هل كان أبو الفضل العباس عليه السلام معصوماً ؟
إنّ مِنَ المُمكنَ جدّاً وليس بمحال على اللّه تعالى، أنْ يُنشىء كياناً لا تقترب منه العيوب، أو يخلق إنساناً لا يقترف الذنوب، ولقد أوجد جلّ شأنه ذواتاً مُقدّسةً، ونفوساً طاهرةً، وجبت فيهم العصمة من الآثام، وتنزّهوا عن كُلِّ رجس: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)[1].
وقد اتَّفق أرباب الحديث والتراجم على حصر هؤلاء المُنزّهين بالخمسة أصحاب الكساء، وهُمْ: محمّدٌ وعليٌّ، وفاطمةُ، والحسنُ والحسينُ عليهمالسلام.
وقد ثبت إمكان أنْ يخلق اللّه تعالى ذواتاً مقدّسة، مُنزّهة عن الأرجاس، معصومة عن الخطأ، وقد يجب ذلك كما في الهداة المعصومين عليهمالسلام ؛ لكي يهدي بهم النّاس[2].
وأمّا في غيرهم من الأطهار فلا يجب، ولكنّه غير ممتنع؛ فمِن المُمكن أنْ يمنحَ الباري سبحانه أفذاذاً من البشر فيكونوا قدوةً لمَن هم دونهم، وتكون بهم الاُسوة في عمل الصالحات، وإنْ كان في مرتبة نازلة عن منزلة الأنبياء المعصومين عليهم السلام؛ فإنّهم وإنْ بلغوا بسبب التفكير والذكر المتواصل، والتصفية والرياضة إلى حيث لا يُبارحون طريق الطاعة، ولا يسلكون إلى المعصية طريقاً، لكنّهم في حاجة إلى مَن يسلك بهم السّبيل الواضح، ويُميّز لهم موارد الطَّاعة وموادّها عن مساقط العصيان والتهلكة، بخلاف الحُججِ المُقيَّضين لإنقاذ البشر، المعنيّون بالعصمة ها هنا.
فمَن كانت عصمتُهُ واجبةً ـ كما في المعصومين عليهمالسلام ـ سُمّيت عصمته استكفائية ; لأنّه لا يحتاج في سلوكه إلى الغير، لكونه في غنىً عن أيّ حجّة ؛ لتوفّر ما اُفيض عليهم من العلم والبصائر، ومَن لم تكنْ فيه العصمة واجبة، وكان مُحتاجاً إلى غيره في سلوكه وطاعته، سُمّيت عصمته غير استكفائية، على تفاوتٍ في مراتبهم من حيث المعرفة والعلم واليقين.
وحينئذ ليس من البدع إذا قلنا: إنّ (قمر بني هاشم) كان مُتحلِّياً بهذه الحلية، بعد أنْ يكون مُصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجه أيُّ شين، وعلى هذا كان معتقد شيخ الطَّائفة وإمامها الحجّة الشيخ محمّد طه نجف قدسسره؛ فإنّه قال بترجمة العبّاس من كتاب (إتقان المقال) ص ٧٥: هو أجلّ من أنْ يُذكر في المقام، بل المناسب أنْ يُذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل التحية والسّلام.
فتراه لم يقلْ عند ذكر رجالات أهل بيته الأعاظم، بل أثبت المعصومين عليهمالسلام منهم، وليس هذا العدول إلاّ لأنّه يرتأي أنْ يجعله في صفِّهم، ويعدُّه منهم.
وتابعه على ذلك العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي، فقال من قصيدته المُتقدّمة:
أجلَّ عبّاسَ الكِتَابُ والهُدَى | والعِلْمُ والدَّينُ وأصحَابُ العَبا | |
عَنْ أنْ يطِيشَ سَهمُهُ فَينثَنِي | والإثمُ قَد أثقَلَ مِنهُ مَنْكِبَا | |
لم نَشتَرِط فِي ابنِ النّبيِّ عُصمةً | ولا نَقولُ إنّه قَد أذْنَبَا | |
وَلا أَقولُ غَيرَ مَا قَالَ بِهِ | (طَه الإمامُ) فِي الرِّجَالِ النُّجبَا | |
فَالفِعْلُ مِنهُ حُجّةٌ كَقولِهِ | فِي الكُلِّ يَروِي عَن ذَويِهِ النُّقَبَا |
وهذه النّظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالمٌ من علماء الشيعة نعرفه بالثقافة العلميّة، والتقدّم بالأفكار النّاضجة، وقد استضأنا من اُرجوزة آية اللّه الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني رحمهالله، التي ستقرأها في فصل المديح، حقائقَ راهنة وكرائمَ نفيسة سمت بأبي الفضل إلى أوج العظمة، وأخذت به إلى حظائر القدس، وصعدت به إلى أعلى مرتبة من العصمّة.
وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته، ما ذكرناه سابقاً في شرح قول الصادق عليهالسلام: «لَعنَ اللّهُ اُمّةً استحلَّتْ منكَ المَحارمَ، وانْتَهكَتْ في قتلِكَ حُرمةَ الإسلامِ».
فإنّ حُرمة الإسلام لا تُنتهك بقتل أيِّ مسلم مهما كان عظيماً، ومهما كان أثره في الإسلام مشكوراً، إلاّ أنْ يكون هو الإمام المعصوم عليهالسلام، فلو لم يبلغ العبّاس المراتب السّماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيت عليهمالسلام لما استحقّ هذا الخطاب، وهذا معنى العصمة؛ نعم، هي غير واجبة. وممّا يستأنس منه العصمة له ما تقدّم من قول السجّاد عليهالسلام: «وإنّ لعمّي العبّاسِ منزلةً يغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداء يومَ القيامة»[3].
ويدخل في عموم لفظ الشُّهداء صريحة بيت الوحي (أبو الحسن علي الأكبر) الذي أفضنا القول في عصمته.
وإذا كان العبّاس غير معصوم، كيف يغبطه المعصوم عليهالسلام على ما اُعطي من رفعة ومقام عالي؛ لأنّ المعصوم لا يغبط غيره؟! فلا بدّ أن للعبّاس أعلى مرتبة من العصمة كما عرفت، ومن هنا غبط منزلته التي اُعدّت له جميع الشُّهداء حتّى مَن كان معصوماً كعلي الأكبر وأمثاله، غير الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.
_________________________
[1] سورة الأحزاب / ٣٣.
[2] السّيرة الحلبيّة ١ / ٨٧، البداية والنّهاية ٢ / ٣٢٥، إمتاع الأسماع للمقريزي ٤ / ٥٧، مجمع الزوائد للهيثمي، وهو ليس تعليلاً من النّبيِّ صلىاللهعليهوآله، وإنّما حديث مروي عنه صلىاللهعليهوآله ورد فيه: «مِنْ كَرامَتي على ربِّي عزَّ وجل أنْ وُلدتُ مختوناً، ولم يرَ أحدٌ سَوأتي». وقد اختلفوا في تصحيح هذا الخبر وتضعيفه، ففي السّيرة الحلبيّة في نفس المصدر قال:... جاءت أحاديث كثيرة في ذلك، قال الحافظ ابن كثير: فمِن الحفّاظ مَن صحَّحها، ومنهم مَن ضعَّفها...
[3] الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٨، الخصال / ٦٨، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٧٤، والنّص: «وإنّ للعبّاسِ عند اللّه تبارك وتعالى منزلةً عظيمةً يغبطُهُ بها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامة».