البدعة 7
أعمال نُسبت إلى البدعة وليست ببدعة
إنّ من مساحات الاختلاف الفقهي بين المسلمين ما يعدّ عند بعضهم مشروعاً بل مندوباً، فيما يراه الآخر عملاً مُبتَدعاً ينبغي محاربته.
ولقد أثار هذا النوع من الخلاف جدلاً كبيراً وصراعاً طائفياً متجدداً، لا سيّما مع طائفة من الأعمال التي تغلغلت في قلوب أصحابها حتّى مازجت معتقداتهم، فتجاوزت إطارَها الفقهيَّ لتأخذ بُعداً عقيدياً لدى مشرّعيها ولدى مخالفيها على حدّ سواء.
ومن أمثلة هذا النوع من الأعمال:
أولاً: الاحتفال بالمولد النبويّ والمناسبات الإسلاميّة
لا ريب أنّ الاحتفال بمولد النبيّ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وفق الضوابط والأصول الشرعية ـ يُعبّر عن الحبّ والولاء والمتابعة للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو بالتالي تعظيمٌ للرسالة الإسلاميّة الغرّاء.
ولقد تقدّم القول في أنّ المِلاك في نسبة الشيء إلى البدعة هو: كونها إضافةَ ما ليس من الدِّين إلى الدين، أو إنقاصٌ ممّا هو منه.
وانّ فِعْلَ ما لم يكن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يصحُّ أن يكون ابتداعاً بالمعنى اللغويّ الذي يعني: الإتيانَ بشيء ليس على مِثالٍ سابق، طالما لم يتعارض هذا الشيء مع التشريع. وقد ذكرنا أنَّ عدم وجود الدليل الخاصّ على أمرٍ ما لا يعني أنّه يدخل ضمن دائرة الابتداع ما دام في الدليل العام مجالٌ لشموله بمفرداته.
والمسلمون يعلمون جميعاً أنَّ هناك أدلةً كثيرة أكّدت على ضرورة احترام النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وتبجيله وتوقيره، حيّاً وميّتاً، وقد ورد الشيء نفسه في حق أهل البيت عليهم السّلام. وإذا كان الأولون يعبّرون عن حبهم لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته، فإنّ للآخرين أن يعبروا عن هذا الحب أيضاً بالطريقة المناسبة بحيث لا تتعارض مع التشريع.
من هنا نجد مدى النَّكارة في ما قاله محمّد بن عبدالسلام الشُّقَيريّ: « بدعة منكَرة ضلالة، لم يَرد بها شرعٌ ولا عقل، ولو كان في هذا اليوم خيرٌ كيف يغفل عنه أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي وسائر الصحابة، والتابعون وتابعوهم والأئمّة وأتباعهم » (186)!
وحَسبُه تعصباً أن يقول: « لم يرد بها شرع » وكأنَّ أحداً من الناس قال إنّ الاحتفالات بهذا الشكل الخاص المعمول به الآن جزءٌ من الشريعة، حتّى يأتي هو لينفي كونها منه.
والغريب أنَّ بعض الذين عدّوا الاحتفال بمولده صلّى الله عليه وآله وسلّم بدعة، إنّما فعلوا ذلك لأنّ الاحتفال ترافقه بعض الأعمال المُبتدَعة، من قبيل قول ( ابن الحاج ): « ومن جملة ما أحدثوه من البدع ـ مع اعتقادهم أنَّ ذلك من أكبر العبادات، وإظهار الشعائر ـ ما يفعلونه في شهر ربيع الأول في يوم المولد، وقد احتوى على بدع ومحرَّمات جمّة » (187).
ومع أننا نستنكر كلَّ عمل محرّم يأتي به أحد في هذه الاحتفالات فإنَّ الاقتران بين الأفعال المحرّمة وبين الاحتفال بمولده صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يلغي أصل العمل، ولا يؤدي إلى تحريمه بالضرورة، إذ إنَّ القول بذلك يستلزم بطلان الكثير من أُصول العبادات المسلّمة فيما لو اقترنت بفعل محرم، نحو الصلاة رياءً وسمعةً، والنفقة طلباً للجاه.. مع أن الصحيح أن يقال: إنَّ الفعل الفلاني محرّم لا يجوز الإتيان به، بل يلزم المعاقبة عليه مع القدرة، لا أن يلغي أصل العمل.
إنّ حبَّ النبيّ صلّى الله عليبه وآله وسلّم أصل من أصول الإسلام ليس لأحدٍ إنكاره، ولهذا فمن حق المسلم المؤمن أن يُعبّر عن حبه للرسول الأكرم صلّى الله عليه واله وسلّم بأيّ صورة كانت، شريطةَ أنْ لا تتعارض مع الشريعة.
ولا شك أنَّ الاحتفال بالمولد النبويّ الشريف يمثّل صورة من صور التكريم والتعظيم والاحترام لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يتدارس فيه الناس سيرته العطرة ويستخلصون الدروس العظيمة النافعة.
وإلى جانب أهمّية وضرورة حبّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته وبعد وفاته، وتجسيد ذلك الحب في السلوك والعمل من خلال الالتزام بالتعاليم الإسلاميّة، فقد أكّد الرسول الأكرم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على حب أهل بيته عليهم السّلام حتّى عدّ حبَّهم حبّاً له هو صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فقد ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: « أُذكّركم اللهَ في أهل بيتي » وكررها ثلاث مرات (188). وعن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: «وأحِبّوني بحبّ الله، وأحِبوا أهلَ بيتي لحبي» (189).
واستقصاء أحاديثه صلّى الله عليه وآله وسلّم في دفع الأُمّة إلى الالتزام بحب أهل بيته عليهم السّلام وتوقيرهم وتعظيمهم خارج عن نطاق هذا البحث، لكنّ المحصَّل ممّا تقدم يوضّح لنا أنّ التعبير عن الحب والتعظيم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته عليهم السّلام ليس أمراً ممنوعاً، بل هو مرغوب فيه.
وقد أيّد ذلك بعض علماء السنّة وعدّوا الاحتفال بيوم مولده صلّى الله عليه وآله وسلّم عملاً حسناً أو « بدعة حسنة » بمعناها اللغوي، نظير ما قاله ابن حجر: « عمل المولد بدعة، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنَّها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّها، فمن تحرّى في عملها المحاسن وتجنَّب ضدَّها كان بدعةً حسنةً، وإلاّ فلا » (190).
وقول أبي شامة: « ومِن أحسن ما ابتُدع في زماننا ما يُفعل كلَّ عام في اليوم الموافق ليوم مولده صلّى الله عليه وآله وسلّم من: الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة، والسرور، فإنَّ ذلك ـ مع ما فيه من الاحسان للفقراء ـ مُشعر بمحبته صلّى الله عليه وآله وسلّم وتعظيمه في قلبٍ فاعل ذلك، وشكر الله على ما منَّ به من إيجاد رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أرسلهُ رحمةً للعالمين » (191).
وقول السيوطي: « عندي أنّ أصل عمل المولد ـ الذي هو اجتماع الناس، وقراءة ما تيسّر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما وقع في مولده من الآيات، ثمّ يُمَدّ لهم سِماط فيأكلون وينصرفون من غير زيادة على ذلك ـ هو من البدع الحسنة التي يُثاب عليها صاحبها؛ لما فيه من تعظيم قَدْر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.. » (192).
وقال ابن تيميّة: « قال المَرُوزي: سألتُ أبا عبدالله عن القوم يبيتون، فيقرأ قارئ، ويَدْعون حتّى يصبحوا، قال: أرجو أن لا يكون به بأس.. وقال أبو السري الحربيّ: قال أبو عبدالله: وأيُّ شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلّون ويذكرون ما أنعم الله عليهم كما قالت الأنصار ؟!». وأضاف: « وهذا إشارة إلى ما رواه أحمد: حدثنا إسماعيل: أنبأنا أيوب عن محمد ابن سيرين قال: نُبّئت أنّ الأنصار قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة قالوا: لو نظرنا يوماً فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا، فقالوا: يوم السبت، ثمّ قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم، قالوا: فيوم الأحد، قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم، قالوا: فيوم العروبة ـ وكانوا يسمّون الجمعة بيوم العروبة ـ فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة فذبحتُ لهم شاةً فكفتْهم » (193).
إنّ أتباع أهل البيت عليهم السّلام وعامة المسلمين يحتفلون بمولد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وبمواليد الأئمّة الطاهرين من ذرّيته وبالمناسبات والذكريات الإسلاميّة العظيمة، ولا يتجاوزون في احتفالاتهم قراءةَ القرآن وبيان سيرة الرسول وأهل بيته الطاهرين، والدروس العظيمة والعِبر من الذكريات الإسلاميّة.
وغريب جداً أن يعتبر أحد من الناس الاجتماع لتلاوة حديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أو إنشاء القصائد في مدحة بدعةً بمعناها الاصطلاحيّ، وأمامهم عشراتُ الأمثلة من إنشاد الشعراء بحضرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم شعراً في مدحه فما منعهم صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ذلك، فما المانع أن يُنشَد الشعر في يوم مولده مدحاً له وإشادةً برسالته العظيمة ؟!
فهذا كعب بن زهير يُنشد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بحضرته:
مهلاً هـداكَ الـذي أعطـاك نـا | فلةَ القرآنِ فيها مواعيظٌ وتفصيـلُ | |
إنَّ الرسولَ لَنـورٌ يُستضـاء بـه | مُهنَّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ (194) |
أو قول حسان بن ثابت في رثاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم:
يدلُّ على الرحمن مَـن يقتـدي بـه | ويُنقذ مِن هول الخزايـا ويُـرشِـدُ | |
إمامٌ لهم يهديهـمُ الحـقَّ جـاهـداً | مُعلّمُ صدقٍ إن يُطيعوه يُسْعَدوا (195) |
ولا نريد هنا الاستقصاء.. لكن هنا لابدَّ من التنبيه إلى أنَّ هذين الشاعرين وغيرهما من الشعراء أنشدوا شعرهم في اجتماع من الناس ولم ينشدوه بينهم وبين أنفسهم.. فلم يَقُل لهم أحد إنّ إنشادكم في اجتماع الناس بدعة!
ثانياً: شدّ الرحال لزيارة قبر النبيّ والأئمّة والصالحين
اتّفق علماء المسلمين على جواز زيارة القبور عامةً، وقبور الأنبياء والأولياء والصالحين خاصّة، إلاّ ما نُسب إلى ابن سِيرين والنَّخعي والشعبي، على أنّ النسبة غير ثابتة.
وقد زار النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قبرَ أُمّه فبكى وأبكى مَن حوله، وقال: «... استأذنتُه في أن أزور قبرها فأُذِن لي، فزوروا القبور فإنّها تُذكِّر الموت » (196).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: « مَن زار قبري وَجَبتْ له شفاعتي » (197).
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضاً: « من حجَّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمَن زارني في حياتي » (198).
وقد وردت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم عشرات الأحاديث في هذا المضمار من طرق الفريقين.
ثمّ يأتي ابن تيميّة ويشكّك في استحباب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويذهب في « منهاج السنّة » وغيره إلى أن ما ورد في زيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ضعيف بل موضوع.
إلاّ أن المَقدِسي يذكر أنَّ ابن تيمية كان معتقداً بزيارة النبيّ الأكرم، فنقل عنه قوله: إذا أشرف على مدينة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استُحبّ له أن يغتسل، نصّ عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى، وقال: بسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. ثمّ يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلّي بها ويدعو بما شاء، ثمّ يأتي قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيستقبل جدار القبر ولا يمسّه ولا يقبّله، ويجعل القنديل الذي في القِبلة عند القبر على رأسه ليكون قائماً وِجاه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويقف متباعداً ـ كما يقف لو ظهر في حياته ـ بخشوع وسكون مُنكِّسَ الرأس غاضَّ الطرف مُستحضِراً بقلبه جلالةَ موقفه، ثمّ يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السّلام عليك يا نبيَّ الله وخِيرته مِن خلقه، السّلام عليك يا سيّدَ المرسلين وخاتَم النبيّين، وقائد الغرّ المحجَّلين.. » (199).
ومع هذا الكلام فان ابن تيمية يعتبر « شدَّ الرحال » لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أمراً حراماً، معتمداً في ذلك فهماً خاصّاً لما رُوي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: « لا تُشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى » (200)، وفي لفظٍ آخر: « إنما يُسافَر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي، ومسجد إيليا » (201).
وهنا نتناول مناقشة هذا الأمر من جانبين:
الجانب الأول: إيراد أقوال وأحاديث تؤكّد استحباب السفر لزيارة قبره صلّى الله عليه وآله وسلّم.
والجانب الثاني: دراسة وتحليل الحديث الذي اعتبره ابن تيمية دالاًّ على حرمة السفر إلى قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
استحباب السفر لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم
يمكن الاستدلال على استحباب السفر لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعدّة وجوه، لكننا هنا نقتصر على ذكر مجموعة من آراء علماء السلف القائلة باستحباب السفر للزيارة، بل عدَّها بعضهم واجبة.
وليس لأحد أن ينكر أنُّ السلف من علماء الأُمّة وعامّتها سافروا لزيارة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد أشار إلى هذا الواقع السبكيّ بقوله: « إنّ الناس لا يزالون في كلّ عام ـ إذا قضَوا الحجّ ـ يتوجّهون إلى زيارته صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده مَن قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة... وذلك أمر لا يُرتاب فيه، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المُهَج، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرِّ السنين ـ وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ـ يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزَّوجلّ، ومَن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجزٍ أو تعويق المقادير، مع تأسّفه عليه وودّه لو تيسّر له، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ » (202).
وإلى جانب ما جاء به السبكي في معارضة القائلين بالتحريم، فقد شاركه عدد غفير من العلماء في ذلك، وهذه بعض النصوص:
1 ـ قال أبو الحسن الماوَرديّ ( ت 450 هـ ): « فإذا عاد وليّ الحاجّ، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ليجمع لهم بين حجّ بيت الله عزَّوجلَّ وزيارة قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: رعايةً لحرمته، وقياماً بحقوق طاعته. وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ، فهو من مندوبات الشرع المستحبّة، وعبادات الحجيج المستحبة » (203).
2 ـ قال ابن الحاجّ محمّد بن محمّد العَبدَريّ القَيروانيّ المالكي ( ت 737 هـ ): « وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتّصف بالذل والانكسار والمَسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويُحضر قلبَه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره؛ لأنّهم لا يبلَون ولا يتغيّرون... » (204).
وابن الحاج هنا ـ كما ترى ـ لا يقصر مشروعية الزيارة على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل يعمّمها على الأنبياء والرسل عليهم السّلام أيضاً.
3 ـ روي أنّه لمّا صالح عمر بن الخطاب أهلَ بيت المَقدِس، جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به، فقال عمر له: « هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره وتتمتع بزيارته ؟ قال: نعم » (205).
دراسة دليل القائلين بتحريم شدّ الرحال لزيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم
اعتمد القائلون بتحريم شدّ الرحال لغير المساجد الثلاثة ( مسجد الرسول ومكّة وبيت المقدس ) بشكل خاصّ على الرواية المتقدّمة، ولنا في دلالة الحديث أو الأحاديث المارّة مناقشة تقوم على أساس تحديد المستثنى منه، وهو واحد من اثنين:
1 ـ لا تُشدُّ الرحال إلى « مسجد » غير المساجد الثلاثة.
2 ـ لا تشدُّ الرحال إلى « مكان » غير المساجد الثلاثة.
ولو كان المقصود بالرواية المستثنى الأول كما هو الظاهر، فإنّ معنى الحديث يكون: الأمر بعدم شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد ما عدا المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلى أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن هذا « المكان » مسجداً. فالحديث إذن بهذا المعنى لا يتعرّض بحال لشدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والأئمّة الطاهرين والأولياء والصالحين؛ لأنّ قبورهم ليست مساجد، ولأنّ الحديث يتعرض في نفيه وإثباته للمساجد خاصة، ولذلك فإنّ الاستدلال به على حرمة شد الرحال إلى غير المساجد باطل.
أما الحالة الثانية، وهي البناء على الاستثناء من عموم الأمكنة، فلا يمكن الأخذ بها، إذ تستتبع حرمةَ جميع الأسفار.. سواء كان السفر لزيارة مسجد أو غيره من الأمكنة، ولا يقول بهذا أحدٌ من الفقهاء والعقلاء.
ومن جهة ثانية: فإنّ النهي عن شدِّ الرحال إلى أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً « تحريميّاً »، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف من حيثُ الفضيلة، فالمساجد الجامعة متساوية في الفضيلة، وإنّ من العبث تركَ الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع آخر في بلد آخر مع أنهما متماثلان.
يقول الغزاليّ بهذا الصدد: « القسم الثاني، وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد.. ويدخل في جملته: زيارة قبور الأنبياء عليهم السّلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء. وكلُّ مَن يُتَبرَّك بمشاهدته في حياته يُتبرّك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « لا تُشدُّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى »، لأنّ ذلك في المساجد، فإنّها متماثلة في الفضيلة بعد هذه المساجد » (206).
ويقول الدكتور الشيخ عبدالملك السعدي: « إنَّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى لأجل أنَّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب، لأنّها في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة؛ لأنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبويّ بألف، وفي المسجد الاقصى بخمسمائة، فزيادة الثواب تُحبّب السفر إليها، وهي ( أي الزيادة ) غير موجودة في بقيّة المساجد » (207).
ومن جهة ثالثة: فإنّ هناك دليلاً آخر على أنّ السفر لغير هذه المساجد الثلاثة ليس محرّماً، وهو ما نكتشفه من سيرة النبيّ الأكرم محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد روى أصحاب الصحاح والسنن: « كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يأتي مسجد قُباء راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين » (208).
مناقشة دليل ابن تيمية في التحريم
لابن تيمية فتوى بالتحريم عمّم فيها الحرمةَ بزيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين، مع أنّ المستثنى هو المساجد. فقال في الفتاوى ـ معتمداً في فتواه على القياس: « فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتّفاق الأئمّة الأربعة، بل قد نهى عنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تُتَّخَذ قبورهم مساجدَ وأوثاناً وأعياداً ويشرك بها وتدعى من دون الله، حتّى أنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحج إليها على الحج إلى بيت الله » (209).
ولو صحّ هذا النقل عن ابن تيمية ففي كلامه مؤاخذات شتى، فقد قال: « إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع ».
المؤاخذة عليه هي أنّه: من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم ؟ وقد تقدّم أنّ النهي ليس نهياً تحريميّاً مولوياً، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولذلك فإنّه لو ترتّبت على السفر مصلحة لجاز ذلك السفر مثلما عرفنا من سفر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى مسجد قُباء مراراً.
وقال أيضاً: بأنّ عدم المشروعية اتّفق عليه الأئمّة الأربعة.
ويؤاخَذ عليه: أننا لم نجد نصّاً منهم على التحريم، وإيرادهم للحديث في صحاحهم ليس دليلاً على أنّهم فسّروا الحديث بمثل ما فسّره هو.
وأيضاً: فإنّ قياسه زيارةَ قبور الأنبياء والصالحين على زيارة عامّة المساجد قياسٌ باطل، خصوصاً بعد أن عرفنا عدم جدوى السفر إلى شيء من هذه المساجد العامة؛ لعدم تحقّق أي فائدة سوى تحمّل العناء والتعب، وقد عرفنا أنّ فضيلة أيّ جامع في بلد هي نفسها في بلدٍ آخر، وليس اكتساب الثواب متوقّفاً على السفر، وهذا بخلاف المقام، فإنّ إدراك فضيلة قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يتوقف على السفر إليه.
وأمّا قوله: « إنَّ المسلمين يتّخذون قبور الأولياء أوثاناً وأعياداً، ويُشْرَك بها » فهذا اتّهام كبير للمسلمين الموحِّدين، فكيف يكون مشركاً مَن يشهد كلَّ يوم بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله ؟! وكيف يتّخذ مَن يشهد بذلك قبرَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وثناً ؟! أما ما يصدر من الجهلة المتوهّمين للعبادة بما قد يُعَدّ من الشرك، فليس بموقوف على هذه الأماكن، بل قد يصدر منهم أنفسهم في بيت الله الحرام والمسجد النبويّ أيضاً! فلا يصحّ اتّخاذه ذريعةً للتحريم، وإلاّ لوجب تحريم دخول المساجد كلّها لأجل ما يفعل أمثال هؤلاء، بل وتحريم الحج نفسه! وهذا باطل لا يقول به عاقل.
----------------
186 ـ المواسم والمراسم، لجعفر مرتضى العاملي 53، عن منهاج الفرقة الناجية، عن كتاب السنن والمبتدعات 138 ـ 139.
187 ـ المدخل، لابن الحاج 2:2.
188 ـ صحيح مسلم بشرح النووي 180:15 من كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عليّ بن أبي طالب 1873:4.
189 ـ سنن الترمذي 622/خ 3789، تحقيق: أحمد محمد شاكر.
190 ـ المواسم والمراسم، لجعفر مرتضى العاملي 62 عن رسالة المقصد المطبوعة مع ( النعمة الكبرى على العالم ) و( التوسل بالنبيّ وجهلةُ الوهابيّين 114 ).
191 ـ المواسم والمراسم 63 عن السيرة الحلبية، للحلبيّ 83:1 ـ 84.
192 ـ كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات العصر، لسعيد حوّى. السيرة بلغة الحب والشعر 42.
193 ـ اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية 304.
194 ـ السيرة النبويّة، لابن هشام 154:4 ـ 155.
195 ـ السيرة النبويّة 318:4.
196 ـ صحيح مسلم 65:3 باب استئذان النبيّ ربَّه في زيارة قبر أُمّه.
197 ـ الغدير، للاميني 93:5 عن أكثر من أربعين راوياً من أئمّة المذاهب الأربعة.
198 ـ الغدير 98:5 ـ 100 عن خمسة وعشرين محدِّثاً.
199 ـ الصارم المنكي في الرد على السبكي، للمقدسي 7 ـ ط 1، القاهرة، المطبعة الخيرية.
200 ـ صحيح مسلم 126:4 كتاب الحجّ، باب لا تُشدُّ الرحال. سنن أبي داود 469:1 كتاب الحج. سنن النسائي 37:2 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطيّ.
201 ـ صحيح مسلم 126:4 كتاب الحج، باب لا تشدُّ الرحال. سنن أبي داود 469:1 كتاب الحج. سنن النسائيّ 37:2 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطي.
202 ـ شفاء السقام في زيارة خير الأنام، للسبكيّ 100.
203 ـ الأحكام السلطانيّة، للماورديّ 105.
204 ـ المدخل، لابن الحاجّ 257:1 فضل زيارة القبور.
205 ـ شرح المواهب، للزرقانيّ المالكيّ المصريّ 299:8.
206 ـ إحياء علوم الدين، للغزالي 247:2 كتاب آداب السفر، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت.
207 ـ البدعة، للدكتور عبدالملك السعدي 60.
208 ـ الفتاوى، لابن تيمية. البدعة، للدكتور عبدالملك السعدي.
209 ـ الفتاوى، لابن تيمية. البدعة، للدكتور عبدالملك السعدي.