العباس عليه السلام.. الوراثة والبيئة
امتازت شخصية العباس بن علي عليهما السلام بصفات عدة كانت مضرب الأمثال, وكان لاهتمام الإمام علي عليه السلام به الأثر المهم في تعزيز هذه الصفات لدى العباس عليه السلام فالإمكانيات المتعددة هي السمة البارزة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام ولابد أنْ تنعكس هذه الصفة على أولاده الآخرين, وكان للعباس بن علي عليه السلام إمكانية التلقي بشكله الإيجابي لهذه الصفات المهمة في شخصيته.
أدرك الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ضرورة مراعاة الحالة الوراثية التي ستساعد كثيراً في اقتناء الصفات التي يُراد لها أن تنتقل إلى وليده القادم، لذا فقد نقل المؤرخون بأنّ الإمام عليه السلام حينما عزم على الزواج طلب من أخيه عقيل امرأةً من فحولة العرب آبائها وشجعانهم, ولم يكن يغيب عن ذهنه أفضل هذه القبائل, إلاّ أنّه أراد أن ينوّه إلى أمرٍ مهم وهو الأخذ بالاعتبار في مراعاة ذوي الاختصاص وإعطاء دورهم في التنوع المعرفي الذي يحتاجه المجتمع, لذا فإنّ خطوة الإمام عليه السلام هذه تؤكد على ضرورة احترام الاختصاص وعدم إقصاء ذويه, ومهما بلغ الإنسان من مرتبة ما فلابد أنْ يشارك ذوي الاختصاص في قراراته.
فقد أورد المؤرخون أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام استشار أخاه عقيلاً في امرأةٍ يتزوجها ذات مواصفات محددة, تنتمي إلى أفضل بيوتات العرب في الشجاعة والبأس, فقال لأخيه عقيل: «اطلب لي امرأةً ولدتها شجعان العرب، حتى تلد لي ولداً شجاعاً».
أَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَ انْكِحُوا فِيهِمْ وَ اخْتَارُوا لِنُطَفِكُم
وفي لفظ آخر قال: «انظر إليّ امرأةً قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها, فتلد لي غلاماً فارساً».
فقال له عقيل: تزوج أمّ البنين الكلابية, فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها.
وفي هذين النصين نجد أنّ الإمام علياً عليه السلام قد راعى الجانب الوراثي الذي أكّده رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: « أَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَ انْكِحُوا فِيهِمْ وَ اخْتَارُوا لِنُطَفِكُم… وتَزَوَّجُوا فِي الْحُجْزِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاس».(الكافي الشريف:٥/٣٣٢.مكارم الأخلاق:١٩٧)
تَزَوَّجُوا فِي الْحُجْرِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِرْقَ دَسَّاس
وقد أُثبت علمياً أنّ الوراثة من إحدى العوامل الأساسية في تربية الأجيال.
ففي استعراضهم للجانب الوراثي يشير أحد الباحثين بقوله في تعزيز نظرية الوراثة والصفات المكتسبة بقوله: ويعني ذلك أنّ المكونات الأساسية للفرد تتحدد من بداية الحمل, وتقتصر العمليات الذاتية بعد ذلك على الزيادة في الحجم تحت ظروف معينة, وهذه الموروثات هي الوحدات الأساسية للصفات الموروثة, وهي تحتفظ بالمعلومات اللازمة للمكونات والخصائص الجسمية التي تحدد طريقة نمو الكائن الحي.
ويشير (أرنو.ف. ويتيج) في كتابه مقدمة في علم النفس إلى أنّ طريقة الانتخاب للجينات الوراثية بواسطة الأبوين مهمة في تحديد الصفات الخلقية للمولود بقوله: وتتجمع الموروثات أو الجينات في صورة أزواج أحدهما من الأب والآخر من الأم، ويتحكم كل زوج في بعض جوانب النمو, وفي حالة عدم تشابهما فإنّ أحدهما يسود ويسيطر على العنقة الوراثية, والآخر لا يؤثر ويسمى بالموروث المتنحي.
يقول بعض الباحثين بعد استعراض نظريات الوراثة المؤثرة في سلوك الفرد: دوماً سبق يتضح لنا مدى التشابه والاختلاف بين الإخوة, كما يتضح لنا أيضاً درجة التشابه مع الأبوين والأجداد, ويؤثر ذلك بدوره على سلوك الأبناء، ومدى تشابههم مع الآباء والأجداد, فالوراثة هي التي تحدد الإمكانيات الجسمية والفسيولوجية, والاستعدادات العقلية, ومحددات التكوين النفسي للفرد.
إذن فقد انطلق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من قاعدة تأسيسية أسسها النبي صلى الله عليه واله سبقت نظريات الوراثة واختزلت الدراسا ت النفسية في هذا الشأن في حديثٍ مشهور: «اختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين».(الكافي الشريف:٥/٣٣٣)
وهذه القاعدة التأسيسية سعى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى إيجاد قاعدة تطبيقية من خلال اختياره للسيدة أمّ البنين عليها السلام, والتي عرفت بشخصيتها المتميزة, وكان لاختياره هذا أثره في إنجاب ولده العباس عليه السلام, الذي حمل خصائصه والتي كانت شاخصةً في سلوكياته بامتياز مثير.
السيدة أمّ البنين الاختيار المعصوم
مجلة الوارث - العدد 101إذن لابد من معرفة هذه الشخصية التي اقترن بها الإمام علي عليه السلام والتي كان انتخابها مثار اهتمامه دون نسائه الأخريات بعد السيدة الزهراء عليها السلام, مما يكشف عن أهمية دراسة هذه الشخصية المتميزة والتي أثارت إعجاب الإمام عليه السلام والإمامين الحسنين عليهما السلام وهما ينظران إليها نظرة تبجيل تختلف عن غيرها, فما الذي ميّز شخصيتها عليها السلام, وما الذي جعل لها من الشهرة ما لم تكن لامرأة تنافسها في هذا الشأن بعد السيدة الزهراء عليها السلام؟
قال العلامة المامقاني في تنقيح المقال: أمّ البنين الكلابية: هي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر المعروف بالوحيد: ابن كلاب بن عامر ابن صعصعة روى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأخيه عقيل… انظر إليّ امرأة قد ولدتها الفحول من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً, فقال له: تزوج أمّ البنين الكلابية, فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس في آبائها.
يقول لبيد للنعمان بن المنذر ملك الحيرة:
نحن بنو أمّ البنين الأربعة
ونحن خير عامر بن صعصعة
الضاربون الهام وسط الخيضعة
ولم ينكر عليه أحد من العرب, ومن قومها ملاعب الأسنة أبو براء الذي لم يعرف في العرب غير أمير المؤمنين عليه السلام مثله في الشجاعة, فتزوجها أمير المؤمنين عليه السلام فولدت وأنجبت وأول من ولدت العباس المكنى بأبي الفضل الملقب بقمر بني هاشم روحي فداه ثم عبد الله ثم جعفر ثم عثمان, ويستفاد قوة إيمانها وتشييعها أنّ بشر كلما نعى إليها وروده المدينة أحداً من أولادها الأربعة قالت: ما معناه: أخبرني عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام فلما نعى إليها الأربعة قالت: قد قطعت نياط قلبي, أولادي ومن تحت الخضراء كلهم فداء لأبي عبد الله الحسين عليه السلام أخبرني عن الحسين فإنّ علقتها بالحسين عليه السلام ليس إلاّ لولائها لإمامها عليه السلام وتهوينها على نفسها موتة مثل هؤلاء الأشبال الأربعة إنّ سلم الحسين عليه السلام يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة, وإنّي أعتبرها لذلك من الحسان إنْ لم تعتبرها من الثقات.
وقد سعى العلامة المامقاني إلى التركيز على جانب مهم من حياة السيدة أمّ البنين عليها السلام ليستخلص منها شخصيتها الجليلة, وكان موقفها من الحسين حين استشهاده يكشف عن تفانيها لمفهوم الإمام, وعقيدتها الخالصة بفلسفة الإمامة لذا عبّر بقوله: (فإنّ علقتها بالحسين عليه السلام ليس إلاّ لإمامته عليه السلام وهي كاشفة عن مدى اندكاكها بمفهوم الإمامة وتسليمها لحركة الإمام عليه السلام).
وفي مقتل الحسين عليه السلام بحر العلوم قال: وليس في العرب أشجع من آبائها وإخوانها – كما ذكر ذلك عامة المؤرخين – وكانت أمّ البنين من فضليات النساء العارفات بفضل أهل البيت عليهم السلام منذ نشأتها في بيت أبيها الزعيم الكبير وكانت من بيت كرم وشجاعة وفصاحة ومعرفة, وكان آباؤها من سادات العرب وزعمائهم.
وكانت لهذه السيدة من الصفات ما أغنى المترجمين لها عن وصفها كثيراً, فقد انحدرت من بيوتات العرب ورؤسائهم وكانت هذه الأسرة كريمة النسب، عظيمة الحسب, معروفةً برئاستها وهيمنتها بشرفها من بين القبائل العربية, وكانت الأسر العربية تفضل وجودها من خلال ما أوتيت به من عظيم البلاء, وشديد المراس في الحرب والنزال وكانت لها واقعتها المشهودة, ولرجالها الأشداء ما شهدت به العرب من أقصاها إلى أقصاها بمفاخر الحرب, ودواعي الرئاسة، وأسباب الشرف, وكان لكرم هذه القبيلة ما لازم سيرة رجالها, كملاعب الأسنة وهو عامر بن مالك, وعامر بن الطفيل وهو اخو عمرة الجدة الأولى لأمّ البنين وهو من فرسان العرب وشجعانها, ومنهم الطفيل وهو والد عمرة جدة أمّ البنين وله من شهرة البأس ما كان مضرباً لأمثلة العرب, وعروة بن عتبة والد كيشة الجدة الثانية لام البنين معروفاً عند الملوك , مكرماً لديهم فإذا وفد عليهم أحسنوا وفادته وأجزلوا له العطاء, ذلك وقد كان لذلك اثره في شخصيتها الفذة ومحتدها الكريم, وكانت معروفة بأم البنين نسبةً لجدتها الأولى المشهورة برفعتها وعزتها وشرفها حتى كان أبناؤها يفتخرون أمام الملوك بقولهم:
نحن بنو أمّ البنين الأربعة
ونحن خير عامر بن صعصعة
وأمّ البنين جدتهم هذه مضرب المثل في الشرف والحكمة والعزة والكرم, وكانت السيدة أمّ البنين فاطمة بنت حزام قد لُقبت بهذا اللقب, والظاهر أنّها اشتهرت عند قومها بما اشتهرت جدتها الأولى أمّ البنين لما تمتلكه هذه السيدة من العزة والحكمة والشرف وحسن السيرة حتى اشتهرت بما اشتهرت به جدتها الأولى أُمّ البنين مع أنّ هذا اللقب كان قبل زواجها بالإمام أمير المؤمنين عليه السلام مما يعني أنّه قد ارتكز عند قومها أنّها كانت من الفضائل ما اشتهرت به جدتها الأولى.
وبعد زواجها فقد تعززت هذه الكنية لها, إذ العرب تلقب المرأة التي تلد أربعة ذكور بأمّ البنين فكان لها من الأولاد: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان, فثبتت لها هذه الكنية لاستحقاقها من صفات جدتها أمّ البنين, ولما امتازت به من الأولاد فصار لقباً ثابتاً لها.
هذه حيثيات الوراثة التي تأثرت بها شخصية العباس عليه السلام فمن أبيه ورث الخصال الحميدة كلها, ومن أمّه ورث ما اشتهرت به الفضائل الكريمة, فكان بين هذا وذاك مثالاً لكل أسباب الرفعة, ودواعي العزة والشهامة.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً.