شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

الدعاء سلاح المؤمن

0 المشاركات 00.0 / 5

الدعاء سلاح المؤمن(*)

العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي

 

قال تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة / 186.

في بيان الآية وتفسيرها:

إن في قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ ) ، أحسن بيان لما اشتمل عليه من المضمون وأرق أسلوب وأجمله فقد وضع أساسه على التكلم وحده دون الغيبة ونحوها، وفيه دلالة على كمال العناية بالأمر.

ثم قوله: ( عِبَادِي ) , ولم يقل: الناس وما أشبه يزيد في هذه العناية ، ثم حذف الواسطة في الجواب حيث قال : ( فَإِنّي قَرِيبٌ ) ولم يقل: فقل إنه قريب، ثم التأكيد بإن ،ثم الإتيان بالصفة دون الفعل الدال على القرب ليدل على ثبوت القرب ودوامه، ثم الدلالة على تجدد الإجابة واستمرارها حيث أتى بالفعل المضارع الدال عليهما، ثم تقييده الجواب أعني قوله: ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ) بقوله: ( إِذَا دَعَانِ ) ، وهذا القيد لا يزيد على قوله: ( دَعْوَةَ الدّاعِ )  المقيد به شيئاً بل هو عينه ، وفيه دلالة على أن ( دَعْوَةَ الدّاعِ ) مجابة من غير شرط وقيد كقوله تعالى:  ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن /  60 .

 فهذه سبع نكات في الآية تنبئ، بالإهتمام في أمر إستجابة الدعاء والعناية بها، مع كون الآية قد كرر فيها ـ على إيجازها ـ ضمير المتكلم سبع مرات ، وهي الآية الوحيدة في القرآن على هذا الوصف.

والدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو نحو الداعي ، والسؤال جلب فائدة أو درّ من المسؤول يرفع به حاجة السائل بعد توجيه نظره ، فالسؤال بمنزلة الغاية من الدعاء وهو المعنى الجامع لجميع موارد السؤال كالسؤال لرفع الجهل والسؤال بمعنى الحساب والسؤال بمعنى الاستدرار وغيره.

 ثم إن العبودية هي المملوكية ولا كل مملوكية بل مملوكية الإنسان فالعبد هو من الإنسان.

وبالجملة فملكه سبحانه لعباده ملكاً حقيقياً وكونهم عباداً له هو الموجب لكونه تعالى قريباً منهم على الإطلاق وأقرب إليهم من كل شيء عند القياس وهذا الملك الموجب لجواز كل تصرف شاء كيفما شاء من غير دافع ولا مانع يقضي أن الله سبحانه أن يجيب أي دعاء دعى به أحد من خلقه ويرفع بالإعطاء والتصرف حاجته التي سأله فيها فإن الملك عام، والسلطان والإحاطة واقعتان على جميع التقادير من غير تقيد بتقدير دون تقدير لا كما يقوله اليهود:

( أن الله لما خلق الأشياء وقدر التقادير تم الأمر، وخرج زمام التصرف الجديد من يده بما حتمه من القضاء فلا نسخ ولا بداء ولا استجابة لدعاء لأن الأمر مفروغ عنه) .

 ولا كما يقوله جماعة من هذه الأمة : ( أن لا صنع لله في أفعال عباده ) وهم القدرية الذين سماهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجوس هذه الأمة فيما رواه الفريقان من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( القدرية مجوس هذه الأمة )).

بل الملك لله سبحانه على الإطلاق ولا يملك شيء شيئاً إلاّ بتمليك منه سبحانه وإذن فما شأنه وملكه وإذن في وقوعه، يقع، وما لم يشاء ولم يملك ولم يأذن فيه لا يقع وان بذل في طريق وقوعه كل جهد وعناية، قال تعالى:  ( يَا أَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ ) فاطر/15 .

