منزلة القرآن الكريم في خطب أمير المؤمنين في نهج البلاغة
القرآن الكتاب السماوي الوحيد بين يدي الإنسان
لو أردنا التطرّق لكل ما جاء حول القرآن في نهج البلاغة فإنّ البحث يطول كثيراً ، فلقد تناول الإمام علي ( عليه السلام ) في أكثر من عشرين خطبة في نهج البلاغة وصف القرآن ومنزلته ، وقد يختص أكثر من نصف خطبة أحياناً لبيان منزلة القرآن ودوره في حياة المسلمين ، وواجبهم إزاء هذا الكتاب السماوي ، ونحن نكتفي هنا بتوضيح بعض توصيفات نهج البلاغة بشأن القرآن الكريم .
يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في الخطبة 133 : ( وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ ) ، فالقرآن في متناولكم وأمامكم ، وعلى العكس من الكتب السماوية لسائر الأديان من قبيل كتاب النبي موسى والنبي عيسى ( عليهما السلام ) فإنّ القرآن بين أيديكم ، وحري القول إنّ الكتاب المقدس لم يكن في متناول عامة الناس في الأُمم السابقة ، لا سيما يهود بني إسرائيل ، بل كانت هنالك نسخ معدودات من التوراة موجودة عند علماء اليهود ، ولم يكن بمقدور عامة الناس مطالعة التوراة .
وكان الوضع وما زال أكثر مدعاة للقلق فيما يخص كتاب النبي عيسى ( عليه السلام ) ؛ لأنّ ما يعرف اليوم بالإنجيل في أوساط المسيحيين ليس بذلك الكتاب الذي نزل على النبي عيسى المسيح ( عليه السلام ) ، بل هي مضامين جُمعت على أيدي أشخاص ، وعرفت بالأناجيل الأربعة ، وعليه فإنّ الأمم السابقة كانت محرومةً من الوصول إلى الكتب السماوية ، لكن الوضع مختلف بشأن القرآن ، فلقد كانت كيفية نزول القرآن وقراءته وتعلّمه من قِبل النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) بنحو كان الناس يستطيعون تعلّمه وحفظ آياته ، وأن يكون القرآن في متناولهم بشكل كامل .
ومن الخصائص المهمة الأخرى لهذا الكتاب السماوي ، هي أنّ الله سبحانه وتعالى مَنَّ على الأمّة الإسلامية ، وتعهد بنفسه الحفاظ على القرآن الكريم من أي خطر ، بالإضافة إلى أنّ النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) اهتم بتعليم المسلمين القرآن ، وحفظ آيات الله ، بحيث أنّ عدداً كبيراً من المسلمين كانوا على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) حفّاظاً للقرآن ، ويحتفظون بنسخ الآيات التي كانت تنزل تواً ، ويقومون بحفظها تدريجياً ، فكان القرآن يصبح في متناول الجميع عن طريق استنساخ هذه النسخ ، أو تناقلها من صدر حافظ إلى صدر حافظ آخر .
يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ) ، أي كتاب الله فيما بينكم وفي متناولكم ، ( نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ ) ، من المناسب التركيز والتأكيد على هذه العبارة ؛ إذ يصرّح ( عليه السلام ) أنّ هذا الكتاب ناطق لا يعتري لسانه التعب ، فلا يملّ من الكلام ولا يتلكأ ، إنّه بناء لا تهتز أركانه ، وظافر لا تُهزم أعوانه .
حديث القرآن
من ناحية يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة واصفاً القرآن : إنّه كتاب ناطق يتكلم ولا يعيى من الكلام ، وهو يتحدث ويدلي بكلامه بكل وضوح ، ومن ناحية أخرى يقول إنّ القرآن ليس ناطقاً ويجب استنطاقه ، وأنا الذي أُبيّن القرآن لكم ، وجاء في بعض العبارات أحياناً أنّ القرآن ( صامت ناطق ) (نهج البلاغة : الخطبة 147) فما معنى هذا الكلام يا ترى ؟
يبدو أنّ هذه العبارة تبيّن نظرتين مختلفتين لهذا الكتاب السماوي ، فرؤية فيها القرآن كتاب مقدّس لكنّه صامت منزوي لا يكلم أحداً ولا لأحد علاقة به ، وفي رؤية أخرى كتاب ناطق يوجّه خطابه لجميع الناس يدعوهم لاتّباعه ، ويبشّر أتباعه بالسعادة والفلاح .
من البديهي أنّ القرآن الذي صفته التقدّس فقط ، هو كلمات وعبارات وآيات مسطورة على الورق ، يوليه المسلمون احتراماً ، ويقبّلونه ويضعونه في أفضل مكان من بيوتهم ، وقد يتلونه في المجالس أحياناً دون أن يتوجّهوا إلى حقيقته ومعناه ، إذا ما نظرنا إلى القرآن بهذه النظرة فهو كتاب صامت لا يتحدث بصوت مسموع ، ومَن يمتلك مثل هذه النظرة لن يسمع كلام القرآن ، ولن يعالج القرآن الكريم له مشكلة .
بناءً على هذا نحن مكلّفون بالتزام الرؤية الثانية ، أي أن نعتبر القرآن كتاب الحياة ، ونعدّ أنفسنا لسماع كلام القرآن الكريم ، الذي يمثّل بأسره تعاليم الحياة ، وذلك من خلال خلق روح التسليم أمام الله سبحانه وتعالى ، وفي مثل هذه الحالة يكون القرآن ناطقاً يحدّث الناس ويهديهم في كافة المجالات .
بالإضافة إلى هذا التفسير الذي قدّمناه لصمت القرآن ونطقه ، ثَمّة معنى أكثر عمقاً لهذا الأمر ، وذلك المعنى هو ما يقصده علي ( عليه السلام ) ، وعلى أساس هذا المعنى الخاص يقول ( عليه السلام ) إنّ القرآن صامت ويجب استنطاقه ، وأنا الذي أُبيّن لكم القرآن ، وها نحن نتطرق لتوضيح صامتية القرآن وناطقيته بالمعنى الثاني ، وهو في الحقيقة بيان لمعناه الحقيقي :
بالرغم من أنّ القرآن الكريم كلام الله جلّ وعلا ، وأنّ حقيقة هذا الكلام الإلهي وكيفية صدوره ونزوله ليست معروفة لدينا ، ولكن بما أنّ الغاية من نزوله هداية الناس ، فإنّ هذا الكلام الإلهي قد تنزّل بحيث أصبح على هيئة كلمات وعبارات وآيات ، يتسنى قراءتها وسماعها بالنسبة للبشر ، ولكن في نفس الوقت ليس الأمر بأن تكون مضامين جميع آياته يسيرة الفهم والمنال بالنسبة للعاديين من الناس ، ويصبح بمقدور الناس أنفسهم بلوغ مقاصد الآيات دون تفسير وبيان من قِبل النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، والراسخين في العلم ، منها على سبيل المثال تفصيل وبيان جزئيات الأحكام الواردة في القرآن ، وكذلك هنالك آيات مجملة في القرآن الكريم تحتاج إلى بيان وإيضاح .
بناءً على هذا ، فالقرآن صامت في الكثير من الأبعاد ، أي ليس من السهل الاستفادة منه بالنسبة لعوام الناس دون تفسير وبيان ممّن له ارتباط بالغيب وملمّ بالعلوم الإلهية .
النبي وبيان القرآن
من واجبات النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إزاء الأمّة بيان آيات الله ، يقول القرآن الكريم مخاطباً النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) (النحل : 44) أي أنّنا أنزلنا إليك القرآن وواجبك أن تقرأه على الناس ، وتبيّن لهم معارفه ؛ لأنّه وكما تقدمت الإشارة القرآن كلام الله ، ورغم أنّه تنزّل كثيراً حتى ظهر بصورة كلمات وآيات ، وأصبح في متناول المسلمين ، لكن معارفه من العمق بحيث يتعذر فهمها كثيراً بالنسبة للعاديين من البشر ؛ لذلك فإنّ القرآن من هذه الناحية صامت عند البسطاء من الناس ، ويحتاج إلى تفسير وبيان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) . وعلى هذا الأساس خاطب الله سبحانه نبيه قائلاً : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) .
بناءً على هذا أنّ لآيات القرآن تفسيرها الخاص بها ، وهذا التفسير وبيانه وعلومه عند النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، وهم بدورهم قد وضعوا معارف القرآن بين أيدي المسلمين ، وأسمعوا الناس بلاغ القرآن .
إذن ، القرآن بهذا المعنى ناطق ، والنبي ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) قاموا ببيان علوم القرآن ، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ القرآن يدلي بحديثه بمنأى عن ميول مخاطبه ، سواء كان مطابقاً لمنى قلب الإنسان أو مخالفاً لهواه ، ولا يحق لشياطين الإنس أن يفرضوا رغباتهم على القرآن ، ويفسّروا كلام الله بآرائهم تحت عنوان فهمهم الخاص عن القرآن .
في ضوء كلا المعنيين اللذَينِ جرى بيانهما عن صامتية القرآن وناطقيته يقول علي ( عليه السلام ) : ( ناطقٌ لا يعيى لسانُه ) ، فالقرآن ناطق لا يكلّ من الحديث ، ويُسمع الناس رسالته ، ويتم الحجة على المسلمين .
في هذا المقطع من الكلام هكذا يصف علي ( عليه السلام ) القرآن بأنّه كلام الله بينكم ، وبلسان ناطق وبليغ يدعو الناس إلى الفلاح ويبشّر أتباعه بالسعادة ، ولا يتعب عن أداء رسالته أبداً .
يقول ( عليه السلام ) في الخطبة 157 واصفاً القرآن الكريم : ( ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ ، أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ ) ، فهذا القرآن فاطلبوه ليُحدّثكم ، وهو لن يتحدث دون بيان وتفسير من النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والإمام المعصوم ( عليه السلام ) ، فيجب أن تتعرفوا على معارف القرآن عن لسان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والإمام المعصوم (عليه السلام) ، وتأخذوا علوم القرآن منهم .
إنّ القرآن بحر المعارف والعلوم الإلهية ، ولا يقوى على سير أغوار هذا البحر اللجّيّ المترامي الأطراف ، واقتناص جواهره التي تصنع الإنسان ، إلاّ الذين هم على ارتباط بغيب عالم الوجود ، وقد دعا الله عزّ وجلّ الناس لشق طريقهم نحو معارف القرآن السامية ، مستعينين بألطاف النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وأئمة الهدى ( عليهم السلام ) ، ومستلهمين من علوم أهل البيت وإمداداتهم وإرشاداتهم ؛ لأنّ علوم القرآن عند أهل البيت ، وبالتالي فإنّ كلامهم كلام القرآن ، وبما أنّ الأمر كذلك فإنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وأهل البيت ( عليهم السلام ) هم القرآن الناطق .
على هذا الأساس الآنف الذكر يقول ( عليه السلام ) : ( ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ) ، هذا القرآن وهؤلاء أنتم ، فانظروا أنّكم عاجزون عن الانتفاع بالقرآن دون بيان من الإمام المعصوم ( عليه السلام ) ! فالإمام المعصوم هو الذي يتعيّن أن يفسّر القرآن ويبيّنه لكم ، ويطلعكم على معارف القرآن وعلومه .
بإيراده لهذه المقدمة يُلفت ( عليه السلام ) الانتباه إلى القرآن من زاوية أخرى ، ويدعو الناس إلى الرجوع إلى القرآن والتدبر به إذ يقول ( عليه السلام ) : الآن حيث الإمام المعصوم هو الذي يجب أن يبيّن للمسلمين علوم ومعارف القرآن ، والقرآن بنفسه لا يتحدث والناس عاجزون عن تلقّي البلاغات الإلهية مباشرة ، فأنا الآن : أخبركم عنه ، أنا أخبركم عن القرآن وأطلعكم على علومه ومعارفه ، فاعلموا أنّ في القرآن الكريم كل ما تحتاجونه : ( أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ ) ، فعلم الماضي والمستقبل في القرآن ، وعلاج آلامكم وتنظيم أموركم في القرآن ، وأنتم الذين يجب أن تتولوا تنظيم أموركم ، مستعينين بالقرآن الكريم ، وبعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) .
تذكير بأمرين:
1 ـ القرآن أهم وثيقة تاريخية بالنسبة للمسلمين وأتباع هذا الكتاب السماوي ؛ نظراً لأنّ القرآن يتحدث عن الوقائع التاريخية ، ويبيّن أفكار وعقائد الأقوام والأمم السالفة ونمط حياتهم ، فهو أغنى وثيقة تاريخية ، وإذا ما قورن بالكتب والمصادر التاريخية التي تفتقد السند القرآني ، فهي ليست تضاهي القرآن بقيمتها واعتبارها وإن رويت بصورة متواترة ، إذن ينبغي الاستماع إلى أخبار الماضين وقصص الأنبياء والأقوام السالفة ، والاتعاظ بها عن طريق القرآن .
وعلينا نحن من خلال الرجوع إلى القرآن ، واستقراء قصص الأقوام والأمم السابقة ، استلهام العبر منها وأن ننظّم حياتنا على أساس الحق والمنهج الصحيح .
2 ـ إنّ القرآن الكريم بالإضافة إلى نقله تاريخ الماضين إلينا ، ومن خلال بيانه للوقائع التي جرت عليهم ، يضعنا في أجواء حياتهم ، ويدعونا لأن نستلهم العبر والدروس ، فهو يخبرنا عن المستقبل أيضاً ، فمن البديهي أنّ الحديث العلمي واليقيني عن المستقبل ليس شأن أحد غير الله سبحانه وتعالى ، والذين يمتلكون العلم بالمستقبل بإذنه جلّ وعلا .
إنّ الله هو الذي لا معنى للمستقبل والماضي والحاضر بالنسبة إليه ، وبإمكانه الحديث عن المستقبل والإخبار به ، وهو القادر على توضيح الطريق لعباده كيف يعملون ليبلغوا السعادة ، إنّه القرآن الذي يخبر بما مضى وما سيأتي ويطلع البشر به ؛ لذلك يقول ( عليه السلام ) : ( أَلا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ) . أي اعلموا أنّ في القرآن الكريم علم ما يأتي وما مضى .
دور القرآن في الحياة
يصف علي ( عليه السلام ) القرآن بأنّه مفتاح لعلاج جميع المشكلات فيقول ( عليه السلام ) في وصفه : ( ودواء دائكم، ونظم ما بينكم ) ، ففي القرآن دواء لآلامكم والسبيل لحل مشكلاتكم وتنظيم أموركم ، إنّ القرآن دواء فيه شفاء لجميع الأمراض ، وبوجود القرآن تتلاشى الآلام والمتاعب ، فلابد من قراءة هذه الوصفة التي فيها الشفاء ، ومطالعتها بدقة والتعرف على سبيل علاج الأدواء ، والمشكلات الفردية
والاجتماعية .
من البديهي أنّ الكلام عن العلاج قبل الشعور بالألم والمشكلة يُعد أمراً خارجاً عن المسيرة الطبيعية ، فلابد أَوّلاً من معرفة الأمراض الفردية والاجتماعية وتشخيصها ، من خلال استقراء الآيات القرآنية الكريمة ، والتدقيق بها ، ومن ثَمّ المبادرة لعلاجها من خلال استخدام هذه الوصفة الشافية .
