إنّ الاشتباه من الآمر وهو الله؟! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

____________________

(١) نفس المصدر، ومرآة الجنان لليافعيّ ١: ٣٥١؛ تهذيب الكمال للمزيّ ٣٢: ٣٣٨، وقال: روى له مسلم، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ. وله ترجمة في الكاشف للذهبيّ ٣: رقم ٦٤٩٩؛ الجرح والتعديل ٩ رقم ٨٦٣؛ تاريخ البخاريّ الكبير ٨ رقم ٣٤٤٧؛ طبقات خليفة ٤٦٧ وقال: الماجشون - بضمّ الجيم والشين.

١٥١

جيوش الخليفة تسير على صفحة الماء

تتكرّر أخبار الّذين يمطرون السّماء، وتعبر جيوشهم على صفحة الماء مثل سيرها على أديم الأرض المعبّدة. عن أبي هريرة، وأنس، قالا: «جهّز عمر بن الخطّاب جيشاً واستعمل عليهم العلاء (١) بن الحضرميّ، وكنت في غزاته، فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفّوا آثار الماء - أي درسوا آثار الماء ومحوها - والحرّ شديد، فجهدنا العطش ودوابّنا وذلك يوم الجمعة، فلمّا مالت الشّمس لغروبها صلّى بنا ركعتين، ثمّ مدّيده إلى السّماء، وما نرى في السّماء شيئاً، قال: فو الله ما حطّ يده حتّى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً، وأفرغت حتّى ملأت الغدر والشّعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا، ثمّ أتينا عدوّنا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال: يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم. ثمّ قال: أجيزوا باسم الله. قال: فأجزنان ما يبلّ الماء حوافر دوابّنا...» (٢) .

لا ينبئك مثل خبير، ولكن: لم القسم سواء من أبي هريرة خليفة الحضرميّ في ولاية البحرين، أو أنس وما أدراك ما أنس؟!، وكلاهما ثقة وأيّ ثقة! - وكفى بهما أن تغطّي أحاديثهما صفحة السّيرة والفقه لكثرتها الكاثرة. وإذا كان الحضرميّ مجاب الدّعوة حتّى يركم سحاباً ويمطره! ويخرج البحر عن طوره فتجتازه تلك الجموع بخيلها وجمالها وأحمالها، فلم لا تبتلّ حوافر دوابّهم كما بتلّت أجساد المجاهدين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بدماء نحورهم وكسرت رباعيّة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستجاب الله تعالى دعاء نبيّه فحقّق له النّصر

____________________

(١) العلاء بن الحضرميّ، من حضرموت؛ واسم الحضرميّ: عبد الله بن عباد، ويقال ابن عماد، وقيل غير ذلك؛ حليف بني أميّة. توفّي والياً على البحرين فاستعمل عمر بعده أبا هريرة.

أخته الصعبة بنت الحضرميّ، تزوّجها أبو سفيان وطلّقها فخلف عليها عبيد الله بن عثمان التيميّ، فولدت له طلحة بن عبيد الله التيميّ، قتله مروان بن الحكم يوم الجمل في عسكر عائشة! وأخو العلاء هو عامر بن الحضرميّ قتل يوم بدر كافراً، وأخوهما عمرو بن الحضرميّ أيضاً قتل مشركاً. الاستيعاب ٣: ١٤٦ - ١٤٧، الإصابة ٢: ٤٩٨؛ المحبّر لابن حبيب ١٢٦؛ طبقات خليفة ٤٢؛ طبقات ابن سعد ٤: ٣٥٩؛ أسد الغابة ٤: ٧٤ - ٧٥؛ سيرة ابن هشام ٢: ٢٧٥، ٣١١، ٣٦٥.

(٢) البداية والنهاية ٦: ١٥٥، وفي الاستيعاب، والإصابة، وأسد الغابة أوجزوا الخبر قالوا: خاض البحر بكلمات قالها ودعا بها. قالوا: وكان مجاب الدّعوة.

١٥٢

ولكن بعد أن صدّق المسلمون الجهاد وقدّموا قرابين الشّهادة؟! اللّهمّ إلاّ أن يكون ابن الحضرميّ أفضل عند الله من نبيّه! فصدّقوا استجابة دعائه على نحو ما تقدّم، ولم يصدّقوا استجابة دعاء النّبيّ في حبس الشّمس!

قصّة أخرى

ورووا مثل ذلك عن سعد بن أبي وقّاص الذي نعتوه كذلك أنّه مجاب الدّعوة. قالوا: أرسل عمر بن الخطّاب جيشاً إلى مدائن كسرى، فلمّا بلغوا شاطئ الدّجلة لم يجدوا سفينةً، فقال سعد بن أبي وقّاص وهو أمير السريّة، وخالد بن الوليد: يا بحر! إنّك تجري بأمر الله، فبحرمة محمّد وعدل عمر إلاّ ما خلّيتنا والعبور. فعبروا هم وخيلهم وجمالهم فلم تبتلّ حوافرها (١) !

قد يكون تخلّف سعد بن ابي وقّاص عن بيعة امير المؤمنين عليّ عليه‌السلام عن اجتهاد منه، والمجتهد يخطئ ويصيب - كذا - وأنّه كان بعيداً عن مجلس النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يكن يسمع منه أحاديثه في منزلة عليّ عليه‌السلام وتفضيله وأنّه الوصيّ والخليفة بعده، ولم يحضر بيعة الغدير ولا سمع بها!. ولكن ما هذه الاثنينيّة: المستشفع: سعد أحد العشرة المبشّرة بالجنّة! وخالد صاحب البوائق وعلى رأسها قتله المسلمين من بني يربوع وفيهم مالكبن نويرة الصحابيّ الجليل، ودخوله بزوجة مالك عنوة في اللّيلة ذاتها! وكان عمر يطالب أبا بكر أن يوقع القصاص فيه فيمتنع اجتهاداً ببسالة خالد؛ وكان عليّ يقول لو أنّ لي سلطاناً لقتلت خالداً.

والمستشفع به: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرمته عند الله سبحانه، وعدل عمر! ولا نعلّق هنا إلاّ نقول: أيجوز جعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المعصوم سيّد ولد آدم مطلقاً، وعمر في كفّتي ميزان متعادلة!

وإذا جاز عندهم هذا، وجاز أن يجيب الله سبحانه بحقّهما دعاء سعد وخالد فيبطل مفعول الماء وطبيعته: وهي غرق من يدخل أعماقه ويبلّل ما يلامسه، فهلاّ استجاب سبحانه دعاء نبيّه في ردّ الشمس ليكون أحد معاجزه وكرامةً لوليّه؛ أم ينغضون رؤوسهم

____________________

(١) نزهة المجالس للصفّوريّ ٢: ١٩١.

١٥٣

عتوّاً واستكباراً!

كرامة أخرى لسعد

أخرج ابن الجوزيّ من طريق لبيبة، قال: دعا سعد فقال: يا ربّ إنّ لي بنين صغاراً فأخّر عنّي الموت حتّى يبلغوا، فأخّر عنه الموت عشرين سنة. (١)

ما أعظمها من كرامة لسعد إذ شبّ ابنه عمر بن سعد وبلغ مبلغ الرّجال ليأتمر بأمر يزيد ابن معاوية فيقود الجيش الذي قتل سبط النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته الحسين بن عليّ عليهما‌السلام وأهل بيته! ولا ندري هل يتحمّل سعد بعض وزر ابنه عمر هذا غداً يوم الحساب لدعائه المستجاب وما ترتّب عليه من جريمة شنعاء؟!

دلائل النّبوّة عند ابن كثير

ابن كثير أحد الأبناء الّذين زامنوا الفتن العاصفة فتأثّروا بها وأثّروا، وهم ابن حنبل، وابن الجوزيّ، وابن تيميّة، وابن القيّم، وابن كثير، وخاتمة العقد: ابن عبد الوهّاب التميميّ النّجديّ، وكلّهم يصدرون من مذهب واحد في العقيدة وأصول الدّين وفروعه.

أمعن ابن كثير في ذكر الأخبار الغريبة والشاذّة وأقام من بعضها دلائل على نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

روى ابن كثير عن أبي منظور أنّه قال: «لما فتح الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خيبر، أصابه من سهمه حمار أسود، فكلّم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الحمار فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدّي ستّين حماراً كلّهم لم يركبهم إلاّ نبيّ، لم يبق من نسل جدّي غيري، ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت أتوقّعك أن تركبني. قد كنت قبلك لرجل يهوديّ، وكنت أعثربه، وكان يجيع بطني ويضرب ظهري. فقال له النّبيّ: سمّيتك يعفور، يا يعفور! قال: لبّيك. قال: أتشتهي الإناث؟

قال: لا. فكان النّبيّ يركبه لحاجته فإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرّجل، فيأتي الباب

____________________

(١) صفة الصفوة لابن الجوزيّ ١: ١٤٠.

١٥٤

فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدّار أومأ إليه أن أجب رسول الله. فلمّا قبض النّبيّ جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التّيّهان فتردّى فيها فصارت قبره، جزعاً منه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . (١)

ليس العجب في رفضهم ما بلغ التواتر حتّى أصبح حقيقةً مسلّماً بها، إنّما العجب تصديقهم وتناقلهم لمثل هذه الترّهات التافهة، فهل هو قصد متعمّد للانتقاص من مقام النّبوّة وفتح باب لكلّ عدوٍّ وجاهل ينفذان منه لخوض الجدال والتشكيك، أم ران على أفئدة فهم لا يفقهون؟!

