الجهاد والتضحية والشهادة عوامل تعبّد طريق النصر
الإنسان في هذه الدنيا وهذا العالم المادي لا يستغني في أي أمر من أموره التي يرغب في تحقيقها عن بذل الجهد ومعاناة التعب.
إن هذا الأمر من خصوصيات عالم الدنيا، فهو عالم محدود مقيد بالزمان والمكان والظروف والأوضاع، وفيه الكثير من المنافيات والمنغصات والموانع التي تعارض الإنسان وتقف في طريقه وتمنعه من الوصول إلى أهدافه، وتحقيق النصر والنجاح الذي يأمل به في ما يسعى إليه؛ فالتضحية والجهاد هما الطريق الوحيد لتحقيق النصر ولا طريق غير ذلك، وخصوصاً في مجال مواجهة العدو المعتدي الذي يريد احتلال الأرض، والظالم الذي يعمل مع الناس بالجور.
الشهادة أعظم التضحيات
إن أعظم الآمال لدى الإنسان وأسمى الأهداف عند البشرية جمعاء الحرية والكرامة. فالإنسان يرى سعادته في أن يعيش عزيز النفس حراً لا يظلمه أو يقهره أو يستعبده أحد، ولا يعتدي على كرامته أحد، أو يعتدي على من ينتسب إليه من ولده وأهله وزوجه وخدمه بل وحيواناته، وكل ما يملكه من بيته وأرضه.
يسري هذا الشعور إلى شعبه وأمته وإلى أرض وطنه وبلده، فإن أي اعتداء على كل هذه الأشياء يعتبره إهانة وإذلالاً وظلماً له فينطلق للدفاع عنه بكل ما لديه من قوة وإمكانات. ويكون الإنسان عادة في مثل هذه الحالات مستعداً للموت في سبيل ما ذكر، ولا يتوانى عن تقديم نفسه شهيداً وقتيلاً من أجل وطنه وأرضه وشعبه. وهذه الشهادة تعتبر من أعظم التضحيات التي يمكن أن يقدمها الإنسان، ولا يوازيها في القيمة أي تضحية أخرى.
إن البشرية جمعاء وعلى مدى العصور، وفي مختلف أنحاء الأرض، ومع تنوع واختلاف مذاهبها ومشاربها ومعتقداتها تعظم وتقدّس المجاهد والمضحي والمقتول والشهيد دفاعاً عن مقدساته من الأرض والوطن والشعب والمعتقدات. وتقدس من وقف في وجه الظالم دون أن يملك القوة اللازمة المادية لمواجهته حتى يُقتل، وتقيم لمثل هذا الشخص التماثيل، والاحتفالات السنوية بذكراه، حيث يعتبر عنواناً للحرية والكرامة بالنسبة لأمته، يُقتدى به، وتسجل بطولاته في تاريخ الأمة وتعلم للأجيال، حيث إن الأمم تعتبر أن الوطن أمر يستحق أن يقتل المرء لأجله وتدعو أفراد هذا الوطن للتهيؤ والاستعداد لهذه التضحية العظيمة، وتعتبر أنها السبيل الأسمى لتحقيق النصر وهزيمة العدو.
الجهاد والشهادة في الإسلام
إن هذين المفهومين لهما مكانة عظيمة في الإسلام على نفس المنهج والدين الذي سارت عليه البشرية، ولم يخترع الإسلام هذين المفهومين، ولم يكن وحده الذي يأمر بالدفاع والقتال ضد الظلم والعدوان، وقد أقر ما عملت به البشرية، وعظم ما عظمته وقدسته، فقدس الجهاد والشهادة، وقدّس المجاهدين والمضحين بأنفسهم من أجل دينهم ووطنهم وشعبهم، واعتبر هذين العنوانين سبيل النصر.
ولقد كان قادة هذا الدين في مقدمة المضحين والمقدمين لأنفسهم لأجل هداية البشر ودعوتهم إلى الحق والدفاع عن المستضعفين كنبينا محمد (ص) وأمير المؤمنين (ع) والحسن والحسين (عليهما السلام)، وهكذا أولاد الحسين (عليهم السلام) من الأئمة الطاهرين. وقد روي عنهم: ما منا إلا مقتول أو مسموم. وآخر إمام سيقوم كما نعتقد ويعتقد جميع المسلمين بل حتى الأديان السماوية الأخرى يعمل على تلخيص البشرية من الظلم حتى يستشهد.
الجهاد والتضحية والشهادة عناوين للنصر
يقول الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم: {..هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۱۰ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الصف: ۱۰ ـ ۱۱).
فالجهاد هو سبيل النجاة من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «إن الله عزَّ وجلَّ فرض الجهاد وعظمه وجعله نصره وناصره والله ما صلحت دنيا ولا دين إلا به…»(۱).
وبالمقابل من ترك الجهاد تكون النتيجة ذله وذل أمته، عن الإمام جعفر الصادق (ع): «… فمن ترك الجهاد ألبسه الله عزَّ وجلَّ ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه…»(۲).
وفي حديث عن أمير المؤمنين (ع) في خطبة الجهاد
«… والجهاد هو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وفارق الرضا، وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالاسداد، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف…»(۳).
والمجاهد إنما يحقق أهدافه الخاصة وآمال نفسه في جهاده ولا يصل إلى الله عزَّ وجلَّ من جهاده شيء، وما أمر الله بالجهاد إلا من أجل الإنسان ليكون سليم النفس منساقاً مع الفطرة البشرية، قال تعالى: {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت: ۶).
بل يمكن اختصار الإسلام بكلمة الجهاد، فالإسلام جهاد ضد الجهل بالعلم، وضد الكفر بالعقائد الحقّة، وضد المفاسد الأخلاقية بجهاد النفس وضد الفساد الاجتماعي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضد العدوان والظلم بالقتال في سبيل الله، وضد الفقر بالأحكام المالية لصالح الفقراء. والجهاد والجهد هو السبيل لتحقيق النصر في كل هذه المعارك. وهذا ينسجم مع المعنى اللغوي للجهاد، كما في حديث مروي عن الإمام الصادق (ع): «الجهاد على أربعة أوجه… ».
حب الشهادة
إن عنوان الشهادة وإن كان مصطلحاً شائعاً إلا أنه مفهوم إسلامي لم يكن لدى الأديان أو الشعوب غير الإسلامية، وقد استعاره الآخرون من الدين الإسلامي حتى صار شائعاً عند المسلمين وغيرهم.
إن الشاهد والشهيد هو من وصل إلى درجة عالية من الكمال المعنوي والروحي بحيث يفني نفسه في إرادة الله سبحانه وتعالى، فإما أن تموت نفسه قبل الانتقال إلى عالم الآخرة أو ينتقل بالموت في سبيل الله، فيستحق أن يكون شاهداً على أمته وشهيداً عليها في الدنيا والآخرة.
وعليه تكون الشهادة باباً إلى عالم النور والسعادة المطلقة والخلود في منازل القرب الإلهي، ومنزلته خاصة كما يعبر الله تعالى في القرآن بقوله عزَّ وجلَّ:
{فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (الزمر: ۶۹). لهذا يسعى العارفون بالله والقلوب العاشقة والمتوجهة لعالم القدس إلى الشهادة برغبة وشوق وحنين للقاء المحبوب، في عروجها، وتصير دافعاً قوياً للمؤمنين للسعي نحو الجهاد سعياً وراء شربة القتل في سبيل الله عزَّ وجلَّ، والشهادة التي هي وحدها تطفيء ذلك الشوق.
لذلك يرى الشهيد أنه حقق النصر على كل ما يقف في طريقه في سعيه إلى الله سبحانه حيث تجاوز كل العقبات والحجب الدنيوية والمعنوية العلمانية والنورانية، والتحق بالحياة الحقيقية التي هي حياة الروح في مقام عظيم مختص به كما قال سبحانه: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۱۶۹ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم…} (آل عمران: ۱۶۹ ـ ۱۷۰).
وقال عزَّ وجلَّ: {وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ…} (الحديد: ۱۹).
فهم عند الله والله قبلتهم لا شيء غيره، يسيرون إليه في طريق لا يقف أمامهم فيه شيء دونه كما في الحديث عن الإمام الصادق (ع): «… للجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه فإذا هو مفتوح وهم متقلدون سيوفهم والجمع في الموقف والملائكة ترحب بهم…»(۴).
لهذا نجد حب الشهادة على مدى تاريخ الأمة الإسلامية في الجهاد الحق ضد الباطل والظلم. وهكذا في مقاومتنا الإسلامية في لبنان تأججت نار الشوق في قلوب المجاهدين فهبّوا بقوّة وبشدّة يدمرون أعداء الدين والوطن بهذا الدافع ويبكون إذا حرموا من هذا الأمر الذي يرونه نعمة وكرامة لهم ومنزلة رفيعة.
لذلك نحن لا نرى الإمام الحسين (ع) منهزماً ولا هو يرى ذلك، فقد اختار الشهادة على الحياة والرضوخ للظلم والرضا به ونال مقام الشهادة هو وأصحابه كما أخبره رسول الله (ص). إن الجهاد والتضحية والشهادة هي حقائق معنوية وروحية ستبقى الأمم المستضعفة والشعوب المقهورة محتاجة لها من أجل حريتها المادية والمعنوية ومن أجل انتصارها في المجال المادي والروحي، كما مر في الحديث عن الإمام الصادق (ع): «… فمن ترك الجهاد ألبسه الله عزَّ وجلَّ ذلاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه…»(۵).
________________
(۱)الكافي، ج۵، ص۸٫
(۲)م.ن، ج۵، ص۲٫
(۳)م.ن، ج۵، ص۴٫
(۴)الكافي، ج۵، ص۲٫
(۵)منتهى المطلب، العلامة الحلّي، ج۲، ص۸۹۸٫