فقد تبين: أن قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ )، كما يشتمل على الحكم أعني إجابة الدعاء كذلك يشتمل على علله فكون الداعين عباداً لله تعالى هو الموجب لقربة منهم ، وقربه منهم هو الموجب لإجابته المطلقة لدعائهم، وإطلاق الإجابة يستلزم إطلاق الدعاء فكل دعاء دعي به فأنه مجيبه إلاّ أن ههنا أمراً وهو انه تعالى قيد قوله: ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ ) بقوله ( إِذَا دَعَانِ ) ، وهذا القيد غير الزائد على نفس المقيد بشيء يدل على اشتراك الحقيقة دون التجوز والشبه، فان قولنا: إصغ إلى قول الناصح إذا نصحك أو أكرم العالم إذا كان عالماً يدل على لزوم اتصافه بما يقتضيه حقيقة، فالناصح إذا قصد النصح بقوله فهو الذي يجب الإصغاء إلى قوله والعالم إذا تحقق بعلمه وعمل بما علم كان هو الذي يجب إكرامه .

فقوله تعالى: ( إِذَا دَعَانِ ) , يدل على أن وعد الإجابة المطلقة ، إنما هو إذا كان الداعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي مواطئاً لسانه قلبه، فإن حقيقة الدعاء والسؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة، دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أُدير صدقاً أو كذباً جداً أو هزلاً حقيقة أو مجازاً.

فالسؤال الفطري من الله سبحانه لا يتخطى الإجابة ، فما لا يستجاب من الدعاء ولا يصادف الإجابة فقد أحد أمرين وهما اللذان ذكرهما بقوله: ( دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ ) .

فإما انه لم يتحقق هناك دعاء ، وإنما التبس الأمر على الداعي التباساً، كأن يدعو الإنسان فيسأل ما لا يكون وهو جاهل بذلك أو ما لا يريده لو انكشف عليه حقيقة الأمر أو يسأل ما لو علم بحقيقته لم يسأله فلا يستجاب له فيه.

وإما أن السؤال متحقق لكن لا من الله وحده كمن يسأل الله حاجة من حوائجه وقلبه متعلق بالأسباب العادية أو بأمور وهمية وهمها كافية في أمره أو مؤثرة في شأنه فلم يخلص الدعاء لله سبحانه فلم يسأل الله بالحقيقة فإن الله الذي يجيب الدعوات هو الذي لا شريك له في أمره، لا من يعمل بشركة الأسباب والأوهام ، فهاتان الطائفتان من الدعاة السائلين لم يخلصوا الدعاء بالقلب وإن أخلصوه بلسانهم.

فهذا ملخص القول في الدعاء على ما تفيده الآية .

وبه يظهر معاني سائر الآيات النازلة في هذا الباب كقوله تعالى: ( قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ )الفرقان / 77 ,

 وقوله تعالى: ( قُلْ مَن يُنَجّيكُم مِن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِن هذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجّيكُم مِنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ) الأنعام / 64 ،

فالآيات دالة على أن للإنسان دعاء غريزياً وسؤالاً فطرياً يسأل به ربه ، غير انه إذا كان في رخاءٍ ورفاه تعلقت نفسه بالأسباب فأشركها لربه، فالتبس عليه الأمر وزعم أنه لا يدعو ربه ولا يسأل عنه، مع انه لا يسأل غيره فإنه على الفطرة ولا تبديل لخلق الله تعالى، ولما وقع في الشدة وطارت الأسباب عن تأثيرها وفقدت الشركاء والشفعاء تبين له أن لا منجح كحاجته ولا مجيب لمسألته إلاّ الله ، فعاد إلى توحيده الفطري ونسي كل سبب من الأسباب، ووجه وجهه نحو الرب الكريم فكشف شدته وقضى حاجة وأظله بالرخاء، ثم إذا تلبس به ثانياً عاد إلى ما كان عليه أولاً من الشرك والنسيان.

وكقوله تعالى: ( وَقَالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ ) المؤمن / 60 ، والآية تدعو إلى الدعاء وتعد بالإجابة وتزيد على ذلك حيث تسمي الدعاء عبادة بقولها: ( عَنْ عِبَادَتِي ) أي عن دعائي ، بل تجعل مطلق العبادة دعاء حيث إنها تشتمل الوعيد على ترك الدعاء بالنار والوعيد بالنار إنما هو على ترك العبادة رأساً لا على ترك بعض أقسامه دون بعض فأصل العبادة دعاء فافهم ذلك.

