الامبريالية والبعث الإسلامي والأصولية الإسلامية
الامبريالية والبعث الإسلامي والأصولية الإسلامية
د. هشام شرابي
يمكن النظر إلى البعث الإسلامي كحركة تحرير سياسية ونهضة ثقافية على أنه النقيض المباشر لعملية التغريب، فهو نتيجة لعصر الامبريالية، تماماً كما هي حال «التنوير» و «التحديث».
فعلى الصعيد السياسي العقائدي شهد الشرق الأوسط الحديث ثلاثة تحديات خلال تصادمه مع المعضلة الاجتماعية والاقتصادية التي ولدتها الهجمة الأوروبية. ومثّل التحديان الأولان، أي العلمانية والأصولية، قبولاً واضحاً للنمط الأوروبي ورفضه المبرم على التوالي. أما التحدي الثالث الذي نطلق عليه تعبير الاصلاح فقد انتهج حلاً وسطاً. ومهما يكن من أمر، فلم يكن كل تحد من هذه التحديات عقيدة جديدة أو نظرية اجتماعية بل أشكال وعي نضجت في رحم المجتمع الأبوي المستحدث وعكست ردود فعل متباينة لمشكلة التحديث المشوه.
وكان المفرّ الوحيد من سيطرة أوروبا المباشرة يكمن في البحث عن أشكال مختلفة من المقاومة. وحتى في المجالات التي بدا فيها النضال مجدياً، فإن علاقات التبعية بقيت سائدة واشتدّ ساعدها. وتتضح أهمية هذه الحقيقة متى أخذنا بدراسة النمط الياباني الذي يجسد البرهة التاريخية الوحيدة للتملص الناجح من قبضة الهيمنة الأوروبية المباشرة، وكان ذلك مرده مقدرة اليابانيين على انتهاج تحديث مستقل بمكنهم من التطور بسرعة كافية تحول دون سقوط اليابان عسكرياً. وبالطبع، فإن ذلك نجم عن عدة عوامل هي وجود اليابان في موقع جغرافي ناء، وعزلتها، إضافة إلى مناعتها النسبية في مقاومة أي عدوان عليها (أي على النقيض من قرب العالم العربي وانفلاشه وعدم توفر مقاومته العسكرية). ولكن هناك سبب آخر هو أكثر أهمية، فبدءاً من استعادة الامبراطور مئيجي الحكم في 1868 تميز النظام الأبوي الياباني، وبخلاف نظيره العربي (أو الهندي أو الصيني) بخاصيتين فريدتين: وحدة سياسية ـ جغرافية وقيادة حكيمة قديرة.
كان أول تحديات النظام العربي الأبوي وأشدها صلابة وأطولها ديمومة بعد إحكام السيطرة الأوروبية عليه قد تجسد في العودة إلى التقاليد الإسلامية. وأصبح الإسلام بصفته عقيدة ونموذج تنظيم اجتماعي المحور الطبيعي للمقاومة التي تمثلت في أربع انتفاضات سياسية ـ دينية ضد الهيمنة الامبريالية: عبدالقادر في الجزائر ضد فرنسا، والمهدي في السودان ضد بريطانيا، وعمر المختار في ليبيا ضد إيطاليا، وعزالدين القسام في فلسطين ضد الانكليز. ومن الجدير بالاهتمام هو أنه طيلة حقبة النضال ضد الهيمنة الأوروبية كانت الانتفاضة ما إن ترتبط بالجماهير حتى تتحول من حركة سياسية محدودة أطلقتها القيادة الوطنية إلى ثورة إسلامية عارمة. فخلال مرحلة النضال لتحقيق الاستقلال لم تتحول أية انتفاضة تقودها الزعامة الوطنية إلى حركة جماهيرية دون استلهام الباعث العقائدي للثورة من التراث الإسلامي. ولذلك فإن النضال الوطني ضد المستعمر استمد وحيه وقوته من العرف الأبوي وليس من العقائد العلمانية التي بشرت بها النخبة المثقفة وهذه حقيقة يمكن في ضوئها تفسير عدم إحداث تحول اجتماعي جذري عقب الثورات الوطنية الكبرى خلال نصف القرن الأخير. ومن الصعب فهم تطور الإسلام التقليدي أو الأصولية إلى حركة سياسية ملحة دون الأخذ بعين الاعتبار العلاقة الجدلية القائمة بين الأصولية من جهة والامبريالية والتحديث من جهة أخرى. فقد استمدت الأصولية الإسلامية المبكرة صلابتها ومحتواها كحركة مسلحة من مقاومتها العنيدة للهيمنة السياسية والثقافية الأوروبية. واكتسبت هذه الأصولية زخمها كعقيدة ليس من نظريات نقدية، بل من تحديها غير المساوم لوضع اجتماعي ـ سياسي لا يحتمل. ولذا رأت هذه الأصولية أـن خلاصها يكمن ببعث ماضي الإسلام المجيد، فاعتمدت على النص القرآني للبرهنة على إمكانية إيجاد مجتمع إسلامي أصيل في هذا الزمن المعاصر، فيما لو أن المسلمين عادوا إلى الصراط المستقيم ووحدوا صفوفهم في وجه عدوهم التاريخي.
والإسلام التقليدي لهو بالضرورة تصوفي وحنيف وشعائري ومجرد، إلا أنه يتحول فقط إلى أصولية مسلحة بفعل ما يحدثه وما يقوله قادته الجدد أثناء استجابتهم لأزمة وطنية. وعليه، فإن الطابع العدائي والمطلق للعقيدة الأصولية ليس بالتالي مظهراً مرتبطاً وثيقاً بالمذهب التقليدي. ومن هنا فإن الغليان الأصولي يخمد وتنحل قواه متى حل السلام وتحقق التوازن الاجتماعي من جديد.
ومن الضرورة بمكان ملاحظة أن الإسلام التقليدي في نضاله ضد الامبريالية قد اكتسب تجربة تحديثية، ليس فقط في أساليبه بل أيضاً في توجهه وممارسته إلى حد ما. قام بتطوير أنماط تنظيمه السياسي ورضي بتعديل بعض نماذج العقلانية الغربية وتقنياتها. إلا أنه بقي يعاند الاختلاف معه، فلم يقبل بالمساومة. ومن هنا فإنه لا يرضى إلا بالنصر أو الشهادة لحسم دفّة الصراع. ومتى استوى على سدة الحكم، فإنه يميل إلى المحافظة ويتشبث بالسنة والطاعة السياسية.
ولم يكن الخلاف بين الأصوليين والعلمانيين (الوطنيين واليساريين الثوريين) خلافاً على قضية دينية أو خلقية، بل كان سياسياً محضاً. ولأن الوطنية العلمانية لم تكن قادرة على التعامل بنجاح مع القضية السياسية للهيمنة الأجنبية ولم تتمكن من تحقيق الوحدة العربية، فقد أدت في نهاية المطاف إلى التطرف الديني. وعليه فقد استفادت الحركة الأصولية من إخفاق العلمانية ونجاح الامبريالية.
وحين وجد المصلحون المسلمون أنفسهم محاطين بالمسلمين المحافظين والقوميين العرب، فإنهم اضطروا إلى تبني موقف معتدل، سياسياً وعقائدياً. إلا أنهم أخفقوا في النهاية في مسعاهم هذا، ربما لأنهم مضوا بعيداً في معالجة بعض القضايا ولم يتمكنوا من معالجة غيرها، إلا أن سبب إخفاقهم الرئيسي يعود إلى أنهم قد قبلوا بموقف مساوم ضعيف، ولأنهم عالجوا القضايا الحياتية الملموسة من خلال التجريدات العقائدية، لا من خلال الواقع الحي المعيش. إن أخذهم الساذج بالعقل (على صورة الاجتهاد) قد أوقعهم في مناظرات سياسية عقيمة، بيد أنها لم تخلُ من طرافة. دعوا إلى التغييير، ونادوا بحكومة برلمانية ليبرالية تنهض على مبادئ إسلامية متنورة. ولم يكن مفاجئاً أن بقوا أقلية صغيرة كان أثرها محدوداً، على الرغم من أهميتها في مرحلة تكوين اليقظة العربية، ثم ما لبثت هذه الأقلية أن فقدت تأثيرها بصورة مطردة خلال المراحل المتعاقبة للهيمنة الأوروبية وفي فترة الاستقلال. والجدير بالذكر أنه بخلاف آراء الأصوليين، فإن آراء المصلحين لم تجد لها صدى مسموعاً في صفوف الجماهير.
وعليه، فإننا نستطيع تكوين فكرة ما عن مدى فعالية الهيمنة الامبريالية في قولبة الوعي والممارسة السياسية في المجتمع الأبوي المستحدث.
وبإيجاز، ففي المجال السياسي كانت الامبريالية مسؤولة عن تفتيت الوطن العربي سياسياً واقتصادياً وتعزيز السلطة الأبوية التقليدية (بتحديثها)، وبالتالي المساهمة فعلياً في نشوء الأبوية المستحدثة كما نشهدها اليوم. ونتيجة ذلك، فإن الأبوية المستحدثة قد تمكنت اجتماعياً ونفسانياً (على مستوى الطبقة وعلى مستوى العقيدة) من أن تكتسب قوة وزخماً كافيين، بحيث أنها عطلت مسار الاصلاح السياسي الهادف وأعاقت التطور الديمقراطي الصحيح، إضافة إلى أنها اقتلعت جذور أي فكر ماركسي وجذري وأجهزت عليه في مهده. ولذلك، فإنه يتوجب النظر إلى الأبوية والامبريالية على أنهما، موضوعياً، حليفان متآزران يعيقان تقدم أي تغيير اجتماعي ـ سياسي طبيعي. لم يصمد هذا التحالف اللاواعي في مرحلة السيادة الوطنية (والاستقلال) فحسب، لكن أيضاً أصبح أكثر فعالية كلما عملت كل دولة عربية استقلت حديثاً على تعزيز سيادتها واستقلالها. فعقب انتهاء مرحلة استعمار الوطن العربي أصبحت الوحدة خطراً على الوضع الراهن ووازتها خطراً الاشتراكية ـ وكانت هذه الأخيرة تشيع الخوف في بعض الأنظمة العربية أكثر مما كانت عليه في عقر الرأسمالية نفسها. يمكن القول، إذن، إن الامبريالية الأوروبية قد شوهت عملية التقدم الاجتماعي والسياسي من ناحيتين: بتقويض التطور الاقتصادي الطبيعي (النمو الرأسمالي) ـ لا سيما في مصر، حيث عملت الرأسمالية منذ نهاية حكم محمد علي على إعاقة النمو الصناعي، وحجمت الاقتصاد ليقتصر على الإنتاج الزراعي فحسب، وفي الوقت نفسه عرقلت بروز طبقة عاملة في المدن، الأمر الذي أدّى إلى ترسيخ البنى الاجتماعية والسياسية للأبوية المستحدثة وتقويتها.
إلا أن أثر التشويه الذي أحدثته الامبريالية كان أكثر وضوحاً في المجال الثقافي. فمن الوجهة الاجتماعية ـ السياسية كان لاستعمار الوعي (وكذلك اللاوعي) نفوذ أوسع من الاحتلال العسكري أو الهيمنة السياسية في دفع عجلة تطور بنية الأبوية المستحدثة. ومن هذا المنطلق، لا يمكن النظر مجدداً إلى هذه المشكلة كما تأخذ بها نظرية التحديث ـ أي باعتبار أن التحديث يهدد «المجتمع التقليدي»، أو أن مصاعب التنمية تترسب ثم تؤدي إلى تشكل «متخلف». بل يتوجب الأخذ بوجهة النظر القائلة بأن المجتمع الأبوي قد اضطر إلى تبني النماذج الاقتصادية والأنماط الثقافية الأوروبية في ظل الأوضاع المشوهة الناتجة عن الهيمنة الامبريالية، والسيطرة الثقافية والتبعية الاقتصادية. ومن هنا نجد أن الثقافة الأبوية المحدثة (الأبوية المستحدثة) فقدت توازنها وانسجامها، واتصفت بالتملق في العلم والدين والسي