الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) الخطب والرسائل والخواطر
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.
الأدب النبويّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)
الخطب والرسائل والخواطر
موقع إذاعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية
تتفاوت الخطب والرسائل والوصايا في لغتها الأدبية: تبعاً لمتطلبات السياق.
الرسائل:
فأمّا الرسائل فتتميز باللغة المترسلة أي خلوها من عناصر الإيقاع والصورة، وبالاقتصاد الشديد، وبقصر حجمها... وهذا من نحو كتابه إلى ملك الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أمّا بعد فأنّي ادعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّما عليك ثُمّ الاريسيين)، و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
فالملاحظ أنّ هذه الرسالة تماثل (البرقية) التي يراعي فيها ما أمكن من الاقتصاد اللغوي بحيث لا يمكن أن يستغني عن كلمة واحدة منها، وقد تميزت بإحكام ومتانة إيقاعها، وهندستها وتقطيعها إلى خطوط متوالية متجانسة مثل: العبارة (أسلم، تسلم: يؤتك الله أجرك مرّتين)، كما تميزت بملاحظة السياق الذي وردت فيه، فاستشهدت بأية عن أهل الكتاب (والمرسل إليهم منهم)، وحملته مسؤولية التخلف بالنسبة إلى رعاياه أيضاً (وهم الفلاحون الذين شكلوا غالبية مجتمعه)، وقد لوحظ السياق في رسائله الأخرى التي وجهها إلى عظيم فارس والقبط حيث تضمنت نفس الدلالة والعبارة ولكنه (صلى الله عليه وآله) حملها ثُمّ المجوس والأقباط: تحقيقاً للسياق الفني الذي أشرنا إليه. لكنه عندما وجه رسالته إلى النجاشي سلك منحى أدبياً آخر يتناسب مع تركيبته الفكرية والنفسية.. لقد كتب إليه يقول: (... سلم أنت، فاني أحمد إليك الله الذي لا اله إلاّ هو الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإنّي ادعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإنّي رسول الله...) فقد خاطبه مركزاً على المسيح (عليه السلام) الذي ينتسب إليه، كما استشهد بالآية الكريمة التي ضمنت صفات الله تعالى (ومنها: السلام)، والمح إلى عيسى والبتول... وكلّ أولئك يتناسب مع عاطفته الدينية عن المسيح، حيث أنّ جوابه للنبي (صلى الله عليه وآله) تضمن التأكيد على أنّ عيسى لم يزد على ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله) مما يعني أنّه (صلى الله عليه وآله) خاطبه وفقاً لما يخبره عن تركيبته النفسية والعبادية...
وأمّا رسائله إلى أمراء العرب فتختلف لغتها بطبيعة الحال، فمثلاً بعث برسالته إلى ملكي عمان، وجاء فيها (إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام فإنّ ملككما زائل عنكما وخيلي تحلّ بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما) وكذلك في رسالته إلى أمير آخر، ملوحاً له بأنّ الإسلام (سيظهر إلى منتهى الخف والحافر) مهدداً إياه بنفس اللغة السابقة التي ترهص بالفتح، حيث أنّ معرفته بمزاج العربي والموقع الجغرافي لبلده: سوّغ له مثل هذه اللغة المهددة من جانب والملوحة ببقاء الملك له من جانب آخر.
وأمّا رسائله إلى الأمراء الذين استجابوا للرسالة الإسلامية أو إلى ولاته في الأرض التي أسلمت، فتتفاوت لغتها ومضموناتها: حيث تضمن بعضها المصالحة، والبعض الآخر: التخيير بين الإسلام والجزية، والبعض الثالث: فرض الزكاة ونصبها المختلفة: بالنسبة للأمصار والقبائل الإسلامية، فضلاً عن التوصية بالمبادئ العامة المرتبطة بالصلاة وبإقامة الأحكام والقضاء ...
فنياً:
بما أنّ الرسائل تعد (كتباً رسمية) حينئذ فإنّ توشيحها بلغة الفنّ لا مسوّغ له إلاّ في نطاقها (اللفظي) وليس (الإيقاعي والصوري)، حيث لحظنا أنّ تركيب الجملة وترتيب موقعها واختصارها وتركيزها ومراعاة السياق، تعوّض عن (الصوت والصورة)... ومع ذلك فإنّ مراعاة هذا الجانب حسب متطلبات السياق هو الذي يفرض نوع الصياغة الأدبية. ففي كتابه (صلى الله عليه وآله) إلى أحدهم وقد كان خطيباً وشاعراً لحظنا كيف استخدم النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه الصورة عن ظهور الإسلام سيظهر إلى منتهى (الخفّ) و(الحافر) فقد استخدم (الخفّ والحافر) رمزاً أو كناية عن الإبل والخيل وهو أمر يتناسب مع سمة المرسل إليه بصفته شاعراً أو خطيباً، ولكنه (صلى الله عليه وآله) حينما وجه رسالته إلى أمير آخر كتب نفس المضمون بعبارة تجعل الخيل بدلاً من الرمز لها بالحافر.
لذلك ينبغي أن نؤكد هذه الحقيقة من أنّ (الأدب التشريعي) لا يعني بالفنّ من اجل كونه فناً إلاّ إذا اقتضى الموقف ذلك، وإلاّ كان بمقدوره (صلى الله عليه وآله) أن يحشد كتبه بعناصر الصورة والإيقاع ويخضعها للتزويق الذي يطبع نتاج الشعراء أو الخطباء في الغالب- وهو أفصح العرب في ميدان الفنّ، لذلك فإنّ (الخطابة) التي توفر عليها تظل مرشحة لعناصر (الصوت والصورة) أكثر من الكتاب الرسمي، كما أنّ الحديث يظل مرشحاً بنسبة أكثر من الخطبة، حيث أنّ الخطبة تعتمد البعد العاطفي في المقام الأول، لأنّ الموقف قد يتطلب ذلك للأسباب التي نبدأ الآن بالعرض لها.
الخطب:
تظلّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) حافلة بأشد أنواع الإثارة العاطفية بالنسبة إلى الجمهور، وليس بالنسبة إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) يعتمد البعد العقلي في تعامله مع الله تعالى ويحيي مبادئ الله في كيانه اجمع، أمّا البعد العاطفي فيستثمره (صلى الله عليه وآله) من أجل الناس، أي أنّه يخاطبهم بلغتهم وعواطفهم لا بعاطفته ولغته... وقد سبقت الإشارة إلى أنّ أهمّ ما يطبع الخطابة هو: بعدها العاطفي، أمّا الصوت أو الصورة فيأخذان درجة ثانوية بالنسبة إلى الإثارة العاطفية، لذلك يلحظ أنّ (القيم اللفظية) بخاصة أدوات القسم والتوكيد والتساؤل وسواها هي التي يحتشد بها فنّ الخطبة.
ويمكننا أن نستشهد بنماذج نقتطفها من بعض خطبه (صلى الله عليه وآله) لملاحظة هذا الجانب. جاء في إحدى خطبه: (ما لي أرى حبّ الدنيا قد عذب على كثير من الناس حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كتب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم واجب، أما يتعظ آخرهم بأولهم؟ لقد جهلوا ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله....) .
ففي هذا النصّ، عنصر (التساؤل) الذي استهل به الخطبة (ما لي أرى حب الدنيا؟) ثُمّ يتجه إلى عنصر الصورة فينتخب أداة (كأنّ) التشبيهية في معرض التساؤل (حتى كان الموت) دون الأداة الأخرى (الكاف) نظراً لأنّ الأداة الأخيرة تستخدم في تقرير الحقائق، بينا تستخدم (كأنّ) في التقرير والخطاب... ثُمّ يكرر هذه الأداة (وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا....) ثُمّ يعود إلى عنصر التساؤل (أما يتعظ آخرهم بأولهم؟) ثُمّ يعقب ذلك بالسرد الذي يشرح ويقرر سبب التساؤل فيقول مقرراً بأسى وأسف: (لقد جهلوا، ونسوا كُلّ موعظة في كتاب الله تعالى...).
إذاً: لاحظنا كيف أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سلك طرائق عاطفية لاستثارة الجمهور من خلال عنصر (التساؤل)...
وهناك عنصر (القسم) الذي يلعب دوراً كبيراً في الاستثارة العاطفية، كما أنّ هناك (التوكيد) الذي يشكل عنصراً كبيراً لأهميته في هذا الجانب.
ولنقرأ هذا المقطع القصير من إحدى خطبه: (والله الذي لا اله إلاّ هو أني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وإنها الجنة أبداً أو النار أبداً)... إنّ هذه الخطبة تتضمن القسم (والله الذي لا اله إلاّ هو) و (والله لتموتنّ)، كما تتضمن أدوات التأكيد: (اللام) و(تشديد) النون، حتى أننا حين نستمع إلى هذه العبارات المشددة، المصحوبة باللام، المتتابعة مع استهلال كُلّ جملة (لتموتن، لتبعثن، لتحاسبن. لتجزون) نحس بالتصعيد العاطفي، (المصعق)، (المثير) فيما يهزّنا هزّاً عنيفاً في غاية العنف.
وتجيء (الصورة) و(الصوت) أدوات تساهم في تحقيق عنصر الإثارة في الخطبة، ولكن من دون تكثيف، فمثلاً في إحدى خطبه (صلى الله عليه وآله) نجد أنّ هذه الأدوات تستخدم بنسبة هادئة على هذا النحو: (إلا وإنّي قد تركتهما فيكم: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا تسبقوهم فتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم، يا أيها الناس لا ألفينكم بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كمجرى السيل الجرار، ألا وأنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) ففي هذا النصّ (صورة مباشرة) قائمة على المقدمة ونتائجها (فلا تسبقوهم: فتفرقوا) (ولا تقصروا عنهم: فتهلكوا) وصورة تركيبية هي التشبيه: (كمجرى السيل الجرار)، و (عنصر صوتي) هو التجانس (التأويل، التنزيل)، فالتجنيس والتشبيه جاءا مستخفيين هنا بالقياس إلى بروزهما في خطبته عن شهر رمضان مثلاً: (أيها الناس: أنّه قد أقبل عليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامته، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب... ارفعوا أيديكم إليه بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده: يجيبهم إذا ناجوه، فيلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه، إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم... إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة...) ، فهنا نجد صوراً استعارية: (أبواب الجنان، رهن الأنفس، ضيافة الله وثقل الظهر) وصوراً تمثيلية: (الأنفاس هي تسبيح، النوم هو تعبد)، كما أن فيها عناصر صوتية: (استغفاركم، أوزاركم) (ناجوه، نادوه)، (سألوه، دعوه)، مضافاً إلى توازن العبارات (أيامه أفضل الأيام) (لياليه أفضل الليالي) (ساعاته أفضل الساعات)...
ومادامت (الخطب) تعتمد عنصر (الإثارة) للجمهور، فحينئذ لابدّ أن تعتمد بناء فنياً يقوم على مراعاة القوانين التي تحكم العمليات الذهنية والنفسية من حيث: الاستدلال والتدرج بعواطف الجمهور وترتيب المقدمات والنتائج، وطرح الموضوعات المتجانسة أو المتخالفة، مع وصلها بقوانين التداعي الذهني الخ. بيد أنّه من المؤسف أن نلحظ أنّ خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) ومثلها غالبية النصوص التشريعية قد تعرّضت لنقيصة أو تزيد أو تحريف بسبب مذهبي أو أسباب فنية من سهو وخطأ في النسخ أو الطباعة... الخ، مما يتعذّر على الدارس أن يتناول النصّ من خلال بنائه الهندسي لأنّ أقلّ تحريف أو تزيد أو نقصان يترك خللاً في بناء النصّ... لكن مع ذلك، يمكننا أن نلحظ - ولو إجمالاً - أنّ الخطبة يراعى فيها ترتيب الموضوعات وتخضع لعمارة فنية ذات أحكام وإمتاع،... ففي خطبته في حجة الوداع-مثلاً- بالرغم من تفاوت النصوص فيها، إلاّ أنّ هيكل الخطبة يفصح عن إحكام خطوطها...، فقد استهلت بالحمد والاستغفار والتشهد... الخ، ثُمّ انتظمت في مقاطع يفتتح كُلّ واحد منها بعبارة (أيها الناس)، ويختم بعبارة (اللهم اشهد) في غالبية المقاطع، وكلّ مقطع يتضمن موضوعاً محدداً أو موضوعات مختلفة لكنها متجانسة، ففي المقطع الأول يطرح الحمد، وفي الثاني مطالبة الجمهور بالاستماع، وفي الثالث تطرح قضية الدماء والأموال، وفي الرابع: قضية الأشهر الحرم، وصلتها بالقتال، وفي الخامس: تطرح قضية التعامل مع النساء، وفي السادس (وهو المقطع الذي لوحظ فيه طرح أكثر من موضوع وفيه قضية الثقلين: كتاب الله وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيث تفاوتت النصوص في صياغة عباراته وحذف بعضها بخاصة أنّ الحذف مرتبط بدافع مذهبي، مضافاً إلى تضمنه موضوعاً اقتصادياً قد يبدو وكأنّه في موضع آخر...)، وفي المقطع السابع تطرح قضية تزكية الإنسان من خلال التقوى وليس النسب والعنصر، وفي المقطع الثامن: طرحت قضية الإرث والانتساب العائلي...
فالخطبة - إذن- خاضعة لبناء هندسي ذي مقاطع ثمانية كُلّ واحد فيها يبدأ - كما قلنا- بعبارة خاصة وينتهي بعبارة خاصة تتكرر في غالبية المقاطع، تناولت أهمّ الظواهر المتصلة بالحاجات الفكرية والجسمية والنفسية والاجتماعية.
الخواطر:
الخاطرة، صياغة فنية لشعور (مفرد) أي: وقفة ذهنية عابرة عند بعض الظواهر التي تجتذب اهتمام الملاحظ،... وهذا من نحو الخاطرة التي صاغها النبيّ (صلى الله عليه وآله) حيال أحد ولاته ممن فقد ابنه فقال (صلى الله عليه وآله): (أمّا بعد: فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثُمّ إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة نمتع بها إلى أجل معدود وتقبض لوقت معلوم، افترض علينا الشكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه منك بأجر كثير...) . فهنا خاطرة عن حادثة موت، أخضعها لصياغة محكمة من حيث البناء وأدواته. أمّا من حيث الأدوات فأنّ الخاطرة المذكورة وشحت بقيم صوتية سجعاً وتجانساً (الأجر، الصبر، الشكر) (سرور، كثير) (معدود، معلوم) (أعطى، ابتلى) الخ، وقيم صورية استعارية (المواهب السنية، العوارف المستودعة)... وأمّا من حيث البناء فقد أخضعه لخطوط محكمة وصلها بعضاً مع الآخر، فقد دعا للأب - في الاستهلال- بتوفر الأجر والصبر والشكر، ثُمّ وصل بين هذه السمات الثلاث وبين معطيات الله تعالى من جانب، وطريقة التعامل مع هذه الظواهر من جانب آخر، فعندما دعا له بأن يشكر (ورزقنا وإياك الشكر) أوضح في تضاعيف الخاطرة وظيفة الإنسان حيال ذلك (ثُمّ افترض علينا الشكر)، وعندما دعا له بالصبر (وألهمك الصبر) أوضح في تضاعيف الخاطرة: الوظيفة حيال الموت (والصبر اذا ابتلى)، وعندما دعا له بالأجر: (فعظم الله لك الأجر) أوضح في نهاية الخاطرة معطيات الله تعالى (وقبضه منك بأجر كبير).... وهكذا عندما تحدث قائلاً: (إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة)، أوضح في نهاية الخاطرة موقع الموت من ذلك فقال:(وكان ابنك من مواهب الله السنية وعوارفه المستودعة...).
إذن: رأينا كيف أنّ هذه الخاطرة السريعة قد صيغت بنحو محكم كُلّ الإحكام من حيث جميع المفردات التي طرحها في الخاطرة (الأجر، والصبر، والشكر، والمواهب السنية والعوارف المستودعة) فوصل بعضها مع الآخر، ورتب على كُلّ منها مقدمات ونتائج، ووصل بين ما هو خاص (موت الابن) وما هو عام (معطيات الله) وطريقة التعامل مع المعطيات،... كُلّ أولئك تمّ - عبر خاطرة سريعة- ولكنها جسدت عمارة فنية أحكمت خطوطها وفق المبني الهندسي الذي أوضحناه.