الجمع بين الصلاتين
إنّ جميع المذاهب الإسلامية مجمعة على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في وقتهما, وبين صلاتي المغرب والعشاء في وقتهما, لكن وقع الخلاف في
الشروط والأسباب الداعية إلى الجمع, فمنهم من قال بالجمع على كل حال ومن دون عذر وهم الإمامية, مستدلين بالأحاديث والروايات الواردة عن النبي الأكرم |
وأهل بيته ^ ومنهم من اقتصر على جوازه في أماكن وأوقات خاصة كما في عرفة والمزدلفة وفي السفر, وهكذا.
وتحرير محل النزاع يقتضي أن نتعرض لذكر مواقف المذاهب من ذلك, ودليل كل منهم, ومن ثم نستخلص النتائج من وارء ذلك.
وقبل الدخول في صلب الموضوع لابد أن نعرف شيئاً عن أوقات الصلاة بصورة عامة وخاصة, وإليك ذلك.
تعرّض ابن البرّاج لذكر أوقات فرائض اليوم والليلة قائلاً: >أوقات فرائض اليوم والليلة خمسة أوقات, أولها الظهر وله وقتان: أول وآخر, فالأول: زوال
الشمس من وسط السماء إلى جهة المغرب والآخر أن يصير ظل كل شيء مثله. والثاني: العصر وله وقتان: أول وآخر, فالأول حين الفراغ من فريضة
الظهر, والآخر أن يصير كل شيء مثله.
والثالث: المغرب وله وقتان: أول وآخر, فالأول سقوط القرص من أفق المغرب, والآخر غيبوبة الشفق من جهته, وفي أصحابنا من ذهب إلى أنه لا وقت
له, إلا واحد وهو غروب القرص في أفق المغرب وقد رخص للمسافر الذي يجدّ به السير تأخير ذلك إلى ربع الليل.
والرابع: العشاء الآخرة وله وقتان: أول وآخر, فالأول ابتداء طلوع الفجر والثاني ـ المعترض في جهة الشرق ـ والآخر ابتداء طلوع قرص الشمس(1).
هذا بصورة عامة أما مايقول علماؤنا كالسيد الخوئي &والسيد الخميني& وغيرهما ما يلي: ((وقت الظهرين من الزوال إلى المغرب, والزوال هو المنتصف ما
بين طلوع الشمس وغروبها ويعرف بزيادة ظل كل شاخص معتدل بعد نقصانه, أو حدودث ظلة بعد انعدامه, وتختص الظهر من أوله بمقدار أدائها والعصر من
آخره كذلك وما بينهما مشترك بينهما.
ووقت العشاءين للمختار من المغرب إلى نصف الليل, ويعرف الغروب بسقوط القرص, والأحوط
---------
(1) الهندي: القاضي ابن البراج, ج1 ص69.
لزوماً تأخير صلاة المغرب إلى ذهاب الحمرة المشرقية. ونصف الليل منتصف ما بين غروب الشمس وطلوعها. وتختص المغرب من أوله بمقدار أدائها والعشاء
من آخره كذلك, وما بينهما مشترك أيضاً بينهما, وأما المضطر لنوم, أو نسيان, أو حيض, أو غيرها فيمتد وقتهما له إلى الفجر الصادق, وتختص
العشاء بمقدار أدائها, والأحوط وجوباً للعامد المبادرة إليها بعد نصف الليل قبل طلوع الفجر من دون نية القضاء أو الأداء.
ووقت الصبح من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس, والفجر الصادق هو البياض المعترض في الأفق الذي يتزايد وضوحاً وجلاءً, وقبله الفجر الكاذب وهو
البياض المستطيل في الأفق صاعداً إلى السماء كالعمود الذي يتناقص ويضعف حتى نمحي))(1).
إذا عرفنا أوقات الصلاة على وجه التفصيل, وعرفنا ما هو المختص وما هو المشترك منها. فما هو الحكم الشرعي في الجمع بين الصلاتين؟
لا خلاف(2) بين أهل القبلة من أهل المذاهب الإسلامية كلها في جواز الجمع بعرفة وقت فريضة الظهرين ـ الظهر والعصرـ وهذا في اصطلاحهم جمع تقديم,
لتقديم صلاة العصر عن وقتها وجمعها مع الظهر في وقتها, كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة وقت العشاء بين الفريضتين ـ المغرب والعشاء ـ وهذا في
الاصطلاح جمع تأخير, وذلك لتأخير صلاة المغرب عن وقتها وجمعها مع العشاء في وقتها, بل لاخلاف في استحباب هذين الجمعين وإنهما من السنن النبوية,
وانما اختلفوا في جواز الجمع بين الصلاتين فيما عدا هذين.
ومحل النزاع هنا إنما هو جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معاً في وقت أحدهما تقديماً على نحو الجمع بعرفة أو تأخيراً على نحو الجمع بالمزدلفة.
وقد صدع الأئمة من آل محمد | بجوازه مطلقاً, غير أنّ التفريق أفضل, وتبعهم في هذا شيعتهم في كل عصر ومصر, فإذا هم يجمعون غالباً بين الظهر
والعصر وبين المغرب والعشاء سفراً وحضراً لعذر أو لغير عذر, وجمع التقديم وجمع التأخير عندهم في الجواز سواء.
أما الحنفية فمنعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول مطلق مع توفر الصحاح الصريحة بجواز الجمع, ولا سيّما في السفر, لكنهم تأولوها على
صراحتها, فحملوها على الجمع الصوري.
--------
(1) منهاج الصالحين, للسيد الخوئي, ص132, 131.
(2) المسائل الفقهية, للسيد شرف الدين, ص9ـ20.
وسيتضح لك بطلان ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.
وأما الشافعية والمالكية والحنبلية فأجازوه في السفر على خلاف بينهم فيما عداه من الأعذار, كالمطر والطين والمرض والخوف, وعلى تنازع في شروط السفر
المبيح له, وذلك أنّ منهم من اشترط سفر القربة كالحج والعمرة والغزو ونحو ذلك دون غيره, ومنهم من اشترط الإباحة دون سفر المعصية, ومنهم من اشترط
ضرباً خاصاً من السير, ومنهم من لم يشترط شيئاً فأي سفر كان وبأي صفة كان يراه مبيحاً للجمع والتفصيل في فقههم.
حجتنا التي نتعبد فيما بيننا وبين الله سبحانه في هذه المسائل وفي غيرها إنما هي صحاحنا عن أئمتنا ^. وقد نحتجّ على الجمهور بصحاحهم لظهورها فيما نقول,
وحسبنا منها ما قد أخرجه الشيخان في صحيحيهما, وإليك ما أخرجه مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من صحيحه إذ قال: >حدثنا يحيى بن يحيى,
قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال |: الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا
سفر<(1). وكذلك قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس. قال: صليت مع
النبي |ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجّل العصر وأخرّ المغرب وعجّل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك<(2). وأيضاً أخرج
في صحيحه حيث قال: >حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد, عن عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: إنّ رسول الله|
صلى (بالمدينة سبعاً وثمانياً, الظهر والعصر والمغرب والعشاء)<(3).
وكذلك قال: >وحدثني أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد, عن الزبير بن الخرّيت عن عبد الله بن شقيق, قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى
غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة؛ فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة. قال: فقال ابن عباس: أتعلمني
بالسنة لا أمّ لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله | جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا
هريرة فسألته, فصدّق مقالته<.(4)
-------
(1) صحيح مسلم, ج2 ص151.
(2) المصدر نفسه, ص152.
(3) لف ونشر غير مرتب, ولو قال: صلى ثمانياً وسبعاً لكان مرتباً.
(4) من هوان الدنيا على الله تعالى وهوان آل محمد | على هؤلاء أن يحوك في صدورهم شيء من ابن عباس فيسألوا أبا
قال مسلم: >وحدثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعاً عن زهير, قال ابن يونس: حدثنا زهير, حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جمير, عن ابن عباس.
قال: صلّى رسول الله | الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر.
قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني: فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته. قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
وأبو كريب, قال: حدّثنا أبو معاوية, وحدّثنا أبو كريب وأبو سعيد الأشجع واللفظ لأبي كريب قالا ـ يعني أبا كريب وأبا سعيد ـ حدثنا وكيع وأبو معاوية, كلاهما
عن الأعمش, عن حبيب, عن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: جمع رسول الله| بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة
في غير خوف ولا مطر.
قال: وفي حديث وكيع قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته: وفي حديث أبي معاوية قيل لا بن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال:
أراد أن لا يحرج أمته.
قال: حدثنا يحيى بن حبيبت, حدثنا خالد بن الحرث, حدثنا قرة بن خالد, حدثنا أبو الزبير, حدثنا عامر بن وائلة أبو الطفيل, حدثنا معاذ بن جبل. قال:
جمع رسول الله | في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمته. قلت(
*): هذه الصحاح صريحة في أنّ العلة في تشريع الجمع إنما هي التوسعة بقول مطلق على الأمة وعدم إحراجها بسبب التفريق, رأفة بأهل الأشغال وهم أكثر
الناس, والحديثان الأخيران ـ حديث معاذ والذي قبله ـ هو قوله, قال: وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي, حدثنا خالد بن الحرث, حدثنا قرة بن خالد, حدثنا
أبو الزبير, حدثنا سعيد بن جبير, حدثنا ابن عباس: إنّ رسول الله | جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك, فجمع بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء. قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. ـ لا يختصان بالسفر؛ إذعلة الجمع فيهما مطلقة لا دخل
فيها للسفر من حيث كونه سفراً, ولا للمرض والمطر والطين والخوف من حيث هي هي, وإنما هي كالعام يرد في مورد الخاص, فلا يتخصص به, بل يطرّد
في جميع مصاديقه, ولذا ترى الإمام مسلماً لم يوردهما في باب الجمع في
--------
هريرة, وليتهم بعد تصديق أبي هريرة عملوا بالحديث, وهذا الحديث كما أخرجه مسلم في صحيحه, ج2 ص152و كذلك أخرجه أحمد بن حنبل أيضاً عن ابن
عباس في ص251 من الجزء الأول من مسنده.
(*) والقول لصاحب المسائل الفقهية السيد شرف الدين.
الحضر ليكون أدلة من جواز الجمع بقول مطلق, وهذا من فهمه وعلمه وانصافه. وصحاحه ـ في هذا الموضوع ـ التي سمعتها والتي لم تسمعها كلّها على شرط
البخاري, ورجال أسانيدها كلهم قد احتجّ البخاري بهم في صحيحه, فما المانع له يا ترى من إيرادها بأجمعها في صحيحه؟ وما الذي دعاه إلى الاقتصار على النزر
اليسير منها؟ولماذا لم يعقد في كتابه باباً للجمع في الحضر ولا باباً للجمع في السفر؟ مع توفر الصحاح ـ على شرطه ـ الواردة في الجمع, ومع أنّ أكثر الأئمة قائلون
به في الجملة, ولماذا اختار من أحاديث الجمع ما هو أخسّها دلالة عليه؟ ولم وضعه في باب يوهم صرفه عن معناه؟
فإنّي أربأ بالبخاري وأحاشيه أن يكون كالذين يحرّفون الكلم عن مواضعه, أو كالذين يكتمون الحق وهم يعلمون<(1).
وإليك ما اختاره في هذا الموضوع. ووضعه في غير موضعه, إذ قال ـ في باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه: >حدثنا أبو
النعمان قال: حدثنا حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: إنّ النبي | صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر,
والمغرب والعشاء, فقال أيوب: لعلّة في ليلة مطيرة, قال: عسى. قلت: إن يتبعون إلا الظن. وأخرج في باب وقت المغرب عن آدم, قال: حدثنا
شعبة, قال: حدثنا عمرو بن دينار. قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صلّى النبي | سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً. وأرسل في باب (ذكر
العشاء والعتمة) عن ابن عمر وأبي أيوب وابن عباس: إنّ النبي | صلّى المغرب والعشاء ـ يعني جمعهما ـ في وقت أحدهما دون الأخرى. وهذا النزر اليسير
من الجم الكثير من صحاح الجمع كاف في الدلالة على ما نقول, كما لا يخفى. ويؤيده ما عن ابن مسعود إذ قال: جمع النبي |ـ يعني في المدينة ـ بين الظهر
والعصر وبين المغرب والعشاء, فقيل له في ذلك, فقال: صنعت هذا لئلّا تُحرج أمتي. أخرجه الطبراني<(2).
والمأثور عن عبد الله بن عمر.(3) إذ قيل له: لِمَ ترى النبي | جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مقيماً غير مسافر؟ أنه أجاب بقوله: فعل ذلك
لئلا تحرج أمته. بالجملة فإنّ علماء الجمهور
-------
(1) على حد تعبير صاحب كتاب المسائل الفقهية, السيد شرف الدين.
(2) كما في أواخر ص263 من الجزء الأول من شرح الموطأ للزرقاني قال: وارادة نفي الحرج تقدم في حمله على الجمع الصوري؛ لأن القصد لا يخلو من
حرج.
(3) في حديث تجده في ص242 ج4 في كنز العمال عدده في تلك الصفحة 5078 مسنداً إلى عبدالله.
كافة ممن يقول بجواز الجمع وممن لا يقول به متصافقون على صحّة هذه الأحاديث وظهورها فيما نقول من الجواز مطلقاً, فراجع ما شئت مما علقوه عليها يتضح لك
ذلك ـ وحسبك تعليق النووي في شرحه لصحيح مسلم والزرقاني في شرحه لموطأ مالك والعسقلاني والقسطلاني وزكريا الأنصاري في شروحهم لصحيح البخاري,
وسائر من علّق على أي كتاب من كتب السنن يشتمل على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين, حيث صححوه بكل طرقه التي نقلناها عن صحيحي مسلم
والبخاري, واستظهروا منها جواز الجمع في الحضر لمجرّد وقاية الأمة من الحرج, ما أدري والله ما الذي حملهم على الإعراض عنها, ولعلّ هذا من حظ أهل
البيت عندهم ـ نعم تأولوها حملاً لها على مذاهبهم, وكانوا في تأويلها على غُمّة, وفي ليل من الحيرة مظلم, وحسبك ما نقله النووي عنهم في تعليقه على هذه
الأحاديث من شرحه لصحيح مسلم. إذ قال ـ بعد اعتبارها ظاهرة في الجمع حضراًـ : >وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب, فمنهم من تأولها على أنه جمع لعذر
المطر. (قال): وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين(1). (قال): وهو ضعيف بالرواية الثانية عن ابن عباس من غير خوف ولا مطر(
).(قال): ومنهم من تأولها على أنه كان في غيم فصلّى الظهر ثم انكشف الغيم وظهر أنّ وقت العصر دخل فصلاها فيه(2).
(قال): وهذا أيضاً باطل؛ لأنه إن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء. (قال): ومنهم من تأولها على تأخير الأولى
إلى آخر وقتها فصلاها فيه, فلما فرغ منها دخل وقت العصر فصلاها فيه فصار جمعه للصلاتين صورياً.(3)
(قال): وهذا ضعيف أيضاً أو باطل؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. (قال): وفعل ابن عباس حين خطب فناداه الناس: الصلاة الصلاة! وعدم
مبالاته بهم واستدلاله بالحديث لتصويب فعله بتأخيره صلاة المغرب إلى وقت العشاء وجمعهما جميعاً في وقت الثانية, وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في
ردّ هذا التأويل. ق
لت: وردّه ابن عبد البر والخطابي وغيرهما بأن الجمع رخصة, فلو كان
-------
(1) كالإمامين مالك والشافعي وجماعة من أهل المدينة.
(2) على أنه يبعد عن اللفظ غاية البعد ولا قرينة عليه.
(3) هذه خرص ومجازفة ورجم بالغيب.
(4) وقد تعلم أنّ أبا حنيفة وأصحابه تأولوا صحاح الجمع حضراً وسفراً بحملها كلها على الجمع الصوري, فقالوا بالمنع مطلقاً. وهذا غريب منهم إلى أبعد
غاية, وقد كفانا مناقشتهم والبحث معهم عدة من الأعلام تسمع في الأصل كلامهم.
صورياً لكان أعظم ضيقاً من الإيتان بكل صلاة في وقتها؛ لأنّ أوائل الأوقات وأواخرها محالاً يدركه أكثر الخاصّة فضلاً عن العامة (قالوا): ومن الدليل على أنّ
الجمع رخصة قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته (قالوا): وأيضاً تصريح أخبار الجمع بين الفريضتين إنما هو بأدائهما معاً في وقت إحداهما دون الأخرى,
أما بتقديم الثانية على وقتها وأدائها مع الأولى في وقتها أو بتأخير الأولى عن وقتها إلى وقت الثانية وأدائهما وقتئذ معاّ (قالوا): وهذا هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق
لفظ الجمع في السنن كلها, وهذا هومحل النزاع. (قال النووي): ومنهم من تأولها فحملها على الجمع لعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه (قال) وهذا
قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا, واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا, وهو المختار في تأويلها؛ ظاهر الأحاديث.
قلت: لا ظهور في الأحاديث ولا دلالة فيها عليه بشيء من الدوال, والقول به تحكّم كما اعترف به القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري.(1)
وقد تعقبة بعض الأعلام أيضاً إذ قال: >وقيل إنّ الجمع كان للمرض, ورواه النووي, وفيه نظر؛ لأنّه لو جمع للمرض لما صلّى معه إلامن به المرض,
والظاهر أنّه | جمع بأصحابه, وبه صرّح ابن عباس في رواية ثابتة عنه. انتهى(2) قلت: ولمّا لم يكن لصحاح الجمع تأويل يقبله العلماء رجع قوم من
الجمهور إلى رأينا في المسألة تقريباً من حيث لا يقصدون.
وقد ذكرهم النووي بعد أن زيّف التأويلات بماسمعت. فقال: وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر؛ للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين
وأشهب من أصحاب مالك, وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي, وعن أبي إسحاق المروري وعن جماعة من أصحاب الحديث ـ
واختاره ابن المنذر ـ قال: ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته إذا لم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم, هذا كلامه(3) وبه صرّح غير
بوقتها المنوه به في قوله سبحانه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
-------
(1) كالزرقاني في شرحه للمواطأ وسائر من علّق على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين ممّن شرح الصحاح والسنن كالعسقلاني والقسطلاني وغيرهم.
(2) الإسراء: 78.
(3) هذا المعنى نقله الرازي ـ حول الآية من تفسيره الكبيرـ عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ونقله الإمام الطبرسي ـ في مجمع البيان ـ عن ابن عباس
وقتادة.
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} .
قال(1): إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعذر المطر وغيره(2). قلت: أمعنّا
بحثاً عما ذكرة (أي الرازي) من دلالة الدليل على أنّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فلم نجد له عيناً ولا أثراً, نعم كان النبي | يجمع في حال
العذر, وقد جمع أيضاً في حال عدمه؛ لئلّا يحرج أمته, ولا كلام في أنّ التفريق أفضل ولذلك كان يؤثره رسول الله | إلا لعذر كما هي عادته في المستحبات كلها
|. لا أنه لم يجوزّ الجمع مطلقاً لعذر ودون عند.
والحمد الله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
------
(1) الاسراء:78.
(2) القول للرازي.
(3) الرازي, تفسير الرازي, ج5 ص428.
الشروط والأسباب الداعية إلى الجمع, فمنهم من قال بالجمع على كل حال ومن دون عذر وهم الإمامية, مستدلين بالأحاديث والروايات الواردة عن النبي الأكرم |
وأهل بيته ^ ومنهم من اقتصر على جوازه في أماكن وأوقات خاصة كما في عرفة والمزدلفة وفي السفر, وهكذا.
وتحرير محل النزاع يقتضي أن نتعرض لذكر مواقف المذاهب من ذلك, ودليل كل منهم, ومن ثم نستخلص النتائج من وارء ذلك.
وقبل الدخول في صلب الموضوع لابد أن نعرف شيئاً عن أوقات الصلاة بصورة عامة وخاصة, وإليك ذلك.
تعرّض ابن البرّاج لذكر أوقات فرائض اليوم والليلة قائلاً: >أوقات فرائض اليوم والليلة خمسة أوقات, أولها الظهر وله وقتان: أول وآخر, فالأول: زوال
الشمس من وسط السماء إلى جهة المغرب والآخر أن يصير ظل كل شيء مثله. والثاني: العصر وله وقتان: أول وآخر, فالأول حين الفراغ من فريضة
الظهر, والآخر أن يصير كل شيء مثله.
والثالث: المغرب وله وقتان: أول وآخر, فالأول سقوط القرص من أفق المغرب, والآخر غيبوبة الشفق من جهته, وفي أصحابنا من ذهب إلى أنه لا وقت
له, إلا واحد وهو غروب القرص في أفق المغرب وقد رخص للمسافر الذي يجدّ به السير تأخير ذلك إلى ربع الليل.
والرابع: العشاء الآخرة وله وقتان: أول وآخر, فالأول ابتداء طلوع الفجر والثاني ـ المعترض في جهة الشرق ـ والآخر ابتداء طلوع قرص الشمس(1).
هذا بصورة عامة أما مايقول علماؤنا كالسيد الخوئي &والسيد الخميني& وغيرهما ما يلي: ((وقت الظهرين من الزوال إلى المغرب, والزوال هو المنتصف ما
بين طلوع الشمس وغروبها ويعرف بزيادة ظل كل شاخص معتدل بعد نقصانه, أو حدودث ظلة بعد انعدامه, وتختص الظهر من أوله بمقدار أدائها والعصر من
آخره كذلك وما بينهما مشترك بينهما.
ووقت العشاءين للمختار من المغرب إلى نصف الليل, ويعرف الغروب بسقوط القرص, والأحوط
---------
(1) الهندي: القاضي ابن البراج, ج1 ص69.
لزوماً تأخير صلاة المغرب إلى ذهاب الحمرة المشرقية. ونصف الليل منتصف ما بين غروب الشمس وطلوعها. وتختص المغرب من أوله بمقدار أدائها والعشاء
من آخره كذلك, وما بينهما مشترك أيضاً بينهما, وأما المضطر لنوم, أو نسيان, أو حيض, أو غيرها فيمتد وقتهما له إلى الفجر الصادق, وتختص
العشاء بمقدار أدائها, والأحوط وجوباً للعامد المبادرة إليها بعد نصف الليل قبل طلوع الفجر من دون نية القضاء أو الأداء.
ووقت الصبح من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس, والفجر الصادق هو البياض المعترض في الأفق الذي يتزايد وضوحاً وجلاءً, وقبله الفجر الكاذب وهو
البياض المستطيل في الأفق صاعداً إلى السماء كالعمود الذي يتناقص ويضعف حتى نمحي))(1).
إذا عرفنا أوقات الصلاة على وجه التفصيل, وعرفنا ما هو المختص وما هو المشترك منها. فما هو الحكم الشرعي في الجمع بين الصلاتين؟
لا خلاف(2) بين أهل القبلة من أهل المذاهب الإسلامية كلها في جواز الجمع بعرفة وقت فريضة الظهرين ـ الظهر والعصرـ وهذا في اصطلاحهم جمع تقديم,
لتقديم صلاة العصر عن وقتها وجمعها مع الظهر في وقتها, كما لا خلاف بينهم في جواز الجمع في المزدلفة وقت العشاء بين الفريضتين ـ المغرب والعشاء ـ وهذا في
الاصطلاح جمع تأخير, وذلك لتأخير صلاة المغرب عن وقتها وجمعها مع العشاء في وقتها, بل لاخلاف في استحباب هذين الجمعين وإنهما من السنن النبوية,
وانما اختلفوا في جواز الجمع بين الصلاتين فيما عدا هذين.
ومحل النزاع هنا إنما هو جواز الجمع بين الفريضتين بأدائهما معاً في وقت أحدهما تقديماً على نحو الجمع بعرفة أو تأخيراً على نحو الجمع بالمزدلفة.
وقد صدع الأئمة من آل محمد | بجوازه مطلقاً, غير أنّ التفريق أفضل, وتبعهم في هذا شيعتهم في كل عصر ومصر, فإذا هم يجمعون غالباً بين الظهر
والعصر وبين المغرب والعشاء سفراً وحضراً لعذر أو لغير عذر, وجمع التقديم وجمع التأخير عندهم في الجواز سواء.
أما الحنفية فمنعوا الجمع فيما عدا جمعي عرفة والمزدلفة بقول مطلق مع توفر الصحاح الصريحة بجواز الجمع, ولا سيّما في السفر, لكنهم تأولوها على
صراحتها, فحملوها على الجمع الصوري.
--------
(1) منهاج الصالحين, للسيد الخوئي, ص132, 131.
(2) المسائل الفقهية, للسيد شرف الدين, ص9ـ20.
وسيتضح لك بطلان ذلك قريباً إن شاء الله تعالى.
وأما الشافعية والمالكية والحنبلية فأجازوه في السفر على خلاف بينهم فيما عداه من الأعذار, كالمطر والطين والمرض والخوف, وعلى تنازع في شروط السفر
المبيح له, وذلك أنّ منهم من اشترط سفر القربة كالحج والعمرة والغزو ونحو ذلك دون غيره, ومنهم من اشترط الإباحة دون سفر المعصية, ومنهم من اشترط
ضرباً خاصاً من السير, ومنهم من لم يشترط شيئاً فأي سفر كان وبأي صفة كان يراه مبيحاً للجمع والتفصيل في فقههم.
حجتنا التي نتعبد فيما بيننا وبين الله سبحانه في هذه المسائل وفي غيرها إنما هي صحاحنا عن أئمتنا ^. وقد نحتجّ على الجمهور بصحاحهم لظهورها فيما نقول,
وحسبنا منها ما قد أخرجه الشيخان في صحيحيهما, وإليك ما أخرجه مسلم في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر من صحيحه إذ قال: >حدثنا يحيى بن يحيى,
قال: قرأت على مالك عن أبي الزبير, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال |: الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا
سفر<(1). وكذلك قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس. قال: صليت مع
النبي |ثمانياً جميعاً وسبعاً جميعاً قلت يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجّل العصر وأخرّ المغرب وعجّل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك<(2). وأيضاً أخرج
في صحيحه حيث قال: >حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد, عن عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: إنّ رسول الله|
صلى (بالمدينة سبعاً وثمانياً, الظهر والعصر والمغرب والعشاء)<(3).
وكذلك قال: >وحدثني أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد, عن الزبير بن الخرّيت عن عبد الله بن شقيق, قال: خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى
غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة؛ فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة. قال: فقال ابن عباس: أتعلمني
بالسنة لا أمّ لك؟ ثم قال: رأيت رسول الله | جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا
هريرة فسألته, فصدّق مقالته<.(4)
-------
(1) صحيح مسلم, ج2 ص151.
(2) المصدر نفسه, ص152.
(3) لف ونشر غير مرتب, ولو قال: صلى ثمانياً وسبعاً لكان مرتباً.
(4) من هوان الدنيا على الله تعالى وهوان آل محمد | على هؤلاء أن يحوك في صدورهم شيء من ابن عباس فيسألوا أبا
قال مسلم: >وحدثنا أحمد بن يونس وعون بن سلام جميعاً عن زهير, قال ابن يونس: حدثنا زهير, حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جمير, عن ابن عباس.
قال: صلّى رسول الله | الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر.
قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني: فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته. قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
وأبو كريب, قال: حدّثنا أبو معاوية, وحدّثنا أبو كريب وأبو سعيد الأشجع واللفظ لأبي كريب قالا ـ يعني أبا كريب وأبا سعيد ـ حدثنا وكيع وأبو معاوية, كلاهما
عن الأعمش, عن حبيب, عن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: جمع رسول الله| بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة
في غير خوف ولا مطر.
قال: وفي حديث وكيع قال: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك؟ قال: كيلا يحرج أمته: وفي حديث أبي معاوية قيل لا بن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال:
أراد أن لا يحرج أمته.
قال: حدثنا يحيى بن حبيبت, حدثنا خالد بن الحرث, حدثنا قرة بن خالد, حدثنا أبو الزبير, حدثنا عامر بن وائلة أبو الطفيل, حدثنا معاذ بن جبل. قال:
جمع رسول الله | في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ فقال: أراد أن لا يحرج أمته. قلت(
*): هذه الصحاح صريحة في أنّ العلة في تشريع الجمع إنما هي التوسعة بقول مطلق على الأمة وعدم إحراجها بسبب التفريق, رأفة بأهل الأشغال وهم أكثر
الناس, والحديثان الأخيران ـ حديث معاذ والذي قبله ـ هو قوله, قال: وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي, حدثنا خالد بن الحرث, حدثنا قرة بن خالد, حدثنا
أبو الزبير, حدثنا سعيد بن جبير, حدثنا ابن عباس: إنّ رسول الله | جمع بين الصلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك, فجمع بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء. قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. ـ لا يختصان بالسفر؛ إذعلة الجمع فيهما مطلقة لا دخل
فيها للسفر من حيث كونه سفراً, ولا للمرض والمطر والطين والخوف من حيث هي هي, وإنما هي كالعام يرد في مورد الخاص, فلا يتخصص به, بل يطرّد
في جميع مصاديقه, ولذا ترى الإمام مسلماً لم يوردهما في باب الجمع في
--------
هريرة, وليتهم بعد تصديق أبي هريرة عملوا بالحديث, وهذا الحديث كما أخرجه مسلم في صحيحه, ج2 ص152و كذلك أخرجه أحمد بن حنبل أيضاً عن ابن
عباس في ص251 من الجزء الأول من مسنده.
(*) والقول لصاحب المسائل الفقهية السيد شرف الدين.
الحضر ليكون أدلة من جواز الجمع بقول مطلق, وهذا من فهمه وعلمه وانصافه. وصحاحه ـ في هذا الموضوع ـ التي سمعتها والتي لم تسمعها كلّها على شرط
البخاري, ورجال أسانيدها كلهم قد احتجّ البخاري بهم في صحيحه, فما المانع له يا ترى من إيرادها بأجمعها في صحيحه؟ وما الذي دعاه إلى الاقتصار على النزر
اليسير منها؟ولماذا لم يعقد في كتابه باباً للجمع في الحضر ولا باباً للجمع في السفر؟ مع توفر الصحاح ـ على شرطه ـ الواردة في الجمع, ومع أنّ أكثر الأئمة قائلون
به في الجملة, ولماذا اختار من أحاديث الجمع ما هو أخسّها دلالة عليه؟ ولم وضعه في باب يوهم صرفه عن معناه؟
فإنّي أربأ بالبخاري وأحاشيه أن يكون كالذين يحرّفون الكلم عن مواضعه, أو كالذين يكتمون الحق وهم يعلمون<(1).
وإليك ما اختاره في هذا الموضوع. ووضعه في غير موضعه, إذ قال ـ في باب تأخير الظهر إلى العصر من كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه: >حدثنا أبو
النعمان قال: حدثنا حمّاد بن زيد عن عمرو بن دينار, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس: إنّ النبي | صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً الظهر والعصر,
والمغرب والعشاء, فقال أيوب: لعلّة في ليلة مطيرة, قال: عسى. قلت: إن يتبعون إلا الظن. وأخرج في باب وقت المغرب عن آدم, قال: حدثنا
شعبة, قال: حدثنا عمرو بن دينار. قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صلّى النبي | سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً. وأرسل في باب (ذكر
العشاء والعتمة) عن ابن عمر وأبي أيوب وابن عباس: إنّ النبي | صلّى المغرب والعشاء ـ يعني جمعهما ـ في وقت أحدهما دون الأخرى. وهذا النزر اليسير
من الجم الكثير من صحاح الجمع كاف في الدلالة على ما نقول, كما لا يخفى. ويؤيده ما عن ابن مسعود إذ قال: جمع النبي |ـ يعني في المدينة ـ بين الظهر
والعصر وبين المغرب والعشاء, فقيل له في ذلك, فقال: صنعت هذا لئلّا تُحرج أمتي. أخرجه الطبراني<(2).
والمأثور عن عبد الله بن عمر.(3) إذ قيل له: لِمَ ترى النبي | جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء مقيماً غير مسافر؟ أنه أجاب بقوله: فعل ذلك
لئلا تحرج أمته. بالجملة فإنّ علماء الجمهور
-------
(1) على حد تعبير صاحب كتاب المسائل الفقهية, السيد شرف الدين.
(2) كما في أواخر ص263 من الجزء الأول من شرح الموطأ للزرقاني قال: وارادة نفي الحرج تقدم في حمله على الجمع الصوري؛ لأن القصد لا يخلو من
حرج.
(3) في حديث تجده في ص242 ج4 في كنز العمال عدده في تلك الصفحة 5078 مسنداً إلى عبدالله.
كافة ممن يقول بجواز الجمع وممن لا يقول به متصافقون على صحّة هذه الأحاديث وظهورها فيما نقول من الجواز مطلقاً, فراجع ما شئت مما علقوه عليها يتضح لك
ذلك ـ وحسبك تعليق النووي في شرحه لصحيح مسلم والزرقاني في شرحه لموطأ مالك والعسقلاني والقسطلاني وزكريا الأنصاري في شروحهم لصحيح البخاري,
وسائر من علّق على أي كتاب من كتب السنن يشتمل على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين, حيث صححوه بكل طرقه التي نقلناها عن صحيحي مسلم
والبخاري, واستظهروا منها جواز الجمع في الحضر لمجرّد وقاية الأمة من الحرج, ما أدري والله ما الذي حملهم على الإعراض عنها, ولعلّ هذا من حظ أهل
البيت عندهم ـ نعم تأولوها حملاً لها على مذاهبهم, وكانوا في تأويلها على غُمّة, وفي ليل من الحيرة مظلم, وحسبك ما نقله النووي عنهم في تعليقه على هذه
الأحاديث من شرحه لصحيح مسلم. إذ قال ـ بعد اعتبارها ظاهرة في الجمع حضراًـ : >وللعلماء فيها تأويلات ومذاهب, فمنهم من تأولها على أنه جمع لعذر
المطر. (قال): وهذا مشهور عن جماعة من كبار المتقدمين(1). (قال): وهو ضعيف بالرواية الثانية عن ابن عباس من غير خوف ولا مطر(
).(قال): ومنهم من تأولها على أنه كان في غيم فصلّى الظهر ثم انكشف الغيم وظهر أنّ وقت العصر دخل فصلاها فيه(2).
(قال): وهذا أيضاً باطل؛ لأنه إن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر فلا احتمال فيه في المغرب والعشاء. (قال): ومنهم من تأولها على تأخير الأولى
إلى آخر وقتها فصلاها فيه, فلما فرغ منها دخل وقت العصر فصلاها فيه فصار جمعه للصلاتين صورياً.(3)
(قال): وهذا ضعيف أيضاً أو باطل؛ لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. (قال): وفعل ابن عباس حين خطب فناداه الناس: الصلاة الصلاة! وعدم
مبالاته بهم واستدلاله بالحديث لتصويب فعله بتأخيره صلاة المغرب إلى وقت العشاء وجمعهما جميعاً في وقت الثانية, وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في
ردّ هذا التأويل. ق
لت: وردّه ابن عبد البر والخطابي وغيرهما بأن الجمع رخصة, فلو كان
-------
(1) كالإمامين مالك والشافعي وجماعة من أهل المدينة.
(2) على أنه يبعد عن اللفظ غاية البعد ولا قرينة عليه.
(3) هذه خرص ومجازفة ورجم بالغيب.
(4) وقد تعلم أنّ أبا حنيفة وأصحابه تأولوا صحاح الجمع حضراً وسفراً بحملها كلها على الجمع الصوري, فقالوا بالمنع مطلقاً. وهذا غريب منهم إلى أبعد
غاية, وقد كفانا مناقشتهم والبحث معهم عدة من الأعلام تسمع في الأصل كلامهم.
صورياً لكان أعظم ضيقاً من الإيتان بكل صلاة في وقتها؛ لأنّ أوائل الأوقات وأواخرها محالاً يدركه أكثر الخاصّة فضلاً عن العامة (قالوا): ومن الدليل على أنّ
الجمع رخصة قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته (قالوا): وأيضاً تصريح أخبار الجمع بين الفريضتين إنما هو بأدائهما معاً في وقت إحداهما دون الأخرى,
أما بتقديم الثانية على وقتها وأدائها مع الأولى في وقتها أو بتأخير الأولى عن وقتها إلى وقت الثانية وأدائهما وقتئذ معاّ (قالوا): وهذا هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق
لفظ الجمع في السنن كلها, وهذا هومحل النزاع. (قال النووي): ومنهم من تأولها فحملها على الجمع لعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه (قال) وهذا
قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين من أصحابنا, واختاره الخطابي والمتولي والروياني من أصحابنا, وهو المختار في تأويلها؛ ظاهر الأحاديث.
قلت: لا ظهور في الأحاديث ولا دلالة فيها عليه بشيء من الدوال, والقول به تحكّم كما اعترف به القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري.(1)
وقد تعقبة بعض الأعلام أيضاً إذ قال: >وقيل إنّ الجمع كان للمرض, ورواه النووي, وفيه نظر؛ لأنّه لو جمع للمرض لما صلّى معه إلامن به المرض,
والظاهر أنّه | جمع بأصحابه, وبه صرّح ابن عباس في رواية ثابتة عنه. انتهى(2) قلت: ولمّا لم يكن لصحاح الجمع تأويل يقبله العلماء رجع قوم من
الجمهور إلى رأينا في المسألة تقريباً من حيث لا يقصدون.
وقد ذكرهم النووي بعد أن زيّف التأويلات بماسمعت. فقال: وذهب جماعة من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر؛ للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين
وأشهب من أصحاب مالك, وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الشافعي, وعن أبي إسحاق المروري وعن جماعة من أصحاب الحديث ـ
واختاره ابن المنذر ـ قال: ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته إذا لم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم, هذا كلامه(3) وبه صرّح غير
بوقتها المنوه به في قوله سبحانه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
-------
(1) كالزرقاني في شرحه للمواطأ وسائر من علّق على حديث ابن عباس في الجمع بين الصلاتين ممّن شرح الصحاح والسنن كالعسقلاني والقسطلاني وغيرهم.
(2) الإسراء: 78.
(3) هذا المعنى نقله الرازي ـ حول الآية من تفسيره الكبيرـ عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ونقله الإمام الطبرسي ـ في مجمع البيان ـ عن ابن عباس
وقتادة.
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} .
قال(1): إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً لعذر السفر وعذر المطر وغيره(2). قلت: أمعنّا
بحثاً عما ذكرة (أي الرازي) من دلالة الدليل على أنّ الجمع في الحضر من غير عذر لا يجوز فلم نجد له عيناً ولا أثراً, نعم كان النبي | يجمع في حال
العذر, وقد جمع أيضاً في حال عدمه؛ لئلّا يحرج أمته, ولا كلام في أنّ التفريق أفضل ولذلك كان يؤثره رسول الله | إلا لعذر كما هي عادته في المستحبات كلها
|. لا أنه لم يجوزّ الجمع مطلقاً لعذر ودون عند.
والحمد الله رب العالمين, وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين
------
(1) الاسراء:78.
(2) القول للرازي.
(3) الرازي, تفسير الرازي, ج5 ص428.