وبذلك يظهر معنى آيات أخر من هذا الباب كقوله تعالى: ( فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ) المؤمن / 14 ،

 وقوله تعالى: ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف / 56 ، إلى غير ذلك من الآيات المناسبة، وهي تشتمل على أركان الدعاء وآداب الداعي ، وعمدتها الإخلاص في دعائه تعالى وهو مواطات القلب واللسان والإنقطاع عن كل سبب دون الله والتعلق به تعالى ، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأدب الحضور وغير ذلك مما تشتمل عليه الروايات.

وقوله تعالى: ( فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي ) ، تفريع على ما يدل عليه الجملة السابقة عليه بالالتزام: أن الله تعالى قريب من عباده ، لا يحول بينه وبين دعائهم شيء ، وهو ذو عناية بهم وبما يسألونه منه فهو يدعوهم إلى دعائه، وصفته هذه الصفة، فليستجيبوا له في هذه الدعوة، وليقبلوا إليه، وليؤمنوا به في هذا النعت، وليوقنوا بأنه قريب مجيب لعلهم يرشدون في دعائه.

 

مع الدعاء فيما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام):

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان: (( الدعاء سلاح المؤمن )) , وفي عدة الداعي في الحديث القدسي: (( يا موسى سلني كل ما تحتاج إليه حتى علف شاتك وملح عجينك )).

وفي (المكارم) عنه (عليه السلام): (( الدعاء أفضل من قراءة القرآن لأن الله عزّ وجلّ قال: ( قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ))) ، وروي ذلك عن الباقر والصادق (عليهما السلام).

وفي (عدة الداعي) في رواية محمد بن عجلان عن محمد بن عبيد الله بن علي بن الحسين عن ابن عمه الصادق عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال: (( أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه : وعزتي وجلالي لأقطعن آمل أمل غيري بالاياس ولاكسونه ثوب المذلة في الناس ولأبعدنه من فرجي وفضلي ، أيأمل عبدي في الشدائد غيري ، والشدائد بيدي ويرجو سوائي وأنا الغني الجواد، بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ )).

وفي (عدة الداعي) أيضاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:(( قال الله : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلاّ قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه وإن دعاني لم أجبه ، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلاّ ضمنت السموات والأرض رزقه ، فإن دعاني أجبته وان سألني أعطيته وان استغفرني غفرت له )).

أقول : وما اشتمل عليه الحديثان هو الإخلاص في الدعاء وليس إبطالاً لسببية الأسباب الوجودية لا عللاً فياضة مستقلة دون الله سبحانه ، وللإنسان شعور باطني بذلك فانه يشعر بفطرته أن لحاجة سبباً معطياً لا يتخلف عنه فعله ، ويشعر أيضاً أن كل ما يتوجه إليه من الأسباب الظاهرية يمكن أن يتخلف عنه أثره فهو يشعر بأن المبدأ الذي يبتديء عنه كل أمر ، والركن الذي يعتمد عليه ويركن إليه كل حاجة في تحققها ووجودها غير هذه الأسباب.

 ولازم ذلك أن لا يركن الركون التام إلى شيء من هذه الأسباب بحيث ينقطع عن السبب الحقيقي ويعتصم بذلك السبب الظاهري.

 ونظير ذلك: أن الإنسان كثيراً ما يحب شيئاً ويهتم به حتى إذا وقع وجده ضاراً بما هو أنفع منه وأهم وأحب فترك الأول وأخذ بالثاني ، وربما هرب من شيء حتى إذا صادفه وجده أنفع وخيراً مما كان يتحفظ به فأخذ الأول وترك الثاني ، فالصبي المريض إذا عرض عليه الدواء المر امتنع من شربه وأخذ بالبكاء وهو يريد الصحة ، فهو بشعوره الباطني الفطري يسأل الصحة فيسأل الدواء وان كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه ، فللإنسان في حياته نظام بحسب الفهم الفطري والشعور الباطني وله نظام آخر بحسب تخيله والنظام الفطري لا يقع فيه خطأ ولا في سيره خبط ، وأما النظام التخيلي فكثيراً ما يقع فيه الخطأ والسهو.

وفي عدة الداعي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (( ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة )).

وفي الحديث القدسي: (( أنا عند ظن عبدي بي ، فلا يظن بي إلاّ خيراً )) .

 أقول: وذلك أن الدعاء مع اليأس أو التردد يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة كما مر ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

وفي (العدة) أيضاً , عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إفزعوا إلى الله في حوائجكم ، والجأوا إليه في ملماتكم ، وتضرعوا إليه وادعوه ، فإن الدعاء مخ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله إلاّ استجاب فإما أن يعجله له في الدنيا أو يؤجل له في الآخرة ، وأما أن يكّفر له من ذنوبه بقدر ما دعا ما لم يدع بمأثم )) .

 وفي نهج البلاغة في وصية له (عليه السلام) لإبنه الحسين (عليه السلام) : (( ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنطنك إبطاء إجابته ، فإن العطية على قدر النية ، وربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل ، وأجزل لعطاء الآمل ، وربما سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيراً منه عاجلاً أو آجلاً أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقي لك جماله ، وينفي عنك وباله ، والمال لايبقى لك ولا تبقي له )).

أقول: قوله: فإن العطية على قدر النية يريد (عليه السلام) به: أن الإستجابة تطابق الدعوة فما سأله السائل منه تعالى على حسب ما عقد عليه حقيقة ضميره وحمله ظهر قلبه هو الذي يؤتاه، لا ما كشف عنه قوله وأظهره لفظه، فإن اللفظ ربما لا يطابق المعنى المطلوب كل المطابقة كما مر بيانه فهي أحسن جملة وأجمع كلمة لبيان الارتباط بين المسألة والإجابة.

وقد بيّن (عليه السلام) بها عدة من الموارد التي يتراءى فيها تخلف الإستجابة عن الدعوة ظاهراً كالإبطاء في الإجابة ، وتبديل المسؤول عنه في الدنيا بما هو خير منه في الدنيا، أو بما هو خير منه في الآخرة ، أو صرفه إلى شيء آخر أصلح منه بحال السائل.

وفي (عدة الداعي) عن الباقر (عليه السلام): (( ما بسط عبد يده إلى الله عزّ وجلّ إلاّ استحيى الله أن ردها صفراً حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه ووجهه ، وفي خبر آخر على وجهه وصدره )). 

أقول: وقد روي في الدر المنثور ما يقرب من هذا المعنى عن عدة من الصحابة كسلمان، وجابر، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك ، وابن أبي مغيث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثماني روايات، وفي جميعها رفع اليدين في الدعاء فلا معنى لإنكار بعضهم رفع اليدين بالدعاء معللاً بأنه من التجسيم ، إذ رفع اليدين إلى السماء إيماء إلى انه تعالى فيها ـ تعالى عن ذلك وتقدس ـ .

وهو قول فاسد ، فإن حقيقة جميع العبادات البدنية هي تنزيل المعنى القلبي والتوجه الباطني إلى موطن الصورة ، وإظهار الحقائق المتعالية عن المادة في قالب التجسم ، كما هو ظاهر في الصلاة والصوم والحج وغير ذلك وأجزائها وشرائطها ، ولولا ذلك لم يستقم أمر العبادة البدنية، ومنها الدعاء، وهو تمثيل التوجه القلبي والمسألة الباطنية بمثل السؤال الذي نعهده فيما بيننا من سؤال الفقير المسكين الداني من الغني المتعزز العالي حيث يرفع يديه بالبسط ، ويسأل حاجته بالذلة والضراعة .

 وقد روى (الشيخ في المجالس والأخبار) مسنداً عن محمد وزيد ابني علي بن الحسين عن أبيهما عن جدهما الحسين (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي (عدة الداعي) مرسلاً أن رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين.

وفي (البحار) عن علي (عليه السلام) انه سمع رجلاً يقول: أللهم إني أعوذ بك من الفتنة، قال (عليه السلام): (( أراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى: ( إِنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) ولكن قل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن )).

أقول: وهذا باب آخر في تشخيص معنى اللفظ وله نظائر في الروايات ، وفيها: أن الحق في معنى كل لفظ هو الذي ورد منه في كلامه ، ومن هذا الباب ما ورد في الروايات في تفسير معنى الجزء والكثير وغير ذلك.

وفي عدة الداعي عن الصادق (عليه السلام): (( إن الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه )).

وفي العدة أيضاً عن علي (عليه السلام): (( لا يقبل الله دعاء قلب لاه )).

أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر، والسر فيه عدم تحقق حقيقة الدعاء والمسألة في السهو واللهو.

وفي (دعوات الراوندي): في التوراة يقول الله عزوجل للعبد: (( إنك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي من أجل انه ظلمك فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنك ظلمته فإن شئت أجبتك وأجبته فيك ، وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة )).

أقول: وذلك أن من سأل شيئاً لنفسه فقد رضي به ورضي بعين هذا الرضا بكل ما يماثله من جميع الجهات،  فإذا دعا على من ظلمه بالإنتقام فقد دعا عليه لأجل ظلمه فهو راض بالإنتقام من الظالم، وإذا كان هو نفسه ظالماً لغيره فقد دعا على نفسه بعين ما دعا لنفسه فإن رضي بالإنتقام عن نفسه ولن يرضي أبداً عوقب بما يريده على غيره ، وإن لم يرض بذلك لم يتحقق منه الدعاء حقيقة، قال تعالى: ( وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشّرّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ) الإسراء / 11.

وفي (عدة الداعي) قال رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي ذر: (( يا أبا ذر ألا أعلمك كلمات ينفعك الله عزّ وجلّ بهن ؟ )) قلت بلى يا رسول الله، قال(صلى الله عليه وآله وسلم): (( احفظ الله يحفظك الله، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ولو أن الخلق كلهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه )).

أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )) : يعني : ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتى يستجيب دعاءك في الشدة ولا ينساك، وذلك أن من نسي ربه في الرخاء فقد أذعن باستقلال الأسباب في الرخاء ، ثم إذا دعا ربه في الشدة كان معنى عمله انه يذعن بالربوبية في حال الشدة وعلى تقديرها ، وليس تعالى على هذه الصفة بل هو رب في كل حال وعلى جميع التقادير، فهو لم يدع ربه.

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ))، إرشاد إلى التعلق بالله في السؤال والإستعانة بحسب الحقيقة فإن هذه الأسباب العادية التي بين أيدينا إنما سببيتها محدودة على ما قدر الله لها من الحد لا على ما يتراءى من استقلالها في التأثير بل ليس لها إلاّ الطريقية والوساطة في الإيصال ، والأمر بيد الله تعالى ، فإذن الواجب على العبد أن يتوجه في حوائجه إلى جناب العزة وباب الكبرياء ولا يركن إلى سبب بعد سبب ، وان كان أبى الله أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها وهذه دعوة إلى عدم الإعتماد على الأسباب إلاّ بالله الذي أفاض عليها السببية لا أنها هداية إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير السبب فهو طمع فيما لا مطمع فيه ، كيف والداعي يريد ما يسأله بالقلب، ويسأل ما يريده باللسان ويستعين على ذلك بأركان وجوده وكل ذلك أسباب؟

وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (( فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )) ، تفريع على قوله: (( وإذا سألت فأسأل الله )) ، من قبيل تعقيب المعلول بالعلة فهو بيان علة قوله : (( وإذا سألت )) ، وسببه ، والمعنى أن الحوادث مكتوبة مقدرة من عند الله تعالى لا تأثير لسبب من الأسباب فيها حقيقة ، فلا تسأل غيره تعالى ولا تستعن بغيره تعالى ، وأما هو تعالى : فسلطانه دائم وملكه ثابت ومشيته نافذة وكل يوم هو في شأن ، ولذلك عقب الجملة بقوله: (( ولو أن الخلق كلهم جهدوا ... )).

ومن أخبار الدعاء ما ورد عنهم مستفيضاً: (( أن الدعاء من القدر )).

