رساله الامام الهادي عليه السلام فى الرد على اهل الجبر والتفويض
(واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين)
من علي بن محمد ؛ سلام عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته ، فانه ورد عليّ كتابكم وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم ،وخوضكم في القدر ، ومقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض ، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم ، ثمّ سالتموني عنه وبيانه لكم ، وفهمت ذلك كلّه. اعلموا- رحمكم الله - انّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جائت به الاخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام ممن يعقل عن الله جلّ وعزّ لا تخلو من معنيين : امّا حق فيتبع ، واما ، باطل فيجتنب . وقد اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم انّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع اهل الفرق وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون مهتدون ، وذلك بقول رسول الله (ص) ( لاتجتمع امّتي على ضلالة ) ، فاخبر انّ جميع ما اجتمعت عليه الامة كلّها حق ، هذا اذا لم يخالف بعضها بعضاً ، والقرآن حقّ لا اختلاف في تنزيله وتصديقه ، فاذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقه وانكر الخبر طائفة من الامة لزمهم الاقرار به ضرورة حين اجتمعت في الاصل على تصديق الكتاب ، فان هي جحدت وانكرت لزمها الخروج من الملة . فاول خبر يُعرف تحقيقه من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله (ص) ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه اقاويلهم ؛ حيث قال :(اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي - اهل بيتي - لن تضلوا ما تمسكتم بهما وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض )،قلّما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصاً مثل قوله جلّ وعزّ :
(انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلا ة ويؤتون الزكا ة وهم راكعون ،ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله هم الغالبون ) . وروت العامة في ذلك اخباراً لامير المؤمنين (ع) انّه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وانزل الآية فيه . فوجدنا رسول الله (ص) قد اتى بقوله :( من كنت مولاه فعليّ مولاه ) وبقوله :( انت منّي بمنزلة هارون من موسى الاّ انه لا نبي ّ بعدي ) ووجدناه يقول :(عليّ يقضي ديني وينجز موعدي ، وهو خليفتي عليكم من بعدي ).
فالخبر الاول الذي استنبطت منه هذه الاخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم ، وهو ايضاً موافق للكتاب ، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر وهذه الشواهد الاُخرُ لزم على الامة الاقرار بها ضرورة اذا كانت هذه الاخبار شواهدها من القرآن ناطقة ووافقت القرآن والقرآن وافقها ، ثمّ وردت حقائق الاخبار من رسول الله (ص) عن الصّادقين (ع) ونقلها قوم ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الاخبار فرضاً واجباً على كلّ مؤمن ومؤمنة ، لا يتعداه الا اهل العناد ، وذلك انّ اقاويل آل رسول الله (ص) متصلة بقول الله وذلك مثل قوله في محكم كتابه :( انّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة واعد لهم عذاباً مهيناً) ، ووجدنا نظير هذه آلاية قول رسول الله (ص) :(من آذى عليّا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك ان يُنتقم منه ) ، وكذلك قوله (ص) :( من احب عليّا فقد احبني ، ومن احبني فقد احبّ الله ) ، ومثل قوله (ص) في بني وليعة :(لابعثن اليهم رجلاً كنفسي ، يحب اللله ورسوله ويحبه اللهُ ورسوله ، قم يا عليّ فسر اليهم ) ، وقوله (ص) يوم خيبر :( لابعثنّاليهم غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرّاراً غير فرار، لا يرجع حتّى يفتح الله عليه ) . فقضى رسول الله (ص) بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه اصحاب رسول الله (ص) ، فلّما كان من الغد دعا عليّا (ع) فيعثه اليهم فاصطفاه بهذه المنقبة ، وسمّاه كرّاراً غير فرّار ، فسمّاه الله محباً لله ولرسوله ، فاخبر انّ الله ورسوله يحبانه . وانّما قدّمنا هذا الشرح والبيان دليلاً على ما اردنا ، وقوّةً لما نحن مبيّنوه من امر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين ، وبالله العون والقوّة ، وعليه نتوكل في جميع امورنا فانّا نبدء من ذلك بقول الصّادق (ع) :(لا جبر ولا تفويض ولكنْ منزلة بين المنزلتين وهي صحّة الخِلقَْة وتخلية السّرْب، والمهلة في الوقت ، والزاد مثل الرّاحلة ، والسبب المهيّج للفاعل على فعله ).
