جسـراً للآخـرة
جسـراً للآخـرة
كلما نستقبل شهررمضان
الفضيل تطرح امامنا الفكرة التالية، وهي ان كل شهر نستقبله هو شهر جديد، وان
الله سبحانه وتعالى قد قدر لكل واحد منا ان يمر بعدد معين من اشهر رمضان نعيشها
خلال حياتنا. ومهما يكن العدد فانه لابد ان ينتهي، والحقيقة التي يمكن ان تنتهي
ان رمضان هو جزء من واقعنا وكياننا وحياتنا.
انها لحظات تمر حتى تنتهي الى تلك اللحظة التي قدر الله تعالى ان يجعلها أجل
الانسان. والمشكلة اننا لانعرف متى تكون تلك اللحظة. وحتى لو عرفناها، وعرفنا
اننا سنعيش - مثلاً - سبعين عاماً، فان هذا يعني اننا يجب ان نكتسب خلال هذه
السنين عملاً ينفعنا غداً، وإلاّ سنكون ممن قال عنهم العلي القديـر: « وَمَنْ
خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي
جَهَنَّمَ خَالِدُونَ » (المؤمنون / 103)
ان الذين تخف موازينهم يوم القيامة رغم ان الله تبارك وتعالى منحهم فرصة امتدت
الى سبعين عاماً، ورغم ذلك لم يقوموا بعمل يوازي ويساوي هذه المدة الطويلة،
فانهم سيسكنون نار جهنم خالدين فيها.
فنعمة الله عليهم كانت أكثر، وفرصة العمل أكثر، ولكنهم مع ذلك لم يستغلوا تلك
النعمة، ولم يغتنموا هذه الفرصة حتى جائهم الأجل.
وهم عندما يسكنون في النار فانهم لا يسكنونها لعدة أيام أو أسابيع، وانما هم
خالدون فيها. وهذا أمر ليس بالهيّن، فمن الممكن للانسان ان يتصور انه سيعيش في
نار جهمم لأيام ومن ثم يعفي الله تعالى عنه، وينجيه. ولكن اذا أصبح من المقرر
بقاؤه في نار جهنم لفترة غير محدودة، فان هذا الأمر من الصعب تصوره، رغم انه
سيكون حقيقة ملموسة قائمة في يوم القيامة كما تصرح بذلك الآيات التالية : «
أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم
بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا
وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا
فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ »
(المؤمنون /105 - 108)
ترى اذا خفت موازيننا يوم القيامة فماذا عسانا ان نفعل في هذه الحالة، وخصوصاً
ان الطريق مسدود امام عودتنا الى الدنيا لنعمل الصالحات التي من شأنهـا ان تثقل
ميزاننـا. ولذلك فان الله تبارك وتعالى يقول لمثل هؤلاء : « اخْسَئُوا فِيهَا
وَلاَ تُكَلِّمُونِ ».
لابد من التهيؤ للآخـرة :
روي عن الامام علي (عليه السلام) قوله في الترغيب في الآخرة، والتزهيد في
الدنيا، والحث على الاعمال الصالحة :
أما بعد، فان الدنيا أدبرت، وآذنت بوداع، وان الآخرة قد اقبلت واشرفت باطلاع.
ألا وان اليوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار؛ أفلا تأئب
من خطيئته قبل منيته ! ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ! ألا وانكم في أيام أمل من
ورائه أجل؛ فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضرره أجله.
ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضره أجله .([14])
فمن المرارة بمكان ان تأتي لحظة الفراق، والوداع دون ان يهـئ الانسان نفسه لها،
في حين ان الله تعالى يقول بشأن الآخرة : « لِمِثْلِ
هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ » (
الصافات / 61)
فما دامت الدنيا تنتهي بهذا الشكل وهو وضع الانسان تحت التراب ثم ينتهي كل شئ،
فهل من المنطقي والصحيح ان يضحي الانسان بدينه وقيمه وشرفه من أجل اشباع شهواته
على حساب آخرته. والله وحده هو العالم كيف سيكون مصير الانسان بعد الموت، وقد
أكدت الروايات على انه يمر بسعين موقعاً ومرحلة وعقبة اهونها الموت ؟
وفي هذا المجال يقول الامام السجاد (عليه السلام) في دعاء من ادعية شهر رمضان :
واعوذ بك من هول المطلع . ([15]) فعندما يخرج الانسان من قبره يوم القيامة
عريان لايملك شيئاً من حطام الدنيا، يتلفت يميناً وشمالاً، ولا يرى احداً
يستعين به في تلك اللحظات الصعبة العسيرة.
ان الدنيا هي دار الغرور، والواحد منا ينهمك فيها باشباع رغباته وشهواته،
والجري وراء مظاهرة الكاذبة الخادعة دون ان يشعر بمجئ شهر رمضان، واهمية هذا
الشهر في تحديد مصيره الاخروي.
ربيع تبتل ومنهاج تزكية :
ان شهر رمضان هو ربيع الدعاء والتبتل والتزكية، والتوجه الى الخالق.. ولكن لمن
يستغل هذا الربيع. فالبعض من الناس يزدادون بعداً عن الله في شهر رمضان، لانهم
لم يتوجهوا الى تلاوة القرآن الكريم وقراءة الأدعية، فغلبت عليهم شقوتهم.
وهذا يعني ان الانسان من الممكن له ان يتخذ من شهر رمضان أو اية مناسبة روحية
اخرى، معراجاً الى الله سبحانه وتعالى، فتحدث عنده هذه المناسبة حالة نفسية
متسامية يتخلص من خلالها من الصفات السلبية كالاختلاف مع اخوته، وطغيان الشهوات
عليه، واليأس من روح الله، والتكاسل عن العمل.. فالفرصة انما تكون لمن يغتنمها.
ان شهر رمضان المبارك يجب ان نتخذ منه وسيلة لاصلاح انفسنا وتزكيتها، ورفع
الحجب التي تحول دون فهمنا للحياة. ولاشك ان للقراءة المعمقة للقران الكريم
وللأدعية الشريفة الدور الأكبر في ذلك.
فلنكثر من اعمالنا الصالحة، لان الاعمال مهما كانت كبيرة تعد قليلة بالنسبة الى
المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتق الانسان. والانبياء والصالحون والزهاد كان
ديدنهم استصغار اعمالهم، وعدم الاغترار بها، فكيف بنا نحن واعمالنا - على قلتها
- مشوبة بالنوايا الدنيوية ؟
فلنخلص نياتنا، ولننتفع بهذا الشهر الفضيل في جميع قضايانا، وخصوصاً القضايا
السياسية. فعندما يقف أحدنا ثائراً أمام حاكم جائر قربة الى الله تعالى، فلا شك
ان ثوابه سيكون عظيماً، لان نيته كانت خالصة لوجه الله الكريم؛ ففي بعض الاحيان
يثأر الانسان انتقاماً لكرامته، وثأراً لشخصيته.. ولكنه في هذه الحالة سوف
لايحصل على الثواب العظيم الجزيل الذي يكون من نصيبه فيما اذا قاوم الطاغوت
تقرباً الى الله جلت قدرته.
برامج عمل وسلوك :
ان الثورة ضد الطاغوت بهذا المقهوم والاسلوب هي من الاعمال الكبيرة، شريطة ان
يخلص الانسان في عمله هذا. ان لا يكون اليوم ضد الطاغوت، وغداً يثور ضد الحكومة
الاسلامية بدافع الوصول الى الحكم؛ فيكون حاله كحال (الزبير بن العوام) الذي
عمل في سبيل الله تعالى، وجاهد في سبيل تحقيق وصية رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بخلافة أمير المؤمنين علي بن أبيطالب (عليه السلام). ولكن ما ان امسك
أمير المؤمنين بزمام الحكم، واذا بالزبير يشهر سيفه ضد هذا الخليفة الشرعي
طمعاً في السلطة. فتورط بهذه العاقبة السيئة التي نعوذ منها.
ان كل هذه السلوكيات تعني عدم وجود الاخلاص في العمل. فالعمل لم يكن لله عز وجل
بل لقضاء المصالح، واشباع الشهوات. فالعمل عندما يكون خالصاً لوجه الخالق فانه
سيكون عملاً معتبراً، وثقيلاً في الميزان، وهذا لايمكن إلاّ بعد تزكية الانسان
لنفسه. فأذا زكى الانسان نفسه، وأبعدها عن الشهوات والمطامع الذاتية
والانانيات، فان هذا يعني انه قد قام بعمل شاق، هو حصيلة تعب وجهود مضنية.
وهكـذا فلابد من الاستعــداد لتزكية النفس في شهــر رمضان
المبارك، ولنخصص اوقاتاً منه لقراءة الادعية باخلاص وتمعن، وخصوصاً دعاء ابي
حمزة الثمالي، وادعية الصحيفة السجادية.. واذا لم نستطع قراءة هذه الادعية بشكل
كامل، فلنحاول ان نخصص لكل ليلة جزء منها.
والمهم في ذلك ان نتدبر في الادعية، وان نتخذ منها برامج عمل وسلوك في حياتنا،
بحيث نقرأ الدعاء وكأننا نحن المخاطبون شخصياً. فهناك - للأسف - من يقرأ الدعاء
في حين ان ذهنه مشغول بقضايا اخرى، فلا يكاد هذه الادعية التي يقرأونها ت