كرامة شيبان

وذكر ابن كثير كرامةً لرجل سمّاه شيبان ومن كرامته أنّ الله تعالى استجاب له دعاءه فأحيا له حماره الميّت. «روى إبراهيم الحربيّ - صاحب أحمد بن حنبل - من طريق مجالد عن الشعبيّ، قال: خرج رجل من النّخع يقال له: شيبان، في جيش على حمار له في زمن عمر، فوقع الحمار ميّتاً، فدعاه أصحاب ليحملوه ومتاعه فامتنع، فقام فتوضّأ ثمّ قام

____________________

(١) البداية والنهاية لابن كثير ٦: ١٥٠. ولم أجد له ذكراً في كتب السّيرة المعتبرة مثل سيرة ابن اسحاق. وغاية ما ذكر الطّبريّ في تاريخه ٢: ٤٢٢ - ذكر أسماء بغال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله - قال: وحماره يعفور أهداه له المقوقس، وكذلك في مختصر تاريخ دمشق ٢: ٢٥٥. ولم أجد فيما حضرني من مصادر شيئاً يركن إليه في ترجمة «أبي منظور» فإنّ كتب النّسب المعتمدة القديمة مثل «جمهرة النّسب للكلبيّ» و «طبقات خليفة بن خيّاط» و «المحبّر» لابن حبيب، و «كتاب النّسب» لابن سلام، تسكت عنه تماماً. في حين تذكره بعض المصادر على نحو يؤكّد كذب الرواية. ذكر ابن حجر في الإصابة ٤: ١٨٦، قال: «أبو منظور» غير منسوب جاء ذكره في خبر واه أورده أبو موسى من طريق أبي حذيفة عبد الله بن حبيب الهذليّ، عن أبي عبد الله السلميّ، عن أبي منظور قال: لما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أظنّه - خيبر أصاب حماراً أسود فكلّمه فتكلّم فقال: ما اسمك؟ قال: يزيد ابن شهاب.. فذكر الحديث بطوله وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سمّاه يعفوراً، قال أبو موسى بعد تخريجه: هذا حديث منكر جدّاً إسناداً ومتناً لا أحلّ لأحد أن يرويه عنّي إلاّ مع كلامي عليه، ومثله في أسد الغابة ٦: ٣٠٤. إنّ الحديث ساقط من ناحية السند فكلّ رجاله مجهولون لا ترجمة لهم ولا وجود! وأحسنهم حالاً «أبو منظور» إذ ذكروه ولكنّه غير منسوب وليس له حديث غير هذا! ولم يسلم إلاّ أبو موسى الّذي أورده، ولكنّه ضعّف الحديث ووصفه على ما سمعناه، مع اضطراب متنه. إلاّ أنّ ابن كثير أطلقه وأطال، فلماذا؟!

١٥٥

عند رأسه فقال: اللّهمّ إنّي أسلمت لك طائعاً، وهاجرت في سبيلك مختاراً ابتغاء مرضاتك، وإنّ حماري كان يعينني ويكفيني عن النّاس، فقوّني به ولا تجعل لأحد عليّ منّة غيرك. فنفض الحمار رأسه وقام فشدّ عليه ولحق بأصحابه» (١) .

لا نكذّب ابنكثير ولا غيره ممّن أثبتوا هذه الحادثة، وذلك من خلال الاعتراض على هذا الولع الشديد عند شيبان بحماره، وتعفّفه المفرط عن أن يكون رديف اصحابه وقد خرج معهم غازياً، ولكن مثلما استجاب الله تعالى له دعاءه فأحيا له حماره، فما وجه الغرابة في عودة الشّمس كرامةً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! أم أنّ شيبان هذا أعظم عند الله منزلةً من نبيّه؟!

كرامة معاوية

عن أبي الفتح القوّاس (٢) «أنّه وجد في كتبه جزءاً له في فضائل معاوية وقد قرضته الفأرة، فدعا الله تعالى على الفأرة الّتي قرضته فسقطت من السّقف، ولم تزل تضطرب حتّى ماتت» (٣) !

لم يثبت عندنا صحّة إسلام معاوية بن أبي سفيان، ولا أبيه أبي سفيان؛ إنّما هو الفتح المبين وتحرير بيت الله الحرام من آسار الوثنيّة والشّرك وتحطيم الأصنام، فتحطّمت بذلك العزّة الوهميّة لطواغيت قريش، وعلى رأسهم أبو سفيان الّذي أخذ له العبّاس بن عبد المطّلب أماناً من النّبيّ، وحتّى اللحظة الحرجة هذه فإنّه أجاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سأله: تشهد أنّي رسول الله؟ قال: أمّا هذه فمنها في القلب شيء!

وكان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا رأى أبا سفيان يقوده ابنه، لعنهما وحذّر ممّا سيكون منهما.

____________________

(١) البداية والنهاية ٦: ١٥٣؛ الإصابة ٢: ١٦٩.

(٢) ترجم له الخطيب البغداديّ في تاريخه، قال: يوسف بن عمر بن مسرور، أبو الفتح القوّاس. سمع البغويّ، وأبابكر بن أبي داود، ومحمّد بن يوسف القاضي وتوفّي سنة ٣٨٥، وحمل إلى قبر أحمد بن حنبل. وكان ثقة صالحاً مأموناً صادقاً زاهداً مستجاب الدّعوة، من الأبدال! قال الدار قطنيّ: كنّا نتبرّك بأبي الفتح القوّاس وهو صبيّ! تاريخ بغداد ١٤: ٣٢٥ - ٣٢٧.

(٣) تاريخ بغداد ١٤: ٣٢٧.

١٥٦

ولم يثبت لمعاوية فضيلة إلاّ دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه: «لا أشبع الله بطنه»! فكان يأكل ولا يشبع. وكان كريماً بالمال بخيلاً بالطّعام يقعد بطنه على فخذيه وفضيلة اُخرى هي خذلانه لعثمان ثمّ خروجه مطالباً بدمه؛ فكانت وقعة صفّين، وما أدراك ما صفّين؟! ومن فضائله: سنّته في سبّ امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وجعل ذلك متمّماً للصّلاة وخطبتها! وقتله الصّالحين مثل حجر بن عديّ الكنديّ وإخوانه ممّا أوجر عليه قلوب أمّهات المسلمين! وتنصيبه ابنه يزيد وليّاً للعهد مع معرفته بحاله. وشتم عليّ عليه‌السلام شتم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن ثمّ شتم لله تعالى، كما في أحاديث النّبيّ، ولأنّ عليّاً نفس رسول الله، كما في آية المباهلة وحديث النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ومن أين علم القوّاس أنّ الفأرة هي سبب تلف تلك الأوراق العزيزة؟! وهل هلاك الفأرة كرامة لمعاوية أم للقوّاس؟

معاجز يهوديّ!

عن الأوزاعيّ (١) ، قال: أردت بيت المقدس فرافقت يهوديّاً، فلمّا صرنا إلى طبرية نزل فاستخرج ضفدعاً، فشدّ في عنقه خيطاً فصار خنزيراً! فقال: أذهب فأبيعه من هؤلاء النّصارى، فذهب فباعه وجاء بطعام. فركبنا فما سرنا غير بعيد حتّى جاء القوم في الطّلب، فقال لي: أحسبه صار ضفدعاً في أيديهم! قال: فحانت منّي التفاتة فإذا بدنه ناحية ورأسه ناحية. قال فوقفت فجاء القوم فلمّا نظروا إليه فزعوا من السّلطان ورجعوا عنه. قال تقول لي الرأس: رجعوا؟ قال قلت: نعم، قال فالتأم الرأس إلى البدن وركبنا وركب. قال: فقلت:

____________________

(١) عبد الرّحمن بن عمرو يحمد الشّامي روى عن عطاء، وعكرمة، وابن سيرين، والأعمش، وابن حزم، ومكحول الشاميّ، ونافع مولى ابن عمر، ومحمّد بن مسلم بن شهاب الزّهريّ. روى عنه: سفيان الثّوريّ، وشعبة ابن الحجّاج، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، والطّبرانيّ، ويحيى القطّان. ولد سنة ٨٨، وكان مكتبه باليمامة، فلذلك سمع من مشايخ أهل اليمامة، وسكن الشّام ومات سنة ١٥٧. عن عبد الرّحمن بن مهدي: الأئمّة في الحديث أربعة: الأوزاعيّ، ومالك، وسفيان الثّوريّ، وحمّاد بن زيد، طبقات ابن سعد ٧: ٤٨٨؛ تهذيب الكمال ١٧: ٣٠٧؛ طبقات خليفة ٣١٥؛ حلية الأولياء ٦: ١٣٥؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ ٦: ٢٢٥؛ وفيات الأعيان ٣: ١٢٧.

١٥٧

لا رافقتك أبداً، اذهب عنّي!» (١) .

هذا هو إمام الحديث: الأوزاعيّ - ولم يكن رافضيّاً - يروي مثل هذه الحكاية!

لعلّ في صحبة الأوزاعيّ لليهوديّ أمراً ليس من شأننا ولا نستطيع استقصاءه؛ فقد يكون لإقامة الدليل له على صحّة الإسلام أو لاتخاذه دليلاً له يوصله إلى بيت المقدس! ولكن ما هذا الّذي ذكره من سلوك صاحبه - اليهوديّ - والذي يرقى إلى معاجز نبيّ الله موسى عليه‌السلام ؟!

معاجز القاسطين

وإذا كان للأولياء من عظيم الشأن عند الله تعالى، فيمطر السماء استجابةً منه سبحانه لدعاء فلان الوليّ، ويجمع ضفتى النهر لوليّه فلان ليعبره من غير عناء... فما بال النّواصب الخوارج لهم من تلكم الرفعة وأعظم؟!

معاجز أبي مسلم (٢) الخولانيّ: جنديّ في عسكر معاوية بن أبي سفيان، ورسوله في حرب صفّين إلى امير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ فلمّا قطعه امير المؤمنين بالحجّة البالغة، خرج وهو يقول: «الآن طاب الضِّراب»!

فهل كرامات هذا الخارجيّ النّاصبيّ القاسط والّتي تبلغ المعجز، من مبالغته في

____________________

(١) تاريخ بغداد ٦: ٢٩٥.

(٢) اسمه عبد الله بن ثوب، ويقال: ابن ثوّاب...، ويقال: ابن عوف، ويقال: ابن مشكم، ويقال: اسمه يعقوب ابن عوف. الاستيعاب ٤: ١٩٢؛ أسد الغابة ٦: ٢٨٨؛ طبقات ابن سعد ٧: ٤٤٨؛ تهذيب الكمال ٣٤: ٢٩٠ - ٢٩٣ أدرك الجاهلية ولم يلق النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولقي أبا بكر، فعداده في التّابعين، يعدّ في أهل الشّام. روى عن عمر ابن الخطّاب، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي عبيدة بن الجرّاح، وأبي مسلم الجليليّ معلّم كعب الأحبار؛ تهذيب الكمال ٣٤: ٢٩٠. روى عنه إبراهيم بن أبي عبلة، وشرحبيل بن مسلم الخولانيّ، وعبد الله بن عروة بن الزّبير، وعطاء الخراسانيّ، وعطاء بن أبي رباح، ومكحول الشّاميّ، وأبو العالية الرّياحيّ وأبو عثمان الخولانيّ؛ تهذيب الكمال ٣٤: ٢٩٠ - ٢٩١.

قال: «روى له الجماعة سوى البخاريّ»؛ تهذيب الكمال ٣٤: ٢٩١. مات الخولانيّ أيّام يزيد بن معاوية. له حديث حسّنه التّرمذيّ، وقال صحيح: ٠ قال الله تعالى: المتحابّون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النّبيّون والشّهداء»؛ الترمذي ٢٣٩٠ ولا ندري لم يغبطهم الأنبياء وهم دليل الهداية لهذه المحبّة!

١٥٨

النّصيحة لابن آكلة الأكباد وقتاله أمير المؤمنين عليه‌السلام ؟!

روى إسماعيل بن عيّاش، عن شرحبيل بن مسلم الخولانيّ: إنّ الأسود العنسيّ أخذ أبا مسلم الخولانيّ فألقاه في نار عظيمة فلم تضرّه! فأتى أبو مسلم المدينة فبصر به عمر بن الخطّاب فاعتنقه وبكى، ثمّ ذهب به إلى أبي بكر وأجلسه بينهما، وقال: الحمد لله الّذي لم يمتني حتّى أراني في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله». (١)

إنّ نجاة الخولانيّ من النّار تعطيل لسنّة الله تعالى، إذ من طبيعتها إحراق الأشياء من غير مائز؛ أمّا نجاة إبراهيم النّبيّ عليه‌السلام من نار طاغية زمانه «نمرود»، فإنّما هي كرامة لنبيّ من أولي العزم وتثبيت لنبوّته؛ ولم يكن الخولانيّ نبيّاً تصدّق نبوّته المعجزة، ولم يستقم حاله فتكون هذه الكرامة المعجز توكيداً لحرمة المؤمن!

الخولانيّ يخوض دجلة

وأحاديث القوم في كرامات الرّجال كثيرة، تبدأ على وجه البسيطة وتحلّق في الآفاق البعيدة، وفي الأضداد: في فيح النّار ولهيبها، وعلى سطح الماء ونسيمه، وفيهم من يخوض بدابّته الماء الهادر فتخوضه معه الرّجال، وذلك بفضل كرامته ودعائه. ومنهم من يعبّد لجيشه اللّجب وجه البحر فيحيله طريقاً مهيعاً.! قالوا: «أتى أبو مسلم الخولانيّ يوماً على دجلة، وهي ترمي بالخشب من مدّها، فوقف عليها ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثمّ نهر دابّته فخاضت الماء، وتبعه النّاس حتّى قطعوا». (٢)

ولا نعظم على ابن عساكر ذكره هذه الكرامة لأبي مسلم الخولانيّ، وقد ذكر له ما هو أعظم! في خبر: «كان أبو مسلم الخولانيّ بيده سبحة يسبّح بها، فنام والسبحة بيده فاستدارت والتفّت على ذراعه وجعلت تسبّح، وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثّبات» (٣) .

____________________

(١) البداية والنهاية ٨: ١٤٦؛ شذرات الذهب ١: ٧٠؛ الاستيعاب ٤: ١٩٤ وقد شكك به!

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر ٧: ٣١٧.

(٣) نفس المصدر ٧: ٣١٨.

١٥٩

لقد ذكروا في معاجز نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : تسبيح الحصى في كفّه الشريفة. إلاّ أنّ أيادي السّوء امتدّت لتقلب هذه الحقيقة، وتنكر أخرى وتجرّ ثالثةً فتجعل وقوعها وحدوثها كرامة لفئة أو شخص ما؛ عصبيّةً عمياء وربّما لأمر آخر!

وهكذا تعاملوا مع خبر تسبيح الحصى، وليتهم قرنوها بمعجزة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلاّ أنّهم جعلوها خاصّة بهذا الخارجيّ الأمويّ!

ردّ البصر لابن حرب:

«كان سماك بن حرب قد ذهب بصره، فرأى إبراهيم الخليل في المنام فمسح على عينيه، وقال: اذهب إلى الفرات فتنغمس فيه ثلاثاً. ففعل فأبصر». (١)

____________________

(١) الرّوح: ٢٥٨، جاء في ترجمة سماك: سماك بن حرب بن أوس الذّهليّ. مات سنة ثلاث وعشرين ومائة. رأى المغيرة بن شعبة. وروى عن أخيه إبراهيم بن حرب، وأنس بن مالك، والنّعمان بن بشير، والضّحاك ابن قيس، وعبد الله بن الزّبير بن العوّام، ومصعب بن سعد بن أبي وقّاص، والحسن البصريّ، وطارق بن شهاب، وعامر الشّعبيّ. روى عنه سفيان الثّوريّ، وشريك القاضي، وسليمان الأعمش، وشعبة بن الحجّاج، وأبو عوانة، وحمّاد بن سلمة. تاريخ بغداد ٩: ٢١٤؛ الطبقات الكبرى لابن سعد ٦: ٣٢٣؛ أنساب السمعانيّ ٦: ٣٠؛ الكامل في التاريخ ٥: ٢٧٥؛ سير أعلام النبلاء ٥: ٢٤٥؛ تاريخ الإسلام ٥: ٨٤؛ تهذيب التهذيب ٤: ٢٣٢؛ شذرات الذّهب ١: ١٦١؛ تهذيب الكمال ١٢: ١١٥؛ طبقات خليفة ١٦١؛ التاريخ الكبير للبخاريّ ٤ ترجمة ٢٣٨٢، العبر ١: ٢٣٦.

وأخباره مضطربة. عن حمّاد بن سلمة عن سماك، قال: أدركت ثمانين من أصحاب النّبيّ! تاريخ بغداد ٩: ٢١٤. ومثله في: الجرح والتعديل: ٤ ترجمة ١٢٠٣؛ تاريخ البخاريّ، وتهذيب الكمال: ١١٨، وفيه: وكان قد ذهب بصري، فدعوت الله فردّ عليّ بصري.

وقال فيه أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث. الجرح والتعديل ٤ ترجمة ١٢٠٣؛ تهذيب الكمال ١٢: ١١٩ وقال عبد الرّحمن بن يوسف بن خراش: في حديثه لين. تاريخ بغداد ٩: ٢١٦؛ تهذيب الكمال ١٢: ٢١. وقال زكريّا بن عديّ، عن ابن المبارك: سماك ضعيف في الحديث، تهذيب الكمال ١٢: ١٢١. وقال يعقوب بن شيبة: قلت لعليّ بن المدينيّ: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة: تهذيب الكمال ١٢: ١٢٠.

وقال صالح بن محمّد البغداديّ: يضعّف. تاريخ بغداد ٩: ٢١٦؛ تهذيب الكمال ١٢: ١٢٠. وقال النّسائيّ: ليس به بأس، وفي حديثه شيء؛ تهذيب الكمال ١٢: ١٢٠.وفي الهامش قال: ونقل مغلطاي وابن حجر عن =

١٦٠

إذا كان مقام سماك عند الله تعالى: أن يصدقه الرؤيا؛ فيردّ عليه بصره، فما المانع أن يردّ سبحانه الشّمس لنبيّه؟ أم أنّ مقام سماك أعلى من مقام النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

قال: وكان إسماعيل بن بلال الحضرميّ قد عمي فأتي في المنام فقيل له: قل: يا قريب يا مجيب يا سميع الدّعاء يا لطيف بمن تشاء، ردّ عليّ بصري، فقال اللّيث بن سعيد: أنا رأيته قد عمي ثمّ أبصر. (1)

بقرة سهل التّستريّ

أبو نعيم، قال: سمعت أبا الفضل أحمد بن عمران الهرويّ يحكي عن بعض أصحاب أبي العبّاس الخوّاص، قال: كنت أحبّ الوقوف على شيء من أسرار سهل (2) بن عبد الله،

____________________

= النّسائيّ أنّه قال: كان ربّما لقّن فإذا انفرد بأصل لم يكن حجّة لأنّه كان يلقّن فيتلقّن. وقال أبوبكر بن أبي خيثمة: سمعت يحيى بن معين سئل عن سماك بن حرب: ما الّذي عابه؟ قال: أسند أحاديث لم يسندها غيره. الجرح والتعديل، تاريخ بغداد، تهذيب الكمال. وكان شعبة يضعّفه. الجرح والتعديل، تهذيب الكمال... ولم يذكره ابن حبّان، ولا ابن شاهين في الثّقات. وفي تاريخ الثّقات للعجليّ 207 / 621: كان في حديث عكرمة ربّما وصل عن ابن عبّاس، وربّما قال: قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما عركمة يحدّث عن ابن عبّاس، وكان سفيان الثّوريّ يضعّفه بعض الضعف. وقد ذكره أبو الفرج في المنتظم 7: 225 قال: توفّي سنة ثلاث وعشرين ومائة. كان «قد ذهب بصره فرأى إبراهيم الخليل عليه‌السلام فأصبح يبصر». ولم يذكر كيف عرف الخليل وهو لم يره من قبل مضافاً إلى أنّه كان أعمى؟!

(1) الرّوح: 258.

(2) جاء في ترجمته: أبو محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع التّستريّ، نسبته إلى تستر، وهي بلدة من كور الأهواز من خوزستان، يقول لها النّاس: ششتر؛ بها قبر البراء بن مالك. توفّي بالبصرة وذلك سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وفيات الأعيان 3: 149. وقال: كان صاحب كرامات، لم يكن له في وقته نظير في المعاملات. ولقي الشيخ ذا النون المصريّ، بمكّة. وكان له اجتهاد وافر ورياضة علميّة، وكان سبب سلوكه هذا الطريق خاله محمّد بن سوّار، وذكر في ذلك قصّة. نفس المصدر.

وترجم له الذهبيّ، قال: سهل بن عبد الله التّستريّ الإمام العارف أبو محمّد شيخ الصّوفيّة روى عنه خاله محمّد بن سوّار، وصحبه ذو النون المصريّ قليلاً؛ لقيه بمكّة، كان من أعيان الشيوخ في زمانه، يعدّ مع الجنيد: =

١٦١

فسألت بعض أصحابه عن قوّته فلم يخبرني أحد منهم بشيء، فقصدت مجلسه ليلة من الليالي فإذا هو قائم يصلّي، فأطلت القيام وهو قائم لا يركع، فإذا أنا بشاة جاءت فرجمت باب المسجد وأنا أراها، فلمّا سمع حركة الباب ركع وسجد وسلّم وخرج وفتح الباب، فدنت الشاة منه ووقفت بين يديه، فمسح ضرعها فحلبها وجلس فشرب ثمّ مسح بضرعها وكلّمها بالفارسيّة فذهبت في الصحراء ورجع هو إلى محرابه. (1)

والمدهش حقّاً: معرفة سهل لسان الشّاة ولغتها؟ ولكن لم كلّمها بالفارسيّة دون سائر اللّغات؟! إلاّ إذا قلنا إنّ البهم أمم كما هو حال البشر، فتعدّدت لغاتها لذلك، وليس كلّ إنسان يتأتّى له ملكة معرفة لغات الحيوانات وإنّما هو خاصّ بالأولياء من أمثال سهل، لما ألزموا أنفسهم به من الرّياضات الجسمانيّة والنّفسيّة الشّاقّة.

«قال أبو الحسن بن سالم: عرفت سهلاً سنين من عمره، كان يقوم اللّيل بفرد رجل

____________________

= أبو القاسم الجنيد بن محمّد بن الجنيد الخزّار القواريريّ، أصله من نهاوند، تفقّه على أبي ثور وقيل كان على مذهب سفيان الثوريّ، وصحب خاله السّريّ السّقطيّ والحارث المحاسبيّ «وفيات الأعيان 1: 323». ثمّ أورد له كلاماً في الحديث وفائدته، وعقّبه بقوله يمدحه: هكذا كان مشايخ الصّوفيّة في حرصهم على الحديث والسّنّة، لا كمشايخ عصرنا الجهلة البطلة الأكلة الكسلة! تاريخ الإسلام 21: 186.

عقيدة سهل بالله تعالى: ويبدو أنّ سهلاً ينحو منحى المثبتين للصّفات للباري عزّ وجلّ، من غير تأويل ولا تنزيه! وأنّه تعالى ينظر إليه ويتكلّم وأنّه على عرشه. قال: «العقل وحده لا يدلّ على قديم أزليّ فوق عرش محدث، نصبه الحقّ دلالةً وعلماً لنا، لتهتدي القلوب إليه ولا تجاوزه، فلا كيف للاستواء عليه، لأنّه لا يجوز للمؤمن أن يقول: كيف الاستواء؟ لم خلق الاستواء؟ وإنّما عليه الرّضى والتّسليم؛ لقول النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّه على عرشه». وإنّما سمّي الزّنديق زنديقاً، لأنّه وزن دقّ الكلام بمنحول عقله، وقياس هوى طبعه، وترك الأثر والاقتداء بالسّنّة، وتأوّل القرآن بالهوى، فعند ذلك لم يؤمن بأنّ الله على عرشه». تاريخ الإسلام 21: 188. إذن ليس لأحد أن يسأل ولا لعقل عاقل أن يجول فيغربل صحيح الحديث من سقيمه! وإلاّ فالحكم بالزندقة ينتظر من لا يؤمن بأنّ الله تعالى بذاته العزيزة على عرشه؛ وليس له تأويل ذلك بالسيطرة والهيمنة والحاكميّة المطلقة لله تعالى!

وفي حلية الأولياء 10: 203: قال سهل بن عبد الله: لا يخرجنّكم تنزيه الله إلى التلاشي... الله يتجلّى كيف شاء وقال: ليس لقول لا إله إلاّ الله ثواب إلاّ النظر إلى الله عزّ وجلّ... المصدر 10: 203.

(1) حلية الأولياء 10: 210.

١٦٢

يناجي ربّه حتّى يصبح» (1) !

هلاّ قام سهل ليله على رجلين اثنين يصلّي، خير له من هذه البدعة؟! وأين كان ابن القيّم عن أخبار سهل، ممّا سلف ذكره وما هو آتٍ؟! فقبل هذه الخرافات وحمل لواء الرّفض للحقائق الثابتة، كسلفه من الأبناء؟!

كرامات ذويب

«توفّي الشّيخ علي ذويب سنة 947، وكان يمشي كثيراً على الماء فإذا أبصره أحد اختفى، وكان يرى كلّ سنة بعرفة ويختفي من النّاس إذا عرفوه» (2) !

هذا وهو ذويب، فكيف لو كان ذئباً؟! وإذا كان اختفاؤه بقدرة القادر عن أبصار الذين يرونه وهو يمشي على وجه الماء، تواضعاً منه لله تعالى، وطرداً لحبّ الشّهرة اللذان هما من أخلاق العارفين، فلماذا يختفي من النّاس بعرفة وهو يؤدّي عبادة وطاعة؟! إلاّ أن يكون سفره إلى الديار المقدّسة غير طبيعيّ، مثل سفر معروف الكرخيّ: يرونه اليوم ببغداد، فإذا كان الغد رأوا بوجهه شجّةً فلمّا سألوه أخبرهم أنّه ذهب إلى بيت الله فزار وطاف وشرب من ماء زمزم فانزلقت رجله، فالشجّة من ذلك!

وفي الوحوش أولياء!

ذكر اليافعيّ في روض الرّياحين 104، قال: قال سهل بن عبد الله رضى الله عنه: أوّل ما رأيت من العجائب والكرامات إنّي خرجت يوماً إلى موضع خالٍ، فطاب لي المقام فيه فوجدت من قلبي قرباً إلى الله تعالى، وحضرت الصّلاة وأردت الوضوء - وكانت عادتي من صباي تجديد الوضوء لكلّ صلاة - فكأنّي أغتممتُ لفقد الماء، فبينما أنا كذلك وإذا دبّ يمشي على رجليه كأنّه إنسان معه جرّة خضراء قد أمسك بيديه عليها، فلمّا رأيته من بعيد توهّمت أنّه آدميّ، حتّى دنا منّي وسلّم عليّ ووضع الجرّة بين يديّ، فجاءني اعتراضُ

____________________

(1) حلية الأولياء 10: 211.

(2) شذرات الذهب لابن العماد الحنبليّ 8: 269.

١٦٣

العلم، فقلت: هذه الجرّة والماء من أين هو؟ فنطق الدبّ وقال: يا سهل! إنّا قوم من الوحوش قد انقطعنا إلى الله تعالى بعزم المحبّة والتوكّل، فبينما نحن نتكلّم مع أصحابنا في مسألة إذ نُودينا: ألا إنّ سهلاً يريد الماء ليجدّد الوضوء! فوضعت هذه الجرّة بيدي، وإذا بجنبي ملكان، فدنوت منهما فصبّا فيها الماء من الهواء وأنا أسمع خرير الماء.

إنّ اعتراض العلم عند سهل وهو ينسج من بنيّات أوهامه مثل هذه القصّة الخرافيّة، قد صرفه إلى سؤال الدبّ المؤمن المنقطع إلى الله تعالى بزهد الأولياء، عن الجرّة والماء الذي فيها، فعاد ليزعم أنّ الملائكة صبّت له الماء في تلك الجرّة، وأنّها أفاضت الماء له من الهواء، من غير أن يشير إلى أنّ الملائكة الّتي كات بجنبه قد ارتفعت عن الأرض! ولما كانت الملائكة بخدمة سهل؛ فقد فاتها شرف السّبق في إحضار الماء الّذي أحرزه الدّبّ!

ولكن ربّما اعترض جاهل! كيف عسر على مثل سهل الحصول على الماء حتّى يحضره له ذلك الدبّ؟ وكان بإمكانه أن يحرّك الرّيح فتثير سحاباً تمطر، أو يفجّر الأنهار؟! ذكر الشّعرانيّ في طبقات الأخيار 1: 158 أنّ سهل بن عبد الله التستريّ قال: أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ستّ سنين، ونظرت في اللّوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلّسهم السّماء وأنا ابن تسع سنين، ورأيت في السّبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجنّ والإنس ففهمته، وحمدت الله على معرفته، وحرّكت ما سكن، وسكّنت ما تحرّك بإذن الله تعالى، وأنا ابن أربع عشرة سنة. (1)

ليس العجب في تصديقهم أضغاث أحلام سهل هذه! وإنّما تكذيبهم سابقيّة امير المؤمنين عليه‌السلام بشرف شهود الوحي وإطلاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه على الدّعوة الإسلاميّة الّتي بعث بها. ودعواهم أنّ عليّاً عليه‌السلام كان صغيراً لا تجري عليه الأحكام! أمّا سهل، فإنّه في عمرٍ أقلّ من سنّ عليّ الذي شهد به نور الدّعوة، يطلعه الباري سبحانه على ما في العلى - وإن لم يصرّح لنا ماذا شهد في تلك العلى - وبعد غيبوبة سنتين، نظر في اللّوح الّذي ما سبقه

____________________

(1) حلية الأولياء 10: 210. انظر ترجمة سهل بن عبد الله التّستريّ، في: صفة الصفوة 4: 64 - 66؛ المنتظم لابن الجوزيّ 12: 362 رقم 1898؛ العبر 2: 70؛ البداية والنّهاية 11: 74؛ حلية الأولياء 10: 189 - 212 رقم 554؛ وفيات الأعيان منشورات الشريف الرضيّ 2: 281 - 282؛ تاريخ الإسلام 21: 186.

١٦٤

إليه نبيّ مرسل! فكان ذلك سبباً مكنّه بعد سنة من حلّ طلّسهم السّماء الذي أبقاه لغزاً معقّداً تاهت فيه عقول مريديه، فبات سهلاً على سهل أن يؤزّهم ويسكّنهم ويعمّي عليهم كنه الحرف الّذي عجز الإنس والجنّ عن فهمه!

ومن الحتم أنّ سهلاً لو شاء أن يسكّن الشّمس أو يعيدها من بعد مغيب لكان له ذلك! وبذا تسقط حجّة الرّوافض الّذين تمسّكوا بحديث ردّ الشّمس وجعلوه من كرامات عليّ ابن أبي طالب!

حوراء بأربعة آلاف

قال زكريّا بن يحيى (1) النّاقد: اشتريت من الله حوراء بأربعة آلاف ختمة، فلمّا كان آخر ختمة سمعت الخطاب من الحوراء، وهي تقول: وفيت بعهدك، فها أنا التي قد اشتريتني. فيقال إنّه مات عن قريب.

جزى الله النّاقد ما يستحقّ إذ يسّر على التوّاقين للحور العين، ودلّهم على الباب الّذي يلجونه إلى قاصرات الطّرف الحسان. وما أيسره من مهر: أربعة آلاف ختمة! ولكن: من قال إنّ النّداء الّذي سمعه النّاقد كان من حورائه، لا من الشّيطان؟!

إحياء الموتى

ليس ردّ الشّمس أعظم ولا حتّى يساوي ردّ الحياة للميّت، وانتزاع الأرواح عنوةً من قبضة ملك الموت! ولو لا أنّ القرآن الكريم قد أخبر أنّ من معاجز عيسى عليه‌السلام إحياء الموتى ( وَأُحْيِي الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِ اللّهِ ) (2) - تصديقاً لنبوّته وتبكيتاً لجدل بني إسرائيل - لما كان سهلاً

____________________

(1) أحد أئمّة الحديث من تلاميذ أحمد بن حنبل، توفّي سنة 285. جاء في ترجمته: «زكريّا بن يحيى بن عبد الملك بن مروان بن عبد الله، أبو يحيى النّاقد. سمع خالد بن خداش، وأحمد بن حنبل، روى عنه أبو بكر الخلال الحنبليّ، وأبو سهل القطّان. كان أحد العبّاد المجتهدين. قال أحمد بن حنبل فيه: هذا رجل صالح. وقال الدار قطنيّ: هو فاضل ثقة. المنتظم 12: 386 - 387 رقم 1920؛ مناقب أحمد 510؛ تاريخ بغداد 8: 461 - 462.

(2) آل عمران: 49.

١٦٥

تصديق ذلك اعتماداً على الأخبار إلاّ أنّ القوم راقهم أن يوزّعوا معاجز الأنبياء عليهم‌السلام - على هذا أو ذاك ممّن نعتوهم بالزّهد والولاية. ويستوي عندهم ردّ الحياة للإنسان والحيوان حتّى لو كان دجاجةً لم يبق منها إلاّ العظام! وقد مرّت بنا قصّة عودة الحياة إلى حمار شيبان.

باعلوي يحيي الميّت

«لما رجع أبو بكر بن عبد الله باعلوي من الحجّ، دخل زيلع، وكان الحاكم بها يومئذ محمّد بن عتيق. فاتّفق أنّه ماتت أمّ ولد للحاكم المذكور، وكان مشغوفاً بها فكاد عقله يذهب لموتها، فدخل عليه السيّد  باعلوي لما بلغه عنه من شدّة الجزع ليعزّيه ويأمره بالصّبر، وهي مسجّاة بين يديه بثوب، فعزّاه وصبّره فلم يفد فيه ذلك، وأكبّ على قدمي الشّيخ يقبلّهما وقال: لا سيّدي! إن لم يحي الله هذه متّ أنا أيضاً، ولم يبق لي عقيدة في أحد! فكشف السيّد عن وجهها وناداها باسمها، فأجابته: لبّيك؛ وردّ الله روحها. وخرج الحاضرون ولم يخرج السيّد حتّى أكلت مع سيّدها الهريسة وعاشت مدّة طويلة» (1) .

لا نعترض على ابن العماد الحنبليّ ولا على غيره من رواة هذه القصص، ولكن لنا أن نسألهم: هل إعادة الحياة لحمار شيبان، وردّ روح هذه المرأة ونظائر ذلك إلاّ ايمان بمبدأ (2) الرّجعة الذي يعتقده المسلمون من شيعة امير المؤمنين عليه‌السلام ؛ والذي جعلوه أحد الأمور الّتي يشنّعون بها عليهم ويصمونهم لأجلها بالكفر والزندقة؟!

وقال ابن العماد: «دخل أحمد بن يحيى الشّاويّ اليمنيّ على القاضي عثمان بن محمّد الناشريّ وقد أرجف بموته، ثمّ خرج وعاد إليه وقال لأهله: قد استمهلت له ثلاث سنين. فأقام القاضي بعدها ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص». (3)

____________________

(1) شذرات الذّهب 8: 63.

(2) ويتلخّص في أنّ الله تعالى يردّ قوماً من الأموات إلى الدّنيا في صورهم الّتي كانوا عليها فيعزّ منهم فريقاً ويذلّ فريقاً، ويدلّ المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وقد جاء القرآن بصحّة ذلك وتظاهرت به الأخبار. انظر: أوائل المقالات للشيخ المفيد: 88 - 89.

(3) شذرات الذّهب 7: 240.

١٦٦

عبد القادر ينتزع الأرواح من ملك الموت

قال أحمد الرّفاعيّ: توفّي أحد خدّام الشّيخ عبد القادر (1) الگيلانيّ، وجاءت زوجته إليه فتضرّعت والتجأت إليه وطلبت حياة زوجها، فتوجّه الشّيخ إلى المراقبة، فرأى في عالم الباطن أنّ ملك الموت يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فقال: يا ملك الموت! قف، واعطني روح خادمي فلان. فقال ملك الموت: إنّي أقبض الأرواح بأمر إلهيّ وأودّيها إلى باب عظمته، كيف يمكنني أن أعطيك روح الّذي قبضته بأمر ربّي؟ فكرّر الشّيخ عليه إعطاء روح خادمه إليه، فامتنع من اعطائه، وفي يده ظرف معنويّ كهيئة الزّنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فبقوّة المحبوبيّة جرّ الزّنبيل وأخذه من يده، فتفرّقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها...» (2) .

إنّ عبد القادر الّذي لا يملك من أمره شيئاً، والذي ترعد فرائصه مثل غيره إذا حضره ملك الموت ليقبض روحه، وقد نعته ابن كثير - وهو من هو! - بجمعه الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وأنّ أكثر أفعاله ومكاشفاته من مغالاة أصحابه، فإنّه قد لوى ملك الموت وفكّ قبضته عن الأرواح الّتي عرج بها في زنبيل معنويّ؛ وذلك بصولة المحبوبيّة! ولكن احتراماً للمحبوبيّة ألم يكن أولى به أن يرفق بسفير الله تعالى المكلّف بقبض الأرواح من عنده سبحانه؟!

وذكر اليافعيّ في مرآة الجنان خبراً آخر من كرامات عبد القادر، أعاد الحياة فيه إلى

____________________

(1) الشّيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلانيّ، نسبة إلى جيلان إقليم في إيران جنوبيّ بحر قزوين. ولد عبد القادر الصّوفيّ بها وانتقل إلى بغداد فتوفّي بها وقبره بها يزار.

في البداية والنهاية 12: 252: الشّيخ عبد القادر بن أبي صالح أبو محمّد الجيليّ، ولد سنة 470، ودخل بغداد، فسمع الحديث وتفقّه على أبي سعيد المخرميّ الحنبليّ، وقد كان بنى مدرسة ففوّضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلّم على النّاس بها ويعظم. وكان له سمت حسن، وكان فيه تزهد كثير، وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً ومكاشفات أكثرها مغالاة. وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنّف كتاب «الغنية» و «فتوح الغيب»، وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة! وبالجملة كان من سادات المشايخ. توفّي سنة 561 وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة الّتي كانت له.

(2) تفريح الخاطر 5. طبع مصر، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ سنة 1339 هـ.

١٦٧

ميّت ولم يكن بشراً وإنّما دجاجة أكل لحمها وبقيت عظامها. قال: «روى الشّيخ الإمام أبو الحسن عليّ بن يوسف بن جرير الشّافعيّ اللّخميّ في مناقب الشّيخ عبد القادر، بسنده من خمسة طرق، وعن جماعة من الشّيوخ الجلّة أعلام الهدى العارفين، قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشّيخ عبد القادر فقالت له: يا سيّدي! إنّي رأيت قلب ابني هذا شديد التعلّق بك، وقد خرجت عن حقّي فيه لله عزّ وجلّ ولك. فقبله الشّيخ وأمره بالمجاهدة وسلوك الطّريق. فدخلت أمّه عليه يوما فوجدته نحيلاً مصفرّاً من آثار الجوع والسّهر، ووجدته يأكل قرصاً من الشّعير، فدخلت إلى الشّيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيّدي! تأكل لحم الدّجاج ويأكل ابني خبز الشّعير؟! فوضع يده على تلك العظام وقال: قومي بإذن الله تعالى. فقامت الدّجاجة سويّة وصاحب!. فقال الشّيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء» (1) .

ومن أخباره: «لما قربت وفاة الشّيخ عبد القادر الجيلانيّ، جاء سيّدنا عزرائيل بمكتوب ملفوف من الربّ الجليل في وقت غروب الشّمس وأعطاه ولده الشّيخ عبد الوهاب، وكان مكتوب على ظهره: يصل هذا المكتوب من المحبّ إلى المحبوب. فلمّا رآه ولده بكى وتحسّر ودخل بالمكتوب مع سيّدنا عزرائيل على حضرة الشّيخ، وقبل هذا بسبعة أيّام كان معلوماً لدى الشّيخ انتقاله إلى العالم العلويّ، وكان مسروراً ودعا الله لمحبّيه ومخلصيه بالمغفرة، وتعهّد لهم أن يكون شفيعاً لهم يوم القيامة، وسجد لله تعالى وجاء النداء: يا أيّتها النّفس المطئنّة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّة. وضجّ عالم النّاسوت بالبكاء، وابتهج عالم الملكوت باللّقاء» (2) . فما أجرأ عزرائيل على الدخول على الجيلانيّ الّذي انتزع منه الأرواح سابقاً!

____________________

(1) مرآة الجنان 3: 356.

(2) تفريح الخاطر / 38.

١٦٨

الله تعالى يثأر للشّيخين

ذكر القيروانيّ (1) عن بعض السّلف، قال: كان لي جار يشتم أبا بكر، وعمر، فلمّا كان ذات يوم أكثر من شتمهما، فتناولته وتناولني، فانصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين، فنمت وتركت العشاء، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقلت: يا رسول الله! فلان يسبّ أصحابك! قال: من أصحابي؟ قلت: أبو بكر، وعمر. فقال: خذ هذه المدية فاذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته، ورأيت كأنّ يدي أصابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها، فانتبهت وأنا أسمع الصّراخ من نحو داره، فقلت: ما هذا الصّراخ؟ قالوا: فلان مات فجأة! فلمّا أصبحنا جئت فنظرت إليه فإذا خطّ موضع الذّبح. (2)

لم يذكروا اسم السّلف الّذي روى هذه الحكاية، ولعل السّبب أنّ القيروانيّ كان يروي كلّ غريبة كما جاء في ترجمته. وأمر آخر: أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصدر أمره لهذا السّلف بذبح من يسبّ الصّحابة إلاّ بعد أن علم أنّه يسبّ أبا بكر وعمر. وعلى هذا لم نجده صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر أحداً من السّلف بذبح معاوية وبطانته الّذين كانوا يسبّون عليّاً عليه‌السلام ويلعنونه!

ومن غرائب القيروانيّ، قال: أخبرني شيخ لنا من أهل الفضل، قال: أخبرني أبو الحسن المطّلبيّ إمام مسجد النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال رأيت بالمدينة عجباً! كان رجل يسبّ أبابكر، وعمر رضي الله عنهما، فبينا نحن يوماً من الأيّام بعد صلاة الصّبح إذ أقبل رجل وقد خرجت عيناه وسالتا على خدّيه، فسألناه: ما قصّتك؟ فقال: رأيت البارحة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ بين يديه، ومعه أبوبكر وعمر فقالا: يا رسول الله، هذا الذي يؤذينا ويسبّنا! فقال لي رسول الله: من أمرك بهذا يا أبا قيس؟! فقلت: عليّ، وأشرت عليه فأقبل عليّ عليّ بوجهه ويده وقد ضمّ أصابعه وبسط السبّابة والوسطى وقصد بها إلى عينيّ، فقال: إن كنت كذبت ففقاً

____________________

(1) أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم الحصريّ القيروانيّ. شاعر له ديوان شعر. وله كتاب «زهر الآداب وثمر الألباب» جمع فيه كلّ غريبة. كان شبان القيروان يجتمعون إليه ويأخذون عنه. توفّي سنة 413 وقيل: سنة 453. تاريخ الإسلام للذهبيّ 30: 340؛ وفيات الأعيان 1: 37؛ سير أعلام النبلاء 18: 139؛ الوافي بالوفيات 6: 61.

(2) الرّوح: 254.

١٦٩

الله عينيك، وأدخل إصبعيه في عيني. فانتبهت من نومي وأنا على هذه الحال، فكان يبكي ويخبر النّاس وأعلن التوبة. (1)

ما أيسر وأكثر رؤية هذا وذاك للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ! ولكن هل في مثل هذا المقام محلّ لتكنية هذا الرّجل من غير تصريح باسمه؟! وما الهدف من نسج مثل هذه القصّة؟! قال ابن القيّم: وذكر ابن أبي الدنيا، عن أبي حاتم الرّازيّ، عن محمّد بن عليّ، قال: كنّا بمكّة في المسجد الحرام قعوداً، فقام رجل نصف وجهه أسود ونصفه أبيض، فقال: يا أيّها النّاس، اعتبروا بي فإنّي كنت أتناول الشّيخين وأشتمهما، فبينما أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آتٍ فرفع يده فلطم وجهي، وقال لي: يا عدوّ الله يا فاسق! ألستَ تسبّ أبا بكر وعمر؟! فأصبحت وأنا على هذه الحالة. (2)

قال: وقال محمّد بن عبد الله المهلبيّ: رأيت في المنام كأنّي في رحبة بني فلان، وإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس على أكمة ومعه أبوبكر واقف قدّامه، فقال له عمر: يا رسول الله هذا يشتمني ويشتم أبا بكر! فقال: جئ به يا أبا حفص، فأتي برجل فإذا هو العمانيّ وكان مشهوراً بسبّهما فقال له النّبيّ: أضجعه، فأضجعه، ثمّ قال: اذبحه، فذبحه قال: فما نبّهني إلاّ صياحه، فقلت: ما لي لا أخبره؟ عسى أن يتوب، فلمّا تقرّبت من منزله سمعت بكاءً شديداً فقلت ما هذا البكاء؟ فقالوا: العمانيّ ذبح البارحة على سريره! قال: فدنوت من عنقه فإذا من أذنه إلى أذنه طريقة حمراء كالدم المحصور. (3)

لم يكلّفنا ابن القيّم عناء التفتيش عن هويّة هذا العمانيّ العلم المشهور بسبّ الشّيخين؛ فبقي مجهولاً لنا لا نعلم من حاله شيئاً!

ليس من شأننا أن نغمط للشّيخين ولا لغيرهما حقّاً، ولكنّ ترك الإنصاف من لدن ابن الجوزيّة هو ما يعنينا هنا؛ إذ يسرد فضائل الشّيخين وغيرهما، وأساسها أحلام قوم رأوها في المنام وتحقّقت في الواقع الملموس، حيث ثأر الله سبحانه ممّن سبّهما فقتله! فهلاّ

____________________

(1) الرّوح: 257.

(2) نفس المصدر 256.

(3) نفس المصدر 257.

١٧٠

حصل مثل ذلك لمن جعل من تتمّة العبادة وأداء الصّلاة هو لعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ؟! وهل من العدل أن ينتقم تعالى ممّن سبّ أبا بكر وعمر، ويغفر لمن خرج على عليّ عليه‌السلام فقاتله، ثمّ جعل سبّه سنّة؟!

قال: قال سعيد بن أبي عروبة (1) ، عن عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلّمت وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بعليٍّ ومعاوية فأدخلا بيتاً وأجيف عليهما الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج عليّ وهو يقول: قضي لي وربّ الكعبة. وما كان بأسرع من أن خرج معاوية على أثره وهو يقول: غفر لي وربّ الكعبة (2) !

هكذا وبهذه السّرعة خرج عليّ عليه‌السلام صنو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وصهره وأبو ذرّيّته، ووصيّه وحامل رايته، المطهّر بصريح القرآن والسّنّة... وقد قضي له! فبماذا كان القضاء؟ أبالحكم - على الطليق ابن الطليق الملعون هو وأبوه على لسان النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجهنّم لخروجه على إمام زمانه العادل، وسفك دماء ألوف المسلمين بذلك الخروج؛ فخالف به أمر النّبيّ وسنّته في وجوب طاعة الحاكم الشرعيّ، مع أنّ مقاتلة عليّ وحربه حرب لله ورسوله بحكم الولاية الشّرعيّة وتنصيص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّ حرب عليّ حرب لله ورسوله، وأنّ حبّه عبادة،

____________________

(1) سعيد بن أبي عروبة، واسمه مهران العدويّ البصريّ، مولى بني عديّ بن يشكر. روى عن: أيّوب السّختيانيّ، والحسن البصريّ، وسليمان الأعمش، وقتادة، ومالك بن دينار، والنّضر بن أنس بن مالك وغيرهم. روى عنه: سفيان الثّوريّ، وسليمان الأعمش - وهو من شيوخه -، وشعبة بن الحجّاج، وإبراهيم بن طهمان والنّضر بن شميل، ويحيى بن سعيد القطّان، ويزيد بن هارون، ويحيى بن مطر المجاشعيّ البصريّ، ويزيد بن زريع... قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب «الجرح والتعديل 4 ترجمة 276». وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم، عن أبيه: سعيد بن أبي عروبة قبل أن يختلط ثقة «نفس المصدر» وقال أبو زرعة الدّمشقيّ، عن دحيم: إنّ سعيد بن أبي عروبة اختلط «نفس المصدر». قال وكيع: كنّا ندخل على سعيد بن ابي عروبة فنسمع، فما كان من صحيح حديثه أخذناه، وما لم يكن صحيحاً طرحناه، الثقات 1: 160. التهذيب 4: 62؛ طبقات خليفة 378 ح تاريخ الإسلام 6: 183؛ الضعفاء لابن الجوزيّ 166. قالوا: مات سعيد ابن أبي عروبة سنة 156، وقيل سنة 157.

(2) الرُّروح: 38 - 29.

١٧١

وأنّ حبه حبّ لله تعالى ورسوله و بغضه بغض لله ورسوله، كما استفاضت بذلك كتب الرجال والتاريخ والحديث عند المصنّفين غير الرّوافض؟!

وخروج معاوية على عليّ عليه‌السلام وما تبع ذلك هو خروج على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعليّ نفس رسول الله على ما هو في آية المباهلة، إلاّ أنّ معاوية قد خرج من القضاء الربّانيّ مغفوراً له لم يعرق له جبين!

( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (1) ؟! ولم يتورّع ابن القيّم من إنكار حديث ردّ الشّمس على أنّه معجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومضى أبعد من ذلك فجعله من مفتريات الشّيعة! وقد وجدنا الكتب المعتبرة عند أهل المذاهب الإسلاميّة قد أصفقت على ذكره على أنّه حقيقة مسلّمة. فلهذا وذاك أطلنا الحديث في هذا الفصل ليكون فيه الفصل ولأنّ الكلام يجرّ إلى الكلام. ونختمه بحديث ردّ الشّمس لإسماعيل الحضرميّ، حيث لم نجد من ابن القيّم ولا غيره اعتراضاً عليه ولا نبساً ببنت شفة فيه!

ردّ الشّمس لإسماعيل (2) الحضرميّ

قال السّبكيّ: ممّا حكي من كرامات الحضرميّ واستفاض، أنّه قال يوماً لخادمه وهو في سفر: قل للشّمس تقف حتّى نصل إلى المنزل. وكان في مكان بعيد، وقد قرب غروبها، فقال لها الخادم: قال لك الفقيه إسماعيل: قفي! فوقفت حتّى بلغ مكانه، ثمّ قال للخادم: أما تطلق ذلك المحبوس؟! فأمرها الخادم بالغروب فغربت، وأظلم الليل في الحال (3) !

____________________

(1) القلم / 36.

(2) إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله الحضرميّ، نسبةً إلى حضرموت.

قال ابن قاضي شهبة الدمشقيّ «779 - 851 هـ) في كتاب طبقات الشّافعيّة 2: 131؛ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل، الشّيخ الإمام الوليّ العارف، قطب الدّين ن الحضرميّ، شارح المهذّب. وله مصنّفات كثيرة. قال الحافظ عفيف الدّين المطريّ: مصنّفاته فيما يتعلّق بالمذهب ببلاد اليمن شهيرة، وكراماته ظاهرة كادت تبلغ حدّ التواتر. توفّي في حدود سنة ستُ أو سبع وسبعين وستمائة.

(3) طبقات الشّافعيّة الكبرى لتقيّ الدّين السّبكي الشافعيّ 5: 51.

١٧٢

إنّ من تأتمر الكائنات بأمره لا يحتاج إلى الشّمس دليلاً إلى منزلة، فعلام هذا الحبس للشّمس؟! وأيّ خطر على الحضرميّ لو أمر الشّمس بنفسه، وإنّما أوكل هذه المهمّة إلى خادمه، الذي خاطب الشّمس بفقه الحضرميّ فوقفت عن سيرها، ثمّ أمرها فغربت؟! وليس لرافضيّ - كذا - أن يشكل على الخبر؛ فهو واحدة من كرامات الحضرميّ المستفيضة! كما وليس له أن يتّخذه دليلاً على صحّة خبر حبس الشّمس لعليّ عليه‌السلام بدعاء النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وقال اليافعيّ (1) : من كرامات إسماعيل الحضرميّ وقوف الشّمس له حتّى بلغ مقصده، لما أشار إليها بالوقوف في آخر النّهار. وهذه الكرامة ممّا شاع في بلاد اليمن وكثر فيها الانتشار، ومنها: أنّه نادته سدرة والتمست منه أن يأكل منها هو وأصحابه من ثمرها، وإليه أشرت بقولي:

هو الحضرميّ نجل الوليّ محمّدٍ

إمام المهدي نجل الإمام الممجّد

ومن جاهه أوما إلى الشّمس أن: قفي

فلم تمش حتّى أنزلوه بمقصدٍ

وترجم له ابن العماد (2) الحنبليّ، وذكر له كرامات عدّة يزاحم بعضها بعضاً فيبزّه في الرفعة والعظمة! من ذلك:

«أنّ ابن معطي قيل له في النّوم: اذهب إلى إسماعيل الحضرميّ واقرأ عليه الحو. فلمّا انتبه تعجّب لكون الحضرميّ لا يحسنه - أي لا يحسن النحو - ثمّ قال: لا بدّ من الامتثال. فدخل عليه وعنده جمع يقرؤون عليه الفقه، فبمجرّد رؤياه قال: أجرتك بكتب النحو! فصار لا يطالع فيه شيئاً إلاّ عرفه بغير شيخ (3) !

ومنها أنّ بعض الصّلحاء رأى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: من قبّل قدم الحضرميّ دخل

____________________

(1) مرآة الجنان وعبر اليقظان لعبد الله بن أسعد اليافعيّ 4: 178.

(2) شذرات الذّهب 5: 361، في أحداث سنة ثمان وسبعين وستّمائة، قال: وفيها توفّي الشّيخ القدوة إسماعيل الحضرميّ. قال المناويّ: قطب الدّين الإمام الكبير العارف الشهير قدوة الفريقين وعمدة الطريقين شيخ الشّافعيّة ومربّي الصوفيّة إمام الأئمّة... ثمّ ذكر كراماته.

(3) شذرات الذّهب 5: 362.

١٧٣

الجنّة. فبلغ الحكميّ مفتي زبيد، فقصده ليقبّلها، فلمّا وقع بصره عليه مدّ له رجليه. (1)

الحضرميّ من أولياء الله تعالى، وهو باب مدينة العلم! والجنّة تحت أقدامه لا تحت أقدام الأمّهات! ولكن كيف يعلم الحضرميّ خطرات النّفوس وخلجات القلوب وما يحصل لها حال المنام؟!

قال: ومنها أنّه زار مقبرة زبيد، فبكى كثيراً ثمّ ضحك فسئل، فقال: كشف لي فرأيتهم يعذّبون، فشفعت فيهم، فقالت صاحبة هذا القبر: وأنا معهم يا فقيه؟ قلت: من أنت؟ قالت: فلانة المغنّية؛ فضحكت وقلت: وأنتِ. (2)

وهذه إحدى شمائل هؤلاء الأصفياء أنّهم لا يشفعون إلاّ من بعد إذنه، ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى فحظيت هذه المغنّية بشفاعة الحضرميّ!

قال: ومنها أنّه قصد بلدة زبيد فكادت الشّمس تغرب وهو بعيد عنها، فخاف أن تغلق أبوابها فأشار إلى الشّمس فوقفت حتّى دخل المدينة، وإليه أشار الإمام اليافعيّ (3) ثمّ ذكر شعر اليافعيّ.

____________________

(1) شذرات الذّهب 5: 362.

(2) نفس المصدر 5: 362.

(3) نفس المصدر.

١٧٤

الفصل الرابع

الصراط المستقيم

( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (1)

مسلم بن حنان، عن أبي بريدة في قول الله تعالى ( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) قال: صراط محمّد وآله. (2)

وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام واحد من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله . وإنّما هو أبو الآل عليه وعليهم السّلام؛ فصراطه هو الصراط المستقيم.

وحدّث حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ بن أبي طالب: «أنت الطريق الواضح، وأنت الطريق المستقيم، وأنت يعسوب المؤمنين». (3)

قوله: «إنّ سورة الفاتحة تتضمّن الردّ على الرّافضة»!

لقد قفى ابن القيّم مسلك ابن تيميّة في تطويع آيات القرآن الكريم لإثبات باطله؛ وليس عكس: بأن يردّا كلّ شيء إلى كتاب الله تعالى ثمّ إلى سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا وضعا قدميهما في غرز غيٍّ تحمّلا وزره في الدنيا والآخرة. قال: ابن القيّم: إنّ سورة الفاتحة

____________________

(1) الفاتحة / 6.

(2) شواهد التنزيل: الحسكانيّ الحنفيّ 1: 57.

(3) نفس المصدر 1: 58.

١٧٥

تتضمّن الردّ على الرّافضة وذلك في قوله:

( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (1) إلى آخرها.

ووجه تضمّنه إبطال قولهم أنّه سبحانه قسّم النّاس إلى ثلاثة أقسام «منعم عليهم» وهم أهل الصراط المستقيم، الّذين عرفوا الحقّ واتّبعوه. و «مغضوب عليهم» وهم الذين عرفوا الحقّ ورفضوه. و «ضالّون» وهم الّذين جهلوه فأخطأوه. فكلّ من كان أعرف للحقّ، وأتبع له؛ كان أولى بالصراط المستقيم، ولا ريب أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هم أولى بهذه الصّفة من الرّوافض...» (2) .

ثمّ خصّص من الصّحابة: أبا بكر، وعمر، على ما نسبه إلى أبي العالية الرّياحيّ، قال: «قال أبو العالية - رفيع الرّياحيّ - الصّراط المستقيم: رسول الله وصاحباه» (3) .

قال: وعن زيد بن أسلم: «الذين أنعم الله عليهم: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبو بكر و عمر» (4) .

قال: «ولا ريب أنّ المنعم عليهم هم أتباعه، والمغضوب عليهم هم الخارجون عن أتباعه. وأشدّ الأمّة مخالفة له هم الرّافضة، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمّة. فقد تبيّن أنّ الصّراط المستقيم: طريق أصحابه وأتباعه. وطريق أهل الغضب والضّلال: طريق الرّافضة» (5) .

الجواب: لقد تعمّد ابن القيّم الكذب في كلامه هذا - كما هو شأنه في جلّ ما يقول وهذا وحده عنوان في تزكية المسلمين الشّيعة الذين رماهم بدائه، أي الكذب، وإذا صحّ تفسير الآية وتواليها، فإنّما يصحّ إطلاق لفظ: الردّ، والباطل، على فرق المشركين واليهود

____________________

(1) سورة الفاتحة / 6.

(2) مدارج السّالكين في إيّاك نعبد وإيّاك نستعين لابن قيّم الجوزيّة 1: 83.

(3) نفس المصدر 1: 84.

(4) نفس المصدر 1: 85. ترجم له ابن الأثير في أسد الغابة 2: 12 باختصار مع اضطراب وتردّد. وفي مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 9: 108 قال: زيد بن أسلم أبو عبد الله العدويّ مولى عمر بن الخطّاب، كان مع عمر بن عبد العزيز في خلافته، واستقدمه الوليد بن يزيد في جماعة من فقهاء المدينة. ولم يذكرا الحديث الذي نسبه إليه ابن القيّم.

(5) مدارج السّالكين 1: 85. وذكره بهذا النصّ في كتابه: التفسير القيّم 63 - 65.

١٧٦

والمنافقين، فهؤلاء أولى بنعوت الضّلال واستحقاق الغضب والعقاب. أمّا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا نتنقّص فضائلهم ونصرتهم للحقّ؛ ولكن أليس عليّ من الصحابة وله من الخصائص ما يجعل شيعته على الصراط المستقيم؟ وإذا كان ابن القيّم قد انتقل في كلامه من العامّ إلى الخاصّ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «أبوبكر و عمر» مستنداً على رواية أبي العالية، فإنّ الرّوايات الّتي تنصّ على أنّ الصراط هو صراط عليّ أوسع من أن يحاط بها، ليس في هذه الآية وحسب، وإنّما في كلّ آية تتساوق معها في المعنى والمعطى من مدلول الصّراط ومشتقّاته. ومثل ذلك كثير في أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . وليس هذا يعني تنقيص الشّيخين وإنكار ما لهما من فضائل، وإنّما هو مقتضى المقال إذ أراد ابن القيّم أن يتّخذ من الصّحابه سبباً يتوصّل به لهدف غير نبيل.

وقبل العرض لحديث الصّراط المستقيم، علينا أن نعطي ترجمة لأبي العالية.

أبو العالية رفيع بن مهران

لم أعثر على ترجمة لأبي العالية، يركن إلى صاحبها في النّقل، وتشفع روايته في أن نعرض صفحاً عن سيل الأحاديث والرّوايات الأخرى، بل نجد في ترجمته طعناً وتضعيفاً... مع عدم وجود ترجمة وافية لنسبه وتاريخ إسلامه. قال خليفة: «أبو العالية الرّياحيّ، اسمه رفيع، اعتقته امرأة من بني رياح بن يربوع، سائبة» (1) .

وقال ابن الأثير: رفيع أبو العالية الرّياحيّ، أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال أبو خلدة خالد بن دينار: سألت أبا العالية الرّياحيّ: أدركت النبيّ؟

قال: لا، جئت بعده بسنتين أو ثلاث. (2)

وفي الإصابة: رفيع بن مهران أبو العالية الرّياحيّ، مشهور في التابعين، له إدراك يقال: إنّه دخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر. وأخرج أبو أحمد الحاكم من طريق أبي خلدة، قال: قلت لأبي العالية: أدركت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: لا، جئت بعده بسنتين أو ثلاث.

____________________

(1) طبقات خليفة بن خيّاط 348؛ المصنّف لابن أبي شيبة 13 رقم 15782.

(2) أسد الغابة 2: 235؛ وتاريخ ابن عساكر 6: 132.

١٧٧

قال عاصم لأبي العالية: من أكبر من رأيت؟ قال: أبو أيّوب؛ غير أنّي لم آخذ عنه شيئاً. وقال الآجرّيّ عن أبي داود: ذهب علم أبي العالية، لم يكن له رواة.

قال الشّافعيّ: «حديث الرّياحيّ رياح! مات سنة تسعين وقيل بعدها بثلاث، والأوّل أقوى» (1) .

وفي تهذيب التهذيب: «رفيع بن مهران أبو العالية الرّياحيّ مولاهم البصريّ. أدرك الجاهليّة، وأسلم بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصلّى خلف عمر.

قال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وأكثر ما نقم عليه حديث «الضّحك في الصّلاة». وكلّ من رواه غيره فإنّما مدارهم ورجوعهم إلى أبي العالية، والحديث له، وبه يعرف، وسائر أحاديثه سقيمة. وقال ابن المدينيّ: أبو العالية، سمع من عمر عن يحيى: لم يسمع من عليّ (2) . وقال أحمد: حدّثنا حجّاج، حدّثنا شعبة: قد أدرك رفيع عليّاً، ولم يسمع منه. وقال النّضر بن شميل، عن شعبة، عن عاصم: قلت لأبي العالية: من أكبر من رأيت؟ قال: أبو أيّوب، غير أنّي لم آخذ عنه شيئاً. رواه ابن أبي حاتم في «المراسيل». وقال العجليّ: تابعيّ من كبار التابعين. (3)

ويقال: إنّه لم يسمع من عليّ، إنّما يرسل عنه.

وعن أبي خلدة، عنه قال: رحم الله الحسن، قد سمعت العلم قبل أن يولد. (4)

وروى أبو أحمد الحاكم، عن أبي خلدة، قال: قلت لأبي العالية: أدركت النبيّ؟ قال: لا، جئت بعده سنتين أو ثلاث. وقال الشّافعيّ: حديث الرّياحيّ رياح. (5)

وفي «لسان الميزان»: (أبو العالية) عن الحسن البصريّ. ما حدّث عنه سوى شريك،

____________________

(1) الإصابة 1: 528؛ العبر 1: 109؛ تذكرة الحفّاظ 1: 62؛ تاريخ البخاريّ الكبير 3 ترجمة رقم 1103؛ المعارف 454؛ تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزّيّ 9: 214 - 218.

(2) تهذيب التهذيب للعسقلانيّ 3: 253 - 254.

(3) نفس المصدر 3: 254؛ تاريخ الثقات للعجليّ: 503.

(4) نفس المصدر 3: 255.

(5) نفس المصدر.

١٧٨

لا يعرف. (1)

وعن قصّة عتق أبي العالية، قال ابن سعد: «أبو العالية الرّياحيّ، واسمه رفيع اعتقته امرأة من بني رياح سائبةً.

قال أبو العالية: اشترتني امرأة فأرادت أن تعتقني، فقال لها بنو عمّها: تعتقينه فيذهب إلى الكوفة فينقطع! قال: فأتت بي مكاناً في المسجد فقالت: أنت سائبة.

قال: والسّائبة يضع نفسه حيث يشاء. (2)

ثمّ ذكر جملة روايات تؤشّر على شخصيّة أبي العالية وتضعه موضع التهمة: عن أبي العالية قال: قرأت المحكم بعد وفاة نبيّكم بعشر سنين، فقد أنعم الله عليّ بنعمتين لا أدري أيّتهما أفضل: أن هداني للإسلام، أم لم يجعلني حروريّاً (3) ؟! وعن يحيى بن خليف قال: حدّثنا أبو خلدة قال: قال أبو العالية: لما كان زمن عليّ، ومعاوية، وإنّي لشابّ القتال أحبّ إليّ من الطّعام الطيّب، فتجهّزت بجهاز حسن حتّى أتيتهم؛ فإذا صفّان لا يرى طرفاهما، إذا كبّر هؤلاء كبّر هؤلاء وإذا هلك هؤلاء هلك هؤلاء. قال فراجعت نفسي فقلت: أيّ الفريقين أنزله كافراً؟! وأيّ الفريقين أنزله مؤمناً؟! أومن أكرهني على هذا؟ فما أمسيت حتّى رجعت وتركتهم» (4) .

إنّ أبا العالية لم يصرّح مع من كان يريد أن يقاتل، مع امير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، أم مع معاوية؟ إلاّ أنّ مجموع القرائن تشير إلى أنّه كان في صفّ معاوية لقوله: «... أم لم يجعلني حروريّاً» أي من الخوارج الّذين انحازوا إلى حروراء. وهو إن لم يكن مع معاوية فهو ليس مع عليّ. ولكن لم تعبّأ للحرب إذن؟!

وهل غاب عنه من هو على حقّ ومن على باطل؟! فإن لم يبلغه مئات الأحاديث الناصّة على أنّ عليّاً عليه‌السلام مع الحقّ وأنّ الحقّ معه، والداعية إلى نصرته... فهلاّ بلغه الحديث

____________________

(1) لسان الميزان لابن حجر العسقلانيّ 7: 70.

(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 112.

(3) نفس المصدر: 113؛ تهذيب الكمال للمزّيّ 9: 216.

(4) الطبقات الكبرى 7: 114.

١٧٩

المشهور أنّ عمّاراً تقتله الفئة الباغية، وقد قتل عمّار شهيداً يوم صفّين في صفّ عليّ عليه‌السلام !.

وإضافة إلى تلك الأخبار في أبي العالية، ذكر ابن سعد، قال: «قال حجّاج، قال شعبة: قد أدرك رفيع عليّاً ولم يسمع منه» (1) . وفي هذا أمارة على مباعدته لعليّ عليه‌السلام . أم يقول قائل: ليس من ضرورات هذا الإدراك السّماع! فإنّ أبا العالية قد لبس لأمة حربه وتوجّه صوب صفّين مدّعياً أنّه أشكل عليه: أعليّ عليه‌السلام على حقّ، أم ابن حرب؟!

وإذا خفي على أبي العالية حال كلّ من عليّ عليه‌السلام ، ومعاوية فما باله يأتمّ بالحجّاج الثّقفيّ الّذي ما خفي حاله على صغير ولا كبير، ولم يتوقّف عن لعنه أحد؛ لعظيم ما جناه من قتله الصّالحين وعدوانه على بيت الله تعالى، وضربه الكعبة بالمنجنيق، واستخفافه بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتفضيله عبد الملك بن مروان على رسول الله، وقوله لما رأى النّاس يطوفون بقبره الشريف: إنّما يطوفون بأعوادٍ ورمّة بالية هلاّ طافوا بقصر امير المؤمنين عبد الملك بن مروان! ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟! وهو ممّا كفّر به الفقهاء الحجّاج. (2)

بيد أنّ أبا العالية هائم حيران! يأتمّ بالحجّاج في الصّلاة حتّى يخاف الله تعالى، ويترك الصّلاة خلفه فيخاف الله لهذا التّرك!. عن أبي العالية قال: «صلّيت أوّل يوم فعلة الحجّاج يعني بآخر صلاة الجمعة قاعداً تلقاء وجهه، فعمّاه الله عنّي. ولقد صلّيت خلفه حتّى لقد خفت الله، ولقد تركت الصّلاة خلفه حتّى لقد خفت الله» (3) . ما أشدّه من تناقض! فإنّه إذا ترك الصلاة خلفه خوفاً من الله ولما كان يرى من أفعال الحجّاج، فلم يخاف الله لهذا التّرك؟! أم هو خوف من الحجّاج؟!

____________________

(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 7: 117.

(2) الفتوح لابن أعثم 6: 275 - 279؛ الإمامة والسياسة، لابن قتيبة 2: 24؛ تاريخ الخلفاء للسيوطيّ 215؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 15: 243؛ الكامل في الأدب للمبرّد 1: 130؛ تاريخ اليعقوبيّ 2: 266.

(3) الطبقات الكبرى، لابن سعد 7: 115.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413