أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)0%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف: السيد علي الحسيني الصدر
تصنيف:

الصفحات: 243
المشاهدات: 49554
تحميل: 6180

توضيحات:

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49554 / تحميل: 6180
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

(2)

وكظم الغَيظ

الكظم هو: الإمساك على ما في النفس، وعدم إظهاره بقولٍ أو بفعل..

وأصله من كَظَمَ القربة: إذا ملأها وشدّ فاها..

فيُقال: كَظَم غيظه كأنّه امتلأ غيظاً فأمسكه، وردّه إلى جوفه.

قال في المجمع: (كَظَمَ غيظه كظماً: إذا تجرّعه وحبسه، وهو قادرُ على إمضاءه، والكظيم: الحابس غيظه) (1) .

والغيظ هو: هيّجان الطبع عند رؤية الإنسان أو سماعه ما يكرهه من فعلٍ أو قولٍ لا يناسبه ولا يلائمه.

وفُسّر بأنّه هو: الغضب المحيط بالكبد (2) .

حيث إنّ للنفس عند الغضب نارٌ ولهيب وحرارة تظهر على الأعضاء، يعني على الوجه، والعين، واللّسان، والفم، واليد.

فيُرى التغيّر البيِّن على هذه الأعضاء، وتحرّكها نحو ما أثار الغضب فيها.

__________________

(1) مجمع البحرين / ص 535.

(2) مجمع البحرين / ص 369.

١٢١

والغضب لغير الله تعالى من الصفات المذمومة..

ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: ـ (الغضب مفتاح كلّ شرّ) (1) .

وفي الحديث الآخر عن الإمام الباقر عليه السلام: ـ (أيّ شيءٍ أشرّ من الغضب؟ إنّ الرجل إذا غضب يقتل النفس، ويقذف المحصنة) (2) .

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال: يا عويش قولي: اللَّهُمَّ ربّ محمّد، اغفر لي ذنبي، وأذهِب غيظ قلبي، وأجرني من مضلّات الفتن) (3) .

وضبط النفس في مواضع الغضب من أشرف السجايا، وأعزّ الخصال، وأسمى آيات العزّة والسموّ التي تربّي الإنسان على عدم إساءة الأخلاق، والأمن من العصيان.

والذي يحلّي الصالحين، ويزيّن المتّقين كظمهم هذا الغيظ، وضبطهم الغضب حتّى لا يثور ويحدث ما يحدث من مساوئ ومفاسد، بل يعفون ويصفحون حتّى يفوزوا بدرجة الصائمين القائمين.

وكظم الغيظ من معالي الأخلاق الطيّبة، ومكارم الخصال الحسنة، التي يحبّها الله تعالى، ودعا إليها رسوله وأهل بيته عليهم السلام، كما تلاحظ ذلك في الكتاب والسنّة.

قال تعالى: ـ

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (4) .

وفي الحديث: ـ

عن الإمام الصادق عليه السلام: (ما من عبدٍ كَظَم غيظاً إلّا زاده الله عزّوجلّ عزّاً

__________________

(1) سفينة البحار / ج 6 / ص 648.

(2) بحار الأنوار / ج 73 / ص 265.

(3) بحار الأنوار / ج 73 / ص 272.

(4) سورة آل عمران / الآية 134.

١٢٢

في الدُّنيا والآخرة...) (1) .

وعن الإمام الباقر عليه السلام: ـ (من كَظَم غيظاً وهو يقدر على إمضاءه حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة) (2) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام: ـ (ما من جرعةٍ يتجرّعها العبد أحبّ إلى الله عزّوجلّ من جرعة غيظٍ يتجرّعها عبد تردّدها في قلبه، إمّا بصبرٍ وإمّا بحلم) (3) .

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: ـ (مَن كَظَمَ غيظاَ وهو يقدر على إنفاذه، وحَلُم عنه أعطاه الله أجر شهيد) (4) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام: ثلاث من كُنّ فيه استكمل خصال الإيمان (وإذا كمل الإيمان حَسُن الأخلاق):

مَن صَبَرَ على الظلم، وكَظَم غيظه واحتسب، وعفا وغفر كان ممّن يدخله الله عزّوجلّ الجنّة بغير حساب، ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر (5) .