إنّ في مجتمعنا اليوم الكثير من المشكلات سواء كانت فرديةً أو اجتماعيةً ، والجميع يصبو لإزالتها وبالرغم من تحقّق تقدم ملفت في مختلف المجالات ، فقد بقيت مشكلات جمّة ما فتئ المسؤولون يسعون لعلاجها بأي شكل من الأشكال .
في هذه الخطبة يقول ( عليه السلام ) : ( ودواء دائكم ونظم ما بينكم ) ، فالقرآن وصفة لعلاج دائكم ومشكلاتكم ، وفي الخطبة 189 يعبّر ( عليه السلام ) قائلاً : ( وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ ) أي أنّ القرآن دواء لا يبقى معه داء .
الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه قبل كل شيء هو الإيمان بقول علي ( عليه السلام ) ، أي يجب أن نعتقد بكل كياننا أنّ العلاج الحقيقي لأمراضنا ومشكلاتنا الفردية منها والاجتماعية يكمن في القرآن ، ونحن جميعاً نعترف بهذا الأمر لكن مراتب الإيمان واليقين لدى الناس متفاوتة ، فرغم أنّ هنالك أناساً يعتقدون بكل كيانهم أنّهم إذا ما اقبلوا على القرآن واستعملوا معارفه وإرشاداته ، فإنّ القرآن وصفة شافية لجميع الأمراض ، لكن أمثال هؤلاء نادرون ، ولعلّ من أعظم المشكلات التي يعانيها مجتمعنا هي ضعف الإيمان بهذا الأمر ، وهذا ما أدى إلى أن تبقى الكثير من المشكلات على حالها ، ونتيجةً للجهل أو انحراف الفكر ربّما ينبري أناس لإثارة هذه الفكرة الضالة : من أنّه رغم أنّ القرآن بين أيدينا ونحن ندّعي اتّباعه فلماذا لم تُعالج مشكلاتنا ، وما فتئ الناس يكابدون المصاعب الاقتصادية ، من قبيل التضخم والغلاء ، وآلاف المشاكل الفردية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية ؟ نقدم هنا إيضاحات للرد على هذا التساؤل .
القرآن دليل الخطوط العامة
يبدو أنّه من السذاجة بمكان أن يتوقع أحد أن يقوم القرآن بالحديث عن الأمراض والمشاكل الفردية والاجتماعية ، واحدة واحدة ، كما في الكتب الخاصة بعلاج المشاكل ، ومن يقدّم توضيحاً لعلاجها بالتسلسل ، إنّ للقرآن شأناً بالمصير الأبدي للإنسان ، وهدفه فلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة ، وبهذا الصدد فإنّ القرآن الكريم يقدّم لنا الخطوط العامة ، التي نستطيع من خلال تفعيلها أن نحيى حياة ملؤها السعادة ، فهذه الخطوط العامة مصابيح تؤشّر لنا اتجاه المسير والحركة ، ولكن ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الله عزّ وجلّ وضع تحت تصرّف الإنسان وسيلتين ؛ لبلوغ السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وعلاج المشكلات وإقامة المجتمع الحضاري ، وفي نفس الوقت الديني والإسلامي ، أحدهما الدين والآخر العقل .
إنّ القرآن يوضّح الخطوط العامة لرقي الإنسان وتكامله ، والمجتمع الإسلامي مكلّف بتمهيد الأرضية لتحقيق أهداف القرآن السامية ، وذلك بقوة الفكر والعلم والاستعانة بالتجارب العلمية للإنسان ، والقرآن لا يكتفي بعدم النهي عن الاستعانة بالتجارب العلمية للآخرين ـ حتى غير المسلمين ـ بل يعتبر العلم وديعةً إلهية ويحثّ المسلمين على تعلّمه ، ولغرض ترغيب المسلمين وتشجيعهم على طلب العلم يقول النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( اطلبوا العلم ولو بالصين ) (بحار الأنوار : ج 1 ، ص 177) ، فتعلّموا العلم واستثمروا التجارب العلمية للآخرين ، وإن استلزم تحقّق ذلك قطع طريق طويل جداً ، وبطبيعة الحال أنّ العلاقات الدولية اليوم في غاية التعقيد ، والدول الاستكبارية والقوى السلطوية تحاول من خلال شتى الألاعيب ، ومختلف الوسائل التكنولوجية والاقتصادية ، عبر الاستفادة بشكل عام من نتائج التجارب العلمية للإنسان ، أن تفرض علاقاتها السلطوية ، ولكن يتعيّن علينا أن نستثمر وبذكاء حاد ودون أدنى تراجع عن أهدافنا الإسلامية والقرآنية ، ثمار العلوم البشرية في مختلف الأصعدة في طريق إنعاش الوضع الاقتصادي ، وعلاج المشكلات المعاشية للناس .
بناءً على هذا أنّ القرآن لم يكن وليس بصدد الإجابة على جميع المشاكل الحياتية للإنسان صغيرها وكبيرها ، بل هو يبيّن الخطوط الجوهرية والعامة لسعادة الإنسان وتكامله ، ويدلّ المسلمين عليها ويدعوهم إليها .
لو أردنا التطرّق لكل ما جاء حول القرآن في نهج البلاغة فإنّ البحث يطول كثيراً ، فلقد تناول الإمام علي ( عليه السلام ) في أكثر من عشرين خطبة في نهج البلاغة وصف القرآن ومنزلته ، وقد يختص أكثر من نصف خطبة أحياناً لبيان منزلة القرآن ودوره في حياة المسلمين ، وواجبهم إزاء هذا الكتاب السماوي ، ونحن نكتفي هنا بتوضيح بعض توصيفات نهج البلاغة بشأن القرآن الكريم .
يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في الخطبة 133 : ( وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ ) ، فالقرآن في متناولكم وأمامكم ، وعلى العكس من الكتب السماوية لسائر الأديان من قبيل كتاب النبي موسى والنبي عيسى ( عليهما السلام ) فإنّ القرآن بين أيديكم ، وحري القول إنّ الكتاب المقدس لم يكن في متناول عامة الناس في الأُمم السابقة ، لا سيما يهود بني إسرائيل ، بل كانت هنالك نسخ معدودات من التوراة موجودة عند علماء اليهود ، ولم يكن بمقدور عامة الناس مطالعة التوراة .
وكان الوضع وما زال أكثر مدعاة للقلق فيما يخص كتاب النبي عيسى ( عليه السلام ) ؛ لأنّ ما يعرف اليوم بالإنجيل في أوساط المسيحيين ليس بذلك الكتاب الذي نزل على النبي عيسى المسيح ( عليه السلام ) ، بل هي مضامين جُمعت على أيدي أشخاص ، وعرفت بالأناجيل الأربعة ، وعليه فإنّ الأمم السابقة كانت محرومةً من الوصول إلى الكتب السماوية ، لكن الوضع مختلف بشأن القرآن ، فلقد كانت كيفية نزول القرآن وقراءته وتعلّمه من قِبل النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) بنحو كان الناس يستطيعون تعلّمه وحفظ آياته ، وأن يكون القرآن في متناولهم بشكل كامل .
ومن الخصائص المهمة الأخرى لهذا الكتاب السماوي ، هي أنّ الله سبحانه وتعالى مَنَّ على الأمّة الإسلامية ، وتعهد بنفسه الحفاظ على القرآن الكريم من أي خطر ، بالإضافة إلى أنّ النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) اهتم بتعليم المسلمين القرآن ، وحفظ آيات الله ، بحيث أنّ عدداً كبيراً من المسلمين كانوا على عهد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) حفّاظاً للقرآن ، ويحتفظون بنسخ الآيات التي كانت تنزل تواً ، ويقومون بحفظها تدريجياً ، فكان القرآن يصبح في متناول الجميع عن طريق استنساخ هذه النسخ ، أو تناقلها من صدر حافظ إلى صدر حافظ آخر .
يقول الامام علي ( عليه السلام ) : ( كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ) ، أي كتاب الله فيما بينكم وفي متناولكم ، ( نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ ) ، من المناسب التركيز والتأكيد على هذه العبارة ؛ إذ يصرّح ( عليه السلام ) أنّ هذا الكتاب ناطق لا يعتري لسانه التعب ، فلا يملّ من الكلام ولا يتلكأ ، إنّه بناء لا تهتز أركانه ، وظافر لا تُهزم أعوانه .
حديث القرآن
من ناحية يقول الإمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة واصفاً القرآن : إنّه كتاب ناطق يتكلم ولا يعيى من الكلام ، وهو يتحدث ويدلي بكلامه بكل وضوح ، ومن ناحية أخرى يقول إنّ القرآن ليس ناطقاً ويجب استنطاقه ، وأنا الذي أُبيّن القرآن لكم ، وجاء في بعض العبارات أحياناً أنّ القرآن ( صامت ناطق ) (نهج البلاغة : الخطبة 147) فما معنى هذا الكلام يا ترى ؟
يبدو أنّ هذه العبارة تبيّن نظرتين مختلفتين لهذا الكتاب السماوي ، فرؤية فيها القرآن كتاب مقدّس لكنّه صامت منزوي لا يكلم أحداً ولا لأحد علاقة به ، وفي رؤية أخرى كتاب ناطق يوجّه خطابه لجميع الناس يدعوهم لاتّباعه ، ويبشّر أتباعه بالسعادة والفلاح .
من البديهي أنّ القرآن الذي صفته التقدّس فقط ، هو كلمات وعبارات وآيات مسطورة على الورق ، يوليه المسلمون احتراماً ، ويقبّلونه ويضعونه في أفضل مكان من بيوتهم ، وقد يتلونه في المجالس أحياناً دون أن يتوجّهوا إلى حقيقته ومعناه ، إذا ما نظرنا إلى القرآن بهذه النظرة فهو كتاب صامت لا يتحدث بصوت مسموع ، ومَن يمتلك مثل هذه النظرة لن يسمع كلام القرآن ، ولن يعالج القرآن الكريم له مشكلة .
بناءً على هذا نحن مكلّفون بالتزام الرؤية الثانية ، أي أن نعتبر القرآن كتاب الحياة ، ونعدّ أنفسنا لسماع كلام القرآن الكريم ، الذي يمثّل بأسره تعاليم الحياة ، وذلك من خلال خلق روح التسليم أمام الله سبحانه وتعالى ، وفي مثل هذه الحالة يكون القرآن ناطقاً يحدّث الناس ويهديهم في كافة المجالات .
بالإضافة إلى هذا التفسير الذي قدّمناه لصمت القرآن ونطقه ، ثَمّة معنى أكثر عمقاً لهذا الأمر ، وذلك المعنى هو ما يقصده علي ( عليه السلام ) ، وعلى أساس هذا المعنى الخاص يقول ( عليه السلام ) إنّ القرآن صامت ويجب استنطاقه ، وأنا الذي أُبيّن لكم القرآن ، وها نحن نتطرق لتوضيح صامتية القرآن وناطقيته بالمعنى الثاني ، وهو في الحقيقة بيان لمعناه الحقيقي :
بالرغم من أنّ القرآن الكريم كلام الله جلّ وعلا ، وأنّ حقيقة هذا الكلام الإلهي وكيفية صدوره ونزوله ليست معروفة لدينا ، ولكن بما أنّ الغاية من نزوله هداية الناس ، فإنّ هذا الكلام الإلهي قد تنزّل بحيث أصبح على هيئة كلمات وعبارات وآيات ، يتسنى قراءتها وسماعها بالنسبة للبشر ، ولكن في نفس الوقت ليس الأمر بأن تكون مضامين جميع آياته يسيرة الفهم والمنال بالنسبة للعاديين من الناس ، ويصبح بمقدور الناس أنفسهم بلوغ مقاصد الآيات دون تفسير وبيان من قِبل النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، والراسخين في العلم ، منها على سبيل المثال تفصيل وبيان جزئيات الأحكام الواردة في القرآن ، وكذلك هنالك آيات مجملة في القرآن الكريم تحتاج إلى بيان وإيضاح .
بناءً على هذا ، فالقرآن صامت في الكثير من الأبعاد ، أي ليس من السهل الاستفادة منه بالنسبة لعوام الناس دون تفسير وبيان ممّن له ارتباط بالغيب وملمّ بالعلوم الإلهية .
النبي وبيان القرآن
من واجبات النبي ( صلّى الله عليه وآله ) إزاء الأمّة بيان آيات الله ، يقول القرآن الكريم مخاطباً النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) (النحل : 44) أي أنّنا أنزلنا إليك القرآن وواجبك أن تقرأه على الناس ، وتبيّن لهم معارفه ؛ لأنّه وكما تقدمت الإشارة القرآن كلام الله ، ورغم أنّه تنزّل كثيراً حتى ظهر بصورة كلمات وآيات ، وأصبح في متناول المسلمين ، لكن معارفه من العمق بحيث يتعذر فهمها كثيراً بالنسبة للعاديين من البشر ؛ لذلك فإنّ القرآن من هذه الناحية صامت عند البسطاء من الناس ، ويحتاج إلى تفسير وبيان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) . وعلى هذا الأساس خاطب الله سبحانه نبيه قائلاً : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) .
بناءً على هذا أنّ لآيات القرآن تفسيرها الخاص بها ، وهذا التفسير وبيانه وعلومه عند النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) ، وهم بدورهم قد وضعوا معارف القرآن بين أيدي المسلمين ، وأسمعوا الناس بلاغ القرآن .
إذن ، القرآن بهذا المعنى ناطق ، والنبي ( صلّى الله عليه وآله ) والأئمة ( عليهم السلام ) قاموا ببيان علوم القرآن ، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ القرآن يدلي بحديثه بمنأى عن ميول مخاطبه ، سواء كان مطابقاً لمنى قلب الإنسان أو مخالفاً لهواه ، ولا يحق لشياطين الإنس أن يفرضوا رغباتهم على القرآن ، ويفسّروا كلام الله بآرائهم تحت عنوان فهمهم الخاص عن القرآن .
في ضوء كلا المعنيين اللذَينِ جرى بيانهما عن صامتية القرآن وناطقيته يقول علي ( عليه السلام ) : ( ناطقٌ لا يعيى لسانُه ) ، فالقرآن ناطق لا يكلّ من الحديث ، ويُسمع الناس رسالته ، ويتم الحجة على المسلمين .
في هذا المقطع من الكلام هكذا يصف علي ( عليه السلام ) القرآن بأنّه كلام الله بينكم ، وبلسان ناطق وبليغ يدعو الناس إلى الفلاح ويبشّر أتباعه بالسعادة ، ولا يتعب عن أداء رسالته أبداً .
يقول ( عليه السلام ) في الخطبة 157 واصفاً القرآن الكريم : ( ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ ، أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ ) ، فهذا القرآن فاطلبوه ليُحدّثكم ، وهو لن يتحدث دون بيان وتفسير من النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والإمام المعصوم ( عليه السلام ) ، فيجب أن تتعرفوا على معارف القرآن عن لسان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) والإمام المعصوم (عليه السلام) ، وتأخذوا علوم القرآن منهم .
إنّ القرآن بحر المعارف والعلوم الإلهية ، ولا يقوى على سير أغوار هذا البحر اللجّيّ المترامي الأطراف ، واقتناص جواهره التي تصنع الإنسان ، إلاّ الذين هم على ارتباط بغيب عالم الوجود ، وقد دعا الله عزّ وجلّ الناس لشق طريقهم نحو معارف القرآن السامية ، مستعينين بألطاف النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وأئمة الهدى ( عليهم السلام ) ، ومستلهمين من علوم أهل البيت وإمداداتهم وإرشاداتهم ؛ لأنّ علوم القرآن عند أهل البيت ، وبالتالي فإنّ كلامهم كلام القرآن ، وبما أنّ الأمر كذلك فإنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) وأهل البيت ( عليهم السلام ) هم القرآن الناطق .
على هذا الأساس الآنف الذكر يقول ( عليه السلام ) : ( ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ) ، هذا القرآن وهؤلاء أنتم ، فانظروا أنّكم عاجزون عن الانتفاع بالقرآن دون بيان من الإمام المعصوم ( عليه السلام ) ! فالإمام المعصوم هو الذي يتعيّن أن يفسّر القرآن ويبيّنه لكم ، ويطلعكم على معارف القرآن وعلومه .
بإيراده لهذه المقدمة يُلفت ( عليه السلام ) الانتباه إلى القرآن من زاوية أخرى ، ويدعو الناس إلى الرجوع إلى القرآن والتدبر به إذ يقول ( عليه السلام ) : الآن حيث الإمام المعصوم هو الذي يجب أن يبيّن للمسلمين علوم ومعارف القرآن ، والقرآن بنفسه لا يتحدث والناس عاجزون عن تلقّي البلاغات الإلهية مباشرة ، فأنا الآن : أخبركم عنه ، أنا أخبركم عن القرآن وأطلعكم على علومه ومعارفه ، فاعلموا أنّ في القرآن الكريم كل ما تحتاجونه : ( أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي ، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ ) ، فعلم الماضي والمستقبل في القرآن ، وعلاج آلامكم وتنظيم أموركم في القرآن ، وأنتم الذين يجب أن تتولوا تنظيم أموركم ، مستعينين بالقرآن الكريم ، وبعلوم أهل البيت ( عليهم السلام ) .
تذكير بأمرين:
1 ـ القرآن أهم وثيقة تاريخية بالنسبة للمسلمين وأتباع هذا الكتاب السماوي ؛ نظراً لأنّ القرآن يتحدث عن الوقائع التاريخية ، ويبيّن أفكار وعقائد الأقوام والأمم السالفة ونمط حياتهم ، فهو أغنى وثيقة تاريخية ، وإذا ما قورن بالكتب والمصادر التاريخية التي تفتقد السند القرآني ، فهي ليست تضاهي القرآن بقيمتها واعتبارها وإن رويت بصورة متواترة ، إذن ينبغي الاستماع إلى أخبار الماضين وقصص الأنبياء والأقوام السالفة ، والاتعاظ بها عن طريق القرآن .
وعلينا نحن من خلال الرجوع إلى القرآن ، واستقراء قصص الأقوام والأمم السابقة ، استلهام العبر منها وأن ننظّم حياتنا على أساس الحق والمنهج الصحيح .
2 ـ إنّ القرآن الكريم بالإضافة إلى نقله تاريخ الماضين إلينا ، ومن خلال بيانه للوقائع التي جرت عليهم ، يضعنا في أجواء حياتهم ، ويدعونا لأن نستلهم العبر والدروس ، فهو يخبرنا عن المستقبل أيضاً ، فمن البديهي أنّ الحديث العلمي واليقيني عن المستقبل ليس شأن أحد غير الله سبحانه وتعالى ، والذين يمتلكون العلم بالمستقبل بإذنه جلّ وعلا .
إنّ الله هو الذي لا معنى للمستقبل والماضي والحاضر بالنسبة إليه ، وبإمكانه الحديث عن المستقبل والإخبار به ، وهو القادر على توضيح الطريق لعباده كيف يعملون ليبلغوا السعادة ، إنّه القرآن الذي يخبر بما مضى وما سيأتي ويطلع البشر به ؛ لذلك يقول ( عليه السلام ) : ( أَلا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ) . أي اعلموا أنّ في القرآن الكريم علم ما يأتي وما مضى .
دور القرآن في الحياة
يصف علي ( عليه السلام ) القرآن بأنّه مفتاح لعلاج جميع المشكلات فيقول ( عليه السلام ) في وصفه : ( ودواء دائكم، ونظم ما بينكم ) ، ففي القرآن دواء لآلامكم والسبيل لحل مشكلاتكم وتنظيم أموركم ، إنّ القرآن دواء فيه شفاء لجميع الأمراض ، وبوجود القرآن تتلاشى الآلام والمتاعب ، فلابد من قراءة هذه الوصفة التي فيها الشفاء ، ومطالعتها بدقة والتعرف على سبيل علاج الأدواء ، والمشكلات الفردية
والاجتماعية .
من البديهي أنّ الكلام عن العلاج قبل الشعور بالألم والمشكلة يُعد أمراً خارجاً عن المسيرة الطبيعية ، فلابد أَوّلاً من معرفة الأمراض الفردية والاجتماعية وتشخيصها ، من خلال استقراء الآيات القرآنية الكريمة ، والتدقيق بها ، ومن ثَمّ المبادرة لعلاجها من خلال استخدام هذه الوصفة الشافية .
إنّ في مجتمعنا اليوم الكثير من المشكلات سواء كانت فرديةً أو اجتماعيةً ، والجميع يصبو لإزالتها وبالرغم من تحقّق تقدم ملفت في مختلف المجالات ، فقد بقيت مشكلات جمّة ما فتئ المسؤولون يسعون لعلاجها بأي شكل من الأشكال .
في هذه الخطبة يقول ( عليه السلام ) : ( ودواء دائكم ونظم ما بينكم ) ، فالقرآن وصفة لعلاج دائكم ومشكلاتكم ، وفي الخطبة 189 يعبّر ( عليه السلام ) قائلاً : ( وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ ) أي أنّ القرآن دواء لا يبقى معه داء .
الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه قبل كل شيء هو الإيمان بقول علي ( عليه السلام ) ، أي يجب أن نعتقد بكل كياننا أنّ العلاج الحقيقي لأمراضنا ومشكلاتنا الفردية منها والاجتماعية يكمن في القرآن ، ونحن جميعاً نعترف بهذا الأمر لكن مراتب الإيمان واليقين لدى الناس متفاوتة ، فرغم أنّ هنالك أناساً يعتقدون بكل كيانهم أنّهم إذا ما اقبلوا على القرآن واستعملوا معارفه وإرشاداته ، فإنّ القرآن وصفة شافية لجميع الأمراض ، لكن أمثال هؤلاء نادرون ، ولعلّ من أعظم المشكلات التي يعانيها مجتمعنا هي ضعف الإيمان بهذا الأمر ، وهذا ما أدى إلى أن تبقى الكثير من المشكلات على حالها ، ونتيجةً للجهل أو انحراف الفكر ربّما ينبري أناس لإثارة هذه الفكرة الضالة : من أنّه رغم أنّ القرآن بين أيدينا ونحن ندّعي اتّباعه فلماذا لم تُعالج مشكلاتنا ، وما فتئ الناس يكابدون المصاعب الاقتصادية ، من قبيل التضخم والغلاء ، وآلاف المشاكل الفردية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية ؟ نقدم هنا إيضاحات للرد على هذا التساؤل .
القرآن دليل الخطوط العامة
يبدو أنّه من السذاجة بمكان أن يتوقع أحد أن يقوم القرآن بالحديث عن الأمراض والمشاكل الفردية والاجتماعية ، واحدة واحدة ، كما في الكتب الخاصة بعلاج المشاكل ، ومن يقدّم توضيحاً لعلاجها بالتسلسل ، إنّ للقرآن شأناً بالمصير الأبدي للإنسان ، وهدفه فلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة ، وبهذا الصدد فإنّ القرآن الكريم يقدّم لنا الخطوط العامة ، التي نستطيع من خلال تفعيلها أن نحيى حياة ملؤها السعادة ، فهذه الخطوط العامة مصابيح تؤشّر لنا اتجاه المسير والحركة ، ولكن ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الله عزّ وجلّ وضع تحت تصرّف الإنسان وسيلتين ؛ لبلوغ السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وعلاج المشكلات وإقامة المجتمع الحضاري ، وفي نفس الوقت الديني والإسلامي ، أحدهما الدين والآخر العقل .
إنّ القرآن يوضّح الخطوط العامة لرقي الإنسان وتكامله ، والمجتمع الإسلامي مكلّف بتمهيد الأرضية لتحقيق أهداف القرآن السامية ، وذلك بقوة الفكر والعلم والاستعانة بالتجارب العلمية للإنسان ، والقرآن لا يكتفي بعدم النهي عن الاستعانة بالتجارب العلمية للآخرين ـ حتى غير المسلمين ـ بل يعتبر العلم وديعةً إلهية ويحثّ المسلمين على تعلّمه ، ولغرض ترغيب المسلمين وتشجيعهم على طلب العلم يقول النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( اطلبوا العلم ولو بالصين ) (بحار الأنوار : ج 1 ، ص 177) ، فتعلّموا العلم واستثمروا التجارب العلمية للآخرين ، وإن استلزم تحقّق ذلك قطع طريق طويل جداً ، وبطبيعة الحال أنّ العلاقات الدولية اليوم في غاية التعقيد ، والدول الاستكبارية والقوى السلطوية تحاول من خلال شتى الألاعيب ، ومختلف الوسائل التكنولوجية والاقتصادية ، عبر الاستفادة بشكل عام من نتائج التجارب العلمية للإنسان ، أن تفرض علاقاتها السلطوية ، ولكن يتعيّن علينا أن نستثمر وبذكاء حاد ودون أدنى تراجع عن أهدافنا الإسلامية والقرآنية ، ثمار العلوم البشرية في مختلف الأصعدة في طريق إنعاش الوضع الاقتصادي ، وعلاج المشكلات المعاشية للناس .
بناءً على هذا أنّ القرآن لم يكن وليس بصدد الإجابة على جميع المشاكل الحياتية للإنسان صغيرها وكبيرها ، بل هو يبيّن الخطوط الجوهرية والعامة لسعادة الإنسان وتكامله ، ويدلّ المسلمين عليها ويدعوهم إليها .