من أسرار الحج العرفانية
إنّ من أهم أبعاد الحجّ البعد العرفاني، والذي يقصد منه معرفة مناسك الحجّ وآدابه المعنويّة المبتنية على الحقائق وبآيات الشهود والإشراق والوصول والاتّوحد مع الحقيقة، وبتهذيب النفوس وصيقلة القلوب، حتّى تكون كالمرآة تنطبع فيها حقائق الأشياء من دون التجشم للاستدلال عليها بالعقل والبراهين العقليّة، أو النقليّة والسمعية فمن ينظر إلى الحجّ من هذه الزاوية فانه يقف على خزين من الحقائق والمعارف والأسرار الخفيّة والألطاف الجليّة تؤثّر في سيره السلوكي وفي تماميّة الحجّ العبادي والعرفاني والعملي.
ومن أهم الأسرار العرفانيّة في الحجّ…
۱ ـ توحيد الله ومعرفته والسير الاعتقادي بين المبدء والمعاد المتمثل بالتوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي، حتّى يزيد في إيمان المرء ويقينه وهدايته، فانّ الحجّ يجسّم لنا التوحيد، ونفي الشرك بكلّ مظاهره ومعالمه فالحج سير من الله وإلى الله، وممّا سوى الله إلى الفناء في الله والبقاء به.
قال الامام الصادق(ع): «زُر البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه».
۲ ـ التقرب إلى الله سبحانه فان الحاج بعد معرفة ربّه لا يتوقّف عن المسير إليه، بل يسعى بين صفاء الروح ومروّة القلب، ويطوف حول كعبة الحبّ الإلهي، ليشرب من زمزم طهوره، ويقف في عرفاته ومشاعره ليتمنى على ربّه.
وهذا القرب لم يكن بزمان ومكان، بل بالقرب القلبي والمعنوي من ربّه، فيراه حاضراً ويناجيه في سرّه، فيَفّر إليه خفافاً وثقالاً بحج وعمرة، فيتخلص من كلّ الرذائل ليتحلى بكلّ الفضائل، فيأنس بربّه ليخرق الحجب النورانيّة في عالم الأرواح والعقول، والظلمانيّة في عالم الاشباح والمُثُل، حتى يصل إلى ربه قاب قوسين أو أدنى في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال الامام الرضا(ع):«انّ علّة الحجّ… التقرّب في العبادة إلى الله عزّوجلّ». فمن يقصد مكّة حجّاً إنّما يحج إلى ربّه ويقصد الله في عرشه وفي دعاء سفره يقول: «بسم الله دخلت، وبسم الله خرجت، وفي سبيل الله… أنا عبدك وبك ولك» فحري بالحاج أن لا يضيع حجّه بالرفث والفسوق والجدال والقيل والقال.
۳ ـ الضيافة الأبديّة للّه سبحانه: فان الخلق كلّهم في ضيافة الله بالمعنى الأعم على مائدة إسم الرحمن «وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» كما إن المسلمين في شهر رمضان في ضيافة الله سبحانه بالمعنى العام، وفي مكّة المكرّمة في أيّام معدودات في ضيافة بالمعنى الخاص، ومن زار الانسان الكامل النبي والامام المعصوم عليهم السلام وهو عارف بحقّه، فانّه كان من أكرم الوفود على الله سبحانه، وكان في الضيافة الالهيّة بالمعنى الأخصّ.
فالحج ضيافة الله ومأدبته بإسم الرحمن الرحيم ( إنّ علّة الحجّ الوفادة إلى الله تعالى ) «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».
قال الصادق (ع): «إنّ ضيف الله عزّوجلّ رجل حج وإعتمر، فهو ضيف الله حتّى يرجع إلى منزله». قال أميرالمؤمنين علي(ع): «الحاج والمعتمر وفد الله، وحق الله أن يكرم وفده ويحبوه بالمغفرة».
۴ ـ من الأسرار العرفانيّة في الحجّ استحكام الجانب المعنوي والروحي، فان للزمان والمكان والمناسك المقدّسة آثار معنويّة وروحيّة تنعكس على الروح الانسانيّة، فانّها ممّا توجب طهارة وسلامة الباطن، وتفعّل الإيمان والدين بقوّة ويقين.
قال أميرالمؤمنين علي(ع): «والحجّ تقوية الدين». وقال الامام الرضا(ع) في فلسفة الحجّ: «وحظر النفس عن الفساد». فالحج شفاء من كلّ سقم وداء روحي ونفساني ومن الأمراض القلبيّة.
۵ ـ تجلّى العبوديّة والمقياس في الطاعة كمّاً وكيفاً: ورد في الحديث القدسي: «خلقت الأشياء من أجلك وخلقتك من أجلي» «عبدي أطعني حتّى أجعلك مثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون» «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة» فالمقصود من الخلق وسرّ الخليقة وفلسفة الحياة هو العبادة والمعرفة، وهذا ما يتجلّى في الحجّ بصورة أبهى وأجلّ، فانّه تسليماً للّه يحرم ويحرم على نفسه المحرّمات، ثمّ يطوف مع الطائفين ويركع ويسجد مع الراكعين والساجدين ويسعى ويجمع الحصى ويرمي ويذبح ويحلق ويقصّر ( لبّيك بحجّة حقّاً تعبّداً ورقّاً ) فالحج يكمل للعبد مقام عبوديته للّه سبحانه وتعالى.
۶ ـ الرياضة الشرعيّة للاُمّة الاسلاميّة: فانّ الحجّ دورة كاملة في الرياضيّات الشرعيّة التي تعين السائر والسالك إلى الله سبحانه في سيره العرفاني، فان الحجّ هو الجهاد الأصغر، ومحطّات إيمانيّة لدرك الفيوضات الالهيّة، والكمالت الانسانيّة «نعم الجهاد الحجّ».
۷ ـ التذكير بالموت والمعاد: الحجّ جسر عابر بين الدنيا والآخرة، فانّه في مناسكه يذكر الانسان بيوم القيامة، فمن أحلى مشاهده ساعة الميقات ومكانه وبعد لبس ثوبي الاحرام، كانما يرى الحاج نفسه في محشر القيامة، بانتظار ساعة الطواف، وكأنّها ساعة الحساب.
قال الامام الصادق(ع): «ولا شرع نبيّه في حلال وحرام ومناسك على ترتيب ما شرعه، إلاّ الاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفصل بيان السبق في الدخول الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها، بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لاُولى الألباب واُولى النهى». فسفر الحجّ أشبه ما يكون بسفر الآخرة وعقباته من الاحتضار والموت والقبر والحشر والمعاد، لمن كان من ذوي الألباب والعقول النيّرة والخالصة من شوائب الدنيا والمعاصي والرذائل.
۸ ـ الانقطاع إلى الله: من همّة العرفاء في سيرهم وسلوكهم الانقطاع ممّا سوى الله، وكمال الانقطاع إليه ( وهب لي كمال الانقطاع إليك ).
قال الامام الصادق(ع): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك للّه عزّوجلّ من قبل عزمك، من كلّ شاغل وحجاب كلّ حاجب». هذا وإذا أردت التفصيل فراجع کتابنا (من أسرار الحجّ والزيارة) والحمد لله ربّ العالمين.