فهذه خمسة اشياء جمع به الصّادق (ع) جوامع الفضل ، فاذا نقص العبد منها خلّة كان العمل عنه مطروحاا بحسسبه ، فاخبر الصّادق (ع) باصل ما يجب على النّاس من طلب معرفته ، ونطق الكتاب بتصديقه ، فشهد بذلك محكمات آيات رسوله ، لأنّ الرسول وآله (ع) لا يعدو شي من قوله واقاويلهم (ع) حدود القرآن ، فاذا وردت حقائق الاخبار والتُمِسَتْ شواهدها من التنزيل فوُجِدَ لها موافقا وعليها دليلا كان الاقتداء بها فرضا ، لا يتعداه الاّاهل العناد كما ذكرنا في اوّل الكتاب . ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله الصّادق (ع) من المنزلة بين المنزلتين وانكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدّق مقالته في هذا .
وخبرعنه ايضا موافق لهذا ؛ انّ الصّادق (ع) سئل هل اجبر الله العباد على المعاصي ؟ فقال الصّادق (ع) : هو اعدل من ذلك . فقيل له : فهل فوّض اليهم ؟ فقال (ع) هو اعز واقهر لهم من ذلك . وروي عنه انّه قال :( النّاس في القدر على ثلاثة اوجه : رجل يزعم انّالامر مفوّض اليه فقد وهّن الله في سلطانه فهو هالك ، ورجل يزعم انّ الله جلّ وعزّ اجبر العباد على المعاصي وكلّفهم ما لايطيقون ، فقد ظلّم اللهَ في حكمه فهو هالك . ورجل يزعم انّ الله كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلّفهم ما لايطيقون ، فاذا احسن خمد الله ، واذا اساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ ) ، فاخبر (ع) انّ من تقلّد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف الحقِّ ، فقد شرحتُ الجبر الذي مَن دان به يلزمه الخطأ ، وانّ الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما .
ثمّ قال (ع) : واضربُ لكلّ باب من هذه الابواب مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهّل له البحث عن شرحه ، تشهد به محكمات آيات الكتاب ، وتحقق تصديقه عند ذوي الالباب ، وبالله التوفيق والعصمة.
فأمّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم انّ الله جلّ وعزّ اجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها . ومن قال بهذا القول فقد ظلّمَ الله في حكمه وكذّبه ، وردّعليه قوله : (ولا يظلم ربُّك احدا) . وقوله : (ذلك بما قدّمت يداك وأنّ الله ليس بظلاّم للعبيد) . وقوله :( انّ الله لا يظلم الناس شيئا ولكِنّ الناس انفسهم يظلمون ) ، مع آيٍ كثيرة في ذكر هذا ، فمن زعم انّه مجبر على المعاصي فقد احال بذنبه على الله وقد ظلّمه في عقوبته ، ومن ظلّم الله فقد كذّب كتابه ، ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر بأجماع الامة . ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه ولا يملك عرضا من عرض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه فامره على علم منه بالمصير الى السّوق لحاجة يأتيه بها ، ولم يملّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته وعلم المالك انّ على الحاجة رقيبا لا يطمع احد في اخذها منه الاّ بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالكُ هذا العبد نفسه بالعدل والنّصِفة واظهار الحكمة ونفي الجور ، واوعد عبده إن لم يأته بحاجته ان يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته انّه سيمنعه ، وعلم انّ المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك ، فلما صار العبد الى السوق وجاء لياخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعا يمنع منها الا بشراء وليس يملك العبد ثمنها ، فانصرف الى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه اليس يجب في عدله وحكمه ان لا يعاقبه وهو يعلم انّ عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا ولم يملّكه ثمن حاجته ؟ فان عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه ، مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونَصِفَتِهِ ، وان لم يعاقبه كذّب نفسه في وعيده ايّاه حين اوعده بالكذب والظّلم اللذين ينفيان العدل والحكمة . تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا ؛ فمن دان بالجبر او بما يدعو الى الجبر فقد ظلّم الله َونسبه الى الجور والعدوان اذ اوجب على من اجبر العقوبة . ومن زعم انّ الله اجبر العباد فقد اوجب على قياس قوله ان الله يدفع عنهم العقوبة ، ومن زعم انّ الله يدفع عن اهل المعاصي العذاب فقد كذّب الله في وعيده حيث يقول :( بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته فاولئك اصحاب النّار هم فيها خالدون ). وقوله : ( انّ الذين ياكلون اموال اليتامى ظلما انما ياكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) . وقوله : (انّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب انّ الله كان عزيزا حكيما ) ، مع آي كثيرة في هذا الفنّ ، فمن كذّب وعيد الله يلزمه في تكذيبه آيةمن كنتاب الله الكفر وهو ممن قال الله : (أَ فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردون الى اشد العذاب وما الله بغافل عمّا يعملون ) بل نقول : انّ الله جلّ وعزّ جازى العباد على اعمالهم ، ويعاقبهم على افعالهم بالاستطاعة الّتي ملّكهم ايّاها ، فامرهم ونهاهم بذلك ، ونطق كتابه :(من جاء بالحسنة فله عشر امثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها وهم لا يظلمون ). وقال جلّ ذكره :( يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ان بينه وبينه امدا بغيدا ويحذركم الله نفسه ). وقال :( اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم )، فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به . ومثلها في القرآن كثير ( اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب . وبالله التوفيق ) .
اما التفويض الذي ابطله الصادق (ع) وخطّأ من دان به وتقلده فهو قول القائل :( انّ الله جلّ ذكره فوّض الى العباد اختيار امره ونهيه واهملهم ) . وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب الى تحريره ودقّته ، والى هذا ذهبت الائمة المهتدية من عترة الرسول (ص) فانهم قالوا : لو فوّض اليهم على جهة الاهمال لكان لازماً له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثّواب ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب اذا كان الاهمال واقعاً ، وتنصرف هذه المقالة على معنيين : امّا ان يكون العباد تظاهروا عليه الزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورةً كَرِهَ ذلك ام احبّ فقدٍ لزمه الوهن ، او يكون جلّ وعزّ عَجَزَ عن تعبّدهم بالامروانهي على ارادته كرهوا او احبّوا ففوض امره ونهيه اليهم واجراهما على محبتهم ، اذعجز عن تعبدهم بارادته ، فجعل الاختيار اليهم في الكفر والايمان .
وَمَثَلُ ذلك مَثَلُ رجلٍ ملك عبداً ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند امره ونهيه ، وادّعى مالك العبد انّه قاهر عزيز حكيم ، فامر عبده ونهاه ووعده على اتباع امره عظيمَ الثّواب واوعده على معصيته اليم العقاب ، فخالف العبد ارادة مالكه ولم يقف عند امره ونهيه ، فايّ امره او ايّ نهيٍ نهاه لم ياته على ارادة الولىبل كان العبد يتبع ارادة نفسه واتباع هواه ، ولا يطيق المولى ان يرده الى اتباع امره ونهيه والوقوف على ارادته ،ففوض اختيار امره ونهيه اليه ، ورضيَ منه بكلّ ما فعله على ارادة العبد لا على ارادة المالك وبعثه في بعض حوائجه ، وسمّى له الحاجة ، فخالف على مولاه وقصد لارادة نفسه ، واتّبع هواه ، فلّما رجع الى مولاه نظر الى ما اتاه به فاذا هو خلاف ما امره به ، فقال له : لمَ اتيتني بخلاف ما امرتك ؟ فقال العبد : اتّكلت على تفويضك الامر اليّ فاتبعت هوايَ وارادتي ،لان المفوَّض اليه غير محظورٍ عليه ، فاستحال التفويض . اوَ ليس َ يجب على هذا السبب امّا ان يكون المالك للعبد قادراً يامر عبده باتباع امره ونهيه على ارادته لا على ارادة العبد ، ويملّكه من الطاقة بقدر ما يامره به وينهاه عنه ، فاذا امره بامرٍ ونهاه عن نهيٍ عرّفه الثواب والعقاب عليهما وحذّره ورغبه بصفة ثوابهوعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما ملّكه من الطّاقة لامره ونهيه وترغيبه وترهيبه ، فيكون عدله وانصافه شاملاً له ، وحجته واضحة عليه للاعتذار والانذار ، فاذا اتّبع العبد امر مولاه جازاه ، واذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه . او يكون عاجزاً غير قادر ففوّض امره اليه ، احسن ام اساء ، اطاع ام عصى ، عاجز عن عقوبته وردِّه الى اتباع امره ، وفي اثبات العجز نفي القدرة والتأله وابطال الامر والنهيوالثواب والعقاب ومخالفة الكتاب ، اذ يقول :( ولا يرضى لعباده الكفر وان تشكروا يرضه لكم ( وقوله عزّ وجلّ : اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتن الا وانتم مسلمون ) وقوله :( وما خلقت الجنّ والانس الا ليعبدون ، ما اريد منهم من رزق وما اريد منهم ان يطعمون ) وقوله:( اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) وقوله :( واطيعوا الله واطيعوا الرسول ولا تولوا عنه وانتم تسمعون ).
فمن زعم انّ الله تعالى فوض امره ونهيه الى عباده فقد اثبت عليه العجز ، واوجب عليه قبول كلِّ ما عملوا من خير وشر ، وابطل امر الله ونهيه ووعده ووعيده لعلّة ما زعم انّ الله فوّضها اليه ، لانّ المفوّض اليه يعمل بمشيئته ، فان شاء الكُفْرَ او الايمان كان غير مردود عليه ولا محظور ، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد ابطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيدهوامره ونهيه ،وهو من اهل هذه الآية :( افتتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم الا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون الى اشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون ) ، تعالى الله عمّا يدين به اهل التفويض عُلُّواً كبيراً .
لكن نقول : انّ الله جلّ وعزّ خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعةً تعبدَهُم بها ، فامرهم ونهاهم بما اراد فقبل منهم اتّباع امره ورضيَ بذلك لهم ، ونهاهم عن معصيته ، وذمّ من عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيَرَة في الامر والنهي ، يختار ما يريد ويامر به ،و ينهى عمّا يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التّي ملّكها عباده لاتباع امره واجتناب معاصيه ، لانه ظاهر العدل والنَّصفة والحكمة البالغة ؛ بالغ الحجة بالاعذار والنذار ، واليه الصّفوة ، يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده ، اصطفى محمدا (ص) وبعثه برسالاته الى خلقه ، فقال من قال من كفّار قومه حسداً واستكباراً :( لولا نُزِّلَ هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم ) يعني بذلك اُمَيَّة بن ابي الصَّلْتِ وابا مسعود الثَّقفيَّ ، فابطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءَهم حيث يقول :( أَ هُم يقسمون رحمة ربِّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدُّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخزياً ورحمت ربِّك خير مما يجمعون ) ، ولذلك اختار من الامور ما احب ونهى عمّا كرِهَ، فمن اطاعه اثابه ، ومن عصاه عاقبه ، ولو فوَّضَ اختيار امره الى عباده لاجاز لقريش اختيار اُمَيَّةَ بن ابي الصَّلْتَ وابي مسعود الثقفيِّ ، اذ كانا عندهم افضل من محمد (ص).
فلّما ادّب الله المؤ منين بقوله :( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذاقضى الله ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ) ، فلم يُجِزْ لهم الاختيار باهوائهم ولم يقبل منهم الاّ اتِّباع امره واجتناب نهيه على يديْ من اصطفاه ، فمن اطاعه رشد ، ومن عصاه ضلَّ وغوى ، ولزمته الحجة بما ملَّكهُ من الاستطاعة لاتباع امره واجتناب نهيهِ ، فمن اجل ذلك حَرَمَهُ ثوابه وانزل به عقابه.
وهذا القول بين القولين ليس بجبرٍ ولا تفويض ٍ ، وبذلك اخبر امير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعيّ الاسدي حين ساله عن الاستطاعة الّتي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال امير المؤمنين (ع) : سالت عن الاستطاعة تملكها من دون الله او مع الله ؟ فسكت عباية ، فقال له امير المؤمنين (ع) :قل يا عباية ، قال : وما اقول ؟ قال (ع) : انْ قلتَ: انّك تملكها مع الله قتلتك ، وان قلت : تملكها دون الله قتلتك ، قال عباية : فما اقول ياامير المؤمنين؟ قال (ع) : تقول : انك تملكها بالله الّذي يملكها من دونك ، فانْ يُمَلِّكْها ايّاك كان ذلك من عطائه ، وان يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملّكك والقادر على ما عليه اقدركَ ، اما سمعت الناس يسالون الحوْلَ والقوّة حين يقولون : ( لا حول ولا قوة الا بالله )؟ . قال عباية : وما تاويلها يا امير المؤمنين ؟ قال (ع) : لا حول عن معاصي الله الاّ بعصمة الله ، ولا قوّة لنا على طاعة الله الا بعون الله ، قال : فوثب عباية فَقَبَّلّ يديه ورجليه .
ورُوِيَ عن المؤمنين (ع) حين اتاه نجدة يساله عن معرفة الله ، قال : يا امير المؤمنين بماذا عرفت ربك ؟ قال (ع) : بالتمييز الذي خولني ،والعقل الذي دلني ، قال : أَفَمجبولٌ انت عليه ؟ قال : لو كنت مجبولاً ما كنت محموداً على احسان ولا مذموماً على اساءة ، وكان المحسن اولي باللاّئمة من المسيء ، فعلمت انّ الله قائم باقِ ومادونه حدَث حائل زائل ، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل ، قال نجدة : اجدُك اصبخت حكيماَ يا امير المؤمنين ، قال : اصبحت مخيراً ؛ فان اتيتُ السيئة بمكان الحسنة فانا المُعاقب عليها .
وروي عن امير المؤ منين (ع) انّه قال لرجلٍ سأ له بعد انصرافه من الشّام فقال : ياامير المؤمنين اخبرنا عن خروجنا الى الشام بقضاءوبقدر ؟ قال (ع): نعم يا شيخ ؛ ما علوتم تَلْعَةً ولا هبطتم واديا الا بقضاء وقدرٍ من الله ، فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا امير المؤمنين ؟ قال (ع) : مَهْ يا شيخ ، فانّ الله قد عظّمَ اجركم في مسيركم وانتم سائرون ، وفي مقامكم وانتم مقيمون ، وفي انصرافكم وانتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيءٍ مناموركم مكرهين ولا اليه مضطرين ،لعلّك ظننت انّه قضاءٌ حتمٌ وقدرٌ لازم،لو كان ذلك كذلك لَبَطَلَ الثّواب والعقاب ، ولسقط الوعد والوعيد ولما اُلزِمَتِالاشياء اهلها على الحقائق ؛ذلك مقالة عَبَدَةِ الاوثان واولياء الشيطان ، انّ الله جلّ وعزّ امر تخييراً ، ونهى تحذيراً ، ولم يُطَع ْمكرهاً ، ولم يُعْصَ مغلوباً ،ولم يخلق السماوات والارض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّالذين كفروا فويلٌ للذين كفروا من النار ، فقام الشيخ فقبّل راس امير المؤمنين (ع) وانشأ يقول :
انـت الامام الّذي نرجـــــو بطاعته يـوم النّجاة من الرحمان غـفرانا
اوضحـتَ من ديننا ما كان مُلتَبِســـاً جـــزاك ربك عنّا فيه رضـواناً
فليــــــس معذرةٌ في فعل فاحشةٍ قــد كنت راكِبَها ظلماً وعصيانا
فقد دلَّ امير المؤمنين (ع) على موافقة الكتاب ، ونفي الجبر والتفويض اللذينِ يلزمان مْن دان بهما ويتقلدهما الباطلَ والكفرَ وتكذيبَ الكتاب ، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر ، ولسنا ندين بجبرٍ ولا تفويضٍ لكنّا نقول بمنزلةٍ بين المنزلتين وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكًنا الله وتعبَّدَنا بها على ما شهد به الكتاب ودان به الائمة الابرار من آل الرسول صلوات الله عليهم .
ومَثَلُ الاختبار بالستطاعة مَثَلُ رجلٍ مَلًكَ عبدا وملك مالاً كثيراً احبّ ان يختبر عبده على علمٍ منه بما يؤول اليه ، فملّكه من ماله بعض ما احبّ ووفقه على امور عرّفها العبد ، فامره ان يصرف ذلك المال فيها ونهاه عن اسباب لم يحبها ، وتقدم اليه ان يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها ، والمال يتصرف في ايِّ الوجهين ، فصرف المال احدهما في اتِّباع امر المولى ورضاه ، والآخرُ صرفه في اتِّباع نهيه وسخطه ، واسكنه دار اختبارٍ اعلمه انّه غير دائم له السكنى في الدار وان له داراً غيرها وهو مخرجه اليها ، فيها ثواب وعقاب دائمان ، فان انفذ العبد المال الذي ملّكه مولاه في الوجه الّذي امره به جعل له الثواب الدائم في تلك الدار التي اعلمه انه مُخرجه اليها ، وانْ انفق المال في الوجه الّذي نهاه عن انفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود . وقد حدَّ المولى في ذلك حدّاً معروفاً وهو المسكن الّذي اسكنه في الدار الاولى ، فاذا بلغ الحدُّ استبدل المولى بالمال وبالعبد على انه لم يزل مالكاً للمال والعبد في الاوقات كلِّها ، الا انه وعد ان لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الاولى الى ان يستتم سكناه فيها فوفى له ، لانّ من صفات المولى :العدل والوفاء والنَّصَفَةَ والحكمةَ ، اوَ ليس يجب إنْ كان ذلك العبدُ صَرَفَ ذلك المالَ في الوجه المأموربه أن يفيَ له بما وعَدَهُ من الثواب ، وتفضلَ عليه بأنِ استعمله في دارٍ فانية واثابه على طاعته فيها نعيماً دائماً في دارٍ باقيةٍ دائمةٍ ، وان صرف العبد المال الذي ملّكهُ مولاه ايّام سكناه تلك الدّارَ الاولى في الوجه المنهيِّ عنه وخالف امر مولاه كذلك تجب عليه العقوبةُ الدائمة الّتي حذَّره اياها ، غير ظالم له لما تقدم اليه واعلمه وعرَّفهُ واوجب له الوفاء بوعده ووعيده ، بذلك يُصًفُ القادر القاهر.
وامّا المولى فهو الله جلَّ وعزَّ ،وامّا العبد فهو ابن آدم المخلوق ، والمال قُدرَةُ الله الواسعة ، ومحنتهُ اظهارُه الحكمةَ والقدرةَ ، والدار الفانية هي الدنيا ، وبعض المال الّذي ملَّكه مولاه هو الاستطاعة الّتي مَلَّكَ ابن آدم ،والامور الّتي امر الله بصرف المال اليها هو الاستطاعة لاتِّباع الانبياء والاِقرار بما اوردوه عن الله جلَّ وعزَّ،واجتناب الاسباب الّتي نهى عنها هي طُرُقُ ابليسَ ، وامّا وعده فالنعيمُ الدائم وهي الجنة وامّا الدّار الفاتنة فهي الدنيا وامّا الدار الاخرى فهي الدّار الباقية وهي الآخرة . والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة الّتي ملّكَ العبد .
وَشَرْحُها في الخمسة الامثال الّتي ذكرها الصّادق (ع) انّها جمعت جوامع الفضل وانا مفسرها بشواهد من القرآن والبيان انْ شاء الله .