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاثة يُرزقون مرافقة الأنبياء: رجلٌ يُدفع إليه قاتل وليّه ليقتله فعفى عنه، ورجلٌ عنده أمانة لو يشاء لخانها فيردّها إلى من ائتمنه عليها، ورجلٌ كظمَ غيظه عن أخيه ابتغاء وجه الله (6) .

والمثل الأعلى لهذه الصفة الحسنة والخلق الطيّب: كظم الغيظ هم أهل البيت عليهم السلام الذين فاتوا جميع الخَلق في هذا الخُلق كما تدلّ عليه سيرتهم الغرّاء سلام الله عليهم

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 110 / ح 5.

(2) اُصول الكافي / ج 2 / ص 110 / ح 7.

(3) اُصول الكافي / ج 2 / ص 111 / ح 13.

(4) الوسائل / ج 12 / ص 178 / ب 114 / ح 12.

(5) بحار الأنوار / ج 71 / ح 44.

(6) بحار الأنوار / ج 71 / ص 417 / ح 44. ولعلّ العفو عن القاتل إنّما هو في صورة ندامته وتوبته ومورديّته للعطف والعفو.

١٢٣

التي كانت النمط الفريد للخُلق السديد.

من ذلك ما تلاحظه فيهم: ـ

رسول الله صلى الله عليه وآله كظمَ وعفى عن المرأة اليهوديّة التي سمّت الشاة له،

وعن هبّار الذي روّع زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فألقت جنينها،

وعن عبد الله ابن الزبعرى الذي كان يهجوه،

وعن وحشي قاتل عمّه حمزة.

وكذلك أمير المؤمنين عليه السلام كظمَ وعفى حين ظفر بعمرو بن العاص في صفّين، وعبد الله ابن الزبير، ومروان بن الحكم، وعائشة في واقعة الجمل، وهم من ألدّ أعداءه، وكذلك كظم غيظه عن عمرو بن عبدودّ العامري في شدّة حماس الحرب الذي يصعب فيها الكظم في واقعة الأحزاب.

والإمام الحسن المجتبى عليه السلام أيضاً..

كان جالساً مع جمعٍ من الأشراف على طعام، فجاء غلامه بطعامٍ حارّ فحبس الفرش رجلَه، فصبّ الطعام على وجهه ورأسه دفعةً، فنظر إلى الغلام نظر تأديب لا نظر تعذيب.

فقال الغلام: إنّ الله يقول: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) .

فقال له: قد كظمتُ غيظي.

قال: ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) .

فقال عليه السلام: قد عفى الله عنك.

قال: ( وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

قال عليه السلام: إذهب فأنت حرٌّ لوجه الله، وعليَّ معيشتك.

فتعجّب من حلمه الحاضرون وقالوا: الله أعلم حيث يجعل رسالته (1) .

__________________

(1) مجموعة الأخبار / ص 78.

١٢٤

والإمام الحسين عليه السلام أيضاً..

جنى غلام له عليه السلام جنايةً توجب العقاب عليه، فأمر به أن يُضرب.

فقال: يا مولاي ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) .

قال عليه السلام: خلّوا عنه.

قال: يا مولاي ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) .

قال عليه السلام: قد عفوت عنك.

قال: ( وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

قال عليه السلام: أنت حرٌّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنتُ أعطيك (1) .

والإمام السجّاد عليه السلام..

كان عنده قومٌ أضياف، فاستعجل خادم له بشواء كان في التنّور، فأقبل به الخادم مسرعاً، فسقط السفود ـ الحديدة التي يُشوى عليها اللّحم ـ منه على رأس بُنيٍّ لعليّ بن الحسين عليه السلام تحت الدَرْجَة، فأصاب رأسه فقتله.

فقال عليّ عليه السلام للغلام، وقد تحيّر الغلام واضطرب: أنت حرٌّ فإنّك لم تتعمّده.

وأخذ في جهاز ابنه ودفنه (2) .

والإمام الكاظم عليه السلام..

وقد كان كاظماً للغيظ اسماً ووصفاً.

والإمام الرضا عليه السلام أيضاً: روي عن محمّد بن زيد الرازي قال: كنت في خدمة الرضا عليه السلام لمّا جعله المأمون وليَّ عهده، فأتاه رجلٌ من الخوارج في كفّه مدية مسمومة، وقد قال لأصحابه: والله لآتينَّ هذا الذي يزعم أنّه ابن رسول الله، وقد دخل لهذا الطاغية فيما دخل، فأسأله عن حجّته، فإن كان له حجّة وإلّا أرحت الناس منه.

__________________

(1) كشف الغمّة / باب فضائل الإمام الحسين عليه السلام.

(2) بحار الأنوار / ج 46 / ص 99.

١٢٥

فأتاه واستأذن عليه، فأذن له.

فقال له أبو الحسن: أُجيبك عن مسألتك على شريطة تفي لي بها.

فقال: وما هذه الشريطة؟

قال: إن أجبتك بجواب يقنعك وترضاه تكسر الذي في كمّك وترمي به.

فبقي الخارجيّ متحيّراً وأخرج المدية وكسرها.

قمّ قال: أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت له، وهم عندك كفّار؟

وأنت ابن رسول الله ما حملك على هذا؟

فقال أبو الحسن: أرأيتك هؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته، أليس هؤلاء على حال يزعمون أنّهم موحّدون واُولئك لم يوحّدوا الله ولم يعرفوه؟ يوسف بن يعقوب نبيٌّ ابن نبيّ قال للعزيز ـ وهو كافر ـ: ( اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكان يجالس الفراعنة، وأنا رجلٌ من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله أجبرني على ه ذا الأمر، وأكرهني عليه فما الذي أنكرت ونقمت عليَّ؟

فقال: لا عتب عليك إنّي اُشهد أنّك ابن نبيّ الله، وأنّك صادق (1) .

هذه نماذجمن كظم غيظ أهل البيت عليهم السلام، وقد جرى في شيعتهم والسائرين على هداهم.

ففي قضيّة الشيخ الكبير كاشف الغطاء أعلى الله مقامه المرجع الأعلى في زمانه.. حكي عنه أنّه وزّع مبلغاً من المال على فقارء إصفهان في سفرٍ له إلى هناك، وبعد نفاد المال صار وقت الظهر، فأمَّ المصلّين، وبين الصلاتين حينما كان الناس مشتغلين بالتعقيبات جاء فقيرٌ وصل متأخّراً، ووقف أمام الشيخ قائلاً له: أعطني حقّي.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 49 / ص 55.

١٢٦

فقال الشيخ: قد تأخّرت قليلاً مع الأسف، ولم يبق من المال شيء.

فتفل هذا الفقر بكلّ وقاحة على لحية الشيخ.

لكن الشيخ كظم غيظه، ولم يرد عليه بشيء، ليس هذا فحسب بل قام وأمسك بطرف ثوب نفسه، ومشى بين المصلّين قائلاً: كلّ من يحبّ لحية الشيخ فليساعد هذا الفقير، فجمع له المال وأعطاه ثمّ وقف يصلّي العصر (1) .

__________________

(1) الفوائد الرضويّة للمحدّث القمّي / ص 74.

١٢٧

١٢٨

(3)

وإطفاء النائِرة

الإطفاء هو: الإخماد، مقابل الإثارة.

والنائرة هي: الفتنة والعداوة.

قال في المجمع: (النائرة: العداوة، ومنه: بينهم نائرة، أي شحناء وعداوة.

ومنه الحديث: أطفئوا نائرة الضغائن باللّحم والثريد ـ أي بالإطعام ـ.

وإطفاء النائرة عبارة عن تسكين الفتنة، وهي فاعلة من النار) (1) .

ومن حلية الصالحين وصفاتهم، ومن زينة المتّقين وأخلاقهم تسكين الفتنة، فإنّهم يُخمدون نار الفتنة والعداوة والضغينة ولا يثيرونها.. حتّى إذا كان السبب في العداوة وحصول الفتنة هو الطرف المقابل لا أنفسهم.

فبالرغم من ذلك المطلوب في أخلاقيّات الدِّين الإسلامي أن يسعى الإنسان في إطفاء عداوة الشخص المقابل وإرضاءه بقولٍ أو فعل، وبمالٍ أو غير مال، وبخدمةٍ أو محبّة، حتّى يعيد السلم والسلام.

__________________

(1) مجمع البحرين / ص 308.

١٢٩

ولا ينبغي أن يقول شيئاً أو يصنع فعلاً يؤجّج نار العداوة، ويثير شرّ الفتنة، فيزيد في الطين بلّة وفي القلب علّة، ويفتح المجال لوسوسة الشيطان الرجيم وكيده وشرّه.

فإنّ الفتنة والعداوة من شرّ الشيطان وكيده، عداوةً منه لبني آدم، وحقداً منه للنبيّ آدم عليه السلام في ذرّيته.

قال تعالى: ( يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ) (1) فإنّه عدوّ الإنسان، وأقسم بعزّة الله أن يغوي جميع البشر إلّا عباد الله المخلصين، لذلك يؤجّج دائماً نار الفتنة بين المؤمنين، ويدعو إلى الخصام بين الأقارب والأرحام، ويثير العداء بين الأحبّاء والأصدقاء.

ولهذا يعظنا الله تعالى بموعظته البليغة، ويحذّرنا من كيده وشرّه ونبّه الإنسان بأبلغ بيان، في آياتٍ عديدة من محكم القرآن مثل: ـ قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ) (2) .

وقوله تعالى: ( وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (3) .

وقوله تعالى: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) (4) .

وقوله تعالى: ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ) (5) .

وقوله تعالى: ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) (6) .

فالشيطان مترصّدٌ لشبّ آثار عداوته لبني آدم، وإيصال مكائده للبشر،

__________________

(1) سورة المائدة: الآية 91.

(2) سورة الأعراف: الآية 27.

(3) سورة النور: الآية 21.

(4) سورة فاطر: الآية 6.

(5) سورة الفرقان: الآية 29.

(6) سورة العنكبوت: الآية 38.

١٣٠

وترغيبه إلى كلّ معصية.

ففي حديث النهج الشريف: ( وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيَّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنِّهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا، إذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا ) (1) .

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بينما موسى بن عمران عليه السلام جالس إذ أقبل عليه إبليس، وعليه بُرنس ذو ألوان، فلمّا دنا من موسى خلع البرنس وأقبل عليه فسلّم عليه.

فقال موسى: مَن أنت؟

قال: أنا إبليس.

قال موسى: فلا قرّب الله دارك، فيمَ جئت؟

قال: إنّما جئت لاُسلّم عليك لمكانك من الله عزّوجلّ.

فقال له موسى: فما هذا البُرنس؟

قال: اختطف به قلوب بني آدم.

قال له موسى: أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه؟

فقال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغُر في عينه ذنبه.

ثمّ قال له: اُوصيك بثلاث خصال يا موسى:

لا تَخْلُ بامرأةٍ، ولا تَخْلُ بك، فإنّه لا يخلو رجل بامرأةٍ ولا تخلو بك إلّا كنتُ صاحبه دون أصحابي.

وإيّاك أن تعاهد الله عهداً، فإنّه ما عاهد الله أحدٌ إلّا كنتُ صاحبه، دون أصحابي، حتّى أحوُل بينه وبين الوفاء به.

وإذا هممت بصدقةٍ فامضِها، فإنّه إذا همَّ العبد بصدقةٍ كنتُ صاحبه دون

__________________

(1) نهج البلاغة / الخطبة 63.

١٣١

أصحابي أحول بينه وبينها.

ثمّ ولّى إبليس ويقول: يا ويله، ويا عوله، علّمتُ موسى ما لا يعلّمه بني آدم (1) .

وعليه يلزم علينا لدفع كيد الشيطان إطفاء نائرات الاخوان، في سبيل إيجاد المودّة، ونشر المحبّة، وسيادة الأخلاق الحسنة.

وأهل البيت عليهم السلام هم الطليعة المثلى، في هذه الصفة الفضلى، بإطفاء نائرات العداء من أعدائهم.

حتّى بالنسبة إلى الذين كانوا يسبّونهم ـ والعياذ بالله ـ كان أهل البيت عليهم السلام يقابلونهم بالجميل، وبخير بديل.

بالرغم من أنّ سبّهم يوجب النُصب والكفر في الدُّنيا، ودخول النار في الاُخرى.

ففي حديث ابن عبّاس: أنّه مرّ بمجلسٍ من مجالس قريش وهم يسبّون عليّ ابن أبي طالب عليه السلام.

فقال لقائده: ما يقول هؤلاء؟

قال: يسبّون عليّاً.

قال: قرّبني إليهم، فلمّا أن وقف عليهم قال: أيّكم السابّ الله؟

قالوا: سبحان الله، ومن يسبّ الله فقد أشرك بالله.

قال: فأيّكم السابّ رسول الله صلى الله عليه وآله؟

قالوا: ومن يسبّ رسول الله فقد كفر.

قال: فأيّكم السابّ عليّ بن أبي طالب؟

قالوا: قد كان ذلك.

__________________

(1) أمالي الشيخ المفيد / ص 93 / ح 7.

١٣٢

قال: فأشهد بالله، وأشهد لله، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: مَن سبّ عليّاً فقد سبّني، ومَن سبّني فقد سبّ الله عزّوجلّ)، ثمّ مضى... (1) .

هذا حكم من سبّ أحد الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، لكن مع ذلك كان الأئمّة عليهم السلام يقابلونهم بالعفو والإحسان، ويُطفئون بذلك نائرة الأضغان، ومكيدة العدوان، وينجونهم من عذاب الله والنيران.

فإنّ الإمام هو الأب العطوف، والوالد الرؤوف، والغيث والرحمة لجميع الاُمّة.

ونماذج إطفائهم عليهم السلام النائرات، وإخمادهم العداوات، ظاهرة وشاهرة في سيرتهم المباركة.

من ذلك ما روي عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه، والإمام الحسن عليه السلام لا يردّ.

فلمّا فرغ أقبل الإمام الحسن عليه السلام فسلّم عليه وضحك فقال: أيّها الشيخ أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت.

فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنتَ ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعوَد عليك، لأنّ لنا موضعاً رحباً، وجاهاً عريضاً، ومالاً كثيراً.

فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ثمّ قال: أشهدُ أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت وأبوك أبغضَ خلق الله إليّ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليَّ.

__________________

(1) لاحظ إحقاق الحقّ / ج 5 / ص 50.

١٣٣

وحوَلَ رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبّتهم (1) .

ومن ذلك أيضاً ما روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنّه وقف عليه رجلٌ من أهل بيته فأسمعه وشتمه.

فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلساءه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليله، حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه.

فقالوا له: نفعل، ولقد كنّا نحبّ أن يقول له ويقول..

فأخذ عليه السلام نعليه ومشى وهو يقول: ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .

فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً.

فخرج حتّى أتى منزل الرجل.. فقال: قولوا له: هذا عليّ بن الحسين.

فخرج إلينا متوثّباً للشرّ، وهو لا يشكّ أنّه إنّما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه.

فقال له الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام: يا أخي إنّك كنتَ قد وقفت عليَّ آنفاً وقلت فقلت، فإن كنت قلتَ ما فيَّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر الله لك.

قال: فقبَّل الرجل بين عينيه وقال: بل قلتُ فيك ما ليس فيك وأنا أحقُّ به (2) .

وهذا الخُلُق الشريف يبدّل العداء إلى الإخاء، ويبدّل العداوة إلى المحبّة، فيسود الخلق الطيّب في المجتمع.

وهذه من أهمّ الحِكَم الإلهيّة التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم في قوله عزّ اسمه: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (3) .

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 43 / ص 344.

(2) بحار الأنوار / ج 46 / ص 54.

(3) سورة فصّلت: الآية 34 ـ 35.

١٣٤

وهذه مجاهدة عظيمة وخليقة كريمة تحلّى به أهل البيت عليهم السلام وأمروا به، وربّوا شيعتهم وكرام مواليهم عليه.

كما تلاحظ في قضيّة المرحوم السيّد أبو الحسن الإصفهاني قدس سره:

حدّث بعض الأجلّاء أنّه كان هناك رجلٌ يسبّ السيّد بسبٍّ لاذعٍ وكلماتٍ نابية، لا لشيء، فإنّ السيّد لم تصل مه أذيّة إليه، ولا تكلّماً عليه.

وكان ذلك الرجل له أيضاً شخصيّة اجتماعيّة، لكنّه كان يحسد السيّد، وكلّما ذكر السيّد أو ذُكر عنده كان يسبّه، والسبّ يصل إلى السيّد وهو ساكت.

وذكر بعض الصلحاء الذي كان صديقاً للسيّد ولذلك الرجل أيضاً وقال: إنّي كنت أتألّم من هذا السبّ، وكلّما أنهى ذلك الرجل لا يفيده.

وسألت من السيّد رحمه الله يوماً: ما العلاج؟

فأجاب السيّد: العلاج بيدك، انظر وانتظر لي مناسبةً لهذا الرجل حتّى أزوره.

قلت: أنت تزوره مع هذا السبّ والبذاء؟!

قال: نعم أزوره.

ففرحت أنا من هذه الأريحيّة الطيّبة من السيّد التي تنحلّ معها المشكلة، وتحيّنتُ الفرصة لهذه الزيارة الإصلاحيّة.

ومرِضَ الرجل يوماً، وصار طريح الفراش، وقام الناس بزيارته، فأخبرت السيّد بذلك.

فقال السيّد: نعم أزوره أنا، فخُذ لي منه موعداً لزيارته.

فجئت إلى الرجل، وبدأتُ معه الكلام بلين ورفق..

ثمّ قلت له: ألا تحتمل أنّ السيّد أيضاً يزورك الآن كما يزورك الناس؟

قال الرجل: ـ كلّا، السيّد لا يزورني، لأنّه بلغه عنّي سبّي له، وعداوتي معه، فهو لا يزورني بتاتاً.

١٣٥

قلتُ له: ـ لو فرضنا أنّه زارك، ما تصنع؟

قال: ـ والله اُهينه.

قلت له: ـ خافْ من الله، سيّد، ابن رسول الله، عالِم، مرجع تقليد، ما يجوز أن تهينه.

ثمّ أنت ابن عشيرة عربيّة، وعيب عند العرب يهينوا الضيف، عيب عليك.

وحينما قلت له هذا صفن، ونزل عن تلك الحدّة الشديدة التي كانت له، وقال: لو فرضنا زارني السيّد أنا ما أهينه، لكن ما أقوم له، فقط سلام وعليك.

فأخبرت السيّد أنّه وصلت القضيّة إلى هذه المرحلة.

فقال السيّد: طيّب، نزوره هذه الليلة.

فحان الليل، وجاء السيّد وأنا معه لزيارة الرجل، وسلّم بطيب على الرجل، وأستفسر عن حاله، ورجا له الشفاء..

والرجل يتمارش أمام السيّد، ويُظهر له أنّه لم يقدر على التحرّك، وما قام للسيّد.

لكن السيّد تلاطف معه كثيراً، وأبدى له حُسن أخلاقه وطيب كلامه.

فهشّ الرجل وبشّ في الأخير، حتّى أنّه حينما ودّعه السيّد، وأراد الخروج قام له الرجل، وذهب معه إلى باب الدار.

وخرجت أنا أيضاً مع السيّد قدس سره.

ثمّ إنّي رجعت إلى الرجل فقلت له: كيف رأيت السيّد؟

فأجاب: والله هذا صاحب الزمان، وهذا وراءه سيّد أبو الحسن، فصار من أولياء السيّد، ومن المدافعين عنه.

هذه الأخلاق تحتاج إلى تصميم، ومجاهدة نفس، لذلك يقول الله: ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .

لكنّه يتيسّر بالدّعاء وبالعمل بعون الله تعالى.

وكلاهما لازمان في مكارم الأخلاق، والتخلّق بها.

١٣٦

حيث قال تعالى: ـ ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) (1) .

وقال أيضاً: ـ ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) (2) .

__________________

(1) سورة الفرقان: الآية 77.

(2) سورة النجم: الآية 39.

١٣٧

١٣٨

(4)

وضمّ أهلِ الفُرقة

الضمّ هو الجمع، من قولهم: ضممته ضمّاً: إذا جمعته، وتضامّ القوم: إذا انضمّ بعضهم إلى بعض.

والفُرقة هي الانفصال، اسمٌ من افترق القوم بعضهم عن بعض بالأبدان أو بالقلوب.

والمستظهر هنا هو التفرّق بالقلوب، أي ضمّ المتفرّقين بقلوبهم.

فمن حلية الصالحين وزينة المتّقين، التأليف بين أرباب القلوب المتنافرة، وإيقاع المحبّة بين الأنفس المتباغضة، وجعل القوم مجتمعين متحابّين.

وهي من أسباب سعادة الدُّنيا والآخرة، ومن مقتضيات الحياة الطيّبة، وتحسين الأخلاق، وإعادة حُسن الخُلق.

واعلم أنّ التعبير بأهل الفرقة دون المتفرّقين يُشعر ويفيد أنّ المقصود بهم هم الذين بناؤهم ورويّتهم الافتراق والمفارقة عن بقيّة الجماعة.

ولعلّ هذا هو الفارق بين هذه الجملة من الدّعاء وبين الجملة الآتية (إصلاح ذات البيت) الذي يستفاد منه إصلاح الفساد بين الذين ليسوا بناؤهم على الافتراق والتفرّق كالأخ وأخيه، والأب وابنه، والزوج وزوجته، والصديق وصديقه.

١٣٩

فقوله عليه السلام: ضمّ أهل الفرقة يستفاد منه تأليف الذين بناؤهم على المفارقة والمشاكسة، فإنّ جمعهم وانضمامهم يوجب عدم النزاع والشِّقاق وعدم الافتراق في المجتمع.

كما ينبغي أن يُعلَم أنّ الحلية والزينة المطلوبين هو ضمّ الفُرقة المذمومة لا الفُرقة عن الباطل والانحياز عنه التي هي فرقة حقّة لازمة، فلا يحسن محاولة الضمّ بين الحقّ والباطل، بل يلزم الافتراق عن الباطل، والتفرّق عن الظلم، فإنّه لا ينضمّ معهم ولا يعينهم ولا يحسن إعانتهم حتّى على بناء مسجد، ولا ينضمّ إليهم في شيء.

فإنّ ذلك معدود من الإعانة على الظلم، والفساد المذموم والمحرّم.

ففي الحديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله: ـ (من مشى مع ظالم فقد أجرم) (1) .

وعن الإمام الصادق عليه السلام: ـ (لا تعنهم على بناء مسجد) (2) .

وعنه عليه السلام: ـ (من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام) (3) .

عليه فليس كلّ فُرقةٍ رذيلة، ولا كلّ ضمّ فضيلة.

وإنّما الفضيلة والصفة الجميلة هو الجمع والتأليف في المتفرّقين الذين كان تفرّقهم مذموماً، فيحسن ضمّهم.

فيجمع بين أهل الفرقة، ويؤلّف قلوبهم، ويرفع الشتات الذي حصل فيهم.

وتأليف القلوب هذا من محامد صفات أهل البيت عليهم السلام وأخلاقهم، حتّى مع الذين عاندوهم، وبنوا على التفرّق عنهم.

فساروا عليهم السلام معهم بالسيرة الحسنة والأخلاق الطيّبة، فاهتدى بعضٌ وضلّ آخرون.

ونموذج ذلك ظاهر من سيرة حياتهم كما تلاحظه في حديث سيرة الإمام

__________________

(1) جامع الأخبار / ص 155.

(2) الوسائل / ج 17 / ص 180 / ح 8.

(3) الوسائل / ج 17 / ص 182 / ح 15.

١٤٠