خديجة بنت خُويلد
لوحة قديمة تمثل زواج النبي محمد (ص) من خديجة (ع)
خديجة بنت خُويلد (ع) أو خديجة الكُبرى كانت أول زوجة للنبي محمد (ص) والتي لم يتزوج عليها أبداً طوال حياتها المباركة.
كانت خديجة (ع) امرأة ثرية تعمل بالتجارة في مكة المكرمة و هي ابنة خُويلد الذي دافع عن الحجر الأسود. في وقت لاحق شاركها النبي محمد (ص) في تجارتها ثم صارت زوجته و أول امرأة أسلمت فساندت النبي محمد (ص) بكل ما تملك من طاقات.
خديجة (ع) لعبت دوراً بارزاً في منذ الساعات الأولى للدين الإسلامي الحنيف في دعم ذلك الدين و أتباعه فكانت هي و أبو طالب (ع) أكبر دعامتين للنبي محمد (ص) و للمسلمين. حتى أثناء الحصار الذي قامت به قُريش و ما رافقه من عناء شديد و الذي استمر ٣ سنوات تحملت خديجة (ع) و صبرت مع النبي محمد (ص) في شدته و واجهت كل ذلك بحكمة و صبر و إيمان قوي بالله سبحانه و تعالى و بنبيه محمد (ص). رغم ذلك لم يعطها بعض المؤرخين ما تستحقه من التشريف مما يليق بمكانتها العظيمة عند الله و رسوله حتى يُحجموا دورها و دور ابنتها فاطمة الزهراء (ع) الأساسي في بناء الإسلام و يُبرزوا أسماء زوجات للنبي لاحقات بعد وفاتها على حساب مكانتها الرفيعة. بسبب ذلك فإن المصادر التي تتحدث عنها قليلة و مبعثرة وحتى تلك المصادر ليست خالية من التفاسير الخاطئة للروايات.ا
خديجة الكبرى (ع) هي ابنة خُويلد ابن أسد ابن عبد العُزّى ابن قُصي من قبيلة قُريش. لم تكن عائلتها مشهورة بالثراء فقط و إنما بحسن الأدب و الأخلاق.
وُلدت خديجة (ع) سنة 565 للميلاد و توفيت في العاشر من شهر رمضان الكريم قبل سنة من الهجرة في سنة 623 للميلاد عن عمر يناهز 58 سنة. من الجدير ذكره أن والدتها توفيت سنة 575 للميلاد و والدها خُويلد توفي في سنة 585 للميلاد فتقاسم أولاده ما ورثوه عنه من ثروة.
خديجة (ع) كانت تتمتع بذكاء حادّ و قوة في الشخصية جعلاها تتجاوز أخطار ما كانت حائزة عليه من ثراء. لقد كانت الوحيدة بين إخوتها التي ورثت أيضاً موهبة التجارة من أبيها حيث استلمت بعد وفاته تجارته و توسعت بها بشكل سريع. و من خلال الأرباح التي كانت تحصل عليها كانت تساعد الفقراء و المحتاجين و اليتامى و الأرامل و المرضى و المعاقين. و كانت أيضاً تساعد الفتيات على الزواج و تعطيهنّ عطية تساعدهن على متطلبات الزواج.
و قد كان لخديجة (ع) عمّ أو خال يشور عليها في مسائل التجارة و كان أفراد عائلتها يساعدونها في إدارة شؤون العمل. من الأسباب الرئيسية لنجاحها كان حُسن اختيارها لمن تتعامل معهم ممن كانواا يتاجرون بأموالها و الذين كانوا يتمتعون بقدر عال من الحنكة التجارية. هذا و عوامل أُخرى جعلت منها أثرى امرأة في مكة. عندما كانت تترك مكة إحدى القوافل التجارية كانت بضائع خديجة (ع) توازي كل بضائع تجار مكة مجتمعة. من أجل ذلك كان سكان مكة يلقبونها بأميرة قريش أو أميرة مكة.
المكيين الذين كانوا لا يعبدون الأصنام قبل الإسلام كانوا أقلاء و منهم كانت خديجة (ع). بعض المؤرخين يتكلمون عن قريب لخديجة (ع) اسمه و رقة ابن نوفل كان له باعٌ أنها كانت موحدة. و لكن وجوده غير مؤكد.
خديجة (ع) كانت في أخلاقها و رفعتها من السمو بمكان حتى أنها لُقبت قبل الإسلام إلى جانب لقبها بأميرة مكة بالطاهرة رغم الجاهلية التي كانت تسود العرب وقتها. هدا اللقب حازت عليه أيضاً فيما بعد ابنتها فاطمة الزهراء (ع). و بعد إسلامها زادت سموّاً و رِفعة حتى أصبحت من سيدات نساء العالمين إلى جانب آسية و مريم و فاطمة عليهنّ سلام الله جميعهنّ. ومن الأحاديث التي تدل على ذلك الحديث النبوي الذي ورد في العديد من المصادر مثل مسند أحمد ومستدرك الحاكم حيث يقول النبي محمد (ص):
أفضل نساء أهل الجنة : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون
و أما ما ادعاه البعض من أن خديجة (ع) تزوجت مرتين قبل زواجها من النبي محمد (ص) ففي ذلك اختلاف كبير. كما ادعى البعض أنها ترملت مرتين. البعض الآخر يجزم بأنها لم تتزوج قبل زواجها من النبي محمد (ص). و على فرض صحة ادعاء زواجها السابق فإن ذلك لم و لن يُنقص من خاصية مكانته و رفعتها عند الله و رسوله (ص). بعض العلماء يجزم بأن مثل تلك الادعاءات اختُلقت كانت فقط لدبلجة ادعاء أن إحدى النساء التي تزوجها النبي محمد (ص) فيما بعد و التي كانت عذراء هي الزوجة المحببة للنبي محمد (ص) مما لا ينسجم مع الواقع بحال من الأحوال.
من الثابت أن الكثير من رجالات مكة أصحاب النفوذ و المال طلبوا الزواج من خديجة (ع) و لكنها رفضت ذلك مما زاد في فضول الناس عن من سيكون زوج المستقبل لها.
في ر بيع سنة ٥٩٥ للميلاد تجمعت قوافل المكيين المتجهة إلى سوريا. خديجة (ع) كانت قد أعدّت قافلتها أيضاً و لكن لم تكن قد وجدت الشخص المناسب الدي يقود قافلتها. و كان أبو طالب (ع) قد سمع بذلك و رأى أن النبي محمد (ص) يملك من الكفاءة ما يؤهله لذلك العمل فعرض ذلك على خديجة (ع) التي سبق لها أن سمعت كبقية أهل مكة عن صدق و أمانة النبي محمد (ص) و هو الملقب بالصادق الأمين. رحبّت خديجة (ع) بذلك و أرسلت معه خادمها ميسرة ليسانده في شؤوون القافلة. ميسرة دُهش من مهارة النبي محمد (ص) في التجارة الذي حقق أرباحاً لم تحصل لخديجة (ع) من قبل و رغم ذلك كان يجد الوقت الكافي ليختلي بنفسه و يتفكر. ميسرة لم يكن يقاطعه أثناء ذلك و كان يزداد إعجاباً بقُدراته (ص) و حب الناس له و ارتياحهم لوجوده المبارك مع أن نبوته كانت ما زالت غبر معروفة للناس حتى ذلك الحين. ميسرة قصّ كل ما رأى منه على خديجة (ع) لا سيما أخلاقه و رفعة تصرفاته بين الناس.
خديجة (ع) كانت قد وجدت في نفسها إعجاباً كبيراً بالنبي محمد (ص) بعد ما سمعت عن كل ما كان عليه حاله في سفره إلى سوريا بالإضافة إلى ما كانت تعرف عنه. و عرفت بذكائها و حنكتها أن هذا الرجل ذي شأن عظيم ليس كمثله شأن. يُروى أن نفيسة بنت مُنية إحدى صديقات خديجة (ع) المقربات قامت بالوساطة و استطاعت أن توصل بقنواتها الخاصة طلب زواج خديجة (ع) من النبي محمد (ص) دون أخذ أي شأن أو عائق مادي بعين الاعتبار. النبي محمد (ص) قبل طلبها و فرح به و هكذا تمّ هذا الزواج المبارك في العاشر من ربيع الأول من سنة ٢٦ قبل الهجرة.
إسلام خديجة (ع) فيما بعد أدى إلى أن المجتمع الجاهلي لم يعد يتقبلها بل و قام بعزلها. و هكذا قلبت خديجة (ع) حياتها رأساً على عقب يشكل يتناسب مع تركيبة المجتمع الإسلامي الحديث العهد و ما يتلاءم مع شخصية عظيمة كشخصية النبي محمد (ص) مثل التخلي عن الرفاهية و الثراء لصالح المعوزين و الفقراء.
خديجة (ع) التي كانت تلقب بأميرة مكة بدأت بحياتها الزوجية في بيت النبي محمد (ص). حياة استمرت حوالي ٢٥ سنة كانت مليئة بالسعادة. منذ اليوم الأول كانت خريصة على سعادة زوجها حرصاً شديداً كما ازداد هذا الزواج بركة بإنجابها لثلاثة أولاد و هم القاسم و إبراهيم الذَين توفيا صغاراً و فاطمة (ع) التي صارت فيما بعد سيدة النساء.
قال النبي محمد صلي الله عليه وآله: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد.
بعض المؤرخين يروون أن ٣ بنات كانت تعيش مع خديجة (ع) في بيتها لما تزوجها النبي محمد (ص) و هنّ زينب و رُقية و أم كلثوم.لكنهنّ لم ينكنّ بناتها و إنما بنات أختها المتوفية و قبلها كان زوجها أيضاً قد توفي فصارت بناتها يتيمة الأم و الأب. وجود الإمام علي (ع) الذي ترعرع منذ نعومة أظفاره عندها و عند زوجها النبي محمد (ص) عوض على خديجة (ع) فقدها لابنيها حيث أخذه النبي محمد (ص) ليعيش عنده بعد أن قبِل عمه أبو طالب (ع) عرضه عليه بذلك نتيجة الجفاف الذي حلّ بمكة و ما لاقاه عمه أبو طالب (ع) من صعوبات مادية لكثرة أولاده. و هكذا كبر الإمام علي (ع) في كنف تلك العائلة الكريمة التي أحاطته بالحب و العناية والتربية الصالحة.
بخصوص حادثة الوحي الأول يوجد العديد من التصورات الخاطئة و التي منها أن خديجة (ع) كانت تقنع النبي محمد (ص) ببعض الأمور. و الواقع حسب الروايات الصحيحة هو أنها كانت أول من اقتنع بكل ما جاء به النبي محمد (ص) و آمنت به و برسالته الشريف. و ها هو النبي محمد (ص) يأتي بعد أول وحي نزل عليه إلى البيت و هو يرجف من خشية الله و من و عظمة الشرف الذي حاز به من الله سبحانه و تعالى بحمله للرسالة فيطلب من خديجة (ع) أن تدثره فتفعل ذلك فوراً مساندة له كما كان عهده بها على الدوام.
فيما بعد صلى النبي محمد (ص) مع خديجة (ع) و الإمام علي (ع) أول صلاة جماعة في تاريخ الإسلام.
الحصار الذي فرضته قريش و الذي استمر ٣ سنوات نال من قِوى خديجة (ع) التي رافقت النبي محمد (ص) في محنته تلك كما فعلت قبل ذيك. و هكذا توفيت خديحة (ع) بُعيد ذلك الحصار في السنة العاشرة بعد البعثة قبل سنة واحدة من الهجرة بعد حياة مليئة بالعطاء و الكرم و الإيمان و الحب و المواساة للنبي محمد (ص). نعم إن خديجة (ع ) توفيت و لكنها لم تمت أبداً في قلب النبي محمد (ص) حيث لم تستطع أي من زوجاته فيما بعد أن تحل محلها في قلبه. كيف ذلك و هي التي بذلت وجودها كله لله و رسوله (ص). فقد كانت بحق أم للمؤمنين بكل جوارحها و إمكانياتها.
قالت عائشة : كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها فذكرها يوماً من الأيام فأدركتني الغيرة ، فقلت : هل كانت إلا عجوزاً ، فقد أبدلك الله خيراً منها .فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : لا والله ما أبدلني الله خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النساء .قالت عائشة : فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبداً (الاستيعاب ، ابن الأثير ، ج2،ص721وأسد الغابه ، ج5 ، ص539).
وقالت عائشة أيضاً : ما غرت على أحد من أزواج النبي (ص) ما غرت على خديجة ، وما بي أن أكون أدركتها ، وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله (ص) وإن كان مما يذبح الشاة يتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن ( أسد الغابة ، ج5،ص438).
وقالت عائشة أيضاً : ما رأيت خديجة قط ، ولاغرت على امرأة من نسائه أشد من غيرتي على خديجة ، وذلك من كثرة ما كان يذكرها (المستدرك على الصحيحين ،ج3،ص186 ).
عن عائشة: إن رسول الله (ص) بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب (الإصابة ، ج4 ص273).
بلى إن ما تتمتع به خديجة (ع) من مكانة سامية و رفيعة في قلوب المسلمين بمختلف مذاهبهم و لا سيما عند محبين أهل البيت (ع) هو من أفضل الشواهد على مكانتها العظيمة و على أنها ما زالت حتى اليوم تعيش في قلوبهم.