 أقول: فيه جواب ما استشكله اليهود وغيرهم على الدعاء: أن الحاجة المدعو لها أما أن تكون مقضية مقدرة أولاً ، وهي على الأول واجبة وعلى الثاني ممتنعة ، وعلى أي حال لا معنى لتأثير الدعاء ، والجواب: أن فرض تقدير وجود الشيء لا يوجب استغناءه عن أسباب وجوده ، والدعاء من أسباب وجود الشيء فمع الدعاء يتحقق سبب من أسباب الوجود فيتحقق المسبب عن سببه ، وهذا هو المراد بقولهم: (( أن الدعاء من القدر )) ، وفي هذا المعنى روايات أُخر.

ففي (البحار) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (( لا يرد القضاء إلاّ الدعاء )).

وعن الصادق (عليه السلام): (( الدعاء يرد القضاء بعد ما أُبرم إبراماً )).

وعن أبي الحسن موسى (عليه السلام): (( عليكم بالدعاء فإن الدعاء والطلب إلى الله عزّ وجلّ يرد البلاء ، وقد قدر وقضى فلم يبق إلاّ إمضاؤه فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفاً )).

وعن الصادق (عليه السلام): (( أن الدعاء يرد القضاء المبرم وقد أبرم إبراماًُ فأكثر من الدعاء فإنه مفتاح كل رحمة ونجاح كل حاجة ولا ينال ما عند الله إلاّ بالدعاء فإنه ليس من باب يكثر قرعه إلاّ أوشك أن يفتح لصاحبه )).

أقول: وفيها إشارة إلى الإصرار وهو من محققات الدعاء ، فإن كثرة الإتيان بالقصد يوجب صفاءه.

وعن إسماعيل بن همام أبي الحسن (عليه السلام): (( دعوة العبد سراً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية )).

أقول: وفيها إشارة إلى إخفاء الدعاء وإسراره فإنه أحفظ لإخلاص الطلب.

وفي (المكارم) عن الصادق (عليه السلام): (( لا يزال الدعاء محجوباً حتى يُصلّى على محمد وآل محمد )).

وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً: (( من قدّم أربعين من المؤمنين ثم دعا أُستجيب له )).

وعن الصادق (عليه السلام) أيضاً ـ وقد قال له رجل من أصحابه إني لأجد آيتين في كتاب الله أطلبهما فلا أجد هما ـ قال: فقال:(( وما هما؟ )) قلت:

 ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) فندعوه فلا نرى إجابة ، قال: (( أفترى الله أخلف وعده؟ )) قلت: لا، قال: (( فمه؟ )) قلت: لا أدري قال: (( لكني أخبرك من أطاع الله فيما أمر به ثم دعاه من جهة الدعاء أجابه )) ، قلت: وما جهة الدعاء؟ قال: (( تبدأ فتحمد الله وتمجّده وتذكر نعمه عليك فتشكره ثم تُصلي على محمد وآله ثم تذكر ذنوبك فتقر بها ، ثم تستغفر منها فهذه جهة الدعاء )) ، ثم قال: (( وما الآية الأخرى؟ )) قلت: ( وَمَا أَنفَقْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) وأراني أُنفق ولا أرى خلفاً ، قال: (( أفترى الله أخلف وعده ؟ )) قلت: لا، قال: (( فمه ؟ )) قلت: لا أدري ، قال :(( لو أن أحدكم اكتسب المال من حله وأنفق في حقه لم ينفق درهماً إلاّ أخلف الله عليه )).

أقول: والوجه في هذه الأحاديث الواردة في آداب الدعاء ظاهرة فإنها تقرب العبد من حقيقة الدعاء والمسألة.

وفي الدر المنثور عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( إن الله إذا أراد أن يستجيب لعبد أذن له في الدعاء )) .

أقول: وهذا المعنى مروي من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً: (( من أُعطي الدعاء أعطي الإجابة )) ، ومعناه واضح مما مر.

وفي الدر المنثور أيضاً عن معاذ بن جبل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (( لو عرفتم الله حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال )).

 

ــــــــــــــــــــــــ

(*) من (الميزان في تفسير القرآن) للعلاّمة المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي, بتصرّف.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية