أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)0%

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 243

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف: السيد علي الحسيني الصدر
تصنيف:

الصفحات: 243
المشاهدات: 49550
تحميل: 6180

توضيحات:

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 243 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49550 / تحميل: 6180
الحجم الحجم الحجم
أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)

مؤلف:
العربية

قميصك أكفنّه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له.

فأعطاه النبيّ قميصه، فقال: آذنّي اُصلّي عليه.

فآذنه، فلمّا أراد أن يصلّي عليه جذبه عمر فقال: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين؟

فقال: أنا بين خيرتين، قال: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ) فصلّى عليه (1) .

2 / في صحيح مسلم بسنده عن عروة بن الزبير:

أنّ عائشة زوج النبيّ قالت:

إعتمّ ـ أي أبطأ ـ رسول الله ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهي التي تُدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله حتّى قال عمر بن الخطّاب نام النساء والصبيان.

فخرج رسول الله فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: ـ... وما كان لكم أن تتزروا ـ أي تستعجلوا ـ رسول الله على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطّاب (2) .

3 / في حلية الأولياء بسنده عن ابن عسيب:

قال: خرج رسول الله ليلاً فدعاني، فخرجت إليه، ثمّ مرّ بأبي بكر، فدعاه فخرج، ثمّ مرّ بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق حتّى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فقال لصاحب الحائط: أطعمنا بُسراً. فجاء بعذقٍ، فوضعه، فأكلوا، ثمّ دعا بماءٍ فشرب فقال: ـ لتُسئلُنَّ عن هذا يوم القيامة.

قال: وأخذ عمر العذق، فضرب به الأرض، حتّى تناثر البُسر نحو وجه

__________________

(1) صحيح البخاري / أحكام الجنائز / باب الكفن من القميص، ورواه الترمذي أيضاً في سننه / ج 2 / ص 185، والنسائي في سننه / ج 1 / ص 269، وابن ماجه في سننه / باب الصلاة على أهل النفاق، وابن عبد البرّ في الاستيعاب / ج 1 / ص 366.

(2) صحيح مسلم / كتاب المساجد / باب وقت العشائين وتأخيرها.

٢١

رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟

قال: نعم (1) .

هذه نماذج ثلاثة تلاحظ فيها بوضوح سوء الأخلاق وإساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان قمّة في الأخلاق، وصاحب الخلق العظيم، بشهادة ربّ العالمين.

لذلك أورد عليه السيّد الفيروزآبادي بقوله: ـ

(أقول) أمّا جذب عمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الرواية الاُولى لمّا أراد أن يصلّي على عبد الله بن اُبيّ وقوله له أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين، فهو ما فيه دلالة واضحة على تجسّر عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسوء أدبه معه، بل يظهر منه أنّ عمر كان يرى الصلاة على عبد الله أمراً حراماً شرعاً وأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قد ارتكب الحرام الشرعي فأراد أن ينهاه عن المنكر.

ولم يكتف بالنهي عنه بالكلام فقط بل نهاه عنه قولاً وعملاً فجذبه وقال له: أليس الله نهاك أن تصلّي على المنافقين. ومن المعلوم أنّ من ينهي النبيّ صلى الله عليه وآله عن المنكر فهو يرى نفسه أتقى لله وأورع، وهذا لعمري إن لم يكن كفراً محضاً كما لا يبعد فهو ضلال بيِّن لا محالة لا يرتاب فيه إلّا أهل الضلال.

ولو كان مقصود عمر مجرّد الاستفهام والاطّلاع على السبب الباعث لصلاة النبيّ صلى الله عليه وآله على ابن أُبيّ لتقدّم إليه واستفهمه بالكلام الطيّب، ولم يتجسّر عليه بجذبه عن الصلاة وبالقول الخشن المذكور، وهذا واضح ظاهر.

(وأمّا صياح عمر بن الخطّاب) على النبيّ صلى الله عليه وآله في الرواية الثانية حين تأخّر في الخروج إلى صلاة العشاء كما يظهر من آخر الرواية حيث قال وذلك حين صاح

__________________

(1) حلية الأولياء / ج 2 / ص 27، وذكره العسقلاني في الإصابة / ج 7 / القسم الأوّل / ص 131، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده / ج 5 / ص 81، والطبري في تفسيره / ج 30 / ص 185، وابن سلطان في المرقاة / ج 4 / ص 397 وقال: إنّه رواه البيهقي أيضاً.

٢٢

عمر بن الخطّاب، فهو تجسّر أوضح من الأوّل، غير أنّ الأوّل كان نهياً عن المنكر بزعمه وهذا أمرٌ بالمعروف حيث حرّض النبيّ صلى الله عليه وآله على الخروج إلى صلاة العشاء، وهذا لعمري عجيب من عمر.

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في سورة الحجرات: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ) (1) .

ألم يسمع قول الله تبارك وتعالى في أوّل السورة: ( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) (2) .

وقد تقدّم في مطاعن أبي بكر في باب رفع أبي بكر وعمر أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله حتّى نزل النهي أنّهما قد رفعا أصواتهما عند النبيّ صلى الله عليه وآله، حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أن يستعمله على قومه، وأشار الآخر برجلٍ آخر فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ونزل النهي.

(وأمّا أخذ عمر العذق) في الرواية الثالثة وضرب به الأرض حتّى تناثر البُسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، وقوله له إنّا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة، فهو تجسّر على الله ورسوله جميعاً لا على الرسول فقط، وتحقير لنعمة الله جلّ وعلا، فكأنّ البسر كان في نظره شيئاً حقيراً هيّناً لا يعتدّ به فقالَ في حقّه ما قال.

وهو ممّا يدلّ على جهله وقلّة علمه مضافاً إلى تجسّره وعدم كونه شاكراً خاضعاً لأنعم الله تعالى (ولكن الذي) يهوّن الخطب في هذا كلّه أنّ الذي يتجسّر على رسول الله ويقول للنبيّ صلى الله عليه وآله عند مماته حين قال: «ائتوني بكتابٍ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده» إنّه يهجر، أو غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا أو حسبنا

__________________

(1) سورة الحجرات: الآيتان 4 و 5.

(2) سورة الحجرات: الآية 2.

٢٣

كتاب الله، وقد تقدّم التفصيل مشروحاً في باب مستقلّ، فأمثال هذه الاُمور المذكورة هاهنا في هذا الباب هي هيّنة يسيرة جدّاً لا ينبغي التعجّب منها أبداً. انتهى.

وهذه المقارنة البسيطة تكشف لك الفرق الأقصى بين المذهبين؛ مذهب أهل البيت عليهم السلام ومذهب غيرهم.

وتكشف الطريق الحقّ في السلوك الأخلاقي، والمسلك الصحيح في الأدب الإلهي.

وهذا الكتاب محاولة موجزة لبيان جانب قليل، ونزر يسير من عظمة أخلاق أهل البيت عليهم السلام، الذي يتجلّى فيهم، وسيرة الخلق الطيّب الذي مَنَّ الله تعالى به عليهم.

فجعلهم اُسوة الخُلق الطيّب، وقدوة الأدب الرفيع، ونموذج السجايا الكريمة.

رجاء أن يتفضّل الله تعالى علينا بأشعّةٍ من نورهم، ولمحةٍ من أخلاقهم.

إنّه خير هادٍ ودليل، إلى سواء السبيل.

٢٤

2 / أخلاق أهل البيت عليهم السلام

من المباحث الاعتقاديّة والعلميّة معاً مبحث أخلاق أهل البيت عليهم السلام.. فإنّه يلزم علينا أن نعتقد أنّ النبيّ والعترة صلوات الله عليهم أفضل الناس في مكارم الأخلاق، كما أنّهم الأفضل في محاسن الصفات، وفضائل الأعمال، ومراتب الكمال.. هذا عقيدةً.

وأمّا عملاً؛ فينبغي لنا أن نسعى في الاقتداء بهم والتأسّي بجميعهم في الأخلاق الكريمة، والمكارم الفاضلة.

لأنّ أهل البيت سلام الله عليهم ـ هم ليس سواهم ـ القدوة الصالحة، والاُسوة الحقّ من الله للخلق، والطاهرون المطهّرون من كلّ رجسٍ ورذيلة.

قال تعالى: ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1) .

وقال عزّ اسمه: ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (2) .

ولا يحقّ لنا أن نتأسى أو نتمسّك في الأخلاق وفي سواها بغيرهم عليهم السلام،

__________________

(1) سورة الأحزاب: الآية 21.

(2) سورة الأحزاب: الآية 33.

٢٥

أو نقتدي بسواهم.

لأنّ أهل البيت عليهم السلام هم سفينة النجاة، والمستمسك المنجي الذين اُمرنا بمتابعتهم، وعدل القرآن الذين اُمرنا بالتمسّك بهم في حديث الثقلين، المتّفق عليه بين الفريقين.

لذلك يكون مرجعنا في علوم الأخلاق هو القرآن الكريم، وأحاديث أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم الشريفة.

فلنتعرّف في البداية على أمرين:

الأوّل: ما هي الأخلاق؟

الثاني: ما هي أخلاق أهل البيت عليهم السلام في كتاب الله تعالى وسيرتهم؟

فنقول بعونه وتوفيقه: ـ

الخُلُق: هي السجيّة، والملكات والصفات الراسخة في النفس؛ كالسخاء، والشجاعة، والعفو، والكرم، التي هي من السجايا الطيّبة، والخلق الطيّب.

وحسن الخُلق: يُطلق غالباً على معاشرة الناس بالمعروف، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول، ولطف المداراة.

وأحسن تعريف لحُسن الخلق هو ما عرّفه به الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: ـ

(تُلين جناحَك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن) (1) .

ومكارم الأخلاق: هي الأعمال الشريفة التي توجب كرامة الإنسان، وشرافته، وسموّه، وعزّته، مثل كظم الغيظ، وإصلاح ذات البين، والسبق إلى الفضائل ونحوها ممّا يأتي ذكرها.

وفي حديث الإمام الصادق عليه السلام في مكارم الأخلاق، ذكر منها: ـ

(العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك) (2) .

__________________

(1) اُصول الكافي / ج 2 / ص 103.

(2) بحار الأنوار / ج 69 / ص 368.

٢٦

ومن أبرز مصاديق مكارم الأخلاق هذه التي ذكرها الإمام عليه السلام، وأحسن آثارها هي مقابلة الإساءة بالإحسان التي ذكرها وأمر بها الله تعالى في قوله عزّ اسمه: ـ ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) (1) .

هذا هو: الخُلق الطيّب، وحُسن الخُلق، ومكارم الأخلاق.

وأهل البيت عليهم السلام هم المثلُ الأعلى في جميعها، والبالغون إلى ذروتها.

وهم لا غيرهم كانوا سماء طيب الأخلاق، فاستحقّوا أن يكونوا قدوة الخلق.

وسيّدهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أثنى عليه ربّه بقوله عزّ اسمه: ـ ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (2) .

وكانت مكارم الأخلاق من غايات البعثة النبويّة المباركة، وخصوصيّات الرسالة المحمّديّة الشريفة، والمزايا العالية التي نالها رسول الله صلى الله عليه وآله.

ففي الحديث: ـ (إنّ الله تبارك وتعالى خصّ رسول الله صلى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق.

فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله جلّ وعزّ، وارغبوا إليه في الزيادة منها) (3) .

بل فاز صلوات الله عليه وآله بقمّة السجايا الطيّبة والأخلاق الفاضلة، فوصفه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله بأجمل بيان: ـ

(كان أجود الناس كفّاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمّةً، وألينَهم عريكةً، وأكرمهم عِشرةً، مَن رآه بديهةً هابَه، ومَن خالطه أحبّه، لم أرَ مثلَه قَبله ولا بَعده) (4) .

__________________

(1) سورة فصّلت: الآية 34.

(2) سورة القلم: الآية 4.

(3) بحار الأنوار / ج 69 / ص 368.

(4) سفينة البحار / ج 2 / ص 688.

٢٧

وقال عليه السلام في خطبته القاصعة: ـ

(وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالْإِقْتِدَاءِ بِهِ» (1) .

وحقّاً كان صلى الله عليه وآله أعظم الناس في عظيم الأخلاق وكريم الشيَم.

وحسبُك من ذلك ما أصابه من قريش..

فقد تألّبت عليه، وجرّعته أنواع الغصص، حتّى ألقَتْ عليه مشيمة الرحم القذرة، وأدمت ساقه الشريف، وكسرت رباعيّته المباركة، وضيّقت عليه الحياة في شِعب أبي طالب، وآذته أشدّ إيذاء، وهجمت على داره لقتله في حرم الله تعالى مكّة المكرّمة، حتّى ألجأته إلى مغادرة بلده وأهله، وهجرته إلى المدينة.

ولم تتركه يرتاح حتّى في المدينة، بل أجّجت عليه كلّ برهة حرباً شعواء، وأرصدت لإيذائه أهل الظلم والجفاء..

لكن بالرغم من جميع ذلك لمّا نصره الله تعالى عليهم، وأظفره بهم في فتح مكّة قابلهم بأعظم إحسان وأكبر أمان.

حيث قال لهم: ـ ما تقولون إنّي فاعلٌ بكم؟

قالوا: ـ خيراً، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم.

فقال صلى الله عليه وآله: أقول لكم ما قال أخي يوسف عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم ـ أي لا توبيخ ـ إذهبوا فأنتم الطلقاء.

حتّى أنّ صفوان بن اُميّة الذي كان من المشركين الذين آذوا النبيّ صلى الله عليه وآله هرب إلى

__________________

(1) نهج البلاغة / الطبعة المصريّة / الخطبة 187.

٢٨

جدّه ليقذف نفسه في البحر، فراراً من الرسول الأعظم.

فقال عمير بن وهب: يا رسول الله إنّ صفوان بن اُميّة سيّد قومه قد خرج هارباً منك فآمنه.

قال صلى الله عليه وآله: هو آمن.

قال عمير بن وهب: ـ أعطني شيئاً يعرف به أمانك.

فأعطاه صلى الله عليه وآله عمامته.

وهذا يكشف عن أعظم سموٍّ أخلاقي وكرَمٍ روحيّ، في عظيم عفوه حين عظيم قدرته.

ومثله كان خلفاؤه الأئمّة المعصومين من أهل بيته الطاهرين عليهم السلام كانوا نموذجاً في سموّ الآداب ومكارم الأخلاق، ومثالاً له في الدعوة إلى حُسن الخليقة، وإنماء الفضيلة، دعوة صادقة، وتربيةً رائقة بأعمالهم وأقوالهم.

نذكر نُبذة منها في هذا الكتاب لتكون دروساً خالدة في الأخلاق الفاضلة والمحاسن الكاملة.

فنستمدّ منها حياةً زكيّة، وروحاً معنويّة، لتهذيب ضمائرنا وصلاحها، وتزكية أنفسنا وفلاحها، فنكون من مصاديق قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ) (1) .

وعلى هذا الصعيد السامي نتشرّف بذكر الفصول التالية فيما يلي: ـ

أوّلاً: سيرة أهل البيت عليهم السلام الأخلاقيّة في أعمالهم.

ثانياً: دروسهم الأخلاقيّة في أقوالهم.

ثالثاً: مدرستهم الأخلاقيّة في الصحيفة المباركة السجّاديّة.

وكفى بأهل البيت عليهم السلام أولياء إلهيّين، ومربّين صالحين، وقدوة العالمين للأخلاق

__________________

(1) سورة الشمس: الآية 9.

٢٩

الطيّبة، والآداب الحسنة، والدروس التربويّة في الأدب الإلهي، والخلق الزكيّ.

ففي وصيّة أمير المؤمينن عليه السلام: ـ

(يا كميل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أدّبه الله عزّوجلّ، وهو أدّبني، وأنا أؤدّب المؤمنين، وأورّث الأدب المكرّمين) (1) .

وفي حديثه عليه السلام: ـ

(إنّ الله كريمٌ حليمٌ عظيمٌ رحيم، دلّنا على أخلاقه، وأمرَنا بالأخذ بها وحَمْل الناس عليها.

فقد أدّيناها غير متخلّفين، وأرسلناها غير منافقين، وصدّقناها غير مكذّبين، وقبلناها غير مرتابين) (2) .

وبحقٍّ قد أدّبوا شيعتهم الأبرار، وأصحابهم الكُبّار على الآداب الإلهيّة، والمكارم الأخلاقيّة.

أدّبوهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، وعلّموهم مقابلة الإساءة بالإحسان والفضائل المزكية للإنسان، كما تلاحظها في وصاياهم الواقية ومواعظهم الشافية، التي ربَّت جيلاً طيّبين، وعلماء ربّانيّين، ورجالاً صالحين.

وهي ذا شذرات من تلك الأخلاقيّات التي علّمت وهذّبت وربّت اُولئك الشيعة الطيّبين: ـ

1 ـ ما في تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه، جاء فيه: ـ

(... يا أبا ذرّ احفظ ما أوصيك به تكُن سعيداً في الدُّنيا والآخرة...

يا أبا ذرّ إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح، وخُذ من صحّتك قبل سُقمك، وحياتك قبل موتك، فإنّك

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 269.

(2) بحار الأنوار / ج 77 / ص 418.

٣٠

لا تدري ما اسمك غداً...

يا أبا ذرّ إنّ شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة عالمٌ لا يَنتَفِع بعلمه، ومن طلب علماً ليصرف به وجوه الناس إليه لم يجد ريح الجنّة...

يا أبا ذرّ... إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرةٍ يخاف أن تقع عليه، وإنّ الكافر ليرى ذنبه كأنّه ذبابٌ مرّ على أنفه...

يا أبا ذرّ دَع ما لستَ منه في شيء، ولا تنطق فيما لا يعنيك، واخزن لسانك كما تخزن ورقك...

يا أبا ذرّ إخفض صوتك عند الجنائز، وعند القتال، وعند القرآن...

يا أبا ذرّ حاسِب نفسك قبل أن تُحاسَب فهو أهون لحسابك غداً، وزِنْ نفسك قبلَ أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تُعرض لا تخفى على الله خافية...

يا أبا ذرّ مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل كمثَل الذي يرمي بلا وَتر..

يا أبا ذرّ ما من شابٍّ يدع لله الدُّنيا ولهوها، وأهرم شبابه في طاعة الله إلّا أعطاه الله أجر اثنين وسبعين صدَّيقاً...

يا أبا ذرّ كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما سمع...

يا أبا ذرّ لا يزال العبد يزداد من الله بُعداً ما ساء خُلقه...

يا أبا ذرّ من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يُبال الله عزّوجلّ من أين أدخله النار...

يا أبا ذرّ من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر.

قلت: وما الثلاث فداك أبي واُمّي؟

قال: ورعٌ يحجزه عمّا حرّم الله عزّوجلّ عليه، وحلمٌ يردّ به جهل السفيه، وخُلق يداري به الناس.

٣١

يا أبا ذرّ إن سرّك أن تكون أقوى الناس فتوكّل على الله، وإن سرّك أن تكون أكرم الناس فاتّق الله، وإن سرّك أن تكون أغنى الناس فكُن بما في يد الله عزّوجلّ أوثق منك بما في يديك...

يا أبا ذرّ من صمت نجا، فعليك بالصدق، ولا تخرجنّ من فيك كذبة أبداً...

يا أبا ذرّ سباب المؤمن فُسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معاصي الله، وحرمة ماله كرحمة دمه...

يا أبا ذرّ إيّاك وهجران أخيك، فإنّ العمل لا يتقبّل من الهجران...

يا أبا ذرّ من مات وفي قلبه مثقال ذرّةٍ من كبر لم يجد رائحة الجنّة...

يا أبا ذرّ طوبى لمن تواضع لله تعالى من غير منقصة، وأذلّ نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعَهُ من غير معصية، ورحِمَ أهل الذلّ والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة.

طوبى لمن صلحت سريرته، وحسنت علانيّته، وعزل عن الناس شرّه.

طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله...) (1) .

2 ـ ما في وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد النخعي رضوان الله عليه: ـ (يا كميل لا تأخذ إلّا عنّا تكن منّا...

يا كميل أحسِن خُلقك، وابسط جليسك ـ أي سُرّه ـ، ولا تنهرَنَّ خادمك.

يا كميل البركة في المال من إيتاء الزكاة، ومواساة المؤمنين، وصلة الأقربين وهم الأقربون لنا...

يا كميل لا تردّ سائلاً، ولو بشقِّ تمرة، أو من شطر عنب...

يا كميل حُسن خلق المؤمن من التواضع، وجماله التعفّف، وشرفه الشفقة،

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 74.

٣٢

وعزّه ترك القيل والقال.

يا كميل إيّاك والمراء، فإنّك تغري بنفسك السفهاء إذا فعلت، وتُفسد الإخاء...

يا كميل جانب المنافقين، ولا تصاحب الخائنين...

يا كميل لا تُريَنَّ الناس افتقارك واضطرارك، واصطبر عليه احتساباً بعزٍّ وتستّر...

يا كميل ومن أخوك؟

أخوك الذي لا يخذلك عند الشدّة، ولا يغفل عنك عند الجريرة، ولا يخدعك حين تسأله، ولا يتركك وأمرك حتّى تُعلمه فإن كان مميلاً ـ أي صاحب مال ـ أصلحه...

يا كميل إنّما المؤمن من قال بقولنا، فمن تخلّف عنّا قصّر عنّا، ومن قصّر عنّا لم يلحق بنا، ومن لم يكن معنا ففي الدرك الأسفل من النار...

يا كميل قُل عند كلّ شدّةٍ: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم) تكفها.

وقُل عند كلّ نفحةٍ الحمدُ لله تُزد منها، وإذا أبطأت عليك الأرزاق فاستغفر الله يُوسّع عليك فيها.

يا كميل إذا وسوس الشيطان في صدرك فقُل: ـ

(أعوذ بالله القويّ من الشيطان الغويّ، وأعوذ بمحمّد الرضيّ من شرّ ما قُدّر وقُضي، وأعوذ بإله الناس من شرّ الجِنّة والناس أجمعين)، وسلّم، تُكفى مؤونة إبليس والشياطين معه، ولو أنّهم كلّهم أبالسة مثله...

يا كميل إنّ الأرض مملوّةٌ من فخاخهم، فلن ينجو منها إلّا مِن تشبّث بنا..

يا كميل ليس الشأن أن تصلّي وتصوم وتتصدّق، إنّما الشأن أن تكون الصلاة فُعلَت بقلبٍ نقيّ، وعملٍ عند الله مرضيّ، وخشوعٍ سويّ، وإبقاءٍ للجدّ فيها...

يا كميل اُنظر فيمَ تصلّي، وعلى ما تصلّي، إن لم تكن من وجهه فلا حِلَّ ولا قبول...

يا كميل إنّما يتقبّل الله من المتّقين...

يا كميل قال رسول الله صلى الله عليه وآله لي قولاً، والمهاجرون والأنصار متوافرون يوماً بعد

٣٣

العصر، يوم النصف من شهر رمضان، قائماً على قدميه، فوق منبره: ـ

عليٌّ منّي، وإبناي منه، والطيّبون منّي وأنا منهم، وهم الطيّبون بعد اُمّهم، وهم سفينةٌ من ركبها نجى، ومَن تخلّف عنها هوى، الناجي في الجنّة، والهاوي في لظى...) (1) .

3 ـ ما في تعليم فاطمة الزهراء عليها السلام لبعض النساء: ـ

(أرضِ أبوَي دينِك محمّداً صلى الله عليه وآله وعليّاً عليه السلام، بسخطِ أبوي نسبكِ.

ولا تُرضِ أبوي نسبكِ بسخط أبوَي دينك.

فإنَ أبوي نسبك إن سخطا أرضاهما محمّد صلى الله عليه وآله وعليّ عليه السلام بثواب جزءٍ من ألف ألف جزءٍ من ساعةٍ من طاعاتهما.

وإنَ أبوَي دينك إن سخطا لم يقدر أبوا نسبك أن يرضياهما، لأنّ ثواب طاعات أهل الدُّنيا كلّهم لا تفي بسخطهما...) (2) .

4 ـ ما في كلام لمولانا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: ـ

(يا ابن آدم عُفّ عن محارم الله تكُن عابداً، وارضِ بما قسم الله سبحانه تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحِب الناس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً.

إنّهم كان بين أيديكم أقوامٌ يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً.

أصبح جمعهم بواراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.

يا ابن آدم لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن اُمّك، فخُذ ممّا في يديك لما بين يديك، فإنّ المؤمن يتزوّد، والكافر يتمتّع.

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 77 / ص 270.

(2) الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام / ج 21 / 164.

٣٤

وكان عليه السلام يتلو بعد هذه الموعظة: ـ

( وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) (1) .

5 ـ ما في توصية مولانا الإمام الحسين عليه السلام لابن عبّاس: ـ

(لا تتكلّمنَّ فيما لا يعنيك فإنّي أخاف عليك الوزر.

ولا تتكلّمنّ فيما يعنيك حتّى ترى للكلام موضعاً، فرُبّ متكلّمٍ قد تكلّم بالحقّ فعيب.

ولا تمارينَّ حليماً ولا سفيهاً، فإنّ الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.

ولا تقولنّ في أخيك المؤمن إذا توارى عنك إلّا ما تحبّ أن يقول فيك إذا تواريت عنه.

واعمل عمل رجلٍ يعلم أنّه مأخوذٌ بالإجرام، مجزى بالإحسان، والسلام) (2) .

6 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام لبعض بنيه: ـ

(يا بُني اُنظر خمسةٌ فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم في طريق.

فقال: يا أبه مَن هم؟

قال عليه السلام: ـ إيّاك ومصاحبة الكذّاب فإنّه بمنزلة السراب يقرِّب لك البعيد، ويبعّد لك القريب.

وإيّاك ومصاحبة الفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك.

وإيّاك ومصاحبة البخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه.

وإيّاك ومصاحبة الأحمق فإنّه يريد أن ينفعك فيضرّك.

وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله) (3) .

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 112.

(2) بحار الأنوار / ج 78 / ص 127.

(3) بحار الأنوار / ج 78 / ص 137.

٣٥

7 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي وجماعة الشيعة: ـ

(قال جابر: دخلنا على أبي جعفر عليه السلام، ونحن جماعة، بعدما قضينا نسكنا، فودّعناه وقلنا له أوصنا يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

ليُعن قويّكم ضعيفكم، وليعطف غنيّكم على فقيركم، ولينصح الرجل أخاه كنصحه لنفسه، واكتموا أسرارنا، ولا تحملوا الناس على أعناقنا، وانظروا أمرنا وما جاءكم عنّا فإن وجدتموه للقرآن موافقاً فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقاً فردّوه، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتًى نشرح لكم من ذلك ما شُرح لنا.

فإن كنتم كما أوصيناكم، لم تعدْوا إلى غيره فمات منكم ميّت قبل أن يخرج قائمنا كان شهيداً، وإن أدرك قائمنا فقُتل معه كان له أجر شهيدين، ومَن قَتَلَ بين يديه عدوّاً لنا كان له أجر عشرين شهيداً) (1) .

8 ـ ما في وصيّة مولانا الإمام الصادق عليه السلام لعبد الله بن جُندَب: ـ

(... يا ابن جُندب إنّما المؤمنون الذين يخافون الله، ويشفقون أن يُسلبوا ما أُعطوا من الهدى، فإذا ذكروا الله ونعماءه وجلوا وأشفقوا، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً ممّا أظهره من نفاذ قدرته، وعلى ربّهم يتوكّلون...

يا ابن جندب لا تقُل في المذنبين من أهل دعوتكم إلّا خيراً، واستكينوا إلى الله في توفيقهم، وسلوا التوبة لهم.

فكلّ من قصدنا، وتولّانا، ولم يوال عدوّنا، وقال ما يعلم، وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه فهو في الجنّة...

يا ابن جندب الماشي في حاجة أخيه كالساعي بين الصفا والمروة، وقاضي حاجته كالمتشحّط بدمه في سبيل الله يوم بدرٍ واُحد، وما عذّب الله اُمّةً إلّا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم...

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 182.

٣٦

يا ابن جندب إنّما شيعتنا يُعرفون بخصالٍ شتّى:

بالسخاء، والبذل للإخوان، وبأن يصلّوا الخمسين ليلاً نهاراً.

شيعتنا لا يهرّون هرير الكلب، ولا يطعمون طمع الغراب، ولا يجاورون لنا عدوّاً، ولا يسألون لنا مبغضاً ولو ماتوا جوعاً.

شيعتنا لا يأكلون الجرَي، ولا يمسحون على الخفّين، ويحافظون على الزوال، ولا يشربون مسكراً...

يا ابن جندب صِل من قطعك، واعط من حرمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وسلِّم على من سبّك، وأنصف مَن خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما تحبّ أن يُعفى عنك.

فاعتبر بعفو الله عن، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ مطره ينزل على الصالحين والخاطئين...

يا ابن جندب... الواجب على من وهب الله له الهدى، وأكرمه بالإيمان، وألهمه رُشده، وركّب فيه عقلاً يتعرّف به نعمه، وآتاه علماً وحكماً يدبّر به أمر دينه ودُنياه أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره، وأن يذكر الله ولا ينساه، وأن يطيع الله ولا يعصيه...

أما إنّه لو وقعت الواقعة، وقامت القيامة، وجاءت الطامّة، ونصب الجبّار الموازين لفصل القضاء، وبرز الخلائق ليوم الحساب، أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة، وبمن تحلّ الحسرة والندامة.

فاعمل اليوم بما ترجو به الفوز في الآخرة) (1) .

9 ـ ما أوصى به الإمام الكاظم عليه السلام هشام بن الحكم، جاء فيه: ـ

(يا هشام إنّ العاقل رضى بالدون من الدُّنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 279.

٣٧

من الحكمة مع الدُّنيا، فلذلك ربحت تجارتهم...

يا هشام كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول:

ما من شيء عُبدَ الله به أفضل من العقل، وما تمَّ عقل امرءٍ حتّى يكون فيه خصالٌ شتّى:

الكفر والشرّ منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدُّنيا القوت، لايشبع من العلم دهره، الذلّ أحبُّ إليه مع الله من العزّ مع غيره، والتواضع أحبّ إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقلّ كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيراً منه وأنّه شرّهم في نفسه، وهو تمام الأمر.

يا هشام من صدق ليانه زكى عمله، ومن حسنت نيّته زيدَ في رزقه، ومن حسُن برّه بإخوانه وأهله مُدَّ في عمره...

يا هشام رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعَلِممَ أنّ الجنّة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.

يا هشام من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة...

يا هشام أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصلاة، وبرّ الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر.

يا هشام أصلح أيّامك الذي هو أمامك، فانظر أيّ يومٍ هو، وأعدّ له الجواب، فإنّك موقوفٌ ومسؤول...

يا هشام قال الله جلّ وعزّ: وعزّتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني، لا يُؤثِر عبدٌ هواي على هواه إلّا جعلت الغِنى في نفسه، وهمّه في

٣٨

آخرته، وكففتُ عليه ضيعته، وضمّنتُ السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر.

يا هشام الغضب مفتاح الشرّ، وأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً...

يا هشام إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبّر الجبّار..

يا هشام أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: قُل لعبادي: ـ

لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا، فيصدّهم عن ذكري، وعن طريق محبّتي ومناجاتي، اُولئك قطّاع الطريق من عبادي، إنّ أدنى ما أنا صانعٌ أن أنزع حلاوى محبّتي ومناجاتي من قلوبهم...

يا هشام إيّاك والكِبر على أوليائي، والاستطالة بعلمك، فيمقتك الله، فلا تنفعك بعد مقته دنياك ولا آخرتك، وكُن في الدُّنيا كساكن دارٍ ليست له، إنّما ينتظر الرحيل...

يا هشام لو رأيت مسير الأجل لألهاك عن الأمل.

يا هشام إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين.

فإنّ الطمع مفتاح للذلّ، واختلاس العقل، واختلاف المروّات، وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم.

وعليك بالاعتصام بربّك، والتوكّل عليه.

وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوّك...) (1) .

10 ـ ما أوصى به مولانا الإمام الرضا عليه السلام شيعته في حديث عبد العظيم الحسني: ـ

(يا عبد العظيم... أبلغ عنّي أوليائي السلام وقُل لهم: ـ

__________________

(1) بحار الأنوار / ج 78 / ص 296.

٣٩

أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً، ومُرهم بالصدق في الحديث، وأداء الأمانة.

ومُرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم، وإقبال بعضهم على بعض، والمزاورة فإنّ ذلك قربةً إليّ.

ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإنّي آليتُ على نفسي أنّه من فعل ذلك وأسخط وليّاً من أوليائي دعوت الله ليعذّبه في الدُّنيا أشدّ العذاب، وكان في الآخرة من الخاسرين.

وعرّفهم أنّ الله قد غفر لمحسنهم، وتجاوز عن مسيئهم، إلّا من أشرك به، أو آذى وليّاً من أوليائي، أو أضمر له سوءاً، فإنّ الله لا يغفر له حتّى يرجع عنه، فإن رجع وإلّا نزع روح الإيمان عن قلبه، وخرج عن ولايتي، ولم يكن له نصيبٌ في ولايتنا. وأعوذ بالله من ذلك) (1) .

11 ـ ما في كتاب مولانا الإمام الجواد عليه السلام لسعد الخير: ـ

(... اعلم رحمك الله أنّه لا تنال محبّة الله إلّا ببغض كثير من الناس، ولا ولايته إلّا بمعاداتهم، وفوت ذلك قليل يسير لدرك ذلك من الله لقوم يعلمون.

يا أخي إنّ الله عزّوجلّ جعل في كلّ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهُدى، ويصبرون معهم على الأذى، ويجيبون داعي الله، ويدعون إلى الله.

فابصرهم رحمك الله فإنّهم في منزلة رفيعة، وإن أصابتهم في الدُّنيا وضيعة.

إنّهم يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبصرون بنور الله من العمى.

كم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه.

__________________

(1) الاختصاص / ص 247.

٤٠