الأدلة على إيمان أبي طالب (عليه السلام)
الأدلّة على إيمان أبي طالب (عليه السّلام)(*)
لقد نظرت في الكتب التي تحدّثت عن إيمان أبي طالب (عليه السّلام) فوجدت أنها تثبت إيمانه بطرق شتى ؛ إلاّ أنّ الغالب فيها هو إثبات إيمانه عن طريق الأشعار التي أنشدها , وكأنّه (رضي الله عنه) قد تعمّد إنشاء تلك الأبيات التي تقارع المعلقات لكي يصفع بها بشجاعته المعهودة التي ورثها من أبيه وجه كلِّ ناصبي أو غير ناصبي تجرّأ وقال بكفره .
فنجده تارة يقرّ ويصرّح بالوحدانية , واُخرى بالنبوة , وفي أبيات اُخرى يحثّ ابنه جعفر على الإيمان بالنبي (صلّى الله عليه وآله) ، بل فيها ما يصرّح منها بأنّه مؤمن بالنبي (صلّى الله عليه وآله) , لكن السؤال المتبادر هنا هو : هل توجد طرق اُخرى لإثبات إيمان أبي طالب غير الأشعار التي أنشدها ؟
الجواب : أنّ إيمان أبي طالب واضح وجلي جداً ، وهو (رضي الله عنه) أظهر إيمانه وإسلامه في عدة مواضع ؛ إمّا بالعمل أو بالقول ، بل لا يخلو حدث يُنقل إلينا لأبي طالب إلاّ وفيه موقف مشرّف نفهم منه مدى ارتباطه بابن أخيه (صلّى الله عليه وآله) وبرسالته ، وإليك بعض من هذه الطرق والمواقف التي نفهم منها إسلامه وإيمانه :
أوّلاً : الاُسرة والبيت الذي تربّى فيه ؛ حيث إنّه تربّى في بيت قائم على دين إبراهيم الخليل ، وربّ ذلك البيت زعيم من زعماء قريش , إنّه عبد المطلب ؛ حيث رأى أبو طالب (عليه السّلام) في أبيه ـ كما في السيرة الحلبية وينابيع المودة ـ ذلك الزعيم المطاع , والرجل المهيوب , يقول فينفذ القول , ويحكم فلا يُرد الحكم , وهو الجواد المعطاء , والسخي الفذ , يطعم فينال من الطعام راكب البعير وهو على ظهر بعيره , ويرفع من مائدته على قمم الجبال لتنال من طعامه طيور الفضاء ووحوش الصحاري حتّى لُقّب بالفياض .
وأنّه ليراه مجاب الدعوة ، يدعو الله فتُلبّى دعوته ، فهو مرضي عنه في السماء ومحمود في الأرض حتّى دُعي (شيبة الحمد) , وأنّه ليحرّم الخمر على نفسه , ويحرّم نكاح المحارم , ويحدد الطواف بالبيت سبع مرات بعد أن كان غير محدود , وينهى أن يطوف عابر بالبيت ، ويقطع يد السارق , ويحرّم الزنا , وينهى عن الموءودة , وأن يُستقسم بالأزلام , وأن يُؤكل ما ذُبح على النصب , ويسن الوفاء بالنذر , وهو إلى كلِّ هذا يرفض أن يخفض الهام ليسجد لصنم فيعبد حجرة صماء أو خشبة بالية .
إضافة إلى ذلك نجد أنّ منزل عبد المطلب من أبرز المنازل المتّبعة للحنيفيّة هو وبعض المنازل فقط كما يذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرحه ؛ ومن هنا لا يكون من الغريب بمكان أن يخرج أبو طالب ويتربّى على الإيمان كما هو حال اُسرته وآبائه الأمجاد ، فيؤمن بالنبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) كما أمره أبوه عبد المطلب قبل موته .
ثانياً : مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أبي طالب , وهي كثيرة , وسأذكر منها موقفاً واحداً متفقاً عليه , وهو ما نقله شمس الدين عن أبي الفضل شاذان بن جبرائيل (رحمه الله) , بإسناده إلى الشيخ أبي الفتح الكراجكي يرفعه قال : أصابت قريش أزمة مهلكة وسنة مجدبة منهكة ، وكان أبو طالب (رضي الله عنه) ذا مال يسير وعيال كثير , فأصابه ما أصاب قريشاً من العدم والجهد والفاقة ، فعند ذلك دعا رسول الله عمّه العباس فقال له : (( يا أبا الفضل , إنّ أخاك كثير العيال , مختل الحال ، ضعيف النهضة والعزيمة , وقد نزل به ما نزل من هذه الأزمة ، وذو الأرحام أحق بالرفد وأولى بحمل الكلّ في ساعة الجهد ، فانطلق بنا إليه لنعينه على ما هو عليه , فلنحمل عنه بعض أثقاله , ونخفف عنه من عياله ؛ يأخذ كلّ واحد منا واحداً من بنيه ؛ ليسهل ذلك عليه بعض ما ينوء فيه )) .
فقال العباس : نعم ما رأيت , والصواب فيما أتيت ، هذا والله الفضل الكريم , الواصل الرحيم . فلقيا أبا طالب فصبّراه , ولفضل آبائه ذكّراه , وقالا له : إنّا نريد أن نحمل عنك بعض المال , فادفع إلينا من أولادك من تخفّ عنك به الأثقال .
فقال أبو طالب : إذا تركتما لي عقيلاً وطالباً فافعلا ما شئتما . فأخذ العباس جعفراً , وأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السّلام) , فانتخبه لنفسه , واصطفاه لمهم أمره , وعوّل عليه في سره وجهره ، وهو مسارع لمرضاته , موفّق للسداد في جميع حالاته .
والآن نقول ونتساءل : هل ما قام به الرسول (صلّى الله عليه وآله) تجاه عمّه فيه شفقه ورأفة له أم لا ؟ فإن قيل بأنّه لا شفقة فيه فهذا ما لا يقبله العقل ؛ لأنّ القصة ظاهرة في ذلك ، وإن قيل بأنّ موقف الرسول (صلّى الله عليه وآله) فيه شفقة ورأفة على أبي طالب فعند ذلك نقول :
لا شك بأنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أفضل المؤمنين ، والمؤمنون لا يشفقون ولا يرأفون بغير المسلمين , وهم أشدّاء على الكافرين كما نص على ذلك القرآن الكريم : (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) , وقال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) , فالرسول (صلّى الله عليه وآله) عندما أشفق ورحم أبا طالب رحمه لأنّه مؤمن , وإلاّ لم يرحمه ؛ لأنّه لو كان كافراً وأشفق عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكان (صلّى الله عليه وآله) قد خالف بذلك صفات المؤمنين , وأصبح محباً للكافرين وميّالاً لهم , وهذا ما لا يجوز وصفه به ؛ لأنّ الرسول لا تأخذه في الله لومة لائم , ولا تطغى عليه عاطفته تجاه أرحامه على حساب الدين , وبهذا يثبت أنّ أبا طالب كان مؤمناً , وإلاّ لما أشفق عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) .
ثالثاً : مواقف أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من أبي طالب (رضي الله عنه) .
ذكر غير واحد , ومنهم سبط ابن الجوزي في تذكرة خواصّ الأمة , أنّ لأمير المؤمنين (عليه السّلام) في أبيه أبي طالب (رضي الله عنه) أبياتاً يرثيه بها , وهي :
أبا طالبٍ عصمة المستجير وغيث المحول ونور الظُلمْ
لقد هدَّ فقدك أهل الحفاظ فصلّى عليك وليُّ النعمْ
ولقّاك ربُّك رضوانه فقد كنت للمصطفى خيرَ عمْ
وفي هذه الأبيات نقول ما قلناه قبل قليل من أنّه من القبيح ومّما لا يجوز لأمير المؤمنين (عليه السّلام) وسيدهم أن يترحّم على الكافرين , وتأخذه العاطفة تجاههم , بل لا بدّ عليه أن يذمّه على قبح فعله وسالف كفره , ويفعل به كما فعل إبراهيم (عليه السّلام) كما في الآية (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) , إلاّ أنّ علياً (عليه السّلام) ترحّم على أبيه بقوله : (فصلّى عليك ولي النعم) , ممّا يدل على أنّه لم يمت إلاّ على الإيمان ؛ ولذلك استحق أن يُصلّى عليه ، وإلاّ لزم أن يمدح علي (عليه السّلام) كافراً , وهو حرام , والقول بهذا يستلزم نسبة ما لا يجوز لعلي (عليه السّلام) .
رابعاً : ذكر غير واحد , ومنهم ابن أبي الحديد في شرح النهج ، واُسد الغابة ، أنّه كان يدعو الناس إلى الإسلام ، فلو كان غير مسلم لما دعا غيره إليه ! فنجده قد دعا ملك الحبشة إلى الإسلام , وكذلك دعا ولده جعفراً وأمره بأن يصل جناح ابن عمه في الصلاة ، وهو أيضاً الذي دعا زوجته فاطمة بنت أسد إلى الإسلام , وأمر حمزة بالثبات على هذا الدين وأظهر سروره بإسلامه .
وكذلك الحال بالنسبة لولده أمير المؤمنين (عليه السّلام) ؛ فإنّ كل هذه المبادرات والدعوات منه (رضي الله عنه) تدلّ بأبلغ الدلالات على أنّه كان مؤمناً بابن أخيه ورسالته , وإلاّ لما دعا إليه , فكيف يدعو الناس إلى دين لا يؤمن به ؟! وكيف يتسنى لنا بعد هذا أن نقول بكفره ؟!
إنّ الأمر بعد كلِّ هذا ينعكس ويمنحنا الحقَّ بأن نطالب من ادّعى كفره بالدليل ؛ لأنّ ظاهر حاله الإيمان , فإذا ادّعى شخص ما أنّه مات كافراً وجب عليه أن يبيّن دليلاً على مدّعاه ، وليت شعري ! من أين لهؤلاء الفسقة الفجرة بالدليل وهم الذين عوّدونا على طرح كل ما هو فاسد ورديء دون دليل ؟! وإن استندوا إلى ما يشبه الدليل فإنّه دائماً وأبداً ـ كما ثبت ـ يكون أوهن من بيت العنكبوت .
خامساً : ما ذكره السيد جعفر العاملي في الصحيح من سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ج 3 , معتمداً في ذلك على عدة مصادر , منها : السيرة الحلبية ج 1 , وثمرات الأوراق , ومصادر اُخرى أنّ هذا الرجل العظيم قد صرّح في وصيته بأنّه كان قد اتخذ سبيل التقية في شأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) , وأنّ ما جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد (قبله الجنان وأنكره اللسان ؛ مخافة الشنآن) , وأوصى قريشاً بقبول دعوة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومتابعته على أمره ؛ ففي ذلك الرشاد والسعادة .
سادساً : ما ذكره الشيخ المفيد (رحمه الله) من الأخبار المتواترة التي لا يختلف فيها من أهل العقل اثنان , أنّ قريشاً أمرت بعض السفهاء أن يلقي على ظهر النبي (صلّى الله عليه وآله) سلى (جلد الناقة) إذا ركع في صلاته , ففعلوا ذلك ، وبلغ الحديث أبا طالب ، فخرج مسخطاً (مغضباً) ومعه عبيد له , فأمرهم أن يلقوا السلى عن ظهره (صلّى الله عليه وآله) ويغسلوه ، ثم أمرهم أن يأخذوه فيمرّوه على سبال (شارب) القوم , وهم إذ ذاك وجوه قريش ، وحلف بالله أن لا يبرح حتّى يفعلوا بهم ذاك ، فما امتنع أحد منهم عن طاعته , وأذل جماعتهم بذلك وأخزاهم . (راجع تفسير القرطبي ج 6) .
ثمّ إنّ الشيخ المفيد يقول : وفي هذا الحديث دليل على رئاسة أبي طالب على الجماعة , وعظم محله فيهم , وأنّه ممن تجب طاعته عندهم , ويجوز أمره فيهم وعليهم ، ودلالة على شدة غضبه لله (عزّ وجلّ) ولرسوله (صلّى الله عليه وآله) وحميته له ولدينه ، وترك المداهمة والتقية في حقّه , والتصميم لنصرته , والبلوغ في ذلك إلى حيث لم يستطعه أحد قبله ولا ناله أحد بعده .
سابعاً : ما ذكره أيضاً الشيخ المفيد من إجماع أهل السير ونقلة الأخبار أنّ أبا طالب لمّا فقد النبي (صلّى الله عليه وآله) ليلة الإسراء جمع ولده ومواليه وسلّم إلى كلِّ رجل منهم مُديه , وأمرهم أن يباكروا الكعبة , فيجلس كل رجل منهم إلى جانب رجل من قريش ممّن كان يجلس بفناء الكعبة , وهم يومئذ سادات أهل البطحاء , فإن أصبح ولم يعرف للنبي (صلّى الله عليه وآله) خبراً وسمع فيه سوءاً أومأ إليهم بقتل القوم ، ففعلوا ذلك .
وأقبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى المسجد مع طلوع الشمس , فلمّا رآه أبو طالب قام إليه مستبشراً , فقبّل بين عينيه , وحمد الله (عزّ وجلّ) على سلامته , ثمّ قال : والله يابن أخي , لو تأخّرت عني لما تركت من هؤلاء عيناً تطرف ، وأومأ إلى الجماعة الجلوس بفناء الكعبة من سادات قريش ، ثمّ قال لولده ومواليه : أخرجوا أيديكم من تحت ثيابكم . فلمّا رأت قريش ذلك انزعجت له , ورجعت على أبي طالب بالعتب والاستعطاف فلم يحفل بهم . (راجع لذلك الطبقات الكبرى ج 1 , والحجة على الذاهب) .
ولم تزل قريش بعد ذلك خائفة من أبي طالب , مشفقة على أنفسها من أذى يلحق النبي (صلّى الله عليه وآله) , وهذا هو النصر الحقيقي النابع عن صدقٍ في الولاية , وبه ثبتت النبوة , وتمكّن النبي (صلّى الله عليه وآله) من أداء الرسالة ، ولولاه ما قامت الدعوة .
ثامناً : الحديث المشهور الذي نقله الثقات وتظافرت به الروايات , وهو قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) : (( نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية )) , وكذلك قوله (صلّى الله عليه وآله) : (( لم أزل اُنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات حتّى اُسكنت في صلب عبد الله ورحم آمنه بنت وهب)) . (يمكنك أن تراجع لذلك شرح النهج لابن أبي الحديد ج 3) .
وقد يقف القارئ لهذه الأحاديث متعجّباً حائراً من شدة وضوح هذه الألفاظ في طهارة آباء وأعمام النبي (صلّى الله عليه وآله) , وقد يقف ضاحكاً لشدّة جهل من رموا أبا طالب بالكفر ! فكيف يكون هذا الرجل كافراً نجساً (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ويقول عنه الرسول بأنّه من أصلاب شامخة طاهرة ؟! فهل يصح أن يجتمع الكفر والطهارة ؟!
تاسعاً : خطبته في زواج النبي (صلّى الله عليه وآله) كما نقل ذلك صاحب السيرة النبوية ج 1 , والسيرة الحلبية , وشرح النهج لابن أبي حديد ج 3 , وإليك مقدار الحاجة من هذه الخطبة : الحمد لله الذي جعلنا من ذرّيّة إبراهيم وزرع إسماعيل ... وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحزماً آمناً , وجعلنا حكّام الناس .
ثم إنّ ابن أخي هذا ـ محمّد بن عبد الله ـ لا يُوزن برجل إلاّ رجح به شرفاً ونبلاً وعقلاً , فإن كان في المال قلّ ؛ فإنّ المال ظلٌّ زائل , وأمر حائل , وعارية مستوجعة , ومحمّد من قد عرفتم قرابته ... وقد خطب خديجة بنت خويلد ... وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم , وخطر جليل جسيم .
هذه الخطبة من أبي طالب تدلّنا على شيئين , ونلمس منها ظاهرتين يُقرّها أبو طالب :
ـ لقد افتتح مقاله بحمد الله الذي جلعهم من ذرّيّة إبراهيم وزرع إسماعيل , فلم تنل منهم الوثنية المنحطّة , ولم تُدنّسهم بأوضارها , فكانوا عنصراً ممتداً ، وإشعاعةً باقية تتّصل بالنور الأوّل وتبقى رمزاً أبدياً , ودعوة ممتدة للحنيفيّة البيضاء , وأنّ هذه الظاهرة التي امتازوا بها جعلت منهم حَضنة البيت الحرام الذي شاده ـ بأمر عن الله ـ أبوهم الخليل , فهم وحدهم سوّاس الحرم , وبذلك كانوا حكّام الناس .
غير أنّ هذا كلّه ليس غير مقدمة لما بعده ، فراح يشيد بقيمة ابن أخيه المعنوية , فهو : الكميل من بين هؤلاء كلهم , والراجح الكفّة في ميزان القيم والمعنويات , فليس من يدانيه في صفاته ومزاياه , وهو بعد هذا سيبلغ ما لم يبلغه اليوم , فله بعد هذا ـ ويُقسم عندئذٍ بالله , وللقسم هنا معناه وقيمته في ما يذهب إليه ـ شأن عظيم وخطر جسيم .
عاشراً : جنازته (رضي الله عنه) , فقد نقل أبو الفضل بن شاذان وآخرون عن المفيد قال : لما مات أبو طالب (رحمه الله) أتى أمير المؤمنين علي (عليه السّلام) النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) فأذنه بموته , فتوجّع النبي (صلّى الله عليه وآله) توجّعاً عظيماً , وحزن حزناً شديداً حتّى سمّى ذلك العام بعام الحزن , ثم قال لأمير المؤمنين (عليه السّلام) : (( امضِ يا علي فتولّ أمره , وتولّ غسله وتحنيطه وتكفينه ، فإذا رفعته على سريره فأعلمني )) .
ففعل ذلك أمير المؤمنين (عليه السّلام) , فلما رفعه على السرير اعترضه النبي (صلّى الله عليه وآله) , فرقّ وتحزّن ، وقال : (( وصلتك رحم , وجُزيت خيراً يا عم ، فلقد ربّيت وكفلت صغيراً ، ونصرت وآزرت كبيراً )) . ثم أقبل على الناس وقال : (( أمَ والله لأشفعنّ لعمّي شفاعة يعجب بها أهل الثقلين )) .
فهذا الحديث فيه دلالات ودلالات على منزلة ومقام أبي طالب، إلاّ أنّ أبرزها هو.
1 ـ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السّلام) أن يجهّزه ويفعل به ما يفعل بأموات المسلمين ، وهذا الأمر والموقف يقطعان أي لقلقة بأنّ أبا طالب (رضوان الله عليه) مات كافراً , فهذا الحديث يمنع ما يمكن أن يقال : من أنّ ما ذُكر من علامات على إيمانه لا تنفي أنّه رفض الشهادة في احتضاره , وأنّه مات بعد ذلك كافراً ؛ حيث إنّ القائل بهذا سيصطدم بالحديث أعلاه ؛ لأنّ أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السّلام) بهذا الأمر يدل على أنّ أبا طالب مات مؤمناً ؛ لذلك استحق أن يحزن عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) , وأن يفعل به بعد موته ما يفعله بباقي المسلمين .
2 ـ إنّ ذيل الحديث الذي يحوي كلاماً عجيباً وعظيماً قاله أعظم الخلق ووعد به ، إننا نجد أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) يقسم بأنّه سيشفع لعمه شفاعة يعجب بها أهل الثقلين , وأي وسام هذا الذي تشرّف به أبو طالب بعد هذا القسم , وأي منزلة له حتّى يقول فيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) ما قاله ؟! لكن الحقد الأعمى في النواصب المخالفين جعلهم يتشدّقون بهذه الاتهامات لهذا العظيم بأنّه مات كافراً ؛ ليشفوا غليلهم في ابنه أمير المؤمنين (عليه السّلام) , لكن مثلهم كمثل الغريق حين يتمسّك بالورق الطليق .
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسّلام على محمّد وآله الطاهرين