العبّاس في نظر الأئمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إنّي لا أحسب القارئ في حاجة إلى الإفاضة في هذه الغاية، بعد ما أوقفناه على مكانة أبي الفضل (عليه السلام)، من العلم والتقى والملكات الفاضلة، من إباء وشمم وتضحية في سبيل الهدى، وتهالك في العبادة، فإنّ أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) يُقدّرون لمن هو دونه في تلكم الأحوال فضله، فكيف به وهو من لحمتهم، وفرع أرومتهم، وغصن باسق في دوحتهم؟! وقد أثبت له الإمام السجاد (عليه السلام) منزلة كبرى لم ينلها غيره من الشهداء ساوى بها عمّه الطيار، فقال (عليه السلام):
" رحم اللّه عمّي العبّاس بن علي، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتّى قُطعت يداه، فأبدله اللّه عزّوجلّ جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، إنّ للعبّاس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة "(1).
ولفظ " الجميع " يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة، وقد نفى البعد عنه العلاّمة المحقّق المتبحر في الكبريت الأحمر ص47 ج3.
ولعلّ ما جاء في زيارة الشهداء يشهد له: " السلام عليكم أيّها الربّانيون، أنتم لنا فرط وسلف ونحن لكم أتباع وأنصار، أنتم سادة الشهداء في الدنيا والآخرة "(2).
وكذلك قوله (عليه السلام) فيهم: إنّهم لم يسبقهم سابق، ولايلحقهم لاحق.
فقد أثبت لهم السيادة على جميع الشهداء، أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أي أحد، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل، وقد انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السجاد (عليه السلام) من المنزلة التي لم تكن لأيّ شهيد.
ولهذه الغايات الثمينة، والمراتب العُليا كان أهل البيت (عليهم السلام)يدخلونه في أعالي أُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسان عادي، فمن ذلك مشاطرته الحسين (عليه السلام) في غسل الحسن (عليه السلام)(3).
وأنتَ بعد ما علمت مرتبة الإمامة، وموقف صاحبها من العظمة، وأنّه لا يلي أمره إلاّ إمام مثله، فلا ندحة لك إلاّ الإيمان بأنّ من له أي تدخل في ذلك بالخدمة من جلب الماء وما يقتضيه الحال أعظم رجل في العالم بعد أئمة الدين، فإنّ جثمان المعصوم عند سيره إلى المبدأ الأعلى ـ تقدّست أسماؤه ـ لا يمكن أن يقرب أو ينظر إليه من تقاعس عن تلك المرتبة، إذ هو مقام قاب قوسين أو
أدنى، ذلك الذي لم يطق الروح الأمين أن يصل إليه حتّى تقهقر، وغاب النّبي الأقدّس في سبحات الملكوت والجلال وحده إلى أن وقف الموقف الرهيب.
وهكذا خلفاء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المشاركون له في المآثر كُلّها ما خلا النبوّة والأزواج(4)، ومنه حال انقطاعهم عن عالم الوجود بانتهاء أمد الفيض المقدّس.
وممّا يشهد له أنّ الفضل بن العبّاس بن عبد المطلب كان يحمل الماء عند تغسيل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، معاوناً لأمير المؤمنين (عليه السلام)على غسله، ولكنّه عصب عينيه خشية العمى إن وقع نظره على ذلك الجسد الطاهر.
ومثله ما جاء في الأثر عن الإشراف على ضريح رسول اللّه، حذراً أن يرى الناظر شيئاً فيعمى(5)، وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة، فكان إذا سقط في الضريح شيء أنزلوا صبياً وشدّوا عينيه بعصابة فيخرجه.
وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر، وليس لنا إلاّ التسليم على الجملة، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بُعدنا عن إدراك مثلها، خصوصاً بعد استفاضة النقل في أنّ للنّبي والأئمة بعد وفاتهم أحوالاً غريبة، ليس لسائر الخلق معهم شركة، كحرمة
لحومهم على الأرض، وصعود أجسادهم إلى السماء، ورؤية بعضهم بعضاً، وإحيائهم الأموات منهم بالأجساد الأصلية عند الاقتضاء، إذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النقل الكثير عليه، واعتراف الأصحاب به(6)، فيصار التحصل أنّ الحواس الظاهرة العادية لا تتحمّل مثل تلك الأمثلة القدّسية، وهي في حال صعودها إلى سبحات القدس إلاّ نفوس المعصومين بعضها مع بعض دون غيرهم، مهما بلغ من الخشوع والطاعة.
لكنّ (عباس المعرفة) الذي منحه الإمام في الزيارة أسمى صفة حظي بها الأنبياء والمقرّبون وهي: " العبد الصالح) تسنّى له التوصّل إلى ذلك المحل الأقدس، من دون أن يذكر له تعصيب عين أو إغضاء طرف، فشارك السبط الشهيد، والرسول الأعظم، ووصيه
المقدّم مع الروح الأمين، وجملة الملائكة في غسل الإمام المجتبى الحسن السبط صلوات اللّه عليهم أجمعين(7).
وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذوو النفوس القدسية، من الحجج المعصومين، ولا غرو إن غبط أبا الفضل الصدّيقون والشهداء الصالحون.
وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاس، لمّا زحف القوم على مخيّمه، عشية التاسع من المحرم: " اركب بنفسي أنت يا أخي " حتّى تلقاهم وتسألهم عمّا جاءهم، فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً، فيهم حبيب وزهير، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إنّ الأمير يأمر إمّا النزول على حكمه أو المنازلة، فأخبر الحسين، فأرجعه ليرجئهم إلى غد(8).
فإنّك ترى الفكر يسف عن مدى هذه الكلمة، وأنّى له أن يحلق إلى ذروة الحقيقة من ذات مطهّرة تفتدى بنفس الإمام، علّة الكائنات، وهو الصادر الأوّل، والممكن الأشرف، والفيض الأقدّس للممكنات: " بكم فتح اللّه وبكم يختم "(9).
نعم، عرفها البصير الناقد بعد أن جرّبها بمحكّ النزاهة، فوجدها غير مشوبة بغير جنسها، ثُمّ أطلق تلك الكلمة الذهبية الثمينة (ولا يعرف الفضل إلاّ أهله).
ولا يذهب بك الظنّ ـ أيّها القارئ الفطن ـ إلى عدم الأهمّية في هذه الكلمة بعد القول في زيارة الشهداء من زيارة وارث: " بأبي أنتم وأُمي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ".
فإنّ الإمام في هذه الزيارة لم يكن هو المخاطِب لهم، وإنّما هو(عليه السلام) في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أن يخاطبهم بذلك الخطاب، فإنّ الرواية جاءت كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان قال: استأذنت الصادق (عليه السلام) لزيارة الحسين وسألته أن يعرّفني ما أعمل عليه.
فقال له: " يا صفوان، صُم قبل خروجك ثلاثة أيام " إلى أن
قال: " ثُمّ إذا أتيت الحائر فقل: اللّه أكبر كبيراً "، ثُمّ ساق الزيارة إلى أن قال: " ثُمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلي علي بن الحسين وتوجّه إلى الشهداء وقل: السلام عليكم يا أولياء اللّه.. " إلى آخرها.
فالصادق (عليه السلام) في مقام تعليم صفوان أن يقول في السلام على الشهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّ الصادق ماذا يقول لو أراد السلام عليهم.
وهنا ظاهرة أُخرى دلّت على منزلة كُبرى للعبّاس عند سيّد الشهداء، ذلك أنّ الإمام الشهيد لمّا اجتمع بعمر بن سعد ليلاً وسط العسكرين ; لإرشاده إلى سبيل الحقّ، وتعريفه طغيان ابن ميسون، وتذكيره بقول الرسول في حقّه ; أمر (عليه السلام) من كان معه بالتنحّي إلاّ العبّاس وابنه علياً، وهكذا صنع ابن سعد، فبقي معه ابنه وغلامه.
وأنت تعلم أنّ ميّزة أبي الفضل على الصحب الأكارم، وسروات المجد من آل الرسول الذي شهد لهم الحسين باليقين والصدق في النيّة والوفاء(10)، غير أنّه (عليه السلام) أراد أن يوعز إلى الملأ من بعده ما لأبي الفضل وعلي الأكبر من الصفات التي لا تحدها العقول.
ومن هذا الباب لمّا خطب يوم العاشر، وعلا صراخ النساء وعويل الأطفال حتّى كان بمسامع الحسين، وهو ماثل أمام العسكر، أمر أخاه العبّاس أن يسكتهنّ، حذار شماتة القوم إذا سمعوا ذلك العويل، وغيرة على نواميس حرم النبوّة أن يسمع أصواتهنّ الأجانب.
ولو رمتَ تحليلاً لتأخّر شهادة العبّاس عن جميع الشهداء، وهو حامل تلك النفس النزاعة إلى المفادات والتهلكة دون الدين، فلا يمكنه حينئذ التأخر آناً ما، فكيف بطيلة تلك المدّة، وبمرأى منه مصارع آل اللّه، ونشيج الفواطم، وإقبال الشرّ من جميع نواحيه، واضطهاد حجّة الوقت، بما يراه من المناظر الشبحية ; والواحدة من ذلك لا تترك (لحامل اللواء) مساغاً عن أخذ التراث آناً ما.
لكن أهميّة موقفه عند أخيه السبط هو الذي أرجأ تأخيره عن الإقدام، فإنّ سيّد الشهداء يعدّ بقاءه من ذخائر الإمامة، وأنّ موتته تفتّ في العضد فيقول له: " إذا مضيتَ تفرّق عسكري "، حتّى إنّه في الساعة الأخيرة لم يأذن له إلاّ بعد أخذ وردّ.
وإنّ حديث (الإيقاد) لسيّدنا المتتبّع الحجّة السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيم (قدس سره) يوقفنا على مرتبة تضاهي مرتبة المعصومين، ذلك لمّا حضر السجّاد (عليه السلام) لدفن الأجساد الطاهرة ترك مساغاً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي إلى محلّها الأخير، عدى جسد الحسين وجثّة عمّه العبّاس، فتولّى وحده إنزالهما إلى مقرّهما، أو إصعادهما إلى حضيرة القدّس وقال: " إن معي من يعينني ".
أما الإمام فالأمر فيه واضح ; لأنّه لا يلي أمره إلاّ إمام مثله، ولكن الأمر الذي لا نكاد نصل إلى حقيقته وكنهه، فعله بعمّه الصدّيق الشهيد مثل ما فعل بأبيه الوصيّ، وليس ذلك إلاّ لأنّ ذلك الهيكل المطهّر لا يمسّه إلاّ ذوات طاهرة، في ساعة هي أقرب حالاته إلى المولى سبحانه، ولا يدنو منه مَن ليس من أهل ذلك المحلّ الأرفع.
ولم تزل هذه العظمة محفوظة له عند أهل البيت دنياً وآخرة، حتّى إنّ الصديقة الزهراء سلام اللّه عليها لا تبتدأ بالشكاية بأيّ ظلامة من ظلامات آل محمّد ـ وهي لا تُحصى ـ إلاّ بكفّي أبي الفضل المقطوعتين، كما في الأسرار ص325، وجواهر الإيقان ص194، وقد ادخرتهما من أهم أسباب الشفاعة يوم يقوم الناس لربِّ العالّمين.
العصمة
إنّ من الممكن جدّاً وليس بمحال. على اللّه تعالى، أن ينشىء كياناً لا تقترب منه العيوب، أو يخلق إنساناً لا يقترف الذنوب، ولقد أوجد جلّ شأنه ذواتاً مقدّسة، ونفوساً طاهرة، وجبت فيهم العصمة من الآثام، وتنزّهوا عن كُلِّ رجس: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }(11).
وقد اتفق أرباب الحديث والتراجم على حصر هؤلاء المنزّهين بالخمسة أصحاب الكساء، وهم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام).
ثُمّ أثبت أصحاب السيرة ما يضحك الثكلى ويلحق بالخرافات، فكان للغيرِ مجالُ الطعن والمناقشة، ذكروا أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا بلغ من العمر سنتين، وكان خلف البيوت عند بني سعد مع أتراب له، أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، مع أحدهما طست من ذهب، مملوء ثلجاً، فشقّا بطنه وقلبه، واستخرجا منه علقة سوداء هي مغمز الشيطان.
وطربوا لذلك حيث إنّ اللّه بلطفه وكرمه قدّس نبيّه الكريم من هذه العلقة.
ولكن ما أدري لماذا صنع به هذه العملية الدامية وهو طفل صغير لا يقوى على تحمّل الآلام ومعانات الجروح الدامية؟! ألم
يكن في وسع القدرة الإلهية إيجاد ذات مقدّسة طاهرة من الأرجاس حتّى عن هذه العلقة المفسّرة بمغمز الشيطان؟ كيف لا وقد خلقه اللّه من نور قدسه، وبرّأه من جلال عظمته، واصطفاه من بين رسله، وفضّله على العالمين، وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ اللّه خلقني من صفوة نوره، ودعاني فاطعته. وحينئذ فهل يتصور نقص في النور الأقدس؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.
تِلكَ نَفسٌ عَزّت عَلى اللّهِ قَدَراً فارتَضاهَا لِنفسهِ واصَطفَاهَا
حَازَ مِنْ جَوهَرِ التَقدّسِ ذَاتَاً تاهت الأنبياء فِي مَعناهَا
لا تَجل فِي صِفاتِ أحمدَ فِكَراً فَهي الصُورةُ التيِ لَن تَراهَا
وأغرب من ذلك جواب السبكي عن هذه المشكلة بأنّ اللّه أراد أن يخلق نبيّه ـ أولاً ـ كاملاً لا نقصان فيه عن سائر الناس حتّى في مثل هذه العلقة، لكونها من الأجزاء، ثُمّ بعد ذلك طهّره منها.
والعجب عدّ هذه العلقة من أجزاء بدن الإنسان التي يوجب فقدها نقصان الخلقة، وقد تنزّه عنها جلال النبوّة!
على أنّه أثبت ولادة النّبي مختوناً، وهذا أظهر في النقصان عمّا وجد عليه البشر من العلقة، لكونها غير مرئية.
وجواب الحلبي في السيرة ج1 ص115 بأنّه إنّما ولد مختوناً لئلاّ يطلع عليه المحرم وتنكشف عورته، لا يرفع إشكال النقصان عمّا عليه الناس.
وكيف كان فقد ثبت إمكان أن يخلق اللّه تعالى ذواتاً مقدّسة، مُنزّهة عن الأرجاس، معصومة عن الخطأ، وقد يجب ذلك كما في الهداة المعصومين، لكي يهدي بهم الناس(12).
وأمّا في غيرهم من الأطهار فلا يجب، ولكنّه غير ممتنع، فمن الممكن أن يمنح الباري سبحانه أفذاذاً من البشر فيكونوا قدوة لمن هم دونهم، وتكون بهم الأُسوة في عمل الصالحات، وإن كان في مرتبة نازلة عن منزلة الأنبياء المعصومين، فإنّهم وإن بلغوا بسبب التفكير والذكر المتواصل والتصفية والرياضة إلى حيث لا يبارحون طريق الطاعة ولا يسلكون إلى المعصية طريقاً، لكنّهم في حاجة إلى مَن يسلك بهم السبيل الواضح، ويميّز لهم موارد الطاعة وموادها عن مساقط العصيان والتهلكة، بخلاف الحجج المقيّضين لإنقاذ البشر، المعنيّون بالعصمة هاهنا.
فمن كانت عصمته واجبة ـ كما في المعصومين ـ سمّيت عصمته استكفائية ; لأنّه لا يحتاج في سلوكه إلى الغير، لكونه في غنىً عن أيّ حجّة، لتوفّر ما أُفيض عليهم من العلم والبصائر، ومن لم تكن فيه العصمة واجبة وكان محتاجاً إلى غيره في سلوكه وطاعته سُمّيت عصمته غير استكفائية، على تفاوت في مراتبهم من حيث المعرفة والعلم واليقين.
وحينئذ ليس من البدع إذا قلنا: إنّ (قمر بني هاشم) كان متحلياً بهذه الحلية، بعد أن يكون مصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجه أيّ شين، وعلى هذا كان معتقد شيخ الطائفة وإمامها
الحجّة الشيخ محمّد طه نجف (قدس سره)، فإنّه قال بترجمة العبّاس من كتاب (إتقان المقال) ص75: " هو أجلّ من أن يذكر في المقام، بل المناسب أن يذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل التحية والسلام ".
فتراه لم يقل عند ذكر رجالات أهل بيته الأعاظم، بل أثبت المعصومين منهم، وليس هذا العدول إلاّ لأنّه يرتأي أن يجعله في صفهم، ويعده منهم.
وتابعه على ذلك العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُوردبادي فقال من قصيدته المتقدّمة:
أجل عباسُ الكِتَابَ والهُدى والِعَلَم والدِينَ وأصحَاب العَبا
عَن أن يُطِيشَ سَهمُهُ فَينثَنِي والإثمَ قَد أثقَلَ مِنهُ مَنكِبَا
لِم نَشتَرِط فِي ابنِ النّبيِّ عُصمة ولا نَقولُ: إنّه قَد أذنَبَا
وَلا أَقولُ غَيرَ مَا قَالَ بِهِ (طَه الإمامُ) فِي الرِجَالِ النُجبَا
فَالفِعَلُ مِنهُ حُجةُ كَقولِهِ فِي الكُلِّ يَروِي عَن ذَويِهِ النُقَبَا
وهذه النظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالم من علماء الشيعة، نعرفه بالثقافة العلميّة، والتقدّم بالأفكار الناضجة، وقد استضأنا من أُرجوزة آية اللّه الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (رحمه الله) التي ستقرأها في فصل المديح حقائق راهنة، وكرائم نفيسة، سمت بأبي الفضل إلى أوج العظمة، وأخذت به إلى حظائر القدس، وصعدت به إلى أعلى مرتبة من العصمّة.
وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته ما ذكرناه سابقاً في شرح قول الصادق: " لعن اللّه أُمة استحلّت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام ".
فإنّ حُرمة الإسلام لا تنتهك بقتل أي مسلم مهما كان عظيماً، ومهما كان أثره في الإسلام مشكوراً، إلاّ أن يكون هو الإمام المعصوم، فلو لم يبلغ العبّاس المراتب السماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيت لما استحقّ هذا الخطاب، وهذا معنى العصمة. نعم، هي غير واجبة، وممّا يستأنس منه العصمة له ما تقدّم من قول السجّاد (عليه السلام): " وإنّ لعمّي العبّاس منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة "(13).
ويدخل في عموم لفظ الشهداء صريحة بيت الوحي " أبو الحسن علي الأكبر " الذي أفضنا القول في عصمّته.
وإذا كان العبّاس غير معصوم كيف يغبطه المعصوم على ما أُعطي من رفعة ومقام عالي؟ لأنّ المعصوم لا يغبط غيره، فلا بدّ أن للعبّاس أعلى مرتبة من العصمة كما عرفت، ومن هنا غبط منزلته التي أعدت له جميع الشهداء، حتّى من كان معصوماً كعلي الأكبر وأمثاله، غير الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.
الكرامات
من سنن اللّه الجارية في أوليائه: { وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }(14) إكرامهم بإظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادّخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة، تقديراً لعملهم، وإصحاراً بحقيقة أمرهم، ومبلغ نفوسهم من القوّة، وحثّاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة.
ومهما كان العبد يخفي الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الإخفاء بإشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه جلّت آلاؤه يظهر الجميل من أفعال العباد، ويزوي القبيح، رأفة منه، وحناناً عليهم.
ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقرّبين وقباب المستشهدين في سبيل طاعته، من آثار العظمة، وآيات الجلالة، من إنجاح المتوسّل بهم إليه تعالى شأنه، وإجابة الدعوات تحت قبابهم المقدّسة، وإزالة المثلات ببركاتهم، وتتأكّد الحالة إذا كان المشهد لأحد رجالات البيت النبويّ ; لأنّه جلّت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم، ولأن يعرفوا مكانتهم، فيحتذوا أمثالهم في الأحكام والأخلاق، فكان من المحتّم في باب لطفه وكرمه ـ عظمت نعمه أن يصحر الناس بفضلهم الظاهر.
ومن سادات ذلك البيت الطاهر الذي أذن اللّه أن يرفع فيه اسمه أبو الفضل العبّاس، فإنّه في الطليعة من أُولئك السادات، وقد بذل في اللّه ما عزّ لديه وهان، حتّى اتصلت النوبة إلى نفسه الكريمة التي لفظها نصب عينه ـ عزّ ذكره ـ، فأجرى سنته الجارية في الصديقين فيه بأجلى مظاهرها، ولذلك تجد مشهده المقدّس في آناء الليل وأطراف النهار مزدلف أرباب الحوائج: من عاف يستمنحه برّه، إلى عليل يتطلّب عافيته، إلى مضطهد يتحرّى كشف ما به من غمّ، إلى خائف ينضوي إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوّعة، فينكفأ ثلج الفؤاد بنجح طلبته قرير العين بكفاية أمره إلى متنجّز بإعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على اللّه بعزيز ولا من المقرّبين من عباده ببعيد.
ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر، نذكر بعضاً منها تيمناً، ولئلاّ يخلو الكتاب منها، وتعريفاً للقراء بما جاد به قطب السخاء على من لاذ به واستجار بتربته.
الأُولى:
ما يحدّث به الشيخ الجليل العلاّمة المتبحّر الشيخ عبد الرحيم التستري المتوفى سنة 1313 هـ، من تلامذة الشيخ الأنصاري أعلى اللّه مقامه، قال:
زرت الإمام الشهيد أبا عبد اللّه الحسين، ثُمّ قصدت أبا الفضل العبّاس، وبينا أنا في الحرم الأقدس إذ رأيت زائراً من الأعراب ومعه غلام مشلول، وربطه بالشباك، وتوسّل به وتضرّع، وإذا الغلام قد نهض وليس به علّة، وهو يصيح: شافاني العبّاس، فاجتمع الناس عليه، وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها.
فلمّا أبصرت هذا بعيني تقدّمت نحو الشباك وعاتبته عتاباً مقذعاً، وقلت: يغتنم المعيدي الجاهل منك المُنى وينكفأ مسروراً، وأنا مع ما أحمله من العلم والمعرفة فيك، والتأدّب في المثول أمامك، أرجع خائباً لا تقضي حاجتي؟! فلا أزورك بعد هذا أبداً، ثُمّ راجعتني نفسي، وتنبّهت لجافيّ عتبي، فاستغفرت ربي سبحانه ممّا أسأت مع (عباس اليقين والهداية).
ولمّا عُدت إلى النجف الأشرف أتاني الشيخ المرتضى الأنصاري قدّس اللّه روحه الزاكية، وأخرج صرّتين وقال: هذا ما طلبته من أبي الفضل العبّاس، اشتري داراً، وحجّ البيت الحرام، ولأجلهما كان توسّلي بأبي الفضل(15).
ومَا عَجِبتُ مَن أبي الفَضلِ كَما عَجبتُ مِن أُستَاذِنَا إذ عَلَما
لأنّ شِبلَ المُرتَضى لَم يَغرب إذا أتى بمُعجِز أو معْجَبِ
بِكُلِّ يَوم بَل بِكُلِّ سَاعة لَمِن أتَاهُ قَاصِداً رِبَاعَهُ
وهُوَ مِن الشَيخِ عَجِيبُ بَيّنُ لكن نُورَ اللّهِ يَرنوُ المُؤمِن(16)
الثانية:
ما في أسرار الشهادة ص325 قال: حدّثني السيّد الأجل العلاّمة الخبير السيّد أحمد ابن الحجّة المتتبّع السيّد نصر اللّه المدرّس الحائري قال: بينا أنا في جمع من الخدّام في صحن أبي الفضل، إذ رأينا رجلاً خارجاً من الحرم، مسرعاً، واضعاً يده على أصل خنصره والدم يسيل منها، فأوقفناه نتعرّف خبره،
فأعلمنا بأنّ العبّاس قطعها، فرجعنا إلى الحرم فإذا الخنصر معلق بالشباك ولم يقطر منه دم، كأنّه قطع من ميت، ومات الرجل من الغد، وذلك لصدور إهانة منه في الحرم المقدّس.
الثالثة:
ما حدّثني به العلاّمة البارع الشيخ حسن دخيل حفظه اللّه عمّا شاهده بنفسه في حرم أبي الفضل (عليه السلام)، قال: زرت الحسين (عليه السلام) في غيّر أيّام الزيارة، وذلك في أواخر أيّام الدولة العثمانية في العراق، في فصل الصيف، وبعد أن فرغت من زيارة الحسين (عليه السلام) توجّهت إلى زيارة العبّاس (عليه السلام)، قرب الزوال، فلم أجد في الصحن الشريف والحرم المطهّر أحداً، لحرارة الهواء، غير رجل من الخدمة واقف عند الباب الأوّل، يقدّر عمره بالستّين سنة، كأنّه مراقب للحرم، وبعد أن زرت صلّيت الظهر والعصر، ثُمّ جلست عند الرأس المقدّس، مفكَّراً في الأُبهة والعظمة التي نالها قمر بني هاشم عن تلك التضحية الشريفة.
وبينا أنا في هذا إذ رأيت امرأة محجّبة من القرن إلى القدم، عليها آثار الجلاّلة، وخلفها غلام يقدّر بالستّة عشر سنة، بزي أشراف الأكراد، جميل الصورة، فطافت بالقبر والولد تابع.
ثُمّ دخل بعدهما رجل طويل القامة، أبيض اللون مشرباً بحمرة، ذو لحية، شعره أشقر، يخالطه شعرات بيض، جميل البزّة، كردي اللباس والزي، فلم يأت بما تصنعه الشيعة من الزيارة أو السنّة من الفاتحة، فاستدبر القبر المطهّر، وأخذ ينظر إلى السيوف والخناجر والدرق المعلقة في الحضرة، غير مكترث بعظمة صاحب الحرم المنيّع، فتعجّبت منه أشدّ العجب، ولم أعرف الملّة التي ينتحلها، غير أنّي اعتقدت أنّه من متعلّقي المرأة والولد.
وظهر لي من المرأة عند وصولها في الطواف إلى جهة الرأس الشريف التعجّب ممّا عليه الرجل من الغواية، ومن صبر أبي الفضل (عليه السلام) عنه، فما رأيت إلاّ ذلك الرجل الطويل القامة قد ارتفع عن الأرض، ولم أرَ من رفعه وضرب به الشباك المطهّر، وأخذ ينبح ويدور حول القبر وهو يقفز، فلا هو بملتصق بالقبر ولا بمبتعد عنه، كأنّه متكهرب به، وقد تشنّجت أصابع يديه، وأحمر وجهه حُمّرة شديدة، ثُمّ صار أزرقاً، وكانت عنده ساعة علقها برقبته بزنجيل فضّة، فكُلّما يقفز تضرب بالقبر حتّى تكسّرت، وحيث إنّه أخرج يده من عباءته لم تسقط إلى الأرض. نعم، سقط الطرف الآخر إلى الأرض، وبتلك القفزات تخرّقت.
أمّا المرأة فحينما شاهدت هذه الكرامة من أبي الفضل (عليه السلام)قبضت على الولد، وأسندت ظهرها إلى الجدار، وهي تتوسّل به بهذه اللهجة: (أبو الفضل دخيلك أنا وولدي).
فأدهشني هذا الحال، وبقيت واقفاً لا أدري ما أصنع، والرجل قويّ البدن، وليس في الحرم أحد يقبض عليه، فدار حول القبر مرّتين، وهو ينبح ويقفز، فرأيت ذلك السيّد الخادم الذي كان واقفاً عند الباب الأوّل دخل الروضة الشريفة، فشاهد الحال، فرجع وسمعته ينادي رجلاً اسمه جعفر من السادة الخدام في الروضة، فجاءا معاً، فقال السيّد الكبير لجعفر: اقبض على الطرف الآخر من الحزام، وكان طول الحزام يبلغ ثلاثة أذرع، فوقفا عند القبر حتّى إذا وصل إليهما وضعا الحزام في عنقه وأداراه عليه، فوقف طيعاً لكنّه ينبح، فأخرجاه من حرم العبّاس وقالا للمرأة: اتبعينا إلى (مشهد الحسين)، فخرجوا جميعاً وأنا معهم، ولم يكن أحد في
الصحن الشريف، فلمّا صرنا في السوق بين (الحرمين) تبعنا الواحد والإثنان من الناس ; لأنّ الرجل كان على حالته من النبح والاضطراب، مكشوف الرأس، ثُمّ تكاثر الناس.
فأدخلوه (المشهد الحسيني) وربطوه بشباك (علي الأكبر)، فهدأت حالته ونام، وقد عرق عرقاً شديداً، فما مضى إلاّ ربع ساعة فإذا به قد انتبه مرعوباً، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خليفة رسول اللّه بلا فصل، وأنّ الخليفة من بعده ولده الحسن، ثُمّ أخوه الحسين، ثُمّ علي بن الحسين، وعدّ الأئمة إلى الحجّة المهدي عجّل اللّه فرجه.
فسُئل عن ذلك قال: إنّي رأيت رسول اللّه الآن وهو يقول لي: اعترف بهؤلاء وعدّهم علي، وإن لم تفعل يهلكك العبّاس. فأنّا أشهد بهم وأتبرّأ من غيرهم.
ثُمّ سئل عمّا شاهده هناك فقال: بينا أنا في حرم العبّاس إذ رأيت رجلاً طويل القامة قبض عليّ وقال لي: يا كلب إلى الآن بعدك على الضلال، ثُمّ ضرب بي القبر، ولم يزل يضربني بالعصا في قفاي وأنا أفرّ منه.
ثُمّ سألت المرأة عن قصّة الرجل فقالت: إنّها شيعية من أهل بغداد، والرجل سنّي من أهل السليمانية ساكن في بغداد، متديّن بمذهبه، لا يعمل الفسوق والمعاصي، يحب الخصال الحميدة، ويتنزّه عن الذميمة، وهو بندرجي تتن، وللمرأة أخوان حرفتهما بيع التتن، ومعاملتهما مع الرجل، فبلغ دينه عليهما ماءتا (ليرة عثمانية)، فاستقرّ رأيهما على بيع الدار منه والمهاجرة من بغداد،
فأحضراه في دارهما (ظهراً)، واطلعاه على رأيهما، وعرّفاه أنّه لم يكن دين عليهما لغيره، فعندها أبدى من الشهامة شيئاً عجيباً، فأخرج الأوراق وخرّقها، ثُمّ أحرقها وطمئنهما على الإعانة مهما يحتاجان.
فطارا فرحاً، وأرادا مجازاته في الحال، فذاكرا المرأة على التزويج منه، فوجدا منه الرغبة فيه، لوقوفها على هذا الفضل مع ما فيه من التمسّك بالدّين واجتناب الدنايا، وقد طلب منهما مراراً اختيار المرأة الصالحة له، فلمّا ذكرا له ذلك زاد سروره، وانشرح صدره بحصول أُمنيته، فعقدا له من المرأة وتزوّج منها.
ولمّا حصلت عنده طلبت منه زيارة الكاظميين إذ لم تزرهما مدّة كونها بلا زوج، فلم يجبها، مدعياً أنّه من الخرافات، ولمّا ظهر عليها الحمل سألته أن ينذر الزيارة إن رُزق ولداً، ففعل، ولمّا جاءت بالولد طالبته بالزيارة فقال: لا أفِ بالنذر حتّى يبلغ الولد، فأيست المرأة، ولمّا بلغ الولد السنّة الخامسة عشر طلب منها اختيار الزوجة، فأبت ما دام لم يفِ بالنذر، فعندها وافقها على الزيارة مكرهاً، وطلبت من الجوادين الكرامة الباهرة ليعتقد بإمامتهما، فلم ترَ منهما ما يسرّها، بل أساءها سخريته واستهزاؤه.
ثُمّ ذهب الرجل بالمرأة والولد إلى العسكريين، وتوسّلت بهما، وذكرت قصة الرجل، فلم تشرق عليه أنوارهما، وزادت السخرية منه.
ولمّا وصلا كربلاء قالت المرأة: نقدّم زيارة العبّاس (عليه السلام)، وإذا لم تظهر منه الكرامة وهو أبو الفضل وباب الحوائج لا أزور أخاه الشهيد، ولا أباه أمير المؤمنين، وارجع إلى بغداد، وقصّت على
أبي الفضل قصّة الرجل، وعرّفته حال الرجل وسخريته بالأئمة الطاهرين، وأنّها لا تزور أخاه ولا أباه إذا لم يتلطّف عليه بالهداية وينقذه من الغواية، فانجح سؤلها، وفاز الرجل بالسعادة.
الرابعة:
ما في كتاب " إعلام الناس في فضايل العبّاس " تأليف الزاكي التقي السيّد سعيد بن الفاضل المهذّب الخطيب السيّد إبراهيم(17) البهبهاني قال:
تزوّجت في أوائل ذي القعدة سنة 1351 هـ، وبعد أن مضى أُسبوع من أيام الزواج أصابني زكام صاحبته حمّى، وباشرني أطباء النجف فلم انتفع بذلك، والمرض يتزايد، ومن جملة الأطباء الطبيب المركزي (محمّد زكي أباظة).
وفي أول جماد الأول من سنّة 1353 هـ خرجت إلى " الكوفة " وبقيت إلى رجب، فلم تنقطع الحمّى، وقد استولى الضعف على بدني حتّى لم أقدر على القيام، ثُمّ رجعت إلى النجف وبقيت إلى ذي القعدة من هذه السنّة بلا مراجعة طبيب، لعجزهم عن العلاج.
وفي ذي الحجّة من هذه السنّة اجتمع الطبيب المركزي
المذكور مع الدكتور محمّد تقي جهان وطبيبين آخرين جاؤوا من بغداد وفحصوني، فاتفقوا على عدم نفع كُلّ دواء، وحكموا بالموت إلى شهر.
وفي محرّم من سنة 1354 هـ خرج والدي إلى قرية القاسم ابن الإمام الكاظم (عليه السلام)، للقراءة في المآتم التي تقام لسيّد الشهداء، وكانت والدتي تمرّضني، ودأبها البكاء ليلاً ونهاراً.
وفي الليلة السابعة من هذه السنة رأيت في النوم رجلاً مهيباً وسيماً جميلاً، أشبه الناس بالسيّد الطاهر الزكي (السيّد مهدي الرشتي)، فسألني عن والدي، فأخبرته بخروجه إلى القاسم، فقال: إذن مَن يقرأ في عادتنا يوم الخميس، وكانت الليلة ليلة خميس، ثُمّ قال: إذن أنت تقرأ.
ثُمّ خرج وعاد إلى وقال: إنّ ولدي السيّد سعيد(18) مضى إلى كربلاء يعقد مجلساً لذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس، وفاءً لنذر عليه، فأُمضي إلى كربلاء واقرأ مصيّبة العبّاس، وغاب عنّي.
فانتبهت من النوم ونظرت إلى والدتي عند رأسي تبكي، ثُمّ نمت ثانياً، فأتاني السيّد المذكور وهو يقول: ألم أقل لك: إنّ
ولدي سعيد ذهب إلى كربلاء وأنت تقرأ في مأتم أبي الفضل، فأجبته إلى ذلك، فغاب عنّي، فانتبهت.
وفي المرّة الثالثة نمت فعاد إلّي السيّد المذكور وهو يقول بزجر وشدة: ألم أقل لك امضي إلى كربلاء، فما هذا التأخير؟! فهبته في هذه المرّة وانتبهت مرعوباً.
وقصصت الرؤيا من أوّلها على والدتي، ففرحت وتفاءلت بأنّ هذا السيّد هو أبو الفضل، وعند الصباح عَزِمَت على الذهاب بي إلى حرم العبّاس، ولكن كُلّ من سمع بهذا لم يوافقها، لما يراه من الضعف البالغ حدّه، وعدم الاستطاعة على الجلوس حتّى في السيارة، وبقيت على هذا إلى اليوم الثاني عشر من المحرم، فأصرّت الوالدة على السفر إلى كربلاء بكُلّ صورة، فأشار بعض الأرحام على أن يضعوني في تابوت، ففعلوا ذلك، ووصلت ذلك اليوم إلى القبر المقدّس، ونمت عند الضريح الطاهر.
وبينا أنا في حالة الإغماء في الليلة الثالثة عشر من المحرّم، إذ جاء ذلك السيّد المذكور وقال لي: لماذا تأخرّت عن يوم السابع وقد بقي سعيد بانتظارك، وحيث لم تحضر يوم السابع فهذا يوم دفن العبّاس وهو يوم 13، فقم واقرأ، ثُمّ غاب عنِّي، وعاد إلّي ثانياً وأمرني بالقراءة وغاب عنِّي، وعاد في الثالثة ووضع يده على كتفي الأيسر ; لأنّي كنت مضطجعاً على الأيمن، وهو يقول: إلى متى النوم؟ قم واذكر (مصيبتي)، فقمت وأنا مدهوش مذعور من هيبّته وأنواره، وسقطت لوجهي مغشياً علىَّ، وقد شاهد ذلك من كان حاضراً في الحرم الأطهر.
وانتبهت من غشوتي وأنا أتصبّب عرقاً، والصحة ظاهرة علىَّ، وكان ذلك في الساعة الخامسة من الليلة الثالثة عشر من المحرّم سنة 1354 هـ.
فاجتمع علىَّ مَن في الحرم الشريف، وأقبل مَن في الصحن والسوق، وازدحم الناس في الحضرة المنوّرة، وكثر التكبير والتهليل، وخرق الناس ثيابي، وجاءت الشرطة فأخرجوني إلى البهو الذي هو أمام الحرم، فبقيت هناك إلى الصباح.
وعند الفجر تطّهرت للصلاة، وصلّيت في الحرم بتمام الصحة والعافية، ثُمّ قرأت مصيبة أبي الفضل (عليه السلام)، وابتدأت بقصيدة السيّد راضي بن السيّد صالح القزويني وهي:
أبَا الفَضلِ يَا مَنْ أسَسَّ الفَضل والإبا أَبا الفضل إلاّ أن تَكُونَ لَهُ أبا
والأمر الأعجب أنّي لمّا خرجت من الحرم قصدتُ داراً لبعض أرحامنا بكربلاء،وبعد أن قرأت مصيبة العبّاس خلوت بزوجتي، وببركات أبي الفضل حملت ولداً سمّيته " فاضل "، وهو حّي يرزق، كما رُزقت عبداللّه وحسناً ومحمّداً وفاطمة كنيتها أُم البنين.
هَذهِ مِن عُلاَه إحدَى المَعالِي وعَلَى هَذِه فَقِس مَا سِوَاهَا
وذكر أنّ السيّد الطاهر الزاكي السيّد مهدي الأعرجي، وكان خطيباً نائحاً له مدائح ومراثي لأهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، ورد النجف يوم خروجي إلى كربلاء، فبات مفكّراً في الأمر، وكيف يكون الحال؟! وفي تلك الليلة الثالثة عشر رأى في المنام كأنّه في كربلاء، ودخل حرم العبّاس، فرأى الناس مجتمعين علىَّ وأنا أقرأ مصيبة العبّاس، فارتجل في المنام:
لَقد كُنتَ بالسِلِّ المُبرّح داؤه فشافانَي العباسُ من مرضِ السلِ
ففضلت بينَ الناسِ قَدراً وإنَّما لي الفضل إذ أنّي عتيقُ أبي الفضلِ
وانتبه السيّد من النوم يحفظ البيتين، فقصد دارنا وعرّفهم بما رآه، وفي ذلك اليوم وضح لهم الأمر.
وقد نظم هذه الكرامة جماعة من الأُدباء الذين رأوا السيّد سعيد في الحالين الصحة والمرض.
فمنهم السيّد الخطيب العالّم السيّد صالح الحلّي (رحمه الله).
بأبِي الفَضِل استَجَرنَا فَحبَانَا مِنهُ مُنحه
وطَلبنَا أن يُداوِي أَلَمَ القَلّبِ وجُرحَه
فَكسَا اللّه سَعيداً بعد سُقم ثَوُب صِحه
بدل الرحمن منه قرحة القلب بفرحه
وقال الخطيب الفاضل الأُستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي:
بأبي الفَضْلِ زالَ عنّي سقامي مُذ كَساني منَ الشفاءِ بُرودا
وحَباني منَ السعادةِ حتّى صرُت في النَشأتين اُدعى سعيدا
وقال العلاّمة الشيخ علي الجشي أيده اللّه:
سعيدٌ سعدتَ وجزتَ الخطر من السلِّ في مثلِ لمحِ البَصْر
غداةَ التجأتَ لمثوى بهِ أبو الفضلِ حلَّ فرد القَدر
وقال السيّد حسون السيّد راضي القزويني البغدادي:
سعيدٌ لقدْ نالَ الشِفا من أبي الفَضْلِ ولولاه كانَ السقم يأذنُ بالقتلِ
ولا غروَ أن نال الشِفا منُه أنّهُ أبو الفضلِ أهلَ للمكارِمِ والفَضْلِ
وله أيضاً:
ذا سعيد بالبرءِ أضحى سعيداً وحَباه الإله عُمْرَاً جديداً
من أبي الفضلِ بالشفا نالَ فَضْلاً وامتناناً ونالَ عَيْشاً رغيداً
وللأديب الكامل السيّد محمّد بن العلاّمة السيّد رضا الهندي (رحمه الله).
لَمْ أنسَ فضلكَ يا أبا الفضلِ الذىِ هيهات أن يُحصى ثناه مُفصّلا
يكفيكَ يوم الطفِّ موقفُكَ الذي قَدْ كان ألمعَ ما يكون وأفضلا
ولقدْ نصرتَ بهِ النبىّ بسبطهِ وغدوتَ في دنيا الشهادةِ أوّلا
وأَنا الذىِ قدْ كان دائي مُهلِكاً وأجرْتني لمّا استجرتُ مؤمِّلا
ألبستَني ثوبَ الشِفاء وعدتُ حيّاً فيكَ يا ساقي عطاشى كربلا
وللخطيب الذاكر الفاضل الشيخ عبد علي الشيخ حسين.
سعيد التجى من ضرّهِ وسقامِهِ بقبر أبي الفضلِ المفدّى فعافاه
لعمري ترى الأقدارَ طوعَ يمينهِ كوالِدِهِ الكرّار يمناه يمناه
فآب وإبراهيم قرّت عيونُهُ ببرءِ سعيدِ الندبِ يشكر مولاه
سعيد سعيداً عش بظلِّ لوائِهِ بأسعدِ يوم لا تزال وأهناه
بفضلِ أبي الفضلِ الفضيلة حزتها ولولاه لم تنجُو من الضرِّ لولاه
وللشيخ جعفر الطريفي:
عجزَ الطبيبُ لعلّتي وقلاني وعجزتُ من سقميِ وطولِ زماني
هجرَ الصديقُ زيارَتي وكأنّني ما زرتُه في سقمهِ فجفاني
حتّى إذا قالوا فقلّوا خفية هجروا الأواني خيفةَ العدوان
فقصدتُ باباً للحوائج والشِفا العبّاس باباً للشِفا فشَفاني
لَولاه واراني الترابُ بحفرتي نِعمَ الطبيب الأوحد الربّاني
وللشيخ كاظم السوداني:
فكَمْ لأبي الفضلِ الأبيّ كرامات لها تليت عند البريّة آيات
وشاراته كالشَمس في الأفق شوهدت لها من نباتِ المجدِ أومت إشارات
سعيد سعيداً عادَ منها إلى الشفا به انسلّ عنه السِلّ إذ كم به ماتوا
أبو الفضلِ كَمْ فضل له ومناقب فيا جاحديه مثل برهانه هاتوا
هو الشبل شبل من عليّ وفي الوغى له أثر من بأسه وعلامات
لقد شعّت الأكوان من بدر فضله بأنواره أرّخ (وفيها مضيئات)
وللخطيب الشيخ حسن سبتي:
ألا عش سعيداً يا سعيدَ منعّما مدى الدهرِ إذ عُوفيت من فتكة السلِّ
عتيق حسين كان جدّك أوّلا لذا صرتَ ثانيه عتيقَ أبي الفضلِ
وللسيّد نوري ابن السيّد صالح ابن السيّد عبّاس البغدادي:
بُشرى لأبراهيم في نجلهِ من مرضِ السلِّ غدا سالما
أبرأه العبّاس من فضلِهِ وفضلُهُ بينَ الورى دائِما
الخامسة:
حدّثني الشيخ العالم الثقة الثبت الشيخ حسن ابن العلاّمة الشيخ محسن ابن العلاّمة الشيخ شريف آل الشيخ المقدّس، صاحب الجواهر (قدس سره)، عن حاج منيشد ابن سلمان آل حاج عبودة، من أهل الفلاحيّة، وكان ثقة في النقل، عارفاً بصيراً، شاهد الكرامة بنفسه، قال:
كان رجل من عشيرة البراجعة يسمّى (مخيلف) مصاباً بمرض في رجليه، وطال ذلك حتّى يبستا وصارتا في رفع الأصبع، وبقي على هذا ثلاث سنين، وشاهده الكثير من أهل المحمّرة، وكان يحضر الأسواق ومجالس عزاء الحسين (عليه السلام)، ويستعين بالناس، وهو يزحف على إليتيه ويديه، وقد عجز عن المباشرة ويئس.
وكان للشيخ خزعل بن جابر الكعبي في المحمّرة (حسينية) يقيم فيها عزاء الحسين (عليه السلام) في العشرة الأولى من المحرم، ويحضر هناك خلق كثير، حتّى النساء يجلسن في الطابق الأعلى من الحسينية، والعادة المطردة في تلك البلاد ونواحيها أنّ (الخطيب النائح) إذا وصل في قراءته إلى الشهادة قام أهل المجلس يلطمون بلهجات مختلفة، وهكذا النساء في اليوم السابع من المحرم كان المتعارف أن تذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس، وهذا الرجل أعني (مخيلف) يأتي الحسينية (ويجلس تحت المنبر لأنّ رجليه ممدودتان)(191)، وحينما وصل الخطيب إلى ذكر المصيبة أخذت الحالة المعتادة من في المجلس رجالاً ونساءً، وبينا هم على هذا الحال إذ يرون ذلك المصاب بالزمانة في رجليه (مخيلف) واقفاً معهم يلطم، ولهجته: " أنا مخيلف قيّمني العبّاس ".
وبعد أن تبيّن الناس هذه الفضيلة من أبي الفضل تهافتوا عليه وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها، وازدحموا عليه يقبّلون رأسه ويديه، فأمر الشيخ خزعل غلمانه أن يرفعوه إلى إحدى الغرف ويمنعوا الناس
عنه، وصار ذلك اليوم في المحمّرة أعظم من اليوم العاشر من المحرّم، وصار البكاء والعويل والصراخ من الرجال، وأمّا النساء فمنهنّ من تهلهل، وأُخرى تصرخ، وغيرها تلطم.
وذكر لي ملاّ عبد الكريم الخطيب من أهل المحمّرة، وكان حاضراً وقت الحديث، أنّ الشيخ خزعل في كُلِّ يوم يصنع طعاماً لأهل المجلس في الظهر، وفي ذلك اليوم تأخّر الغداء إلى الساعة التاسعة من النهار لبكاء الناس وعويلهم.
وقال العلاّمة الشيخ حسن المذكور: ثُمّ إنّه سُئل مخيلف عمّا رآه وشاهده؟ فقال: بينا الناس يلطمون على العبّاس أخذتني سنة وأنا تحت المنبر، فرأيت رجلاً جميلاً طويل القامة، على فرس أبيض عال في المجلس وهو يقول: يا مخيلف لِمَ لا تلطم على العبّاس مع الناس؟
فقلت له: يا أغاتي لا أقدر وأنا بهذا الحال.
فقال لي: قم والطم على العبّاس!
قلت له: يا مولاي أنا لا أقدر على القيام.
فقال لي: قم والطم!
قلت له: يا مولاي أعطني يدك لأقوم؟
فقال: " أنا ما عندي يدين "!
فقلت له: كيف أقوم؟
قال: الزم ركاب الفرس وقم، فقبضت على ركاب الفرس وأخرجني من تحت المنبر وغاب عنّي، وأنا في حالة الصحة، وعاش سنتين أو أكثر ومات.
وحدّثني المهذّب الكامل ميرزا عباس الكرماني أنّه تعسّرت عليه حاجة، فقصد أبا الفضل واستجار بضريحه، فما أسرع أن فتحت له باب الرحمة وعاد بالمسرّة بعد اليأس مدّة طويلة فأنشأ:
أبا الفضل إنّي جئتكَ اليومَ سائلاً لتيسير ما أرجو فأنتَ أُخو الشبلِ
فلا غروَ إن أسعفتَ مثْلي بائِساً لأنّكَ للحاجات تُدعى أبو الفضلِ
هذا ما أردنا إثباته من الكرامات، وهو قطرة من بحر، فإنّ الإتيان عليها كُلِّها يحتاج إلى مجلّد كبير ; لأنّ اللّه سبحانه منح (حامي الشريعة) جزيل الفضل، وأجرى عليه من الفيض الأقدس ما لم يحوه بشر غير الأنبياء المقرّبين والأئمة المعصومين، جزاءً لذلك الموقف الباهر الذي لم يزل يرنّ رجع صداه المؤلم في مسامع القرون والأجيال، مذكّراً بما أبداه أبو الفضل من إباء وشمّم وكر وإقدام، وتضحية دون الشّرع القويم.
اللواء
اللواء: ما يُعقد على رمح أو عصا، ويقال له: (الراية)، كما يطلق عليهما (العلم)، هذا عند أهل اللغة.
وعند المؤرّخين أنّهما شيئان، فذكروا أنّ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عقد لحمزة بن عبد المطلب لواءً أبيض في رمضان أول الهجرة، وفيه يقول حمزة:
فما برحوا حَتّى انتدبت لغارة لهم حيث حلوا ابتغي راحة الفضل
بأمر رسول اللّه أول خافق عليه لواء لم يكن راح من قبل
لواء لديه النصر من ذي كرامة إله عزيز فضله أفضل الفعل
وأوّل راية عقدها للمسلمين في شوّال من هذه السنّة(20).
والمعقود على رمح أو غيره إن كان واسعاً فهو الراية، وإلاّ فاللواء، ويقال للعلم الكبير: البند والعقاب، إن خُصّ الثاني بما
يعقده للولاة(21)، والتسمية بالعقاب اقتبسها العرب من الروم، فإنّ العقاب والنسر شارة الرومان يرسمونها على أعلامهم وينقشونها على أبنيتهم(22).
وكان أعلام الروم كباراً تحت كُلِّ علم عشرة آلاف أو أكثر(23).
وكانت راية كسرى يوم الجسر سنّة 13 هجرية من جلود النمر في عرض ثمانية أذرع، وطول اثني عشر ذراعاً، وهي المسمّاة " درفش كابيان "(24).
وهذه الراية كانت محفوظة في خزائنهم، ولم تكن بهذه السعة وإنّما زادوا عليها تبرّكاً، والأصل فيها أنّ الضحّاك بيوراسف خرجت من منكبيه سلعتان، فكان إذا اشتد عليه الألم طلاهما بدماغ إنسان يذبحه، فلاقى الناس منه عناء ونكد وجور، فأخذ ابنين لرجل من أهل أصبهان اسمه " كابي " فشقّ عليه، فدعا الناس للخروج على الضحّاك، وأخذ عصا وعلّق عليها جراباً وتبعه الناس، فتغلّب على الضحّاك وخلعوه عن الملك، واستراحوا من جوره، فعظّموا ذلك العلم، وتفألوا به، وزادوا فيه حتّى صار عند ملوك العجم العلم الأكبر الذي يتبرّكون به وسمّوه " درفش كابيان "(25).
كما احتفظ الأمويون براية ابن زياد التي أخرجها يوم الطفّ، ففي تاريخ (يزد) للآيتي ص72: أن أبا العلاء الطوفي كان هو وأبوه من عمّال الأمويين، طاف البلاد لأخذ البيعة لهم فلقّب (بالطوفي)، وكان معلّماً لهشام بن عبد الملك، فلمّا ولي هشام المُلك أراد أن يكافأه على خدمته، فبعثه عاملاً (على يزد) ودفع إليه تلك الراية، فسار أبو العلاء إلى (يزد)، ونصب الراية في البستان المشهور باسمه، ودعا أهل يزد إلى بيعة الأمويين، وكانوا على طريقة أهل البيت (عليهم السلام)، وأخذهم على ذلك أخذاً شديداً، وعاملهم بالقسوة والجور، وبقوا يتقلّبون على حسك الظلم إلى أن ظهر أبو مسلم الخراساني أيّام مروان الحمار، وتصرّف في خراسان وفارس سنّة 132 وسنة 133 هجرية، فراسله اليزديّون وطلبوا إنقاذهم من مخالب الطوفي، فبعث أبو مسلم محمّد الزمجي إلى أصفهان ويزد.
وبلغ الطوفي إقباله بجيش جرار، وأن اليزديّين معه، فخرج ليلاً من يزد إلى قرية " ابرند آباد "، فبعث محمّد الزمجي جماعة فقبضوا عليه وأتوا به إلى يزد، وتجمهر اليزديّون رجالاً ونساء عليه، واستقرّ الرأي على إحراقه والراية معه، ففعل بهما ذلك وانتهبوا القصر والبستان.
وإنّ المصادر التاريخية لم ترشدنا إلى أوّل من رفع اللواء، ويقوي في الظن أنّ (كابي) المتقدّم أوّل من اتخذه، كما أنّ الخليل ابراهيم (عليه السلام) أوّل من اتخذ الرايات، وذلك لمّا غلب الروم على لوط
وأسروه رفع الخليل راية وسار لمحاربة الروم، فغلبهم واسترجع لوطاً(26).
ولمّا جاء الإسلام، وانتشر العرب في أنحاء الشام وفارس ومصر، وتعدّدت دولهم، كثرت ضروب الألوية عندهم، وتنوعت أشكالها، وتعدّدت ألوانها وأطالوها وسمّوها بأسماء مختلفة، حتّى تفاخروا بتعدادها، فقد بلغت رايات العزيز باللّه الفاطمي لمّا خرج إلى فتح الشام خمسمائة راية ومثلها البوقات.
وكانوا ينقشون على راياتهم أسماء الخُلفاء والسلاطين والقواد، أرهاباً وإعزازاً وتفاؤلاً بالظفر، فقد كتب ابن بشكم على رايته (الرائقي) نسبة إلى ابن رائق، وربما كتبوا آيات القرآن عليها، فقد وجد في دير الظاهر مدينة برغوس في الأندلس راية من الحرير الخالص مطرزة بالنقوش الجميلة وعليها آيات قرآنية(27).
وكتب أبو مسلم الخراساني بالحبر على لوائه: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ }(28)، ثُمّ إنّه عقد لواء بعثه إليه إبراهيم الإمام اسمه " الظل " على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد آخر بعث به إليه اسمه " السحاب " على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً(29).
أمّا الوان الألوية والرايات فلا يُعرف عنها شيء في الجاهلية سوى راية العقاب فإنّها سوداء، وكذلك راية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويقال: إنّ رايات العرب كانت بيضاء(30).
أمّا رايات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مغازيه فمختلفة، ففي بدر كانت راية حمزة حمراء وراية أمير المؤمنين صفراء، ويوم أُحد وخيبر اللواء والراية أبيضان(31)، وفي عين الوردة الراية بلقاء(32).
وكانت أعلام بني أُميّة حمر، وكُلّ من دعا إلى الدولة العلوية فعلمه أبيض، ومن دعا إلى الدولة العباسية فعلمه أسود، ويقرب في الظنّ أنّ شعار العلويين الخضرة حتّى في راياتهم، فإنّ المأمون لمّا عقد ولاية العهد للإمام الرضا (عليه السلام) ألزم الناس بالخضرة وترك شعار العباسيين.
نعم، لمّا عقد المتوكّل لبنيه البيعة عقد لكُلِّ واحد منهم لوائين، أحدهما أسود وهو لواء العهد، والآخر أبيض وهو لواء العمل(33).
وكيف كان، فالراية: عقد نظام العسكر وآية زحفهم، فلا يخالون انجفالاً ما دامت تسري أمامهم، فهي بتقدّمها شارة الظفر وعلامة الفوز، فلن تجد جحفلاً منثالاً وفيلقاً ملتاثاً إلاّ إذا انكفأت الراية أو أُصيب حاملها، فخرّت، ولذلك لا تُعطى إلاّ للأكفّاء الحُماة الغيارى على المبدأ، ممّن لا يجبّنه الخور أو يفشله الضعف أو يخذله الطمع.
وفي قول سيّد الوصيّين (عليه السلام) شاهد عدل على هذا، فإنّه كان يحرّض الناس يوم صفين ويقول: " ولا تميلوا براياتكم ولا تزيلوا، ولا تجعلوها إلاّ مع شجعانكم، فإنّ المانع للذمار والصابر عند نزول الحقايق هم أهل الحفاظ.. واعلموا أنّ أهل الحفاظ هم الذين يحتفون براياتهم ويكتنفونها، ويصيرون حفافيها وورائها وأمامها، ولا يضيعونها، ولا يتأخّرون عنها فيسلمونها، ولا يتقدّمون عنها فيفردونها "(34).
ولقد كان حملة الرايات يتهالكون دون حملها إلى آخر قطرة تسقط من دمائهم، حذراً من وصمة الجبن، وشية العار، وسمة الخزي، ولا يدع لهم ثبات الجأش، وحمى الذمار، واصرة الشرف أن يلقوها ما دامت أيديهم تقلّها.
لا عَيبَ فيهم غَيرَ قَبضهم اللوا عندَ اشتباكِ السُمر قبضَ ضَنين
من أجل ذلك كانت راية الإسلام مع أمير المؤمنين في جميع مغازي الرسول ولم يفته مشهد إلاّ " تبوك " حيث لم يقع فيها قتال(35)، وإلاّ لمّا تركه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة مع ما يعلمه من بلائه وإقدامه.
وفي يوم بدر أعطاه الرسول (راية الإسلاّم)، فزحف بها والمسلمون خلفه ولمّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، فأظهر أمير المؤمنين (عليه السلام) فيها من البسالة والنجدة والبأس ما أطاش
الألباب، وحيّر العقول، وجبّن الشجعان، ووضع من قدرها، فطار (أبو الحسن) بذكرها، وحاز مجدها، واستأثر بفضلها.
وإنّ عمله في هذا اليوم الذي كسر اللّه به شوكة المشركين، وفلّ خدهم، لمن خوارق العادة، وأجلّ الكرامات، إذ لم يباشر قبله حرباً ولا نازل قرناً، فعمل في ذلك الجمع من النكاية والقتل الذريع ما لم يشاهد مثله، مع أنّ أكثر الجمع قد مارس الحرب، وقاسى الأهوال، وخاض الغمرات، وبارز الشجعان.
وأمّا يوم أُحد فكان اللواء مع مصعب بن عمير من بني عبد الدار، وإنّما أعطاه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جبراً لقلوب من آمن به من بني عبد الدار، خصوصاً لمّا كان لواء المشركين مع قومهم من بني عبد الدار، وبعد أن فعل مصعب ذلك اليوم ما يبهر العقول وأدّى حقّ اللواء حتّى قطعت يده اليمنى، ثُمّ اليسرى، وإذ قطعت ضمّ اللواء إلى صدره حتّى طعن بالرمح في ظهره فسقط إلى الأرض قتيلاً، دفع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اللواء إلى صاحبه (أبي الريحانتين)، فكان لأمير المؤمنين (عليه السلام) من البلاء العظيم والمقامات المحمودة ما لم يكن لأحد قط، حتّى عجبت من ثباته وحملاته الملائكة بقتله أصحاب الألوية.
ولمّا كانت الدبرة على المسلمين كان له الموقف المشهود، أبصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة فقال لعلي: " فرّقهم "، ففرّقهم، وقتل عمرو بن عبد اللّه الجمحي، ثُمّ أبصر جماعة أُخرى فقال له: " فرّقهم "، فحمل عليهم، وقتل شيبة بن مالك، فقال جبرائيل: هذه المواساة.
قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " وما يمنعه، إنّه منّي وأنا منه ".
فقال جبرائيل: وأنا منكما.
وسمعوا صوتاً:
لا سَيْفَ إلاّ ذو الفِقار ولا فَتىً إلاّ علي(36)
وفي يوم خيبر لمّا شاهد النّبي خور المسلمين وضعفهم وانتصار اليهود، لانكسار (الرجلين) في اليوم الأوّل والثاني، ساءه ذلك فقال: " لأعطينّ الراية غداً رجلاً يُحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله "، فاستطالت لها أعناق الرجال رجاءً أن يُدعوا لها، فيحظون بالفتح والسعادة الخالدة.
فأتاه الوصيُّ أرمدَ عين فسقاها من ريقه فشفاها
ومضى يطلب الصفوف فولّت عنه علماً بأنّه أمضاها
وبرى مرحباً بكفّ اقتدار أقوياء الأقدار من ضعفاها
ودحى بابها بقوّة بأس لو حمتها الأفلاك منه دحاها
وأمّا يوم حنين فلم يلق المسلمون أشدّ منه، فلقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وبلغت القلوب الحناجر، وعاتبهم اللّه على فرارهم عن حبيبه وخاتم رسله، ولكن ظهرت في هذا اليوم عظمة (صاحب الراية)، ومكانته من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وموقفه من الدّين، ومبلغه من الدفاع، وثباته في وجه الخطوب حتّى تراجع المسلمون.
ثُمّ لُفّت هذه الراية خمساً وعشرين سنة، ونشرها أمير المؤمنين يوم (الجمل)، وأعطاها لولده محمّد ابن الحنفية وقال له: هذه راية رسول اللّه لا تردّ قطّ، فزحف بها ابن حيدرة والجيش خلفه وقيس بن سعد بن عبادة يقول(37):
هذا اللواء الذي كنّا نحفّ به مع النّبي وجبريل لنا مددا
ما ضرّ من كانت الأنصار عيبته أن لا يكون له من غيرها أحدا
قوم إذا حاربوا طالت أكفّهم بالمشرفيّة حتّى يفتحوا البلدا
وأدّى شبل علي (عليه السلام) حقّها حتّى كان الفتح، كما أنّها كانت معه يوم النهروان.
أمّا يوم صفّين فكانت راية الهمدانيين مع سفيان بن يزيد، فلمّا قُتل أخذها أخوه عبيد، ثُمّ أخوه كرب، ثُمّ عمير بن بشير، ثُمّ الحرث بن بشير، ثُمّ وهب بن كرب، وكُلّهم قتلوا دونها.
وفي هذا اليوم الباهر كان لحملة الرايات من أهل العراق المقام المشكور، حتّى تضعضع من أقدامهم عرش معاوية لولا القضاء وإبرام المحتوم.
فكان ذوو ألويات يحرصون على رفعها، لكونها معقد الجيش، وبها يتمّ نظامهم، وتتطامن نفوسهم، ولم ينكسر الجيش إلاّ بقتل صاحب الراية وسقوطها.
ومن هنا نعرف مكانة أبي الفضل من البسالة، وموقفه من الشهامة، ومحلّه من الشرف، ومبوءه من الدّين، ومنزلته من الغيرة، ومرتقاه من السؤدد، يوم عبّأ الحسين أصحابه، فأعطى رايته أخاه " العبّاس "، مع أنّ للعبّاس أُخوة من أُمّه وأبيه، وهناك من أولاد أبيه من لا يسلم اللواء، كما أنّ في الأصحاب من هو أكبر سنّاً منه، مع صدق المفادات، ولكن سيّد الشهداء وجد أخاه أبا الفضل أكفى ممّن معه لحملها، وحفظهم لذمامه، وأرأفهم به، وإدعاهم، إلى مبدئه، وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره، وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً، وأشدّهم مراساً.
فكان " صاحب الراية " عند معتقد أخيه الإمام ثابت الجأش في ذلك الموقف الرهيب ثبات الأسد الخادر، وهذا بيان مطرد تلهج به الألسن، وإلاّ فما موقف الأسد منه! ومن أين له طمأنينة هذا البطل المغوار الثابت فيما يفر عنه الضرغام.
ولولا احتقار الأسد شبّهتها به ولكنّها معدودة في البهائم
نعم، أنسب تشبيه يليق بمقامه أنّه كان يصول ومعه صولة أبيه المرتضى.
وللعبّاس مزيّة على من حمل اللواء، وبارز الأبطال، وتقدّم للطعان، فإنّه (عليه السلام) قد ألمّت به الكوارث والمحن من نواحي متعدّدة: من جروح، وعطش، وفئة صرعى، وحرائر ولهى، وأطفال أمضّ
بها الظما، والواحدة منها كافية في أن تهدي إلى البطل ضعفاً، وإلى الباسل فراراً، لكن صريخة بني هاشم بالرغم من كُلّ هاتيك الرزايا كان يزحف بالراية في جحفل من بأسه، وصارم من عزمه، وكان في حدّ حسامه الأجل المتاح، وملك الموت طوع يمينه، إذاً فليس من الغريب إذا ظهر في غصن الخلافة ما يبهر العقول:
قسماً بصارمه الصقيل وإنّني في غير صاعقة السما لا أُقسم
لولا القضا لمحا الوجود بسيفه واللّه يقضي ما يشاء ويحكم
موقفه قبل الطفّ
يسترسل بعض الكتّاب عن موقفه قبل الطفّ فيثبت له منازلة الأقران والضرب والطعن، وبالغوا في ذلك حتّى حكي عن المنتخب أنّه يقول: كان كالجبل العظيم، وقلبه كالطود الجسيم ; لأنّه كان فارساً هُماماً وجسوراً على الضرب والطعن في ميدان الكفّار.
ويحدّث صاحب الكبريت الأحمر ج3 ص24 عن بعض الكتب المعتبرة لتتبّع صاحبها: أنّه عليه السلام كان عضداً لأخيه الحسين يوم حمل على الفرات وأزاح عنه جيش معاوية وملك الماء.
قال: وممّا يروى: أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) شاب على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يقدّر عمره بالسبع عشر سنة، يطلب المبارزة، فهابه الناس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي، وكانوا سبعة، وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولمّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) من هذه البسالة التي لاتعدو الهاشميين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولما رجع إلى مقرّه دعا أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) وأزال النقاب عنه، فإذا هو " قمر بني هاشم " ولده العبّاس (عليه السلام).
قال صاحب الكبريت بعد هذه الحكاية: وليس ببعيد صحة الخبر، لأنّ عمره يقدر بالسبع عشر سنة، وقد قال الخوارزمي: كان تاماً كاملاً.
وهذا نصّ الخوارزمي في المناقب ص147: " خرج من عسكر معاوية رجل يقال له: كريب، كان شجاعاً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بابهامه فتذهب كتابته، فنادى ليخرج إليّ علي، فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي فقتله، ثُمّ برز إليه شرحبيل بن بكر فقتله، ثُمّ برز إليه الحرث بن الحلاج الشيباني فقتله، فساء أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك، فدعا ولده العبّاس (عليه السلام)، وكان تاماً كاملاً من الرجال، وأمره أن ينزل عن فرسه وينزع ثيابه، فلبس علي (عليه السلام) ثياب ولده العبّاس وركب فرسه، وألبس ابنه العبّاس ثيابه وأركبه فرسه، لئلا يجبن كريب عن مبارزته إذا عرفه، فلمّا برز إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكّره الآخرة، وحذّره بأس اللّه وسخطه.
فقال كريب: لقد قتلت بسيفي هذا كثيراً من أمثالك، ثُمّ حمل على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فاتقاه بالدرقة وضربه علي على رأسه فشقّه نصفين، ورجع أمير المؤمنين وقال لولده محمّد بن الحنفية: قف عند مصرع كريب، فإنّ طالب وتره يأتيك، فامتثل محمّد أمر أبيه، فأتاه أحد بني عمّه وسأله عن قاتل كريب؟ قال محمّد: أنا مكانه، فتجاولا ثُمّ قتله محمّد، وخرج إليه آخر فقتله محمّد حتّى أتى على سبعة منهم "(38).
وفي ص105 من المناقب ذكر حديث العبّاس بن الحارث بن عبد المطلب: " وقد برز إليه عثمان بن وائل الحميري فقتله
العبّاس، فبرز إليه أخوه حمزة، وكان شجاعاً قوياً، فنهاه أمير المؤمنين (عليه السلام) عن مبارزته، وقال له: انزع ثيابك وناولني سلاحك وقف مكانك، وأنا أخرج إليه، فتنكّر أمير المؤمنين (عليه السلام) وبرز إليه وضربه على رأسه، فقطع نصف رأسه ووجهه وابطه وكتفه، فتعجّب اليمانيون من هذه الضربة وهابوا العبّاس بن الحارث "(39).
هذا ما حدّث به في المناقب، ومنه نعرف أنّ هناك واقعتين جرتا لأمير المؤمنين (عليه السلام) مع ولده العبّاس ومع العبّاس بن الحارث.
فانكار شيخنا الجليل المحدّث النوري في حضور العبّاس في صفّين، مدّعياً اشتباه الأمر على بعض الرواة بالعبّاس بن الحارث في غير محلّه، فإنّ الحجّة على تفنيد الخبر غير تامّة ; لأنّ آحاد هذا البيت ورجالاتهم قد فاقواالكُلّ في الفضائل جميعها، وجاؤوا بالخوارق في جميع المراتب، فليس من البدع إذا صدر من أحدهم ما يمتنع مثله عن الشجعان، وإن لم يبلغوا مبالغ الرجال.
فهذا القاسم بن الحسن السبط لم يبلغ الحلم يوم الطفّ، وقد ملأ ذلك المشهد الرهيب هيبةٌ وأهدى إلى قلوب المقارعين فرقاً، وإلى الفرائص ارتعاداً، وإلى النفوس خوراً، غير مبال بالجحفل الجرّار، ولا بمكترث بمزدحم الرجال حتّى قتل خمسة وثلاثين فارساً، وبطبع الحال فيهم من هو أقوى منه، لكن البسالة وراثة بين أشبال (علي)، على حدّ سواء، فهم فيها كأسنان المشط
صغيرهم وكبيرهم، كما أنّهم في الأنفة عن الدنية سيان، فلم يغتالوا الشبل الباسل حتّى وقف يشد شسع نعله، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله، وقد أنف (شبل الوصي) أن يحتفي في الميدان.
أهوى يشد حذاءه والحرب مشرعة لأجله
ليسومها ما إن غلت هيجاؤها بشراك نعله
متقلّداً صمصامه متفيئاً بظلال نصله
لا تعجبن لفعله فالفرع مرتهن بأصله
السحُب يَخلفُها الحَيا والليّث مَنظور بشبلهِ
يُردي الطليعة مِنهُم ويُريهُم آياتُ فِعلهِ(40)
وهذا عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب بارز يوم الطفّ الألوف مع صغر سنّه، حتّى قتل منهم على رواية محمّد بن أبي طالب ثلاثة وتسعين رجلاً بثلاث حملات.
وهذا محمّد بن الحنفية فإنّ له مواقفاً محمودة في الجمل وصفين والنهروان، وكانت الراية معه، فأبلى بلاء حسناً سجله له التاريخ وشكره الإسلام، وكان صغير السن على ما يظهر من السبط في تذكرة الخواص وابن كثير في البداية ج9 ص38(41)، فإنّهما نصّا على وفاته سنة 81 عن خمس وستين فتكون ولادته سنة 16 وله يوم البصرة الواقع سنة 36 عشرون سنة.
وحينئذ فلا غرابة في التحدّث عن موقف أبي الفضل وما أبداه من كر وإقدام خصوصاً بعد ما أوقفنا النصّ النبوي الآتي على ما حواه ولد أبي طالب من بسالة وبطولة.
وأمّا يوم شهادة أخيه الإمام المجتبى فله أربع وعشرون سنة وقد ذكر صاحب كتاب " قمر بني هاشم " ص84 أنّه لمّا رأى جنازة سيّد شباب أهل الجنّة ترمى بالسهام عظم عليه الأمر، ولم يطق صبراً دون أن جرد سيفه وأراد البطش بأصحاب " البغلة " لولا كراهية السبط الشهيد الحرب، عملاً بوصية أخيّه " لا تهرق في أمري محجمة من دم "(42)، فصبر أبو الفضل على أحرّ من جمر الغضا، ينتظر الفرصة، ويترقب الوعد الإلهي، فأجهد النفس، وبذل النفس في مشهد (النواويس)، وحاز كلتا الحسنيين.
موقفه في الطفّ
ربما يستعصي البيان عن الإفاضة في القول في هذا الفصل لشدّة وضوحه، وربما أعقب الظهور خفاءً، فإنّ من أبرز الصفات الحميدة في الهاشميين الشجاعة وقد جُبلوا عليها، وبالأخص الطالبيين، وقد أوقفنا على هذه الظاهرة الحديث النبويّ: " لو ولد الناس أبو طالب كُلّهم لكانوا شجعاناً "(43).
إذا فما ظنّك بطالبي أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل عمر بن عبد ودّ، ومزهق مرحب، وقالع باب خيبر، وقد عرق في ولده البسالة كُلّها والشهامة بأسرها، وعلّمه قراع الكتائب، فنشأ بين حروب طاحنة، وغارات شعواء، وخؤولته العامريّون الذين شهد لهم عقيل بالفروسية، وللخؤولة كالعمومة عرق ضارب في الولد، ومن هنا قالت العرب: (فلان معم مخول) إذا كان كريمهم وحوى المزايا الحميدة عنهما(44)، ولم يعقد أمير المؤمنين (عليه السلام) على أُمّ البنين إلاّ
لتلد له هذا الفارس المغوار والبطل المجرّب، فما أخطأت إرادته الغرض، ولا عدى سهمه المرمى.
فكان أبو الفضل رمز البطولة، ومثال الصولات، يلوح البأس على أسارير جبهته، فإذا يمّم كمياً قصده الموت معه، أو التقى بمقبل ولاّه دبره، ولم يبرح هكذا تشكوه الحرب والضرب، وتشكوه الهامات، والأعناق ما خاض ملحمة إلاّ وكان ليلها المعتكر، ولم يلف في معركة إلاّ وقابل ببشره وجهها المكفهر.
يمثّل الكرار في كراته بل في المعاني الغرّ من صفاته
ليس يد اللّه سوى أبيه وقدرة اللّه تجلّت فيه
فهو يد اللّه وهذا ساعده تغنيك عن إثباته مشاهده
صولته عند النزال صولته لولا الغلوّ قلت: جلّت قدرته
وهل في وسع الشاعر أن ينضد خياله، أو يتسنّى للكاتب أن يسترسل في وصف تلك البسالة الحيدرية، وجوهر الحقيقة؟ قائم بنفسه، ماثل أمام الباحث، بأجلى من كُلّ هاتيك المعرفات في مشهد يوم الطفّ.
ولعمري إنّ حديث كربلاء لم يبق لسابق في الشجاعة سبقاً ولا للاحق طريقاً إلاّ الالتحاق به، فلقد استملينا أخبار الشجعان في الحروب والمغازي يوم شأوا الأقران في الفروسيّة، فلم يعدهم في الغالب الاستظهار بالعدد، وتوفّر العتاد وتهيء ممدّات الحياة من المطعم والمشرب، وفي المغالب أنّ الكفاية بين الجيشين المتقابلين موجودة.
يسترسل المؤرّخون لذكر شجعان الجاهلية والحالة كما وصفناها، واهتزوا طرباً لقصة ربيعة بن مكدم، وهي: أنّ ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان من بني مالك بن كنانة كان أحد فرسان مضر المعدودين، خرج بالضعينة وفيها أُمه أُم سنان من بني أشجع بن عامر بن ليس بن بكر بن كنانة، وأُخته أُم عزة، وأخوه أبو القرعة، ورأى الظعينه دريد بن الصمّة فقال لرجل معه: صح بالرجل أن خَلّ الظعينة وانج بنفسك، وهو لا يعرفه، فلمّا رأى ربيعة أنّ الرجل قد ألحّ عليه ألقى زمام الناقة وحمل على الرجل فصرعه، فبعث دريد آخر فصرعه ربيعة، فبعث الثالث ليعلم خبر الأولين فقتله ربيعة وقد انكسر رمحه، فلمّا وافاه دريد ورأى الثلاثة صرعى ورمحه مكسوراً قال له: يا فتى مثلك لا يقتل، وهؤلاء يثأرون، ولا رمح لك، ولكن خذ رمحي وانج بنفسك والظعينة، ثُمّ دفع إليه رمحه ورجع دريد إلى القوم وأعلمهم أنّ الرجل قتل الثلاثة وغلبه على رمحه، وقد منع بالظعينة، فلا طمع لكم فيه(45).
هذا الذي حفظته السيرة مأثرة لربيعة بن مكدم بتهالكه دون الضعائن حتّى انكسر رمحه، ولكن أين هو من (حامى الظعينة) يوم
قاتل الألوف، وزعزع الصفوف عن المشرعة حتّى ملك الماء وملأ القربة، والكُلّ يرونه ويحذرونه؟!
وأنّى لربيعة من بواسل ذلك المشهد الرهيب فضلاً عن سيّدهم أبي الفضل، فلقد كان جامع رأيهم، فلم يقدهم إلاّ إلى محلّ الشرف، منكباً بهم عن خطة الخسف والضعة، على حين أن الأبطال تتقاذف بهم سكرات الموت؟!
هذا وللسبط المقدّس طرف شاخص إلى صنوه البطل المقدام كيف يرسب ويطفو بين بهم الرجال، ووجهه متهلّل لكرّاته، ولحرائر بيت النبوّة أمل موطد لحامية الظعائن.
وإليك مثالاً من بسالته الموصوفة في ذلك المشهد الدامي، وهي لا تدعك إلاّ مذعناً بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز، وطمأنينة لدى الأهوال.
الأوّل:
في اليوم السابع من المحرّم حوصر سيّد الشهداء ومن معه، وسدّ عنهم باب الورود، ونفذ ما عندهم من الماء، فعاد كُلّ منهم يعالج لهب الأوام(46)، وبطبع الحال كانوا بين أنّة وحنّة، وتضوّر، ونشيج، ومتطلّب للماء إلى متحرّ ما يبلّ غلته، وكُلّ ذلك بعين " أبي علي "، والغيارى من آله، والأكارم من صحبه، وما عسى أن يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وبوارق مرهفة، في جمع كثيف يرأسهم عمرو بن الحجاج، لكن " ساقي العطاشى " لم يتطامن على تحمّل تلك الحالة.
أَوَتَشْتَكي العطشَ الفواطمُ عنده وبصدرِ صعدتهِ الفراتُ المُفعمُ
ولو استقى نهرَ المحمرة لارتقى وطويل ذابله إليها سلّمُ
لو سدَ ذو القرنين دونَ وروده نسفتهُ همّته بما هو أعظمُ
في كفّه اليسرى السقاء يقلّه وبكفّه اليمنى الحسام المخذم
مثلُ السحابةِ للفواطمِ صوبه فيصيبُ حاصبَه العدوُ فيرجمُ
هناك قيض الحسين لهذه المهمة أخاه العبّاس، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إلى ذلك قبل الطلب، ويحدوه إليه حفاظه المرّ، فأمره أن يستقي للحرائر والصبية، وإن كان دونه شقّ المرائر، وسفك المهج، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم عشرين قربة، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فمضوا غير مبالين وكُلّ بحفظ الشريعة ; لأنّهم محتفون بشتيم من آل محمّد، فتقدّم نافع باللواء وصاح به عمرو بن الحجّاج: من الرجل؟ وما جاء بك؟
قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.
فقال له: أشرب هنيئاً.
قال نافع: لا واللّه لا أشرب منه قطرة والحسين ومن ترى من آله وصحبه عطاشا.
فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، وإنّما وضعنا هاهنا لنمنعهم الماء، ثُمّ صاح نافع بأصحابه: إملأوا قربكم، وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل، وحاميهم " ابن بجدتها " مسدّد الكماة، المتربي في حجر البسالة الحيدرية، والمرتضع من لبانها " أبو الفضل "، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين من تحدّثه نفسه بالدنوّ منهم، فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبلت غلّة الحرائر والصبيّة الطيبة من ذلك الماء، وابتهجت به النفوس(47).
ولكن لا يفوت القارئ، معرفة أنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أن تجدي أُولئك الجمع الذي هو أكثر من مائة وخمسين رجالاً ونساء وأطفالاً، أو أنّهم ينيفون على المائتين على بعض الروايات، ومن المقطوع به أنّه لم ترو أكبادهم إلاّ مرّة واحدة، أو أنّها كمصّة الوشل، فسرعان أن عاد إليهم الظما، وإلى اللّه سبحانه المشتكى.
الثاني:
كان أصحاب الحسين (عليه السلام) بعد الحملة الأُولى التي استشهد فيها خمسون، يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة، وكُلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه، فخرج الجابريان وقاتلا حتّى قتلا، وخرج الغفاريان فقاتلا معاً حتّى قتلا، وقاتل الحرّ الرياحي ومعه زهير بن القين يحمي ظهره حتّى فعلا ذلك ساعة، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم شدّ الآخر واستنقذه حتّى قتل الحر(48).
وفي تاريخ الطبري ج6 ص255: " إنّ عمرو بن خالد الصيداوي، وسعد مولاه، وجابر بن الحارث السلماني، ومجمع ابن عبد اللّه العائذي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلمّا أوغلوا فيهم عطف عليهم الناس من كُلّ جانب، وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسين أخاه العبّاس، فاستنقذهم بسيفه، وقد جرحوا بأجمعهم، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدو، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد، وفازوا بالسعادة الخالدة.
الشهادة
الشهادة
لم يفتأ قمر بني هاشم دؤوب على مناصرة الحقّ في شمّم وإباء عن النزول على حكم الدنيّة، منذ كان يرتضع لبان البسالة، وتربّى في حجر الإمامة، فترعرع ونصب عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النواميس الإلهية، لمطاردة الرجال، ومجالدة الأبطال، فإمّا فوز بالظفر أو ظفر بالشهادة، فمن الصعب عنده النزول على الضيم، وهو يرى الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياة تحت الأضطهاد، فكان لا يرى للبقاء قيمة " وإمام الحقّ " مكدور، وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كُلّ مبلغ.
ولكن لمّا كان سلام اللّه عليه أنفس الذخائر عند السبط الشهيد، وأعزّ حامته لديه، وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر، ولوائه الخفاق، وبطولته المعلومة ; لم يأذن له إلى النفس الأخير من النهضة المقدّسة، فلا الحسين يسمح به، ولا العائلة الكريمة تألف بغيره، ولا الحالة تدعه لأن يغادر حرائر أبيه بين الوحوش الكواسر.
هكذا كان أبو الفضل بين نزوع إلى الكفاح بمقتضى غريزته، وتأخّر عن الحركة لباعث ديني وهو طاعة الإمام (عليه السلام)، حتّى بلغ الأمر نصابه، فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ، وكان مِلْءُ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارة، ومن البلاء المقبل أُخرى، (ومركز الإمامة) دارت عليه الدوائر، وتقطّعت عنه خطوط المدد، وتفانى صحبه وذووه.
هنالك هاج (صاحب اللواء) ـ ولا يلحقه الليث عند الهياج ـ فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه، فلم يجد أبو عبد اللّه بدّاً من الإذن، حيث وجد نفسه لتسبق جسمه إذ ليس في وسعه البقاء على تلك الكوارث الملمّة من دون أن يأخذ ثأره من أُولئك المردة، فعرّفه الحسين أنّه مهما ينظر اللواء مرفوعاً كأنّه يرى العسكر متصلاً، والمدد متتابعاً، والأعداء تحذر صولته، وترهب إقدامه، وحرائر النبوّة مطمئنة بوجوده، فقال له: " أنت صاحب لوائي "، ولكن اطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء.
فذهب العبّاس إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلم ينفع، فرجع إلى أخيه وأخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش، فنهضت (بساقي العطاشى) غيرته الشمّاء، وأخذ القربة، وركب فرسه، وقصد الفرات، فلم يرعه الجمع المتكاثر، وكشفهم شبل علي عن الماء، وملك الشريعة، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسين، فرأى من واجبه ترك الشرب ; لأنّ الإمام ومن معه أضرّ بهم العطش، فرمى الماء من يده واسرع بالقربة محافظاً على مهجة الإمام ولو في آن يسير وقال(49):
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعدَه لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
تاللّه ما هذا فعال ديني
فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه، فلم يبالِ بهم، وجعل يضرب فيهم بسيفه ويقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا حتى اُوارى في المصاليت لقا
إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا ولا أهاب الموت يوم الملتقى
فكمن له زيد بن الرقاد الجهني، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي، فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السيف بشماله وجعل يضرب فيهم ويقول:
واللّه إن قطعتموا يميني إنّي أُحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين نجل النّبيّ الطاهر الأمين
فكمن له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة، فضربه على شماله فبراها، فضمّ اللواء إلى صدره.
فعند ذلك أمنوا سطوته، وتكاثروا عليه، وأتته السهام كالمطر، فأصاب القربة سهم وأُريق ماؤها، وسهم أصاب صدره، وسهم أصاب عينه، وحمل عليه رجل بعمود من حديد وضربه على رأسه المقدّس.
وهو بجنب العلقمي فليتَهُ للشاربين به يُداف العلقم
ونادى بصوت عال: عليك منّي السلام يا أبا عبد اللّه(50)، فأتاه الحسين (عليه السلام)، ويا ليتني علمت بماذا أتاه، أبحياة مستطارة منه بذلك الفادح الجلل، أو بجاذب من الأُخوة إلى مصرع صنوه المحبوب!
نعم، حصل الحسين عنده وهو يبصر هيكل البسالة وقربان القداسة فوق الصعيد، وقد غشيته الدماء السائلة، وجلّلته النبال، ورأى ذلك الغصن الباسق قد ألمّ به الذبول، فلا يمين تبطش، ولا
منطق يرتجز، ولا صولة ترهب، ولا عين تبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدّد.
أصحيح أنّ الحسين ينظر إلى تلكم الفجائع ومعه حياة تقدمه، أو عافية تنهض به؟ لا واللّه لم يبق الحسين بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً، معرّى عن لوازم الحياة، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله: " الآن انكسر ظهري، وقلت حيلتي، وشمت بي عدوي ".
وبان الانكسار في جبينه فانكدّت الجبال من حنينه
كافل أهله وساقي صبيته وحامل اللوا بعالي همّته
وكيف لا وهو جمال بهجته وفي محيّاه سرور مهجته
ورجع إلى المخيم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكمّه كي لا تراه النساء(51)، وقد تدافعت الرجال على مخيمه، فنادى بصوت عال: أما من مجير يجيرنا؟ أما من مغيث يغيثنا؟ أما من طالب حقّ ينصرنا؟ أما من خائف من النار فيذبّ عنّا؟
كُلّ هذا لإبلاغ الحجّة، وإقامة العذر، حتّى لا يعتذر أحد بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.
ولمّا رأته سكينة مقبلاً أخذت بعنان جواده، وقالت: أين عمّي العبّاس، أراه أبطأ بالماء؟
فقال لها: إن عمّك قُتل، فسمعته زينب فنادت: واأخاه! واعباساه! واضيعتنا بعدك! وبكين النسوة وبكى الحسين معهنّ، ونادى: واضيعتنا بعدك أبا الفضل.
المشهد المطهَّر
ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّه (عليه السلام) لم يترك القتلى في حومة الميدان، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وهذا وإن لم نجده صريحاً في كُلّ واحد من المستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه، وإنّ طبع الحال يستدعيه، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحرّ حتّى وضع بين يديّ الحسين، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسين فتيانه أن يحملوه إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وقد حمل القاسم بنفسه المقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر، وقتلى حوله من أهل بيته.
هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير، ومن البعيد جداً أن يحمل سيّد الشهداء أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك أُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم: " لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي "، ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه، وإن كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم الناس الشمّم والإباء والغيرة؟!
على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراء (عليها السلام)ص118 عن غيّبة النعماني: أنّ أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: " كان الحسين يضع قتلاه بعضهم مع بعض، ويقول: قتلة مثل قتلة النبيّين وآل النبيّين "(52).
نعم، ممّا لا شكّ فيه أنّه (عليه السلام) ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطع الأوصال، فلم يقدر على حمله، لأنّ في وسع الإمام أن يحرّك ذلك الشلو المبضع إلى حيث أراد ومتى شاء.
وإلاّ لِما قيل: من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسول أن يتركه في مكانه ; لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها(53) ; لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما.
بل إنّما تركه لسرّ دقيق، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومن له ذوق سليم، ولولاه لم يعجز الإمام عن حمله مهما يكن الحال، وقد كشفت الأيام عن ذلك السرّ المصون وهو: أن يكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها الناس، وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السماء رفعة وسناء، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأُمة مكانته السامية ومنزلته عند اللّه، فتقدّره حقّ قدره، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد، والزورة المتواصلة، ويكون (عليه السلام) حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى، وسبب الزلفى لديه.
فشاء المهيمن تعالى شأنه وشاء وليه وحجّته أن تكون منزلة أبي الفضل الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الآخروية، فكان كما شاءا وأحبا.
ولو حمله سيّد الشهداء إلى حيث مجتمع الشهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحجّة (عليه السلام)، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحجّج الطاهرين، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادق (عليه السلام) بإفراد زيارة مختصّة به، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر، كما شرع ذلك لأئمة الهدى غير ما يزار به جميع الشهداء بلفظ واحد، وليس هو إلاّ لمزايا اختصّت به.
وقد أرشدتنا آثار أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الموضع من مرقده الطيّب، ففي كامل الزيارة لابن قولويه ص256 بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي عن الصادق (عليه السلام) قال: " إذا أردت زيارة العبّاس بن علي وهو على شطّ الفرات بحذاء الحير، فقف على باب السقيفة وقل: سلام اللّه وسلام ملائكته... ".
وحكى المجلسي أعلى اللّه مقامه في مزار البحار عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارة أُخرى له في هذا المشهد، الذي أشار إليه الصادق برواية، غير مقيّدة بوقت من الأوقات.
وهكذا حكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النصف من رجب، وليلة القدر، ويومي العيدين، ومثله العلاّمة النوري في تحيّة الزائر.
وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي، فإنّه قال عند ذكر من قتل من آل الحسين: " وكلّهم مدفونون ممّا يلي رجلي الحسين (عليه السلام) في مشهده، حفر لهم حفيرة وأُلقوا فيها جميعاً.. إلاّ العبّاس بن علي رضوان اللّه عليه، فإنّه دفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضرية، وقبره ظاهر،
وليس لقبور أخوته وأهله الذين سمّيناهم أثر، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسين، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليه بالسلام، وعلي ابن الحسين في جملتهم، ويقال: إنّه أقربهم دفناً إلى الحسين (عليه السلام).
فأمّا أصحاب الحسين الذين قُتلوا معه، فإنّهم دفنوا حوله، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق، إلاّ أنا لا نشكّ أنّ الحائر محيط بهم.. "(54).
وعلى هذا مشى العلماء المحقّقون والمنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف، قريباً من شطّ الفرات، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص147، والسيّد الجزائري في الأنوار النعمانية ص344، والشيخ الطريحي في المنتخب، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص349، وحكاه في رياض الأحزان ص39 عن كامل السقيفة(55).
وهو الظاهر من ابن إدريس في السرائر، والعلاّمة في المنتهى، والشهيد الأوّل في مزار الدروس، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسبزواري في الذخيرة، والشيخ آغا رضا في مصباح الفقيه، فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه(56).
ملاحظة
تقدّم في نقل البحار أنّ الحرّ الرياحي حُمل من الميدان ووضع أمام الحسين (عليه السلام)، وعليه يكون مدفوناً في الحائر الأطهر.
ولكن في الكبريت الأحمر ج3 ص124 جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: أنّ السجّاد دفنه في موضعه، منحازاً عن الشهداء، وفي ص75 ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشهداء لئلا يوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويقال: إنّ أُمه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشهداء.
وإذا صحّ حمل العشيرة إياه إلى حيث مشهده، فلا يتمّ ما في مدينة العلم من دفن السجّاد له، فإنّه من البعيد جداً أن تحمله العشيرة ثُمّ تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش، بل لم يعهد ذلك في أي أُمّة وملّة.
وعلى كُلّ، فهذا المشهد المعروف له ممّا لا ريب في صحته ; للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان، وفيهم العلماء والمتديّنون.
ويظهر من الشهيد الأوّل المصادقة عليه، فإنّه قال في مزار الدروس: " وإذا زار الحسين فليزر علي بن الحسين وهو الأكبر على الأصح، وليزر الشهداء وأخاه العبّاس والحرّ بن يزيد "(57).
ووافقه العلاّمة النوري في اللؤلؤ والمرجان ص115، واعتماد السلطنة محمّد حسن المراغي ـ من رجال العهد الناصري ـ في حجّة السعادة على حجة الشهادة ص56 طبع تبريز.
وقال المجلسي في مزار البحار عند قوله (عليه السلام) في زيارة الشهداء العامّة: " فإنّ هناك حومة الشهداء "، المراد منه معظمهم أو أكثرهم، لخروج العبّاس والحرّ عنهم(58).
ويشهد له ما في الأنوار النعمانية ص345 أنّ الشاه إسماعيل لما ملك بغداد، وزار قبر الحسين (عليه السلام)، وبلغه طعن بعض العلماء على الحرّ، أمرَ بنبشه لكشف الحقيقة، ولمّا نبشوه رآه بهيئته لمّا قتل، ورأى على رأسه عصابة قيل له: إنّها للحسين، فلمّا حلّها نبع الدم كالميزاب، وكُلّما عالج قطعة بغيرها لم يتمكّن، فأعادها إلى محلّها، وتبيّنت الحقيقة، فبنى عليه قبة، وعيّن له خادماً، وأجرى لها وقفاً.
الحائر
جاء في حديث الصادق (عليه السلام) لفظ الحَيْر فإنّه قال: " وهو على شطّ الفرات بحذاء الحَيْر ".
والحير، بالفتح فالسكون كالحائر: هو المكان المنخفض الذي يسيل إليه ماء الأمطار ويجتمع فيه.
وفي تاج العروس بمادة حور: الحائر: اسم موضع فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد اللّه الحسين(59).
ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المقدّس حين أُجري عليه بأمر المتوكل العباسي ; لأنّ لفظ الحائر والحير وقع في لسان الصادق والكاظم قبل استخلاف المتوكّل.
نعم، إنّ اللّه سبحانه أكرم حجّته، ووليه المذبوح دون دينه القويم، ممنوعاً من ورود الماء الذي جعل شرع سواء لعامة المخلوقات ; باستدارة الماء حول قبره يوم أُجري عليه، لإعفاء أثره ومحو رسمه (ولن يزداد أثره إلاّ علواً)(60).
ولقد شعّت هذه الآية الباهرة، فاستضاءت منها الحقف والأعوام، واهتزّت لها الأندية والمحافل ارتياحاً، وتناقلها العلماء المنقّبون في جوامعهم، منهم الشهيد الأوّل في الذكرى، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسبزواري في الذخيرة، والشيخ الطريحي في المنتخب، والشيخ المحقّق في الجواهر.
وكم لآل الرسول من براهين كاثرت النجوم بكثرتها، وقد اجتهد أهل العناد في إغفالها أو افتعال نظائرها لأئمتهم، حقداً وحسداً { وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ }(61).
مَن يباريهم وفى الشمس معنى مجهد متعب لمن باراها
ورثوا من محمّد سبق أولا ها وحازوا مالم تحز اخراها
قادة علمهم ورأي حجاهم مسمعاً كلّ حكمة منظراها
علماء أئمة حكماء يهتدي النجم باتباع هداها
يتحدّث اليافعي في مرآة الجنان ج4 ص273 عن كرامة لأحمد بن حنبل فيقول: " زادت دجلة زيادة مفرطة حتّى خربت مقبرة أحمد بن حنبل، سوى البيت الذي فيه ضريحه، فإنّ الماء دخل في الدهليز علوّ ذراع ووقف بإذن اللّه، وبقيت البواري عليها الغبار حول القبر، صح الخبر ".
هكذا يرتاح لهذه الكرامة ويصحّح الخبر، ولكنّه يتوقّف عن إثبات تلك الكرامة لسيّد شباب أهل الجنّة، وفلذة كبد الإسلام، وريحانة النبىّ الأعظم.
وما أدري بماذا يعتذر يوم جرفت دجلة قبر ابن حنبل ومحت أثره حتّى لم يعرف له ضريح إلى اليوم(62).
وقد أجاد العلاّمة الشيخ محمّد السماوي إذ يقول:
ألا من عذيري يا بني العلم والحجى من اليافعي الحنبلي المجلّلِ
يكذّبني إن قلت: قبر ابن فاطم عليه استدار الماء للمتوكّلِ
ويزعم حارَ الما ولم تجل غبرة على حصر كانت بقبر ابن حنبل
وإنّ لأمثال ذلك في كتبهم أُنشىء الكثير، أرادوا به المقابلة لما صدر من آل النّبي المعصومين، والإشارة إلى بعض ما أوقفنا البحث عليه وإن يخرجنا عن وضع الرسالة، إلاّ أنّ الغرض تعريف القارئ بأنّ العداء كيف يأخذ بالشخص إلى إنكار البديهي والتعامي عن النيرات.
ذكر اليافعي في مرآة الجنان ج3 ص113: " إنّ أبا إسحاق الشيرازي المتوفّى سنة 476 هجرية لمّا ورد بلاد العجم، خرج أهلها إليه بنسائهم وأطفالهم للتبرّك به، فكانوا يمسحون أردانهم به، ويأخذون من تراب نعله فيستشفون به ".
وإذا صحّ مثل هذا، فلماذا كان الاستشفاء بتربة الحسين (عليه السلام) ـ وهو سيّد شباب أهل الجنّة ـ بدعة وضلالة؟!
ثُمّ في ج3 ص133 منه يعدّ من فضائل أحمد وكراماته، وما حباه اللّه عن خدمته في الدّين: " إنّ إبراهيم الحربي رأى في المنام بشر الحافي خارجاً من مسجد الرصافة، وفي كمّه شيء، فسأله عنه، فقال: لمّا قدم علينا روح أحمد بن حنبل نثر عليه الدر والياقوت، فهذا ممّا التقطته ".
أصحيح أن تُعدّ هذه الرؤيا من الكرامات، ويُعدّ من الباطل حديث الرسول الأعظم في حقّ سيّد الوصيّين، ومن هو منه بمنزلة هارون من موسى، ولولاه لما قام للدّين عمود، ولمّا أخضّر له عود، وذلك لما تزوّج أمير المؤمنين من سيّدة نساء العالمين، بأنّ اللّه تعالى أمر شجرة طوبى أن تحمل صكاكاً فيها براءة لمحبّي علي وفاطمة من النار، وأنشأ تحتها ملائكة التقطوا ما نثرته عليهم، يحفظونه إلى يوم القيامة، كرامة لعلي وفاطمة؟!
ثُمّ يرمي راوي هذه الكرامة بالجهالة والرفض ويعدّ الحديث من الموضوعات(63)، مع شهرة الحديث بين المحدّثين والمنقبين في الآثار.
وجاء السبكي فعد في طبقات الشافعية ج1 ص215 من فضائل أحمد بن نصر الخزاعي، الذي قتله الواثق على مسألة خلق القرآن: تكلّم رأسه بالقرآن لمّا قُطع وبقي يقرأه إلى أن أُلحق بالجسد ودفن.
وإذ سمعوا بأنّ رأس الحسين الذي قُتل في سبيل الدعوة الإلهية وإحياء الدّين يتكلّم بالقرآن، لإتمام الحجّة، وتعريفاً للأُمة طغيان أُولئك الأُمراء، ولئلاّ تذهب تلك التضحية المقدّسة أدراج التمويهات، طعنوا في الحديث، ونسبوا راويه إلى الرفض والجهالة، مع أنّ الحسين لم يخرج عن كونه ابن الرسول، وقد شهد الصادق الأمين له ولأخيه المجتبى بأنّهما إماما هذه الأُمة، إن قاما وإن قعدا، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، ولم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً للعباد، ولا غاصباً للحقوق.
ولم يقتنع بذلك حتّى ادّعى كرامة لإسماعيل الحضرمي وأنّها من المستفيض، قال في ج5 ص51 من طبقات الشافعية: " إنّ إسماعيل بن محمّد ابن إسماعيل الحضرمي كان في سفر ومعه خادمه، فأشرفت الشمس على الغروب، فقال لخادمه: قُلْ للشمس تقف حتّى نَصل المنزل ونصلّي! فقال الخادم: إنّ الفقيه إسماعيل يقول لك: قفِ، فوقفت حتّى بلغ المنزل وصلّى، ثُمّ قال للخادم: أما تطلق ذلك المحبوس، فأمرها الخادم بالغروب، فغابت وأظلم الليل في الحال!!
هكذا يقول الخبر من المستفيض في رجل قصارى ما يتخيّل فيه أنّه أحد الأولياء، وينكر حديث ردّ الشمس لأمير المؤمنين، وكان من أعلام النبوّة!
ويرتاح الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج4 ص423 إلى حديث الوركاني بوقوع المآتم والنوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس، يوم وفاة أحمد بن حنبل!(64) ولا يكون هذا من البدعة والشناعة والخروج عن أخلاق المؤمنين! كما تحاملوا بذلك على الشيعة في إقامتهم المآتم والنياحة على سليل الرسول وريحانته حتّى قال الغزالي في مكاشفة القلوب ص187: " إياك أن تشتغل ببدع الرافضة من الندب والنياحة والحزن، فإنّ ذلك ليس من أخلاق المؤمنين "!!
وضرب على وتره غير واحد من المؤرّخين.
وما ذنب الشيعة والمشرّع الأعظم بكى على ولده الحسين وهو حيّ يرزق لمجرّد تذكّر ما يجري عليه، فيخرج إلى المسجد ودموعه جارية، فتبكي الصحابة لبكائه، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وأبو ذر، وعمّار، ويسأل عن سبب بكائه؟ فيقول: " الآن حدّثني جبرائيل بما يجري على الحسين "(65).
ويمرّ أمير المؤمنين بوادي كربلاء في ذهابه إلى صفّين، فيقف هناك ويرسل عبرته ويقول: " هذا مناخ ركابهم، ومهراق دمائهم، طوبى لكِ من تربة تراق عليك دماء الأحبة "(66).
إذن، فهلاّ تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيّه المقدّم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النهضة المقدّسة، واللّه عزّ وجلّ يقول: { لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ }(67).
على أنّ الأحاديث الصحيحة عندهم عن أئمتهم تحثّهم على التظاهر بما فيه إحياء أمرهم من الدعوة إلى سبيل الدّين، وإظهار الجزع والبكاء والنوح على سيّد شباب أهل الجنّة.
ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) في دعائه الطويل وهو ساجد: " اللهمّ ارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهمّ إنّ أعداءنا عابوا عليهم خروجهم إلينا، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا، رغبة في برّنا، وصلة لرسولك، وخلافاً منهم على ما خالفنا، اللهمّ أعطهم أفضل ما يأملون في غربتهم عن أوطانهم، وما أثرونا به على أبنائهم "(68).
ويقول (عليه السلام) لحمّاد الكوفي: " بلغني أنّ أُناساً من الكوفة وغيرهم من نواحيها يأتون قبر الحسين في النصف من شعبان، فبين قارئ يقرأ، وقاصّ يقصّ، ومادح يمدح، ونساء يندبنه "؟
فقال حمّاد: قد شهدت بعض ما تصف.
فقال (عليه السلام): " الحمد للّه الذي جعل في شيعتنا من يفد إلينا ويمدحنا ويرثي لنا، وجعل في عدوّنا من يقبّح ما يصنعون "(69).(70)
ولمّا قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرت فضل زيارة الحسين لقومي وبنيّ كذبوني؟ فقال: " دع الناس يذهبون حيث شاؤوا وكن معنا "(71).
فإذا كان هذا وأمثاله الكثير ممّا أوجب فعل الشيعة لتلك المظاهر، فلماذا يُطعن عليهم عند إيمانهم بها، وما ذنبهم؟! أفلا يتأوّل عملهم والحال هذا كما أوّلوا عمل خالد وغيره؟ أين المنصفون؟
نعم، ليس السرّ فيما حكموا به على الشيعة من الرياء والتصنّع والشنعة والبدعة إلاّ قيامهم بهذه الشعائر التي فيها إظهار مظلومية أهل البيت العلوي، وتفظيع أعمال المناوئين لهم، وإعلام الملأ بما نشروه من الجور، واسترداد الجاهلية الأُولى، كما اعترف به ابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص202 قال: " إنّ الشيعة لم يريدوا بهذه الأعمال إلاّ أن يشنّعوا على دولة بني أُمية، لأنّه قتل في دولتهم "(72).
وعليه فلا يكون العمل المستلزم للتشنيع على عمل الجبابرة وطواغيت الأُمة بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة، وتلاعبهم بالدّين الحنيف تلاعب الصبيان بالإكر ; مقرباً للمولّى زلفة، ورضىً لربِّ العالمين.
نهر العلقمي
لم يذكر أصحاب المعاجم هذا الوصف، وأهمله المؤرّخون، كما لم يصفه حديث الصادق (عليه السلام) في الزيارة المتقدّمة فإنّ فيها: " وهو مدفون بشط الفرات بحذاء الحير "(73).
لكن شيخنا الطريحي ذكر في المنتخب ص91: أنّ رجلاً من أهل الكوفة حدّاد قال: خرجت في البعث الذي سار إلى كربلاء، فخيّمنا على شاطئ العلقمي، وحموا الماء عن الحسين ومن معه حتّى قُتِلوُا، وأهله وأنصاره عطاشا، ثُمّ رجعنا إلى الكوفة، وبعد أنّ سيّر ابن زياد السبايا إلى الشام رأيت في المنام كأنّ القيامّة قامت، والناس يموجون، وقد أخذهم العطش، وأنا أعتقد بأنّي أشدّهم عطشاً، مع شدّة حرارة الشمس، والأرض تغلي كالقار، إذ رأيت رجلاً عمّ الموقف نوره، وفي أثره فارس، وجهه أنور من البدر، وبينا أنا واقف إذ أتاني رجل وقادني بسلسلة إليه فقلت له: أُقسم عليك بمن أمرك مَن تكون؟
قال: أنا من الملائكة.
قلت:ومن هذا الفارس؟
قال: هذا علي أمير المؤمنين.
قلت: ومَن ذلك الرجل؟
قال: محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثُمّ رأيت عمر بن سعد وقوماً لم أعرفهم في أعناقهم سلاسل من حديد، والنار تخرج من أعينهم وآذانهم، ورأيت النبيّين والصدّيقين قد أحدقوا بمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول اللّه لعلّي: " ما صنعتَ "؟
قال: " لم أترك أحداً من قاتلي الحسين إلاّ جئت به "، فقدموهم أمام رسول اللّه وهو يسألهم عمّا صنعوا بولده يوم كربلاء، فواحد يقول: أنا حميت الماء عنه.
والآخر يقول: أنا رميته.
والثالث يقول: أنا وطأت صدره.
ورابع يقول: أنا قتلت ولده.
وهو يبكي حتّى بكى مَن حوله لبكائه، ثمّ أمر بهم إلى النار، وجي برجل قال له: ما صنعت؟
قال كنت نجاراً، وما حاربت، ولا قتلت.
فقال: " لقد كثّرت السواد على ولدي "، فأمر به إلى النار.
ثُمّ قدّموني إليه، فحكيت له فعلي، فأمر بي إلى النار، فلمّا قصّ الرؤيا على من حضر عنده، يبس لسانه، ومات نصفه، وهلك بأسوأ حال، وقد تبرّأ منه كُلّ من سمع وشاهد.
وفي مدينة المعاجز ص263 باب 127 روي عن رجل أسدي قال: " كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أمُية، فرأيت عجائباً لا أقدر أن أحكي إلا بعضاً منها: إذ هبت الريح تمّر علىّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وأرى نجوماً تنزل من السماء وتصعد مثلها من الأرض، ورأيت عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر، يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسد جلّله الأنوار،
فكان يمرّغ وجهه وجسده بدمه، وله صوت عال، ورأيت شموعاً معلّقة، وأصواتاً عالية، وبكاء وعويلاً، ولا أرى أحداً "(74).
وفي مناقب ابن شهرآشوب ج2 ص190: روى جماعة من الثقات: أنّه لمّا أمر المتوكّل بحرث قبر الحسين، وأن يجري عليه الماء من العلقمي، أتى زيد المجنون وبهلول المجنون إلى كربلاء ونظرا إلى القبر لم يتغيّر بما صنعوا(75).
وفي هذا دلالة على وصف النهر بالعلقمي في تلك الأيام، ويؤكّد ذلك ما في مزار البحار ص161 عن مزاري المفيد وابن المشهدي من ورود رواية بزيارة العبّاس (عليه السلام) غير مقيّدة بوقت، وفيها: " إذا وردتَ أرض كربلاء فأنزل منهما بشاطئ العلقمي، ثُمّ اخلع ثياب سفرك واغتسل غسل الزيارة مندوباً وقل... "(76).
وفي تحيّة الزائر ص135 ذكر عنهما وعن الشهيد الأوّل وابن طاووس، ورود رواية بزيارة للحسين وقالوا: " إذا وردت قنطرة العلقمي فقل: إليك اللهمّ قصد القاصد.. "(77).
والظاهر منه ورود لفظ العلقمي في الرواية وليس من كلام العلماء، خصوصاً بعد العلم بأنّهم لا يذكرون إلا ما يعتمدون عليه في الروايات، ومنه نعرف أن نهر العلقمي كان معروفاً في الأزمنة السابقة على زمان ابن العلقمي الذي هو في القرن السابع.
وجاء في نصّ الشيخ الطوسي، ففي مصباح المتهجد ص499: " إنّ الصادق (عليه السلام) قال لصفوان الجمّال: إذا أتيت الفرات (أعني شرعة الصادق بالعلقمي) فقل: اللهمّ أنت خير من وفد.. "(78).
وعلى هذا يكون قول الفاضل السيّد جعفر الحلّي على الحقيقة:
وهَوى بجنبِ العَلقمّي فليتَه للشاربين بِه يداف العلقم
نعم، لم يُعرف السبب في التسمية به، وما قيل في وجهها: (إنّ الحافر للنهر رجل من بني علقمة، بطن من تميم، ثُمّ من دارم جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس) لا يعتمد عليه، لعدم الشاهد الواضح.
ومثله في ذكر السبب كثرة العلقم حول حافتي النهر، وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النهر ووكله إلى رجل اسمه علقمة، فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة.
وحكي في الكبريت الأحمر ج2 ص112 عن السيّد مجد الدين محمّد المعروف بمجدي من معاصري الشيخ البهائي في كتابه زينة المجالس المؤلّف سنة 1004: " أنّ الوزير السعيد ابن العلقمي لمّا بلغه خطاب الصادق (عليه السلام) للنهر: " إلى الآن تجري وقد حُرم جدي منك" أمر بسدّ النهر وتخريبه، ومن أجله حصل خراب الكوفة، لأنّ ضياعها كانت تسقى منه ".
مشهد الرأس
ذكر أرباب المقاتل أنّ عمر بن سعد أمر بالرؤوس فقُطعت، فكانت ثمانية وسبعين رأساً، أخذت كندة ثلاثة عشر، وأقبلت هوازن باثني عشر، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً، وأقبلت بنو أسد بستّة عشر رأساً، واختصت مذحج بسبعة، ولسائر الجيش ثلاثة عشر رأساً(79).
وساروا بها إلى الكوفة، ثُمّ سيّر ابن زياد رأس الحسين ورؤوس من قُتل معه من أهله وصحبه مع السبايا إلى يزيد بالشام(80).
ولم يترك سيّد الشهداء الدعوة إلى الدّين، وتفنيد عمل الظالمين حتّى في هذا الحال، وهو مرفوع على القناة، فكان متمّماً لنهضته المقدّسة التي أراق فيها دمه الطاهر، وقد استضاء خلق كثير من إشراقات رأسه الأزهر.
لهفي لرأسكَ فوق مسلوب القنا يكسوه من أنواره جلبابا
يتلوا الكتاب على السنان وإنّما رفعوا به فوق السنان كتابا
ولا غرابة بعد أن كان سيّد الشهداء دعامة من دعائم الدّين، ومنار هداه، وعنه يأخذ تعاليمه، ومنه يتلقّى معارفه، وهو صراطه المستقيم، ومنهجه القويم، دونه كانت مفاداته، وفي سبيله سبقت تضحيته، فهو حليف القرآن منذ أُنشئ كيانه، لأنّهما ثقلا رسول اللّه، وخليفتاه على أُمته، وقد نصّ المشرّع الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض، فبذلك كان سلام اللّه عليه غير مبارح تلاوته طول حياته، في تهذيبه وإرشاده، في دعوته وتبليغه، في حلّه ومرتحله حتّى في موقفه يوم الطفّ، ذلك المأزق الحرج، بين ظهراني أُولئك الطغاة المتجمهرين عليه، ليتمّ عليهم الحجّة، ويوضح لهم المحجّة.
هكذا كان يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً، حتّى طفق يتلو القرآن رأسه الكريم، فوق عامل السنان، عسى أن يحصل من يكهربه نور الحقّ، غير أنّ داعية الحقّ والرشاد لم يصادف إلا قصراً في الإدراك، وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان: { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }(81).
وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضلال أن أمر بالرأس الشريف فطيف به في شوارع الكوفة وسككها(82).
يقول زيد بن أرقم: " كنت في غرفة لي، فمروا بالرأس على رمح، فسمعته يقرأ:{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }(83)، فوقف شعري، وقلت: رأسك أعجب و أعجب "(84).
ولمّا صُلب في سوق الصّيارفة، وهناك ضوضاء، فأراد (عليه السلام)لفت الأنظار نحوه، تنحنح تنحنحاً عالياً، فاتجه الناس نحوه، وأبهرهم الحال، فشرع في قراءة سورة الكهف إلى قوله تعالى: { اِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً }(85) "(86).
وعجب الحاضرون ; إذ لم تعهد هذه الفصاحة والإتيان على مقتضى الحال من رأس مقطوع، وبقي الناس واجمون لا يدرون ما يصنعون.
ولمّا صُلب على شجرة بالكوفة سمع يقرأ قوله تعالى: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ }(87).
قال هلال بن معاوية: سمعت رأس الحسين يخاطب حامله ويقول: فرّقت رأسي وبدني إفرق اللّه بين لحمك وعظمك، وجعلك آية ونكالاً للعالّمين، فرفع اللعين سوطاً وأخذ يضرب بين رأسه المطهّر(88).
وحدّث سلمة بن الكهيل أنّه سمع رأس الحسين بالكوفة يقرأ وهو مرفوع على الرمح: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(89)(90).
كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشكّ أنّه صوته حيث لم يعهد مثله يتكلّم، فإذا الإمام (عليه السلام) يخاطبه: " يا بن وكيدة، أما علمت أنّ معاشر الأئمة أحياء عند ربّهم يرزقون، فزاد تعجّبه وحدّث نفسه أن يسرق الرأس ويدفنه، فنهاه الإمام وقال: يا بن وكيدة ليس إلى ذلك سبيل، إنّ سفكهم دمي أعظم عند اللّه من إشهارهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون "(91).
وفي طريقهم إلى الشام نزلوا عند صومعة راهب، وفي الليل أشرف عليهم الراهب، فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف، وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً وقائلاً يقول: السلام عليك يا أبا عبد اللّه، فتعجّب الراهب! ولم يعرف الحال حتّى إذا أصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس؟ فأخبروه أنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، وأُمه فاطمة، وجدّه محمّد المصطفى، فطلب الرأس من خولي الأصبحي، فأبى عليه، فاسترضاه بمال كثير دفعه إليه، وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى وقال: تباً لكم أيتّها الجماعة، لقد صدقت الأخبار في قولها: إذا قتل هذا الرجل تمطر السماء دماً، ثُمّ أسلم ببركة الرأس الطاهر، وبعد أن ارتحلوا نظروا إلى الدراهم فإذا هي خزف مكتوب عليها: { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ }(92).
وحدّث المنهال بن عمر قال: " رأيت رأس الحسين بدمشق أمام الرؤوس ورجل يقرأ سورة الكهف فلمّا بلغ { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }، وإذ الرأس يخاطبه بلسان فصيح: وأعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي "(93).
وفي هذا الحال كُلّه لم ينقطع الدم من الرأس الشريف، وكان طريّاً، ويشمّ منه رائحة طيبة(94).
وبالرغم من جدّ يزيد في محو آثار أهل البيت واحتقار حرم النبّوة حتّى أنزلهم في الخربة التي لا تكنّهم من حرّ ولا برد(95)، واستعماله القسوة بالرأس المقدّس، من صلبه على باب الجامع الأُموي(96)، وفي البلد ثلاثة أيّام(97)، وعلى باب داره(98).
ولم يزل أهل الشام - ومن حضر فيها من غيرهم - يشاهدون كرامات باهرات من الرأس الزاهر لا تصدر إلا من نبىّ أو وصىّ نبىّ، فأحرجهم الموقف، خصوصاً بعد ما وقفت العقيلة زينب الكبرى سلام اللّه عليها في ذلك المجلس المغمور بالتمويهات والأضاليل، فأفادت الناس بصيرة بنوايا ابن ميسون السيئة، وموقفه من الشريعة الطاهرة، وأنّه لم يرد إلا استئصال آل الرسول، حيث لم يعهد في
الإسلام مثل هذا الفعل الشنيع خصوصاً مع عيال النبّي الكريم، ذلك الذي ما زال يهتف في مواقفه الكريمة باحترام المرأة وعدم التعرّض لها بسوء، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يشدّد النكير إذا بلغه في مغازيه قتل النساء(99).
حتّى إنّ جماعة من المسلمين لمّا استأذنوه لقتل ابن أبي الحقيق أذن لهم، وأمرهم بعدم التعرّض للنساء والصبيان وهم مشركون(100).
وعلى سيرته مشى المسلمون، وإنّ سيّدهم أمير المؤمنين (عليه السلام)لمّا أنزل عائشة في الدار، قال له رجل من الأزد: واللّه لا تفلتنا هذه المرأة، فغضب أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: " صه، لا تهتكن ستراً، ولا تدخلن داراً، ولا تهيّجن إمرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسفهن أُمراءكم وصلحائكم، فانّهنّ ضعاف، ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وإنهن لمشركات، وإنّ الرجل ليكافئ المرأة بالضرب، فيعير بها عقبه من بعده، فلا يبلغني عن أحد تعرض لامرأة فانكل به "(101).
من هذا عرف الناس ضلال يزيد وتيهه في الباطل، فاكثروا اللائمة عليه حتّى من لم ينتحل دين الإسلام.
وحديث رسول ملك الروم مع يزيد في مجلسه أحدث هزّة
في المجلس، وعرف يزيد الإنكار منهم، وأنّه لم تجد فيهم تلك التمويهات. وكيف تجدي وقد سمع من حضر المجلس صوتاً عالياً من الرأس المقدّس لمّا أمر يزيد بقتل ذلك الرسول: " لا حول ولا قوة إلا باللّه "(102).
وأىّ أحد رأى أو سمع قبل يوم الحسين (عليه السلام) رأساً مقطوعاً ينطق بالكلام الفصيح؟ وهل يقدر ابن ميسون أن يقاوم أسرار اللّه؟ أو يطفئ نوره تعالى شأنه؟ كلا.
ولقد أنكرت عليه زوجته هند بنت عمرو بن سهيل، وكانت عند عبد اللّه ابن عامر بن كريز، وهو ابن خال عثّمان بن عفان، فإنّ عامراً وارى أُم عثّمان أُمهم أُم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فاجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد بها(103).
فإنّها لمّا أبصرت الرأس الزاهي مصلوباً على باب دارها، ورأت الأنوار النّبويّة تتصاعد إلى عنان السماء، وشاهدت الدم يقطر منه طرياً، أدهشها الحال، وعظم مصابه في قلبها، فلم تتمالك دون أن دخلت على يزيد في مجلسه، مهتوكة الحجاب، وهي تصيح رأس ابن بنت رسول اللّه على دارنا، فقام إليها وغطاها وقال لها: اعولي وابكي على الحسين، فإنّه صريخة بني هاشم، عجّل عليه ابن زياد(104).
ورأت في منامها كأنّ رجالاً نزلوا من السماء وطافوا برأس الحسين يسلّمون عليه، ولّما انتبهت جاءت إلى الرأس، فأبصرت نوراً حوله، فطلبت يزيد لتقصّ عليه الرؤيا، فإذا هو في بعض الغرف يبكي ويقول: مالي ولحسين. وقد رأى مثل ما رأت(105)، فأصبح يزيد ومِلُْ إذنه حديث الأندية عن القسوة التي استعملها والجور الشديد، فلم يرَ مناصاً من إلقاء التبعة على عاتق ابن زياد وتبعيداً للسبّة عنه، ولكنّ الثابت لا يزال، وهذا هو السرّ في إنشاء كتاب صغير وصفه المؤرّخون بأنّه مثل (إذن الفأرة)، أرفقه بكتابه الكبير إلى الوالي بأخذ البيعة من المدينة عامّة، وفي الكتاب الصغير إلزام الحسين (عليه السلام) بالبيعة وإن أبى تضرب عنقه(106).
وليس الغرض من إنشاء الكتاب الصغير إلا أنّ يزيد لمّا كان عالماً بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجعله خليفة، ولا كانت بيعته ممّا اتفق عليها صلحاء الوقت وأشراف الأُمّة، وما صدر من الموافقة منهم يوم أرادها أبوه معاوية إنّما هو للوعيد والتهديد، فأراد يزيد أن يخلي رسمياته عن الأمر بقتل الحسين (عليه السلام) بحيث لو صدر ذلك من عامله ولامه الناس وخطّأوه، تدرّع بالعذر بخلوّ كتابه للعامل بهذا الفعل، وإنّما هو شي جاء به من قبل نفسه، وكان له المجال حينئذ في إلقاء التبعة على العامل.
ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب في إحياء العلوم ج3 ص106 في الآفة الثامنة من آفات اللسان، فهناك ترى الغزالي تائهاً
في الغلواء لمّا وشجت عليه عروق النصب والتحيّز إلى الأمويّين، فأبى أن يلعن قاتل الحسين (عليه السلام) حتّى على الإجمال فيقال: " لعنة اللّه على قاتل الحسين "، معلّلاً باحتمال موته بعد التوبة. وقد فاته أنّ التائب إن قُبلت توبته لا يشمله اللعن، فإذن أىّ بأس إذا قيل: لعنة اللّه على قاتل الحسين (عليه السلام)، لولا ذلك العداء المحتدم بين الحوائج والبغض لأهل هذا البيت الطاهر؟!
وأغرب من ذلك قياسه يزيد بوحشي قاتل حمزة أسد اللّه وأسد رسوله، فقال فيه: إنّ وحشي تاب عن الكفر والقتل جميعاً، ولا يجوز أن يلعن، مع أنّ القتل كبيرة، فإذا لم يقيّده بالتوبة وأطلق كان فيه خطر... إلى آخره(107).
لا قياس بين يزيد ووحشي، فإنّ وحشياً قتل حمزة وهو كافر، فلّما أسلم سقطت عنه كُلّ تبعة كانت عليه، لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، بخلاف يزيد فإنّه قتل الحسين (عليه السلام) وهو يظهر الإسلام، وقد ارتدّ بقتله ; إما لأنّ الحسين (عليه السلام) إمام معصوم، أو لتشفّيه بذلك من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بما صنعه مع خاله وجدّه يوم بدر.
على أنّ من المقطوع به أنّ من باء بذلك الإثم العظيم وهو قتل الحسين (عليه السلام) لا يتوفّق للتوبة نهائياً، فإنّه من الذنوب التي لا تدع صاحبها أن يتحيّز إلى خير أبداً.
كما أنّ من المقطوع به أنّ وحشياً وإن أظهر الإسلام أمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
وسكت عنه النبّي وقال: " غيّب وجهك عني "(108) فلا يختم له بالصلاح والسعادة أبداً، ولا يأتي يوم القيامة وعليه شارة الهدى، وقد قتل سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب الشاهد للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة.
كيف لا يلعن يزيد وقد جوّز العلماء المنقّبون لعنه، وصرّحوا بخروجه عن طريقة الإسلام، كما أفصح عن ذلك شعره، فإنّه لمّا وردت عليه سبايا آل الرسول وأشرفوا على ثنية جيرون ونعب الغراب قال(109):
لمّا بدت تلك الحمول وأشرقت تلك الشموس على ربى جيروني
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني؟!
فمن أُولئك العلماء القاضي أبو يعلى، وأحمد بن حنبل، وابن الجوزي(110)، والكيا الهراسي(111)، والشيخ محمّد البكري، وسعد
التفتازاني(112)، وسبط ابن الجوزي(113).
وقال الجاحظ: " إنّ المنكرات التي اقترفها يزيد من قتل الحسين وإخافته أهل المدينة، وهدم الكعبة، وحمل بنات رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سبايا، وقرعه ثنايا الحسين (عليه السلام) بالعود، هل تدلّ هذه القسوة والعلظة على نصب وسوء، وأىّ حقد و بغضاء ونفاق ويقين مدخول؟
أم تدلّ على الإخلاص وحب النبىّ والحفظ له وصحة السيرة؟
وعلى هذا فلا يعدو الفسق والضلال، وذلك أدنى مناله، فالفاسق ملعون، ومن نهى عن شتم الملعون فملعون "(114).
وقال العلاّمة الآلوسي: " لا توقّف في لعن يزيد، لكثرة أوصافه الخبيثة، وارتكابه الكبائر في جميع أيّام تكاليفه، ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكّة، والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت، ورضاه بقتل الحسين على جدّه وعليه أفضل الصلاة والسلام، واستبشاره بذلك وإهانته بأهل بيته ممّا تواتر معناه.
والذي يغلب على ظنّي أنّ الخبيث لم يكن مصدّقاً بالرسالة، وأنّ مجموع ما فعله مع أهل حرم اللّه وأهل نبيّه وعترته الطيّبين
الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما ورد منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقائه ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظنّ أمره خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين، لم يسعهم إلا الصبر، ليقضِ اللّه أمراً كان مفعولاً.
ولو سلّم أنّ الخبيث كان مسلماً، فهو مسلّم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنّا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يتصوّر أن يكون له مثل من الفاسقين، والظاهر أنّه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه.
ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة، فلعنة اللّه عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وشيعتهم ومن مال ميلهم إلى يوم الدّين، ما دمعت عين على أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام)، ويعجبني قول شاعر العصر عبد الباقي أفندي العمري:
يزيد على لعن عريض جناية فأغدو به طول المدى العن اللعنا
ومن يخشى القيل والقال بلعن ذلك الضليل فليقل: لعن اللّه من رضي بقتل الحسين، ومن آذى عترة النبىّ بغير حقّ، ومن غصبهم حقّهم، فإنّه يكون لاعناً له، لدخوله تحت العموم دخولاً أولياً في نفس الأمر.
ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ سوى ابن العربي المالكي وموافقيه، فإنّهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوّزون لعن من رضي بقتل الحسين، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي كاد
يزيد على ضلال يزيد... إلى آخره "(115).
وبعد هذا فهل يتوقّف أحد من لعن يزيد والبراءة منه؟ وإن كان فليس هؤلاء إلا الضلال والعناد أعاذ اللّه أولياءه من شرّ الحقد.
لمّا كثرت اللائمة على يزيد خشي الفتنة وانقلاب الأمر، فتداركه بإرجاع السجاد والعيال إلى وطنهم، ومكّنهم ممّا يريدون برأس الحسين إلى كربلاء ودفنه مع الجسد، ولم يختلف في ذلك إثنان من علماء الإمامية المعروفين بالبحث والتنقيب، ومن هنا نسبه المجلسي في البحار إلى المشهور بين العلماء(116).
وفي روضة الواعظين ص(117) قال: ردّ الرأس إلى الجسد.
وقال ابن نما في مثير الأحزان ص58: إنّه المعول عليه(118).
وفي اللهوف لابن طاووس ص112(119): عليه عمل الإمامية.
وقال ابن شهراشوب في المناقب ج2 ص200: ذكر المرتضى في بعض رسائله أنّ رأس الحسين أُعيد إلى بدنه في كربلاء(120).
وقال الطوسي: ومنه زيارة الأربعين(121).
وفي مقتل العوالم ص154: إنّه المشهور بين علمائنا(122).
وهو ظاهر الطبرسي في إعلام الورى ص151(123)، والسيّد في رياض المصائب.
وأما باقي الرؤوس فلم يتعرّض لها أرباب المقاتل، ولكن في نفس المهموم ص253، ورياض الأحزان ص155 عن حبيب السير: أنّ يزيد سلّم جميع الرؤوس إلى علي بن الحسين فألحقها بالأبدان الطاهرة في العشرين من صفر، ثُمّ توجه إلى المدينة(124).
ولعلّ الاعتبار يساعده، فإنّ يزيد لمّا نقم عليه الناس وكثر الاضطراب، لم يرَ بُداً من موافقة الإمام السجاد على كُلّ ما يريد وإخراجهم من الشام عاجلاً.
نعم، ذكر العلاّمة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة ج4 ص290 القسم الأوّل: أنّه رأى في سنة 1321 هـ في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع على بابه صخرة مكتوب عليها: " هذا مدفن رأس العبّاس ابن علي، ورأس علىّ الأكبر بن الحسين، ورأس حبيب بن مظاهر ".
قال: " ثُمّ إنّه انهدم بعد ذلك بسنين هذا المشهد، وأُعيد بناؤه، وأُزيلت هذه الصخرة، وبُني ضريح داخل المشهد، ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء، ولكن الحقيقة أنّه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدّم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مرّ، وهذا المشهد الظنّ القوي بصحة نسبته، لأنّ الرؤوس بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وانتهاء غرض يزيد من إشهار
الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفّي، لابدّ أن تدفن في إحدى المقابر، فدفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغير، وحفظ محلّ دفنها واللّه أعلم... إلى آخره "(125).
هذا ما ذكره السيّد أيده اللّه، ولو اطلع على حبيب السير لاعتقد عدم صحة الدفن هناك، على أنّ التغيير الذي ذكره يدلّنا على أنّ الحفظة لذلك المشهد لهم غرض آخر، وليس بالمستبعد أن ذلك المشهد محلّ صلب الرؤوس.
وحقيق أن يقال في كُلّ منها:
هامة في الحياة طاولت الشهب وما نالها هبوب الرياح
أنفت بعد موتها الترب فاختار ت لها مسكناً رؤوس الرماح
مشهد الكفين
لم يفتأ شيعة أهل البيت (عليهم السلام) كما أنّهم يقتصّون آثارهم في معارفهم وتعاليمهم، يتبرّكون بتعيين كُلّ ما يتعلّق بهم من مشهد أو معبد أو مقام، فيتبعونها بالحفاوة والتبجيل، ويرون ذلك من متممّات الولاء ولوازم الاتباع والمشايعة.
وهو كما يرون لأنّه إمّا مشهد يزار، أو معبد يقصد للعبادة، أو محلّ مسرّة فيسرّهم ذلك، أو موقف مأساة فيستاؤون لهم، وهذا هو التشيّع المحض، والاقتداء الصحيح.
ومن ذلك ما نشاهده في كربلاء المشرّفة من المقام (لكفّي أبي الفضل) اللذين تناقلتهما الألسن، وأخذ حديثهما الخلف عن السلف والسيرة المستمرة بين الإمامية كافية في القطع بثبوت (المقامين)، ولولاها لانتقض الأمر في كثير من المشاهد والمعابد والمقامات.
يقع مقام (الكفّ اليمنى) في جهة الشمال الشرقي على حدّ محلّة باب بغداد ومحلّة باب الخان، قريباً من باب الصحن المطهّر الواقعة في الجهة الشرقية، وعلى جدار المقام شباك صغير، وعلى جبهته بيتان بالفارسية لم يكتب اسم ناظمهما، ولا تاريخ البناء، ولا وضع الشباك، والبيتان:
أُفتاد دست راست خدايا زِبيكرم بَر دامَنِ حسين بِرسان دَستِ ديكرم
دست جبم بجاست اكر نيست دست راست
اما هزار حيف كه يك دست بيصداست
ويقع مقام (الكفّ اليسرى) في السوق الصغير القريب من الباب الصغير للصحن الواقعة في الجنوب الشرقي، ويعرف بسوق باب العبّاس الصغير، وعلى الجدار شباك، وكتب بالقاشاني عليه: " هذا نظم الشيخ محمّد المعروف بالسراج ".
سل إذا ما شئت واسمع واعلم ثمّ خذ منّي جواب المفهم
إنّ في هذا المقام انقطعت يسرة العبّاس بحر الكرم
هاهنا يا صاح طاحت بعدما طاحت اليمنى بجنب العلقم
اِجر دمع العين وابكيه أساً حق أن يبكى بدمع عن دم
الزيارة
الزيارة
ذكرنا فيما تقدّم أنّ الزيارة من المأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام)، ولكمال فضله وعلمه الجمّ، وورعه الموصوف وكراماته الخارجة عن حدّ الإحصاء، كان في المثول حول مرقده الأقدس بداعي الزلفى إلى المولى تعالى مزيد لرسوخ العقيدة بأمر الدّين، وتعريف للأُمة بما وجب من حقّ اللّه تعالى على خلقه، وإنّ العبد كيف يجب عليه بذل ذاته في مرضاة اللّه عزّ وجلّ.
ثُمّ إنّ الزيارة وإن كانت مجرّد الحضور عند المزور والسلام عليه بأي لفظ جاء به المسلّم، كما يؤيّده حديث مسلم ابن ظبيان عن الصادق (عليه السلام): " إذا أتيت القبر يعني قبر الحسين فقل: صلّى اللّه عليك يا أبا عبد اللّه، فقد تمّت زيارتك "(126).
ولكنّ الألفاظ الواردة عن أهل البيت يلزم الاحتفاظ بها، لأنّها اشتملت على ما يناسب مقام المزور من الخواص، وما له من جهاد نافع في سبيل الدّين، مضافاً إلى ما فيها من التأدّب عند أداء السلام عليه.
فالقول المأثور من أهل البيت (عليهم السلام) في السلام عليهم أو على أحد أولادهم أو أصحابهم راجح، ومن هنا أفتى صاحب الرسائل فيها وخاتمة المحدّثين النوري في المستدرك باستحباب زيارة
الحسين بالزيارة المأثورة وآدابها، ولا خصوصية له على غيره من أئمة الهدى (عليهم السلام)، وبذلك المناط يتسرى إلى غيرهم.
ومن يقرأ ما ورد عن الإمام الصادق في زيارة أبي الفضل بتدبّر وإمعان يعرف رجحان الأخذ بقوله (عليه السلام)، وإنّ الزائر مهما يبلغ من المعرفة والكمال لا يحيط خبراً بحقيقة أبي الفضل، وما يليق بجليل قدره، وعظيم منزلته.
ومن هنا كان الراجح للزائر عند زيارة العبّاس أن يقف مواجهاً له مستدبراً القبلة، كما هو الشأن في زيارة المعصومين، وهو مقتضى التأدّب أمام "قمر بني هاشم"، فإنّ زيارته ميتاً كزيارته حياً (والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون)، ولا شّك أنّه لو كان حياً ودخل عليه الزائر يسلّم عليه إلا مواجهاً له.
ويشهد لذلك ما في مزار البحار ص165 عن المفيد وابن المشهدي والشهيد الأوّل أنّهم قالوا: إنّ الزائر للعبّاس يقف أولاً على باب السقيفة ويستأذن للدخول فيقول: سلام اللّه وسلام ملائكته... إلى آخره، ثُمّ يدخل وينكبّ على القبر ويقول: السلام عليك أيها العبد الصالح... إلى آخره، ثُمّ ينحرف إلى عند الرأس فيصلّي ويدعو، ويعود إلى الضريح ويقف عند الرجلين ويقول: السلام عليك يا أبا الفضل العبّاس... إلى آخره(127).
وقد يدّعى أنّ هذه العبارة وما رواه ابن قولويه عن أبي حمزة الثمالي يقتضي الوقوف على قبر العبّاس من دون تخصيص بجهة من الجهات، فإنّ العبارة: " ثُمّ ادخل وانكب على القبر وقل،... إلى
آخره "(128)، ولم يبيّن كيفيّة الانكباب هل أنّه من جهة القبلة، كما هو شأن زيارة الإمام المعصوم، أو من جهة عكسها، أو من جهة الرجلين أو الرأس؟
إلا أنّ المنصرف من الإطلاق إرادة جهة القبلة، خصوصاً لو كان الباب التي يدخل منها إلى الروضة المطهرة في ذلك الزمان كما عليه اليوم، وحينئذ تكون زيارة أبي الفضل على حدّ زيارة المعصوم مواجهاً له مستدبراً القبلة.
فالتوقّف عن رجحان مواجهته حال الزيارة في غير محلّه، واستظهار المجلسي تخيير الوقوف في زيارته محّل المناقشة، فإنّه لم يرد عن الأئمة خبر التفصيل بين المعصوم وغيره باستحباب المواجهة له في الأوّل واستقبال القبلة في الثاني.
وغاية ما ورد في زيارة الحسين وأبيه (عليهما السلام) مواجهة القبر وجعل القبلة بين كتفيه، وهناك أخبار مطلقة بالوقوف على قبريهما كإطلاقها على قبري الجوادين والعسكريين والرضا (عليهم السلام)، فلا تخصيص للمعصوم على غيره.
وما ورد في صفة زيارة المؤمنين من استقبال القبلة، ووضع اليد على القبر، والتوقيع المروي في الإقبال عن صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه: " إذا أردتَ زيارة الشهداء فقف عند رجلي الحسين فاستقبل القبلة بوجهك، فإنّ هناك حومة الشهداء، وقم وأشر إلى علي بن الحسين وقل: السلام عليك يا أوّل قتيل من نسل خير سليل... إلى آخره "(129).
أخصّ من المدّعى، على أنّ الاعتبار يشهد بأنّ السلام والثناء على المزور يستدعي مواجهته لا استدباره.
وكيف يكون الحال، فأبو الفضل ممتاز عن سائر المؤمنين بخواصّ لا يأتي البيان على حصرها، كيف وقد بلغ من الدرجات الرفيعة ما يغبطه عليها جميع الشهداء والصديقين، وقد أعلمنا الإمام الصادق بالزيارة التي علّمها أبا حمزة الثمالي بأنّ لأبي الفضل مكانة سامية ودرجات عالية لا ينالها إلا أُولوا العزم من الرسل.
فرجحان مواجهته عند السلام عليه متعيّن، كما هو الحال في أئمة الهدى، (عليهم السلام)وبذلك أفتى شيخنا الحجّة الشيخ عبد الحسين مبارك (قدس سره) في بشارة الزائرين ثُمّ قال:
" ولعمر أبيه الطاهر صلوات اللّه وسلامه عليهما أنّه بذلك لحقيق جدير، فإنّه ابن سيّد الوصيّين، والمواسي ريحانة خير الخلقّ أجمعين (صلى الله عليه وآله وسلم) ".
ومن هنا كان بعض العارفين من العلماء الأعلام يقدّم زيارة العبّاس على زيارة الحسين، لأنّه بابه في الحوائج، وهو في محلّه، وعليه العمل منذ عهد قديم، وفي هذا يقول الأديب السيّد مهدي الأعرجي (رحمه الله):
قصدتكَ قبل ابن النبىّ محمّد وأدمع عيني كالحيا في انسكابها
لأنّك في كلّ الحوائج بابه وهل يقصدون الدار من غير بابها
صلاة الزيارة
إنّ من الراجح المؤكّد صلاة ركعتين بعد الفراغ من زيارة أبي الفضل (عليه السلام)، ويشهد له ما في مزار البحار ص165 عن مزار المفيد وابن المشهدي من الرواية عن الأئمة (عليهم السلام) في كيفية زيارته وبعدها قال: " ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلّ ركعتين، ثُمّ صلّ بعدهما ما بدا لك "(130).
وذكر السيّد ابن طاووس في مصباح الزائر الصلاة ركعتين بعد الفراغ من الزيارة.
كما أنّ الشيخ المفيد وابن المشهدي وابن طاووس ذكروا في مزاراتهم عند زيارة العبّاس يوم عيد الفطر والأضحى وليلة عرفة ويومها، الأمر بركعتي الزيارة بعد الفراغ منها(131).
وجاء في زيارة الأربعين: أن جابر الأنصاري زار العبّاس بن أمير المؤمنين ثُمّ صلّى ركعتين، ومن البعيد جداً أن يكون الحكم ممنوعاً منه عند الأئمة، ولا يعلمه مثل جابر المتخرّج من مدرستهم الكبرى، أو أنّه كان يغضّ الطرف عن هذا المنع، بل ظاهر الفعل أنّهما ركعتي الزيارة، وأنّه لِما علِمه من أئمته فسار على نهجهم.
وإنّ من المستبعد جداً أن يثبت هؤلاء الأعاظم، وهم عمد المذهب المنقّبون في الآثار، مثل هذه الوظائف من دون تخريج عن أئمتهم، بحيث يتورّطون في التشريع المحرّم والبدعة التي لا تقال عثرتها، (كلا وحاشا)، بل لم يودعوا في كتبهم ومزاراتهم إلا ما وقفوا عليه عن أئمتهم وإن لم نحط به خبراً ككثير ممّا وقفوا عليه.
وقد ذكر السيّد ابن طاووس في آخر مصباح الزائر أنّ ما وقع اختياره عليه في هذا الكتاب، قد وصل على الوجه الذي استحسنه واعتمد عليه من جهة الرواية.
وذكر ابن المشهدي في أوّل مزاره أنّ ما أودعه في الكتاب ما حصل لديه من الروايات الواردة عن أئمة الهدى(132).
إذن، فكيف يسعنا نسبة ما أودعوه في كتبهم إلى محض آرائهم من دون تخريج عن أهل البيت؟!
ولقد أفادنا بصيرة في تأكيد هذا شيخ المحقّقين الشيخ أسد اللّه الكاظمي (قدس سره) في كشف القناع ص230، وحاصل ما ذكره:
إنّ من الجائز أن يحصل لبعض حملة أسرار الأئمة العلم بقول الإمام الغائب عن الأبصار، إمّا بنقل أحد سفرائه سرّاً على وجه يفيد اليقين، وإمّا بتوقيعه ومكاتبته كذلك، وإمّا بالسماع منه (عليه السلام) مشافهة على وجه لا ينافي الرؤية في زمن الغيبة، فلا يسعه التصريح بما حصله من الحكم على هذه الوجوه، ولم يجد في الأدلة ما يدلّ عليه ولم يكن مخصوصاً بذلك الحكم، وممنوعاً عن إظهاره لسائر الناس، فلا مندوحة حينئذ من إظهار هذا الذي أطلع عليه بصورة
الاتفاق عليه والتسالم، وهذا هو الأصل في كثير من الزيارات والآداب والأعمال المعروفة التي تداولت بين الإمامية، ولا مستند ظاهر من أخبارهم ولا من كتب قدمائهم الواقفين على آثار الأئمة وأسرارهم.
ومن ذلك ما رواه والد العلاّمة الحلّي والسيّد ابن طاووس عن السيّد الكبير العابد رضي الدّين محمّد بن محمّد الأزدي الحسيني المجاور بالمشهد الأقدّس الغروي، عن صاحب الزمان في طريق الاستخارة بالسبحة، وكما سمعه منه صلوات اللّه عليه ابن طاووس في السرداب، وكدعاء العلوي المصري المعروف الذي علّمه محمّد بن علي العلوي الحسني المصري في حائر الحسين وقد أتاه في خمس ليال حتّى تعلّمه(133).
وهذا هو الأصل في كثير من الأقوال المجهولة القائل، فيكون المطّلع على قول الإمام لمّا وجده مخالفاً لمّا عليه الإمامية أو معظمهم ولم يتمكّن من إظهاره على وجهه، وخشي أن يضيع الحقّ جعله قولا، ومن أقوالهم، واعتمد عليه، وأفتى به من دون تصريح بدليله.
فتحصّل من ذلك: أنّ العلماء لم يدّعوا في كتبهم حكماً من الأحكام من دون أن يعثروا عليه عن أئمتهم، وقد يكون بطريق المشافهة من إمام العصر أرواحنا له الفداء، فما ذكره المشايخ المتقدّمون في مزاراتهم من صلاة ركعتي الزيارة بعد الفراغ من زيارة أبي الفضل لا ينبغي الوقفة في رجحانه عند أهل البيت، إذ لعلّه وصل إليهم بالخصوص وإن جهلنا طريق الوصول إليهم.
ولو تنازلنا عن ذلك لدلّنا حديث أبي حمزة الثمالي المروي في كامل الزيارة ص240 عن الإمام الصادق الواردة في زيارة الحسين المشتملة على المقدّمات والمقارنات الكثيرة وفيه قال الصادق (عليه السلام): " فإذا فرغت فصلّ ما أحببت، إلاّ أنّ ركعتي الزيارة لا بدّ منهما عند كُلّ قبر "(134) ; فإنّه أثبت بعمومه رجحان ركعتي الزيارة عند كُلّ مزور، وليس له مخصّص يدفع العموم.
وخلوّ بعض الروايات الواردة في زيارة غير المعصومين من التعرّض لركعتي الزيارة لا ينهض لمصادمة العموم، فالعامّ محكم في موارده حتّى يجيء المخصص المخرّج.
كما أنّ خلوّ رواية أبي حمزة الثمالي الواردة في زيارة العبّاس (عليه السلام) عن ذكر صلاة الزيارة لا يدل على عدم المشروعية.
والتنصيص في زيارة المعصومين لا يدلّ على عدم المشروعية في غيرهم.
فهذا العموم، وما ذكر في مزارات من تقدّم ذكرهم من النصّ عليها، كاف في المشروعية والرجحان.
فما حُكي عن بعض معاصري العلاّمة المجلسي من منع صلاة الزيارة لغير المعصومين(135)، مستدلاّ بخلو الأخبار الواردة في زياراتهم عنها، في غير محلّه ; لمّا عرفتَ من الدليل عليه.
مضافاً إلى ما حكاه المجلسي في مزار البحار ص180، عن مؤلّف المزار الكبير، عن صفوان الجمال، عن الصادق (عليه السلام)، من
الأمر بصلاة ركعتي الزيارة بعد الفراغ من زيارة علي الأكبر(136)، ويتمّ في أبي الفضل بعدم القول بالفصل.
وفيه عن المزار الكبير(137)، ومزار الشهيد(138) بعد ذكر زيارة مسلم بن عقيل قال: " ثُمّ انحرف إلى عند الرأس فصلّ ركعتين، ثُم صلِّ بعدهما ما بدا لك "، وظاهره أن الركعتين للزيارة، ولكنّه نقل عن مزار السيّد ابن طاووس التصريح بذلك، فإنّه بعد الفراغ من الزيارة قال: " ثُمّ تقبّل الضريح وتصلّي صلاة الزيارة، وتهدي ثوابها له، ثمّ تودّعه وتنصرف "(139).
وفي مزار البحار عند ذكره زيارة هاني بن عروة قال: " ثُمّ صلّ صلاة الزيارة واهدها له، وادع لنفسك بما شئت، وودعه وانصرف "(140).
وعلى ما تقدّم من أنّ هؤلاء الأعلام لم يدعوا في مزاراتهم إلاّ ما رووه عن أئمتهم أو وجدوه مروياً واعتمدوا عليه.
ويتضح لنا رجحان ركعتّي الزيارة لمسلم وهانئ، على أنّ الإطلاق المذكور يشملهما.
فإذن في أبي الفضل (عليه السلام) بطريق أولى.
تقبيل القبر
ممّا يدلّ على رجحان تقبيل قبر العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)ما رواه في مزار البحار ص180، عن مؤلّف المزار الكبير، عن صفوان الجمال، عن الصادق... وساق الزيارة للحسين إلى أنّ قال:
" ثُمّ تأتي إلى قبر العبّاس بن علي وتقول: السلام عليك أيّها الولي ـ إلى أن قال ـ ثُمّ تنكب على القبر وتقبّله وتقول: بأبي وأُمّي يا ناصر دين اللّه، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين، السلام عليك يا ناصر الحسين الصدّيق، السلام عليك يا شهيد ابن الشهيد، السلام عليك منّي أبداً ما بقيت، وصلّى اللّه على محمّد وآل وسلم "(141).
وفيه كفاية لمن يتطلب النصّ على المشروعية والرجحان، ويضاف إليه ما ذكره المفيد وابن المشهدي وابن طاووس في مزاراتهم فإنّهم قالوا بعد الاستئذان: " ثُمّ ادخل وانكب على القبر وقل: السلام عليك أيّها العبد الصالح... إلى آخره ".
ولهذا وأمثاله كان شيخ المحقّقين ونخبة المرتاضين مجدّد المذهب في المائة الثانية عشر محمّد باقر البهبهاني إذا دخل إلى
حرم أبي الفضل (عليه السلام) يقبّل عتبة الباب كما يفعل في حرم سيّد الشهداء (عليه السلام)(142)، وفعل هذا المتبحّر حجّة، وعمله أكبر برهان لمن يتبع الحقّ: { أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ }(143).
أولاده وأحفاده
كان للعباس من الأولاد خمسة: عبيد اللّه(144)، والفضل(145)، والحسن(146)، والقاسم(147)، وبنتان.
وعدّ ابن شهرآشوب من الشهداء في الطفّ ولد العبّاس محمّد(148).
فأمّا عبيد اللّه والفضل فأُمهما لبّابة بنت عبيد اللّه بن العبّاس ابن عبد المطلب، وأُمّها أُم حكيم جويرية بنت خالد بن قرظ الكنانية.
كانت من أجمل النساء وأوفرهنّ عقلا، ولمّا قتل بسر بن أرطأة ولديها عبد الرحمن وقثم، وكانا صبيين صغيرين، وهي تنظر إليهما، فقدت الصبر وأخذها الوجد، فكانت تدور في البيت ناشرة شعرها وتقول في رثائهما(149):
يا من أحسّ بابنيَّ اللذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف
يا من أحسّ يا بنيّ اللذين هما سمعي وقلبي فمخي اليوم مختطف
نُبّئت بسراً وما صدّقت ما زعموا من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
أنحي على ودجي ابنيّ مرهفة مشحوذة وكذاك الإفك يقترف
حتّى لقيت رجالا من اُرومته شمّ الاُنوف لهم في قولهم شرف
فالآن ألعن بسراً حقّ لعنته هذا لعمر أبي بسر هو السرف
مَن ذلّ والهة حرّى مولّهة على صبيّين ضلا إذ غدا السلف
فسمع قولها هذا رجل من أهل اليمن فرق لها واتصل ببسر حتّى وثق به، ثُمّ احتال لقتل ابني بسر، فخرج بهما إلى وادي أوطاس فقتلهما وهرب، وقال(150):
يا بسر بسر بني أرطأة ما طلعت شمس النهار ولا غابت على الناس
خير من الهاشميين الذين هم عين الهدى وسمام الأسوق القاسي
ماذا أردت إلى طفلي مولّهة تبكي وتنشد من اثكلت في الناس
أما قتلتهما ظلماً فقد شرقت من صاحبيك قناتي يوم أوطاس
فاشرب بكأسهما ثكلى كما شربت اُمّ الصبيّين أو ذاق ابن عباس
ولمّا بلغ قتلهما أمير المؤمنين (عليه السلام) دعا على بسر فقال: " اللّهم اسلبه دينه وعقله "(151)، فخرف بسر حتّى كان يلعب بخرئه ويقول لمن حضر: انظروا كيف يطعمني هذان الغلامان ابنا عبيد اللّه هذا الخرء، فشدّوا يديه إلى ورائه ليُمنع من ذلك، فانجا يوماً في مكانه وأهوى بفمه ليتناول منه، فمنع منه، فقال: أنتم تمنعوني وعبد الرحمن وقثم يطعماني؟! وبقي على هذا حتّى مات في سنة 86 هجرية أيام الوليد بن عبد الملك(152).
خلف على لبابة بعد أبي الفضل (عليه السلام) زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين، فأولدها نفيسة، تزوّجها الوليد بن عبد الملك بن مروان(3153).
فولدت له ولداً، فكان زيد بن الحسن يفد إلى الوليد ويجلس معه على السرير ويكرمه، لمكان ابنته عنده، ووهب له ثلاثين ألف دينار دفعة واحدة(154).
وخلف عليها بعد زيد بن الحسن الوليد بن عبتة بن أبي سفيان فولدت له القاسم(155).
واتفق أرباب النسب على انحصار عقب العبّاس ابن أمير المؤمنين في ولده عبيد اللّه، وزاد الشيخ الفتوني العقب للحسن بن العبّاس، وكان عبيد اللّه من كبار العلماء موصوفاً بالجمال والكمال والمروءة مات سنة 155 هجرية(156).
تزوّج من ثلاث عقائل كرام: رقية بنت الحسن بن علي، وبنت معبد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، وبنت المسوّر بن مخرمة الزبيري(157).
ولعبيد اللّه هذا منزلة كبيرة عند السّجاد كرامة لموقف أبيه (قمر بن هاشم)، وكان إذا رأى عبيد اللّه رقّ واستعبر باكياً، فإذا سُئل عنه قال: " إنّي اُذكر موقف أبيه يوم الطفّ فما أملك نفسي ".
وانحصر عقب عبيد اللّه في ولده الحسن، وكان لأُم ولد، عاش سبعاً وستّين سنة، أولد الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس خمسة:
1 ـ الفضل.
2 ـ حمزة.
3 ـ إبراهيم.
4 ـ العبّاس.
5 ـ عبيد اللّه.
وكُلّهم أجلاّء فضلاء أُدباء(158).
فأمّا الفضل فكان لسناً متكلّماً فصيحاً، شديد الدّين، عظيم الشجاعة، محتشماً عند الخلفاء(159)، ويقال له: (ابن الهاشمية). أعقب من ثلاثة: جعفر، والعبّاس الأكبر، ومحمّد، ولكُلّ منهم أولاد الأُدباء.
فمنهم أبو العبّاس الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس، كان خطيباً شاعراً، وقع عقبه إلى قم وطبرستان، وله أبيات في موقف جدّه العبّاس يوم الطف نذكرها في فضل المديح(160).
وأمّا حمزة فيشبه جدّه أمير المؤمنين، خرج توقيع المأمون بخطّه وفيه: يُعطي لحمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس ابن أمير المؤمنين مائه ألف درهم، لشبهه بجدّه أمير المؤمنين.
تزوّج(161) زينب بنت الحسين بن علي بن عبد اللّه بن جعفر الطيار المعروف بـ (الزينبي)، نسبة إلى أُمه زينب بنت أمير المؤمنين، وكان حفيده محمّد بن علي بن حمزة متوجّاً شاعراً، نزل البصرة، وروى الحديث عن الرضا وغيره، مات سنة 286 هـ(162).
وسيأتي في ترجمة ابن أخيه الحمزة صاحب المشهد بقرب الحلّة: " إنّ أُمّ صاحب الزمان التجأت إلى بيته ".
وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ج2 ص63 وقال: " كان راوية للأخبار، وهو صدوق، وله الرواية عن جماعة كثير * (163).
وفي تهذيب التهذيب ج9 ص352 وصفه بالعلوي البغدادي، ونقل عن ابن أبي حاتم: أنّه صدوق ثقة(1).
وأمّا إبراهيم ويُعرف بـ (جردقة) كان من الفقهاء الأُدباء والزهاد، وابنه علي أحد الأجواد، له جاه وشرف، مات سنة 264 هـ، أولد تسعة عشر ولداً، ومن أحفاده: أبو الحسن علي بن يحيى بن علي بن إبراهيم جردقة، كان خليفة أبي عبد اللّه بن الداعي على النقابة ببغداد(2).
وعبد اللّه بن علي بن إبراهيم جردقة جاء إلى بغداد، ثُمّ سكن مصر، وكان يمتنع من التحدّث بها، ثُمّ حدّث، وعنده كتب تسمّى (الجعفرية)، فيها فقه على مذهب الشيعة، توفي في مصر في رجب سنّة ثلاثمائة واثني عشر(3).
وقال أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة في العبّاس بن الحسن ابن عبيد اللّه بن العبّاس السقا: " ما رؤي هاشمي أعضب لساناً منه ولا أجرأ "(4).
قدم بغداد في أيام الرشيد، وأقام في صحبته، ثُمّ صحب المأمون بعده، وكان من رجال بني هاشم فصاحة وشعراً(5)، ولجلالته وفضله وبلاغته وفصاحته يكنّى عند الرشيد(6) ومن شعره في أخاء أبي طالب لعبد اللّه والد الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم):
انا وإن رسول اللّه يجمعنا أب وأُمّ وجدّ غير موصوم
جاءت بنا ربة من غير اُسرته غراء من نسل عمران بن مخزوم
حزناً يهادون مَن يسعى ليدركها قرابة من حواها غير مسهوم
رزقاً من اللّه أعطانا فضيلته والناس من بين مرزوق ومحروم(170)
وفي المجدي ممّا رثى به أخاه محمداً:
وارى البقيع محمّد للّه ما وارى البقيع
من نائل وندى ومعـ ـروف إذا ظنّ المنوع
وحبّاً لأيتام وأرملة إذا جفّ الربيع
ولى فولى الجود والمعـ ـروف والحسب الرفيع(171)
وقال وله أيضاً:
وقالت قريش لنا مفخر رفيع على الناس لا ينكر
بنا تفخرون على غيرنا فأما علينا فلا تفخروا(172)
أولد العبّاس عشرة ذكور منهم عبد اللّه، وأُمّه أفطسية، كان أديباً شاعراً، فمن شعره ما في المجدي:
إنّي لا ستحي أخي أن أبرّه قريباً وإن أجفوه وهو بعيد
عليّ لإخواني رقيب من الهوى تبيد الليالي وهو ليس يبيد(173)
وفي سرّ السلسلة: " قدم على المأمون، فتقدّم عنده، ولمّا سمع بموته قال: استوى الناس بعدك يابن عباس، ومشى في جنازته، وكان يسميه الشيخ ابن الشيخ "(174).
وفي العمدة: " كان من أحفاد العبّاس السقا أبو الطيّب محمّد ابن حمزة بن عبد اللّه بن العبّاس بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السقا، من أكمل الناس مروءة وسماحة، وصلة رحم، وكثرة معروف، مع فضل كثير، وجاه واسع، اتخذ بمدينة الأردن ـ وهي طبرية ـ ضياعاً وأموالا، فحسده طغج بن جف الفرغاني، فدسّ إليه جنداً قتلوه في بستان له بطبرية في صفر سنة 291 هـ، ورثته الشعراء، فمن ذلك ما في المجدي:
أيّ رزء جنى على الإسلام أي خطب من الخطوب الجسام(175)
ويقال لعقبه: بنو الشهيد.
وترجمه المرزباني في معجم الشعراء ص435 وقال: " شاعر الافتخار بآبائه، وكان في أيام المتوكّل وبعده، وهو القائل:
وإنّي كريم من أكارم سادة أكفّهم تندى بجزل المواهب
هم خير من يخفى وأفضل ناعل وذروة هضب العرب من آل غالب
هم المَنّ والسلوى لدان بوده وكالسمّ في حلق العدوّ المجانب(176)
وترجم له شيخنا الجليل العلاّمة ميرزا عبد الحسين الأميني في شعراء الغدير ج3 ص3 طبع النجف.
وأمّا عبيد اللّه بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس السقا (عليه السلام)، ففيه يقول محمّد بن يوسف الجعفري: " ما رأيت أحداً أهيب، ولا أهيأ، ولا أمرأ من عبيد اللّه بن الحسن، تولّى إمارة الحرمين مكة والمدينة والقضاء بهما أيّام المأمون سنة 204 هجرية "(177).
وفي سنة 204 هـ، وسنة 206 هـ ولاّه إمارة الحاج(178)، مات ببغداد في زمن المأمون، وكانت أُمّه وأُم أخيه العبّاس أم ولد(179) وقع عقب علي بن عبيد اللّه قاضي الحرمين إلى دمياط، ويقال: لهم بنو هارون، وإلى فسا ويقال: لهم بنو الهدهد، وإلى اليمن.
وأمّا الحسن بن عبيد اللّه الأمير القاضي فأولد عبد اللّه، كان له
إحدى عشر ذكراً، لهم أعقاب، منهم: القاسم بن عبد اللّه بن الحسن بن عبيد اللّه قاضي الحرمين بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس الشهيد السقا، له خطر بالمدينة، وأحد أصحاب الرأي، لسناً، متكلّماً، سعى بالصلح بين بني علي وجعفر، وهو صاحب أبي محمّد الحسن العسكري (عليه السلام)(180).
فأحفاد العبّاس كُلّهم أجلاّء، لهم المكانة العالية بين الناس ; لأنّهم بين فقهاء ومحدّثين ونسّابين وأُمراء وأُدباء، ولا بدع بعد أن عرق فيهم (أبو الفضل)، فحووا عنه المزايا الحميدة والصفات الجميلة، فكانت ملامح الشرف والسؤدد تلوح على أسارير جبهاتهم، وملء أهابهم علم وعمل وحشو الردى هيبة ومنعة.
ومنهم السيّد الجليل صاحب الحرم المنيع والقبة السامية (الحمزة)، المدفون بالمدحتية قرب الحلّة.
الحمزة
من أحفاد أبي الفضل السيّد الجليل أبو يعلى الحمزة ابن القاسم بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس ابن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد كتب الشيخ الجليل العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُوردبادي صحائف غُر في حياته نذكرها بنصها، قال:
" كان أبو يعلى أحد علماء العترة الطاهرة، وفذّاً من أفذاذ بيت الوحي، وأوحدي من سروات المجد من هاشم.
روى الحديث فأكثر، واختلف إليه العلماء للأخذ منه، منهم: الشيخ الأجل أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري، وأحد أعاظم الشيعة، ومن حملة علومهم، توفي سنّة 385 هـ.
والحسين بن هاشم المؤدّب، وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق، وكلاهما من مشايخ الصدوق ابن بابويه القمّي.
وعلي بن محمّد القلانسي، من مشايخ الشيخ المبجل أبي عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه الغضائري.
وأبو عبد اللّه الحسين بن علي الخزاز القمّي "(181).
ويظهر من هذا أنّه كان في طبقة ثقة الإسلام الكليني، قد أدرك القرنين آخر الثالث وأواخر الرابع، ولأجله عقد له الشيخ العلاّمة الشيخ آغا بزرك الرازي في كتابه (نابغة الرواة في رابعة المئات) ترجمة ضافية، فهو من علماء الغيبة الصغرى.
وله من الآثار والمآثر: كتاب التوحيد، وكتاب الزيارات والمناسك، وكتاب الرّد على محمّد بن جعفر الأسدي، وكتاب من روى عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) من الرجال، استحسنه النجاشي والعلاّمة، ولهذا ترجمه شيخنا الرازي في مصفّى المقال في مصنفي علماء الرجال، وأسند النجاشي إلى هذه الكتب عن ابن الغضائري عن القلانسي عن سيّدنا المترجم.
وإليك كلمات العلماء في الثناء عليه:
قال النجاشي والعلاّمة: " إنّه ثقة جليل القدر من أصحابنا، كثير الحديث "(182).
وقال المجلسي في الوجيزة: " ثقة "(183).
وفي تنقيح المقال للعلاّمة المامقاني: " السيّد جليل حمزة، ثقة، جليل القدر، عظيم المنزلة "(184).
وفي الكنى والألقاب لشيخنا المحدّث الشيخ عباس القمّي: " إنّه أحد علماء الإجازة، وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع "(185).
إنّ دون مقام سيّدنا المترجم أن نقول فيه: إنّه من مشايخ الإجازة الذين هم في غنى عن أيّ تزكية وتوثيق، كما نصّ به الشهيد الثاني، وتلقّاه من بعده بالقبول، فإنّ ذلك شأن من لا يعرف وجُهلت شخصيته، وإنّ مكانة سيّدنا أبي يعلى فوق ذلك كُلّه على ما عرفته من نصوص علماء الرجال.
ومن كراماته المريبة على حدّ الإحصاء، المشهودة من مرقده المطهّر، فهو من رجالات أهل البيت المعدودين من أعيان علمائهم بكُلّ فضيلة ظاهرة ومأثرة باهرة:
والشمس معروفة بالعين والأثر .................
فليس هو ممّن نتحرّى إثبات ثقته حتّى نتشبّث بأمثال ذلك. نعم، كثرة روايته للحديث تنمّ عن فضل كثار من غزارة علمه، ومن قولهم (عليهم السلام): " اعرفوا منازل الرجال منّا بقدر روايتهم عنّا "، فإنّ ذلك يشفّ عن التصلّب في أمرهم، والتضلّع بعلومهم، والبث لمعارفهم، وبطبع الحال إن كُلا من هذه يقرّب العبد إلى اللّه تعالى وإليهم (عليهم السلام) زلفى، فكيف بمن له الحظوة بها جمعاء، كسيّدنا المترجم على نسبه المتألق المتصل بدوحهم القدسي اليانع؟!
أمّا مشايخه في الرواية فجماعة عرفناهم بعد الفحص في المعاجم وكتب الحديث، كرجال الطوسي، وفهرست النجاشي، وإكمال الدّين للصدوق، منهم:
1 ـ الشيخ الثّقة الجليل سعد بن عبد اللّه الأشعري.
2 ـ محمّد بن سهل بن ذارويه القمّي.
3 ـ الحسن بن ميثل.
4 ـ علي بن عبد بن يحيى.
5 ـ جعفر بن مالك الفزاري الكوفي.
6 ـ أبو الحسن علي بن الجنيد الرازي.
7 ـ وأجلّ مشيخته عمّه مستودع ناموس الإمامة، والمؤتمن على وديعة المهيمن سبحانه، أبو عبد اللّه أو عبيد اللّه محمّد بن علي بن حمزة الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس (عليه السلام).
ومن جلالته أنّه لمّا وقعت الفتنة بعد وفاة أبي محمّد العسكري (عليه السلام)، وكثر الفحص والطلب من زبانية الإلحاد وطواغيت الوقت على بيت الإمامة ونسائه وجواريه وإمائه، حذار وجود البقية منه أو وجود حامل منهم تلده، لمّا بلغ الطاغية أنّ الخلف بعد أبي محمّد العسكري يدمّر دولة الباطل، فحسبه في العاجل وهو آجل، فعند ذلك انتقلت الكريمة الطاهرة أُم الإمام المنتظر عجّل اللّه فرجه (نرجس) سلاّم اللّه عليه وعليها إلى بيت أبي عبد اللّه هذا، كما نصّ به النجاشي للحفظ من عادية المرجفين(1).
وإنّ الاعتبار لا يدعنا إلاّ أن نقول بأنّ بيتاً يحوي أُم الإمام لابدّ أن يكون مختلف وليّ الدهر، وصاحب العصر، الناهض بعبء خلافة اللّه الكبرى، ومحطّ أسراره، ومرتكز أمره، ومجرى علومه، ومصبّ معارفه، ليتعاهد الحرّة الطيبة أُمّه نرجس، ويكون (عليه السلام) هو المجتبى في صدر ذلك الدست والمتربع على منصّه عزّه.
ولا شكّ أنّ أبا عبد اللّه هذا يقتبس من علومه، ويستضيء بأنواره، وحينئذ فدون مقامه إطراء العلماء له كقول النجاشي والعلاّمة: " ثقة جليل "، وكقول ابن داوود: " عين في الحديث، صحيح الاعتماد "(2)، كتوثيقات الوجيزة، والبلغة، والمشتركات، وحاوي الأقوال.
وقال ابن عنبة في العمدة: " نزل البصرة، وروى الحديث عن علي بن موسى الكاظم (عليه السلام) وغيره بها وبغيرها، وكان متوجّهاً عالماً شاعراً "، وقال النجاشي: " له رواية عن أبي الحسن وأبي محمّد (عليهما السلام)، وإن له مكاتبة، وله مقاتل الطالبين "(188).
فحسب سيّدنا المترجم أبو يعلى من الشرف أن يكون معماً بمثله، وناهيه من الفضيلة أن يكون خريجاً لمدرسته.
ووالد أبي عبد اللّه هذا فهو علي بن حمزة بن الحسن، نصّ النجاشي والعلاّمة الحلّي وفي الوجيزة والبلغة على ثقته.
وأبو حمزة الشبيه بجدّه أمير المؤمنين جليل القدر عظيم المنزلة، خرج توقيع المأمون بخطه: " يُعطى لحمزة ابن الحسن لشبهه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مائة ألف درهم "، قاله ابن عنبة في العمدة(189).
وأبو حمزة هذا الحسن بن عبيد اللّه، فذكر النسّابة العمري في المجدي أنّه كان لأُمّ ولد، روى الحديث، وعاش سبعاً وستين سنة(190).
ووافقه على عمره أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة، وذكر أنّ العدد والثروة في ولده، وأنّ أُمّه وأُمّ شقيقه عبد اللّه بنت عبد اللّه بن معبد بن العبّاس بن عبد المطلب(191).
قلت: والظاهر أنّ في النسخة غلط نسياني، فإنّ أبا نصر نفسه
ذكر أنّ التي كانت تحت عبيد اللّه بن العبّاس (عليه السلام) هي أُمّ أبيها بنت معبد بن العبّاس لا ابنة ابنه.
وعبيد اللّه بن العبّاس أبو الحسن ذكر الشيخ العلاّمة علي بن يوسف ابن المطهّر أخو آية اللّه العلاّمة الحلي في العدد القوية، عن الزبير بن بكار: أنّه من العلماء.
وقال أبو نصر البخارى: " تزوج أربع عقائل كرام: رقية بنت الإمام الحسن السبط، وأُم علي بنت السجاد لم تلد منه، وأُم أبيها بنت معبد بن العبّاس بن عبد المطلب، وابنة المسوّر بن مخزوم الزبيري "(192).
وأما سيّدنا أبو الفضل العبّاس قمر بني هاشم الذي هو بمنقطع الفضل، ومنتهى الشرف، وغاية الجلاّلة، وقصارى السؤدد، فالبيان يتقاعس أنّه جاء ممدوحاً بلسان أئمة الدّين كابن أخيه الإمام السجاد، ثُمّ الإمام الصادق.
ولسيّدنا المترجم أبي يعلى في أرض الجزيرة بين الفرات ودجلة من جنوب الحلّة السيفية مشهد معروف في قرية تعرف باسمه (قرية الحمزة)، بالقرب من قرية " المزيدية " يقصد بالزيارة، وتُساق إليه النذور، ويتبرّك به، وتُعزى إليه الكرامات، تتناقلها الألسن، ويتسالم عليها المشاهدون، وتخبت بها النفوس، وكان في ذي قبل يعرف بمشهد (حمزة بن الإمام موسى الكاظم).
وبما أنّ الثابت في التاريخ والرجال أنّ قبر حمزة المذكور في الري، إلى جنب مشهد السيّد الأجل عبد العظيم الحسني سلام اللّه عليهما.
كان سيّد العلماء والفقهاء المجاهدين سيّدنا المهدي القزويني بعد أن هبط الحلّة الفيحاء، وأقام فيها دعامة الدّين، وشيّد أركان المذهب، يمرّ بهذا المشهد حين وفوده إلى بني زبيد للإرشاد والهداية، ولا يزوره، ولذلك قلّت رغبة الناس في زمانه، فصادف أن مرّ به مرّة، فطلب منه أهل القرية زيارة المرقد المطهّر، فاعتذر بما قدّمناه، وقال: " لا أزور من لا أعرفه.
فبات ليلة وغادر القرية من غدا إلى المزيدية وبات بها، حتّى إذا قام للتهجّد في آخر الليل وفرغ من عمله طفق يراقب طلوع الفجر، إذ دخل عليه رجل في زي علوي شريف من سادة تلك القرية، يعرفه المهدي بالصلاح والتقوى، فسلّم وجلس وقال له: استضعفت أهل الحمزة، وما زرت مشهده؟
قال: نعم.
قال: ولم ذلك؟
فأجابه بما قدّمناه من جوابه لأهل القرية.
فقال العلوي المذكور " ربَّ مشهور لا أصل له " وليس هذا قبر حمزة بن موسى الكاظم كما اشتهر، وإنّما هو قبر أبي يعلى حمزة ابن القاسم العلوي العباسي، أحد علماء الإجازة وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع.
فحسب سيّدنا الحجّة المهدي أنّه أخذ هذا من أحد العلماء ; لأنّه كان من عوام السادة، وأين هو من الاطّلاع على الرجال والحديث؟! فاغفل عنه ونهض لفحص الفجر، وخرج العلوي من عنده.
ثمّ أدى السيّد الفريضة وجلس للتعقيب حتّى مطلع الشمس، وراجع كتب الرجال التي كانت معه، فوجد الأمر كما وصفه الشريف العلوي الداخل عليه قبيل الفجر، ثُمّ ازدلف أهل القرية إليه مسلّمين عليه، وفيهم العلوي المشار إليه، فسأله عن دخوله عليه قبيل الفجر وإخباره إيّاه عن المشهد وصاحبه عمّن أخذه؟ ومن أين له ذلك؟ فحلف العلوي باللّه أنّه لم يأته قبل الفجر، وأنّه كان بائتاً خارج القرية في مكان سمّاه، وأنّه سمع بقدوم السيّد فأتاه زائراً في وقته هذا، وأنّه لم يره قبل ساعته تلك.
فنهض السيّد المهدي من فوره وركب لزيارة المشهد وقال: الآن وجب علي زيارته ـ وإنّي لا أشكّ أنّ الداخل عليه الإمام هو الحجّة ـ وركب الطريق معه أهل المزيدية(193).
ومن يومئذ اشتهر المرقد الشريف بالاعتبار والثبوت، وازدلفت الشيعة إلى زيارته والتبرك والاستشفاع إلى اللّه تعالى به.
وبعد ذلك نص سيّدنا المهدي عليه في فلك النجاة، وتبعه على ذلك من بعده العلاّمة النوري في تحية الزائر، والعلاّمة المامقاني في تنقيح المقال، وشيخنا المحدّث القمّي في الكنى والألقاب(194).
أخذنا هذا النبأ العظيم من جنة المأوى للعلاّمة النوري.
هذا ما كتبه شيخنا العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُوردبادي أيده اللّه.
عمارة المشهد
تمهيد:
لا شكّ في رجحان عمارة قبور الأولياء المقرّبين، لا سيما من حظي منهم بشرف المنبت النبويّ الطاهر الذي هو معدود من أكبر الفضائل ; لأنّه لا يزال بمجرّده متواصل العرى، يحدو بصاحبه إلى أوج العظمة، وكُلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ نسبه وسببه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو مشرف من تحلّى به في الدنيا والآخرة، فكيف به إذا كان مشفوعاً بعلم وتقى ومآثر ومفاخر؟!
1 ـ لأنّه من تعظيم شعائر اللّه: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }(195)، ومن موارد حرماته المعيّنة بقوله تعالى: { وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ }(196).
وإذا كانت البُدن من الشعائر له سبحانه: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ }(197)، وليست البُدن إلاّ بهيمة تُنحر في مرضات اللّه سبحانه وفي سبيل طاعته والشعار فيها نحرها.
فلماذا لا يكون عمل الولي المقرّب الشهيد الصديق المنحور على الدعوة الإلهية، والمراق دمه الطاهر على مجزرة الشهادة، من مستوى القدس، من جملة الشعائر والحرمات التي يجب تعظيمها،
بتعاهد مرقده الأطهر، وقصده بالزيارة، والعبادة فيه، وعمارته عند الانهدام، ليأوى إليه الزائر، ويتفيّأ بظلّه المتعبّد، كما أنّ الأمر بطواف البيت يستدعي عمارته كُلّما أوشك أن يتضعضع بنيانه؟!
2 ـ على أنّ رجالات بيت النبوّة هم: { فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }(198)، والمراد من البيت: ما كان مسقوفاً، ولذلك أطلقه في الكتاب المجيد على الكعبة المعظمة حيث يقول: { الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ }(199)، لكونها مسقوفة ; ولم يُرد من البيوت مطلق المساجد أو المساجد الأربعة وهي: المسجّد الحرام، ومسجد النبيّ، ومسجد الكوفة، والبصرة ; فالمساجد كُلّما ذكر في القرآن أُطلق عليها المسجّد دون البيت، مثل قوله تعالى:
{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى }(200).
{ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد }(201).
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً }(202).
{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }(203).
{ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }(204).
{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }(205).
والمساجد بمقتضى تشريعها مكشوفة، والسقف الموجودة فيها حادثة، لقصد أن يأوي إليها الوفود من المرامي السحيقة الذين لا مأوى لهم، لتكنّهم من قائض الحرّ وقارص البرد، فلا يناسب إطلاق البيت عليها ; لأنّه عبارة عن المحلّ المسقوف، ولا يطلق على غير المسقوف، ولذلك تجد إطلاق بيوت الأعراب على أخبيتهم دون الصحاري التي يسكنونها، ومن ذلك أطلق البيت على الكعبة لكونها مسقوفة.
وكما لا يراد من تلك البيوت ـ التي يجب أن ترفع ويذكر فيها اسمه ـ المساجد، لا يراد منها خصوص الكعبة المشرّفة ; لأنّ لفظ البيوت في الآية جمع، وحينئذ فمن المتعيّن أن يراد منها بيوتات تكون مستوى لذكر اللّه والدعوة إلية، إمّا بألسنة ساكنيها أو بأعمالهم وجهادهم، فتكون تلك البيوت منبثق أنوار اللّه.
وإذا فتشنا بيوت العالم فلا نجد ما هو أولى بصدق هذه البيوت عليهم، إلاّ بيوت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذين أنفذوا طاقاتهم في رفع كَلمة اللّه العليا، وتوحيده، والذكير بوعده ووعيده، فكانت مقصورة على ذلك دعوتهم، منحصراً به هتافهم، حتّى أثبتوه على جبهة الدهر، وكتبوا بدمائهم الزاكية على صحيفة الزمان، مع ما لهم من الدؤوب على العبادة والتلاوة في آناء الليل وأطراف النهار، وأُناس بهم أُسوة حسنة.
وليس من الرأي السديد قصرها على بيوتهم التي يسكنونها أيام حياتهم، بل تعمّها ومشاهدهم المقدّسة، فإنّهم { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }(206)، وإذا ثبت في الشهداء ـ وهم دونهم بمراتب ـ أنّهم
أحياء، فإنّ أهل البيت أولى بذلك ; لأنّهم الدعاة إلى سبيل ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أحياءً وأمواتاً، وشهداءً في سبيل تلك الدعوة المقدّسة، وشهداء على أعمال الأُمة المرحومة.
وعليه فلا يخلو إمّا أن يراد من الرفع في الآية خصوص العمارة، وتشيدها، كما هو الظاهر على حدّ قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ }(207)، أو يراد مطلق التعظيم، وممّا لا شكّ فيه أنّ من أظهر مصاديقه عمارتها وتجديدها عند أولها إلى الخراب، لتتمّ بقيّة أقسام التعظيم من تفيء المتعبدين، وانتجاع المزدلفين إليها، واختلاف الزوّار اليها، وذكر اللّه سبحانه، والصلاة والترحّم على أولياء اللّه المتبوّئين هاتيك المشاهد المطهّرة، وتكون تلك القباب والأبنية الشاهقة كنار تدل الوافدين على ما هناك من ضالتهم المنشودة.
3 ـ ثُمّ إنّ في الكتاب العزيز شيء آخر دلّنا على مشروعية البناء على مراقد الصالحين واتخاذ خصوص المساجد عليها، وهو قوله جلّ شأنه: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }(208)، وذلك أنّ المؤمنين مع ملكهم بيدروس وكان موحّداً، لما وصلوا إلى أصحاب الكهف واطلعوا على موتهم في مكانهم، أمر الملك أن يتركوا في مكانهم، ويبنى على باب الكهف مسجد يتعبّد فيه الناس ويتبرّكون بمكانهم(209).
وهذا منه سبحانه وإن كان إخباراً عن عمل أُمّة سابقة على الإسلام، لكنّه مقرون بالتقرير من اللّه عزّ ذكره، وعدم الإنكار عليهم، وكُلّما كان الحكم غير منكر من الإسلام فهو مستصحب البقاء، والنسخ وإن وقع في الشريعة لكنّه لمجموع هاتيك الشرائع لا لجميعها، فهو كالعشرة الإبراهيمية(210) التي لم تنسخ ولا تنسخ أبداً كغيرها من الأحكام المستصحبة.
وإذا أجازت الشريعة الإلهية بناء المسجد على أولئك الصالحين من فتية الكهف للعبادة والتبرّك بهم، فالحكم شرع سواء فيهم وفي من هو أفضل منهم، الاّ وهم الحجج المعصومون والأولياء المقرّبون من هذه الأمة المرحومة.
وعلى هذا النهج اللاحب جاءت سنّة الرسول الأعظم فإنّه صلّى اللّه عليه وآله لما دفن عثمان بن مظعون أمر بحجر فوضع عند رأسه، معلّلا بأنّه يُعلم منه قبر أخيه ليدفن إليه من مات من أهل بيته، وهذا الحجر أخذه مروان بن الحكم ووضعه على قبر عثمان بن عفان، فكلّمته بنو أُمية وقالوا: كيف تأخذ حجراً وضعه رسول اللّه؟ فلم يعبا بهم(211).
وإذا كان وضع الحجر للتعريف بالقبر، فلا ريب أنّ البناء على القبر أوفى بهذه العلّة من وضع الحجر، فيكون راجحاً بالأولوية.
على أنّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعريف قبر عثمان دون غيره من المسلمين يدلّنا على امتياز بعضهم عن بعض بالفضل والعلم والورع والمعرفة، وحينئذ يكون البناء على قبور الأنبياء والأوصياء والأولياء والأمثل فالأمثل امتيازاً عن غيرهم، وإعلاماً لهم لما من شأن ورفعة أولى وأرجح.
وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تزور قبر حمزة وترمّه وتُصلحه وقد علّمته بحجر(212)، فدلّ على أنّ إصلاح القبر وتعاهده كي لا تندرس آثاره معروف في زمن الشارع المقدّس، وإلاّ لما فعلت ذلك سيّدة نساء العالمين، والوحي ينزل في بيتها.
وإصلاح القبر يختلف باختلاف الأوقات والأزمنة، فقد تقتضي الحالة والوقت إصلاح القبر بجمع ترابه ووضع الحجر عليه، وقد تقتضي بناء قبّة عليه أو وضع جدار حوله.
ومن أجل ذلك دفنوا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجرة عائشة، وكانت مسقّفة بجريد النخل، وأوّل من بناها باللبن عمر بن الخطّاب(213).
ثُمّ إنّ عبد اللّه بن الزبير شيّد جدران قبر النبيّ وجعلها مرتفعة، وفي سنة 193 هـ أمر الرشيد وإليه على المدينة أبا البختري أن يبني سقف الحجرة، ثُمّ المتوكّل أمر واليه على
الحرمين إسحاق بن سلمة أن يشيّد حجرة النبيّ بحجارة الرخام ففعل ذلك سنة 242 هـ.
وفي الأوراق البغدادية للسيّد إبراهيم الراوي أن المسلمين لمّا فتحوا بلاد الشام وبيت المقدس ورأوا على قبور الأنبياء المباني لم يهدموها، ومن أشهرها البناء الذي على قبر إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب فلم يهدمه ولم يأمر بهدمه.
وغير خفيّ أنّ تقرير الصحابة ـ وفيهم الخلفاء ـ ذلك العمل دليل قويّ على تعارف البناء على القبور وجوازه لديهم.
وحدّث محمّد بن الحنفية المتوفى سنة 81 أنّ رسول اللّه دفن فاطمة بنت أسد في موضع المسجد الذي يقال له اليوم: (قبر فاطمة)، وفيه دلالة كما عند السمهودي على أنّ قبرها كان عليه مسجد يُعرف به ذلك الزمان(214)، وهو في المائة الاُولى من الهجرة، كما كان على قبر حمزة بن عبد المطلب مسجداً يومئذ(215).
وكما بني على قبر العبّاس بن عبد المطلب قبّة دفن فيها الحسن والسجاد (عليهما السلام)(216)، والباقر(217)، والصادق(218)، ففي المائة الاُولى والثانية كانت القبة على قبر العبّاس موجودة.
وإن الخطيب البغدادي المولود سنة 392 هـ حكى في ترجمة الإمام الكاظم أنّه دفن في مقام الشونيزية (مقابر قريش) خارج القبة وقبره هناك مشهور يزار... إلى آخره.
فدلّ على أنّه كان يوم وفاة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قبّة في مقابر قريش(219).
وعليه يكون وضع القباب على القبور متعارف بين المسلمين لم تنكره علماء تلك العصور مع تبصّرهم بأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن هنا لم يمتنع الخلفاء من وضع القباب على قبور أسلافهم، فهذا الرشيد بنى قبّة على قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(220)، وبنى المأمون على قبر الرشيد قبّة(221) مع أنّ عصره كان حافلا بالعلماء كالشافعي وابن حنبل وسفيان بن عيينة وغيرهم، فلم ينكر عليه أحد.
ولمّا توفي المعزّ البويهي سنة 356 هـ دفن في داره، ثُمّ نقل إلى مشهد بُني له في مقابر قريش(222)، وابن وكيع الشاعر المتوفّي 393 هـ دفن في المقبرة الكبرى في القبّة التي بنيت له بها(223)، وأبو تمام المتوفّي سنة 271 هـ بنى على قبره نهشل بن حميد الطوسي قبة(224).
فما قيل من أنّ هذه القباب حدثت منذ القرن الخامس، فهي من البدع غير المعروفة في زمن الشارع المقدّس وما بعده من الأكاذيب الفاضحة.
فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ البناء على القبور وعمارتها وتجديدها وتعاهدها أمر راجح وعليه الأمة الأُسلاّمية من دون نكير بينها، ويتأكّد في قبور الأولياء المقرّبين، والشهداء الصدّيقين، والعلماء الصالحين، وذوي المآثر والفضائل ; لأنّ فيه تعريفاً بالميت وتنويهاً بمقامه، ليزوره الزائر، ويستريح إليه المتعبّد، لكونه من الأمكنة المحبوبة للّه تعالى، فيها الذكر والطاعة وتحصيل المصالح الدينية.
وبذلك اتفقت كلمة العلماء الذين هم أعرف الأُمة بموارد الأمر والنهي، بل زادوا على البناء والعمارة تزيينها بالمعلّقات والفرش والستائر، وكُلّ ما فيه احترامهم وتعظيمهم.
مدّعين على ذلك ـ بعد الإجماع والاتفاق ـ أنّه من الشعائر، وعدم إنكار الأئمة في عهود كانوا ظاهرين فيها، والأخبار الكثيرة الدالة على ميلهم ورضاهم به، وقد أمرت بالوقوف على باب الروضة أو القبّة أو الناحية المقدَّسة ; والاستئذان وتقبيل القبّة والدعاء عند ترائي القبّة الشريفة وغيرها، ممّا يتوقّف على وجود الباب والقبّة والعتبة، المتوقّف كُلّه على البناء، فلولا البناء أين تكون القبّة؟ وأين الباب؟ وأين العتبة؟ وأين الاستئذان عندها؟
مع صراحة خبر أبي عامر ـ واعظ أهل الحجاز ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: " إن اللّه سبحانه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل الأذى
والمذلّة، فيزورون قبوركم، ويكثرون زيارتهم، تقرّباً منهم إلى اللّه تعالى، ومودّة منهم لرسوله، أولئك المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنّة.
يا علي، مَن عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان على بناء بيت المقدس ـ الى أن قال ـ: ولكن حثالة من الناس يعيّرون زواركم كما تعيّر الزانية بزناها، أُولئك شرار أُمتي، لا نالتهم شفاعتي "(225).
وحينئذ فلا ريب في تخصيص العمومات المانعة من تجصيص القبر وتجديده، بل ادّعى صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه: " أنّ البناء على قبور الأئمة والصلحاء من ضروري المذهب، بل الدين "(226).
على أنّ النهي عن التجصيص معارض بما هو أقوى منه سنداً ودلالة وأكثر عدداً، ومنه حديث صفوان: زار الصادق (عليه السلام) قبر جدّه أمير المؤمنين وذكر فضل زيارته واستئذانه منه إعلام الشيعة بهذا الفضل إلى أنّ قال: " وأعطاني دراهم فأصلحت القبر "(227).
ويحدّث يونس بن يعقوب أنّ الإمام الكاظم عند رجوعه من بغداد ماتت ابنة له بـ (فيد)، فدفنها وأمر بعض مواليه أن يجصّص
قبرها، ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر(228).
وماتت أُمّ الإمام الحجّة صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه في أيّام أبي محمّد الحسن العسكري، فدفنت في الدار وكتب على لوح: " هذا قبر أُمّ محمّد (عليه السلام) " ووضع في القبر(229).
وليس هو من خصائص أولادهم، وإنّما جرى الأمر على العادة المألوفة من التعريف بالميت والتنويه بذكره، فيكون الفعل في غيرها من الأنبياء (عليهم السلام) والعلماء الصالحين أولى وأرجح وأأكد.
والمراد من البناء المكروه ـ كما نصّ عليه الأردبيلي وكاشف الغطاء(230) ـ هو ما كان فوق القبر بحيث يصير القبر تحت الحائط، فإنّه غير مناسب لحرمة الميت، وأمّا البناء المتعارف المتداول بحيث يكون القبر تحت القبة فلا يشمله النهي، كما لا يشمل عمارة القبة وتجصيصها وتزيينها، ولا وضع الصناديق المزينة والأقمشة النفيسة على القبور والوقف لها.
وإليكَ أسماء مَن تعرض لهذا الحكم من علمائنا عند مسألة تجصيص القبور من أحكام الأموات وغيرها، مرتّبين على سّنة الوفاة:
السيّد عبد الكريم بن طاووس في الفرحة، المتوفّي سنة 693 هـ(231).
الشهيد الأوّل في الذكرى والدروس، المتوفّي سنة 786 هـ(232).
المحقّق الكركي في جامع المقاصد، المتوفّي سنة 933 هـ(233).
الشهيد الثاني في روض الجنان، المتوفّي سنة 966 هـ(234).
الأردبيلي في شرح الإرشاد المتوفّي سنة 993 هـ(235).
السبزواري في الذخيرة، المتوفّي سنة 1090 هـ(236).
الحر العاملي في الوسائل، المتوفّي سنة 1104 هـ(237).
المجلسي في مزار البحار ومرآة العقول، المتوفّي سنة 1110 هـ(238).
السيّد جواد العاملي في مفتاح الكرامة، المتوفّي سنة 1226 هـ(239).
كاشف الغطاء في نهج الرشاد ص71، المتوفّي سنة 1228 هـ(240).
السيّد علي في الرياض، المتوفّي سنة 1231 هـ(241).
الميرزا القمّي في الغنائم، المتوفّي سنة 1231 هـ(242).
النراقي في المستند، المتوفّي سنة 1244 هـ(243).
الكرباسي في منهاج الهداية، المتوفّي سنة 1262 هـ.
صاحب الجواهر فيها، المتوفّي سنة 1266 هـ(244).
النوري في المستدرك، المتوفّي سنة 1330 هـ(245).
عمارة مرقد العبّاس
إذا تمهّد ما ذكرناه، فمشهد سيّدنا أبي الفضل (عليه السلام) من أظهر مصاديق تلك البيوت التي أذن اللّه أن تُرفع ويذكر فيها اسمه، كما أنّه في الرعيل الأوّل من أولئك الصدّيقين والشهداء الصالحين، وفي تشييد قبّته السامية إبقاء لما أوعزنا إليه من السرّفي إنحياز قبره عن مجتمع الشهداء.
وإذا أعلمنا الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته بما له من المقام الرفيع في ملأ القدس وعند مجتمع الأنبياء والرسل، وقد حاز بذلك إكباراً منهم وتبجيلا حتّى غبطه على ما حباه اللّه جميع الشهداء والصدّيقين، لتفرّده بتلك المنعة والخطر ; كان الاحتفاء بمشهده القدسي من العمارة والتعاهد من أوّليات فرائض عالم الشهود.
ثُمّ إنّه سبحانه قيّض لعمارة هذا المشهد الكريم أُناساً قدّر لهم الخير والسعادة، وأجرى على أيديهم المبرّات، ففازوا بالباقيات الصالحات، وكانت لهم الذكرى الخالدة في الدارين، والسعادة في النشأتين، من ملوك، وأُمراء، وعلماء، ووجهاء، فتعاقب عليه العمران، وفي كُلّ يوم يزداد بهجة وبهاء حتّى تجلَّى ـ كما هو اليوم ـ في أبهج المناظر بقبّته التي تحاك السماء رفعة، وان شئت النجوم بهجة، وذلك الحرم المنيع المضاهي للعرش عظمة، وأروقته المغشاة بالقوارير التي تفوق الأفلاك بذخاً، وذلك الصحن
الذي هو ساحة القدس وباحة الجلال، والبهو الكبير الذهبي الذي دونه عرش الملك ومناط الأُبهة، فحاكى غرف الجنان وصروحها.
ويتحدّث المؤّرخون أنّ الشاه طهماسب في سنة 1032 هجرية زيّن القبة السامية بالكاشاني، وبنى شبّاكاً على الصندوق، ونظّم الرواق والصحن، وبنى البهو أمام الباب الأوّل للحرم، وأرسل الفرش الثمينة من صنع إيران.
وفي سنة 1155 هـ أهدى نادر شاه إلى الحرم المطهّر تُحفاً كثيرة، وزيّن بعض تلك المباني بالقوارير.
وفي سنة 1117 هـ زار الحسين وزيره الشهم، فجدّد صندوق القبر، وعمّر الرواق، وأهدى ثريا يوضع فيها الشمع لإنارة الحرم الشريف.
وبعد حادثة الوهابية بكربلاء سنة 1216 هـ، ونهب ما في الحرم من الأعلاق النفيسة والذخائر المثمنة، نهض الشاه فتح علي وجدّد ما نهب من الحسين وأخيه أبي الفضل، وعمّر قبّة العبّاس بالكاشاني، كما أنّه ذهّب قبّة سيّد الشهداء وصدر الأيوان الذي أمام الباب الأُولى للحرم من جهة القبلة، وأنشأ صندوق ساج على قبر أبي الضيم أبي عبد اللّه (عليه السلام)، وفضّض الشباك المطهّر.
وفي كتاب طاقة ريحان ص91 للعلاّمة الحاج ميرزا عبد الكريم المقدّس الارومي: أنّ خال جدّته لأُمه الحاج شكر اللّه بن بدل بك الأفشاري ذهّب الإيوان الذي هو أمام حرم أبي الفضل، وأنفق على ذلك كُلّ ماله، وذلك بإيعاز زين الفقهاء والمجتهدين الشيخ زين العابدين المازندراني المتوفّي 12 ذي العقدة سنة 1309 هـ، وكتب اسمه في الجانب الغربي من جدار الأيوان على
صفائح الذهب بخطّ ذهبي موجود إلى الآن وتاريخ الكتابة سنّة 1309 هـ.
وفي الكتاب المذكور أن نصير الدولة ذهّب منارة أبي الفضل، وكان الصائع يغش في تطلية الطاقات الصفرية بالذهب، فعرف منه ذلك، وجيء به من بغداد إلى كربلاء، فَلمّا دخل الصحن اضطرب وأسود وجهة سواداً شديداً ومات من الغد.
وحدّثني العلاّمة الحجّة السيّد حسن مؤلّف كتاب (فدك) وغيره من المؤلّفات القيّمة: أنّ الإيوان الصغير الذهبي الذي هو أمام الباب الأُولى أنشأه ملك لكنهو محمّد شاه الهندي، وأمّا الطارمة المسقفة بالخشب فبأمر السلطان عبد الحميد خان، وجدّد بناء القبّة بالكاشاني محمّد صادق الأصفهاني الشيرازي الأصل، وهو الذي اشترى الدور الملاصقة للصحن الشريف وزادها في الصحن وبناه بما هو المشاهد، وكانت الزيادة من جهة القبلة أكثر من سائر الجهات قدر إيوانين أو ثلاث، ودفن في حجرة عند باب القبلة تعرف باسمه، وبنى الصحن بالكاشاني (رحمه الله) وجزاه لخدمته لأبي الفضل أفضل جزاء المحسنين.
وجدّد السيّد المبجّل سادن الروضة المقدسة السيّد مرتضى الباب الفضّي التي هي في الأيوان الذهبي أمام حضرة العبّاس (عليه السلام)سنّة 1355 هـ، وكتب على المصراعين قصيدة الخطيب الأُستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي، وتفضّل حفظه اللّه بها، ولطروس الإنشاء الذي ذكرناه فيما تقدّم، وهذه القصيدة:
لذ بأعتاب مرقد قد تمنّت أن تكون النجوم من حصباه
وانتشق من ثرى أبي الفضل نشراً ليس يحكي العبير نفح شذاه
غاب فيه من هاشم أيّ بدر فيه ليل الضلال يمحي دجاه
هو يوم الطفوف ساقي العُطاشى فاسق من فيض مقلتيك ثراه
وأطل عنده البكاء ففيه قد أطال الحسين شجواً بكاه
لا يُضاهيه ذو الجناحين لمّا قطعت في شبا الحسام يداه
هو باب الحسين ما خاب يوماً وافد جاء لائذاً في حماه
قام دون الهدى يناضل عنه وكفّاه ذاك المقام كفاه
فادياً سبط أحمد كأبيه حيدر مذ فدى النبيّ أخاه
جدّد المرتضى له باب قدس من لجين يغشى العيون سناه
إنّه باب حطة ليس يخشى كلّ هول مستمسك في عراه
قف به داعياً وفيه توسّل فبه المرء يستجاب دعاه
السدانة
السدانة: هي خدمة المعبد والقيام بشؤونه ولوازمه وتحرّي كلاءته عن أي عادية، وقد اتّخذت العرب بيوتاً تعظّمها كتعظيم الكعبة وجعلوا لها حجاباً وسدنة، وكانوا يهدون إليها كما يهدون إلى الكعبة، ويطوفون كما يطوفون بالكعبة، وينحرون بها مثلها. كلّ ذلك مع معرفتهم فضل البيت الحرام والكعبة المشرفة ; لأنّها بناء الخليل(246).
فالبيت المعظّم الذي يتخذ معبداً ومأوى للوفود والزائرين ومحلاً للدعاء والابتهال لا بّد وان يجعل له حجبة وسدنة، يرعون حرمته، فنصب السادن من لوازم جلالة المحلّ ووجود المثمنات فيه، فلن تجد محلاًّ له شأن إلا ورأيت له خدمة.
وبمناسبة منعة المحلّ لا يقيضّ له من سوقة الناس ومن لا كفاءة له بالقيام بالخدمة ; لأنّ فيه حطّاً من كرامته، وتحطيماً لمكانته، فمن حقّ المقام أن يكون السادن شريف قومه، وكريم بيته، لا يسبق بمجد، ولا يلحق بشرف.
ومن هنا نشاهد السدانة في حرم أبي الفضل (عليه السلام) يتولاّها شريف بعد شريف، حتّى انتهى الأمر إلى الهاشمي المبجّل السيّد
مصطفى، ومنه إلى خلفه الشهم الهمام السيّد مرتضى الذي لا تعدّ مآثره، ولا آثاره وأياديه الجميلة، ومساعيه المشكورة حول خدمة الحرم وعمارته وتنويره وتزيينه، وكان كما يهواه السؤدد والخطر، وتختاره طهارة العنصر، ونزاهة الأعراق، ويرتئيه المجد الهاشمي، والمولد العلوي.
وقام نجله الزكي السيّد محمّد حسن بكُلّ ما يستطيعه من خدمة الحرم.
حامي الجوار
لقد عرف العلماء مكانة أبي الفضل عند اللّه سبحانه وتعالى وما حباه به وأعدّه له من جزيل الفضل، تقديراً لأعماله، وما قاساه من فوادح وآلام، فكان ملجأ الخائف، ولهف اللاجىء، وغوث الصريخ، وحمى المستجير، فلاذوا بجنابه عند الممّات، وجاوروا مرقده الأطهر، والتجأوا إلى كهفه المنيع، ليمنحهم الشفاعة، فيفوزوا بالخلد، ويتقلّبوا على أسرّة النعيم الدائم، وحاشا أبو الفضل أن يخفر الجوار ويتباعد عمّن عقل ناقته بفنائه.
ومن هؤلاء الأعلام ما في الذريعة إلى مصنفات الشيعة ج3 ص199: أنّ الحاج السيّد محمّد بن محسن الزنجاني توفّي بزنجان سنة 1355 هـ وحُمل إلى جوار أبي الفضل العبّاس بوصيّة منه.
وفيه ص323: أنّ الشيخ علي بن زين العابدين البارجيتي اليزدي الحائري صاحب كتاب (إلزام الناصب في أحوال الحجّة الغائب) دفن في صحن العبّاس (عليه السلام).
والعلاّمة الشيخ علي اليزدي البقروئي، من أجلاء تلامذة الأردكاني، دفن في البهو أمام حضرة العبّاس.
والسيّد كاظم البهبهاني، من تلامذة المرحوم آية اللّه السيّد هاشم القزويني، دفن في الرواق.
والعلاّمة السيّد عبد اللّه الكشميري، من تلامذة الأردكاني، دفن في الحجرة الرابعة من الشرق الجنوبي.
الشيخ ملاّ عباس المعروف باليزدي المشهور بسيبويه، وأخوه ملاّ علي المعروف بالأخفش، لهما مكانة عالية في التدريس، دفنا في الحجرة المختصّة بهم الملاصقة للباب المعروفة بباب صاحب الزمان.
والشيخ كاظم الهرّ، له فضل في العلم والأدب، تلمّذ على الشيخ صادق ابن العلاّمة الشيخ خلف عسكر، دفن في الحجرة الأخيرة من الشرق الشمالي.
المديح والرثاء
المديح والرثاء
من الواضح الذي لا يرتاب فيه أنّ نظم الشعر في أيّ رجل تعريف به وإحياء لذكره وإقامة لأمره، فإنّ آثار الرجال مهما كبرت في النفوس وعظم أمرها قد يهمل ذكرها بمرور الزمن، وتباعد العهد، فيغفل عن تلك المآثر ويتناسى مالها من أهميّة كبرى.
ولمّا كان القول المنظوم أسرع تأثيراً من الأصاخة، لرغبة الطباع إليه، فتسير به الركبان، وتلوكه الأشداق، وتتحفّظ به القلوب، وتتلقّاه جيلا بعد جيل، وتأخذه أُمّة بعد أُمّة حتّى يرث اللّه الأرض ومن عليها، فتلتفت إلى ذلك الفضل المتقادم، وقد حفظ لنا الأدب العربي كثيراً من قضايا الأُمم وسيرها وحروبها في الجاهلية والإسلام.
وبما أنّ ذكرى أهل البيت قوام الدّين، وروح الأصلاح، وبها تدرس تعاليمهم، ويقتفي آثارهم ; طفق أدباء هذه الأمة يذكرون مالهم من فضل كثار، وما جرى عليهم من المصائب ولاقوا في سبيل إحياء الدّين من كوارث ومحن ; لأنّ في ذلك إحياء أمرهم، ورحم اللّه من أحيى أمرهم ودعا إلى ذكرهم، وقد تواتر الحثّ من الأئمة المعصومين على نظم الشعر فيهم، مدحاً ورثاءً ; بحيث عدّ من أفضل الطاعات.
ولم يعهد من الأئمة الطاهرين ـ مع تحفّظهم على التقية وإلزام شيعتهم بها ـ تثبيط الشعراء عن المكاشفة في حقّهم وإظهار باطل
المناوئين، مع أنّ في الشعراء من لا يقرّ له قرار، ولا يأويه مكان، فرقاً من أعداء أهل البيت، لمحض مجاهرتهم بالولاء والدعوة إلى طريقة أبناء الرسول صلوات اللّه عليه، كالكميت ودعبل الخزاعي ونظرائهما.
بل كان الأئمة يؤكّدون ذلك بالتحبيذ وإدرار المال عليهم، وإجزال الهبات لهم، وذكر المثوبات، وليس ذلك إلاّ لأنّ المكاشفة أدخل في توطيد أُسس الولاية، وعامل قويّ لنشر الخلافة الحقّة، حتّى لا يبقى سمع إلاّ وقد طرقه الحقّ الصراح، ثُمّ تتلقّاه الأجيال الآتية، كُلّ ذلك حفظاً للدّين عن الاندراس، ولئلا تذهب تضحية آل اللّه في سبيله أدراج التمويهات.
ولولا نهضة أولئك الأفذاذ من رجالات الشيعة للذبّ عن قدس الشريعة بتعريض أنفسهم للقتل كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، ورشيد، وميثم التمار، وأمثالهم، ومجاهرة الشعراء بما قدّم به الأطهار من أهل البيت النبويّ، لما عرفت الأجيال المتعاقبة صراح الحقّ.
وممّا ورد من الحثّ على نظم الشعر مدحاً ورثاءً قولهم (عليهم السلام): " من قال فينا بيتاً من الشعر بنى اللّه له بيتاً في الجنّة "، وفي آخر: " حتَّى يؤيّد بروح القدس "(247).
وفي ثالث: " ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا إلاّ بنى اللّه له في الجنة مدينة أوسع من الدنيا سبع مرّات، يزوره فيها كُلّ ملك مقرب ونبيّ مرسل "(248).
وقال أبو جعفر الباقر للكميت لما أنشده:
من لقلب متيّم مستهام.
القصيدة: " لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما دمت تقول فينا "(249).
وأذن الإمام الجواد (عليه السلام) لعبد اللّه بن الصلت أنّ يندبه ويندب أباه الرضا (عليه السلام).
وكتب إليه أبو طالب أبياتاً يستأذنه فيها في رثاء أبيه الرضا، فقطع أبو جعفر الأبيات وكتب إليه: " أحسنت وجزاك اللّه خيراً "(250).
وتقدّم في ص172 مدح الصادق لمن يرثي لهم ويمدحهم.
وحسب الشاعر أن يترتّب على عمله البار هاتيك المثوبات الجزيلة التي تشفّ عن أنّ ما يصفه بعين اللّه سبحانه حتّى يبوّأه الجليل عزّ شأنه من الخلد حيث يشاء، وتزدان به غرف الجنان، ولا بدع فإنّه بهتافه ذلك معدود من أهل الدعوة الإلهية، المعلنين لكلمة الحقّ وتأييد الدّين، فهو بقوله الحقّ يرفع دعامة الإصلاح، وتشييد مبانية، ويطأ نزعة الباطل بأخمص الهدى، ويقم أشواكه المتكدّسة أمام سير المذهب، ويلحب طريقه الواضح، فحيّاهم اللّه من دعاة إلى مراضيه.
وبما أنّ أبا الفضل العبّاس من أُولئك الأطهار الذين بهم تمّت الدعوة الإلهية، وعلت كلمة اللّه العليا، بإزهاق نفوسهم المقدّسة حتّى قضوا كراماً طيّبين، مضافاً إلى ما حواه من صفات الجلال والجمال ممّا أوجب أن يغبطه الصديقون على ما منحه الباري
سبحانه عوض شهادته ; بادر من كهربه الولاء الخالص طلباً لذلك الأجر الجزيل بنظم مديحه ورثائه، وأوّل من رثاه أُمّه أُمّ البنين كما في مقاتل الطالبيين، فإنّها كانت تخرج إلى البقيع تندب أولادها أشجى ندبة وأحرقها، فيجتمع الناس لسماع ندبتها، وكان مروان يجيء لذلك فلا يزال يبكي(251)، فمن رثائها فيهم:
لا تدعوني وَيْكَ أمّ البنين تذكّروني بليوث العرين
كانت بنون لي أُدعى بهم واليوم أصبحتُ ولا من بنين
أربعة مثل نسور الربى قد واصلوا الموتَ بقطع الوتين
تنازع الخرصان أشلاءهم فكلّهم أمسى صريعاً طعين
يا ليت شعري أكما أخبروا بأنّ عبّاساً قطيع الوتين
وقولها الآخر:
يا مَن رأى العبّاس كرّ على جماهير النقد
ووراه من أبناء حيدر كلّ ليث ذي لبد
نُبِّئت أنّ ابني أُصيب برأسه مقطوع يد
ويلي على شبلي أمال برأسه ضرب العمد
لو كان سيفك في يدِ يكُ لما دنا منه أحد
ورثاه حفيده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن ابن عبيد اللّه بن العبّاس بن أمير المؤمنين على ما في المجدي.
إنّي لأذكر للعبّاس موقفه بكربلاء وهام القوم يختطف
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ ولا يولّي ولا يثني فمختلف
ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده مع الحسين عليه الفضل والشرف
أكرم به مشهداً بانت فضيلته وما أضاع له أفعاله خلف
وحكى الشيخ الجليل العلاّمة ميرزا عبد الحسين الأميني في كتاب (الغدير) ج3 ص5 عن روض الجنان في نيل مشتهى الجنان، المطبوع للمؤرّخ الهندي أشرف علي، أنّ الفضل بن الحسن المذكور قال في جدّه العبّاس (عليه السلام):
أحقّ الناس أن يبكى عليه فتى أبكى الحسين بكربلاء
أخوه وابن والده عليّ أبو الفضل المضرّج بالدماء
ومَن واساه لا يثنيه شيء وجاد له على عطش بماء
وهذه الأبيات نسبها أبو الفرج في المقاتل إلى الشاعر، ونسبها السيّد الحجّة المتتبّع السيّد عبد اللّه شبّر (قدس سره) في جلاء العيون إلى الحسين (عليه السلام).
وقد رثى أبا الفضل العبّاس جماعةٌ كثيرة من الفضلاء الأدباء والعلماء البارعين، لو جُمعت لكانت مجلّداً ضخماً، ولعلّ فيض أبي الفضل يشملنا فنخرجها إلى القرّاء بالقريب العاجل، وفي هذا الكتاب نذكر ما يتحمّله منها.
ومن جيّد ما رثي به قصيدة الشاعر الشهير الحاجّ هاشم ابن حردان الكعبي الدروقي المتوفّى سنة 1231 هـ، وهي مثبتة في ديوانه المطبوع في النجف، وفي كشكول الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق في الفقه ج2 ص392، وفي الدرّ النضيد للعلاّمة السيّد محسن الأمين ومطلعها:
هل أم طوق كذات الطوق في السلم نحن شوقاً إلى أيامنا القدم
إلى أن يقول:
يومٌ أبو الفضل تدعوا الظاميات به والماء تحت شبا الهندية الخذم
والخيل تصطكّ والزعف الدلاص على فرسانها قد غدت ناراً على علم
وأقبل الليث لا يلويه خوف ردى بادي البشاشة كالمدعوّ للنعم
يبدو فيغدر صميم الجمع منصدعاً نصفين ما بين مطروح ومنهزم
ورثاه العلاّمة الشيخ محسن آل الشيخ خضر المتوفّى حوالي سنة 1303 هـ:
فللّه زينب إذ تستغيث أبا الفضل يا كهف عزّي المهابا
ويا ليث قومي إذا الخطب ناب وكشّرت الحرب سناً ونابا
أتتركني نصب عين العدو تنتهب القوم رحلي انتهابا
وللّه مقولها إذ تقول ينشعب القلب منه انشعاباً
عذرتك يا ابن أبي فالحميم بكفّيه يحمي إذا الخطب نابا
فشلّت أكفّ علوج برت يمينك إذ يسلبوني النقابا
وذاب عمود حديد رماك وأخطأ سهم حشاك أصابا
ورثاه شاعر أهل البيت في عصره السيّد حيدر الحلّي المتوفّى سنة 1304 هـ، وهي مثبتة في ديوانه مطلعها:
حلولك في محلّ الضيم داما وحدّ السيف يأبى أن نضاما
ورثاه العلاّمة السيّد جعفر الحلّي المتوفّى سنة 1315 هـ، وقد أبدع فيها وهي مثبتة في ديوانه المطبوع في صيدا وفي منير الأحزان والدرّ النضيد مطلعها:
وجه الصباح عليَّ ليل مظلم وربيع أيّامي عليَّ محرّم
وفي ص99 وص153 وص150 ذكرنا أبياتاً منها.
ورثاه الحاجّ محمّد رضا الأزري ومطلعها:
أوما أتاك حديث وقعة كربلاء إنّي وقد بلغ السماء قتامها
طبعت في منير الأحزان للعلاّمة الشيخ شريف الجواهري، وفي الدرّ النضيد.
ورثاه الإمام الحجّة الشيخ محمّد حسن كاشف الغطاء أدام اللّه ظلّه(252):
أبا صالح إنّ العزا لمحرّم ومنكم بنو الزهراء استحلّ به الدم
لكم بين أضلاعي مواقد لوعة بذكر رزاياكم تشبّ وتضرم
تزاحم في فكري إذا رمت عدّها رزاياكم الجلى فأبكى وأوجم
وما أنس من شيء فلا أنس وقعة تهدّ لها السبع الطباق وتهدم
وقد جدّدت حزني ولم يك مخلقاً غداة استهلت أدمعي والمحرم
أصاب بها من كربلا قلب أحمد وقلب عليّ والبتولة أسهم
غداة بنوه الغرّ في نصر دينه سرت ونهار العدل بالحور مظلم
بفتيان صدق في الحفيظة يممت ركاب العلى في ظعنهم حيث يمموا
تطالع أقماراً بهم وأهلة إذا أسفروا في موكب وتلثّموا
وإن صرت الهيجاء ناباً تراهم أسوداً فأفياء الضبا تتأجّم
وإن فلّ حدّ السيف أمضاه عزمهم بأمضى شبا منهم فلا يتكتّم
وتهوي المنايا للهوان كأنّما المنايا لها دون الدنيّة مغنم
ميامين يوم السلم لكن يومهم على من دنا بالشؤم منهم لأشأم
قد أدرعوا درعاً جديداً وأخّروا من الصبر أقوى منه نسجاً وأحكم
وما راع جيش الكفر إلاّ عصابة حداها من الإيمان جيش عرمرم
حجازيّة نحو العراق ومنجد ثناها باجواز الفيافي ومتّهم
بأجسامها في عرصة الطفّ عرّست وأرواحها في عالم القدس عوم
تضاحك بشراً بالمنون كأنّما الحياة عذاب والمنون تنعم
وترقص شوقاً للّقاء قلوبها إذا أخذت في ذكرها تترنّم
وإن بزغ النور الإلهي بينها ترى البدر حفّت فيه بالسعد أنجم
لقد ثبتوا للذبّ عنه بموقف يشيب به طفل القضاء ويهرم
وتذهل أملاك السماء لوقعه وبذبل منه يذبل ويلملم
ولمّا قضوا في حلبة المجد حقّها وحقّ لها نحو الجنان التقدّم
تهاووا فقل زهر النجوم وتهافتت وأهووا فقل شمّ الرواسي تهدّم
بحرب على أعوان حرب قد انكفى صواعق من قرع الأسنّة تضرم
تعثر فيه بالجماجم خيلهم وأجسامهم للطير والوحش مطعم
وتعبس من خوف وجوه أميّة إذا كرّ (عباس) الوغى يتبسّم
أبو الفضل تأبى غيره الفضل والإبا أباً فهو أما عنه أو فيه يرسم
عليم بتأويل المنيّة سيفه نزول على من بالكريهة معلم
ويمضي إلى الهيجاء مستقبل العدى بماضي به أمر المنيّة مبرم
وإن عاد ليل الحرب بالنقع أليلا فيوم عداه منه بالشرّ أيوم
وإن سمع الأطفال تصرخ للظما تصارخ منه الجحفل المتضمّم
وصال عليهم صولة الليث مغضباً يحمحم من طول الطوى ويدمدم
وراح لورد المستقى حامل السقا وأصدر عنه وهو بالماء مفهم
ومذ خاض نهر العلقمي تذكّر الحسين فولّى عنه والريق علقم
وأضحى ابن ساقي الحوض سقا ابن أحمد يروي عطاشا المصطفى الطهر إن ظموا
ولمّا أبى منك الإباء تأخّراً وأنّ أبا الفضل الذي يتقدّم
بهم حسمت يمناك ظلما ولم أخل يمين القضا في صارم الشرك تحسم
وإنّ عمود الفضل يخسف هامه عمود حديد للضلالة يدعم
وحين هوى أهوى إليه شقيقه يشقّ صفوف المخلدي ويحطّم
فألفاه مقطوع اليدين معفّراً يفور من مخسوف هامته الدم
فقال: أخي قد كنت كبش كتيبتي وجنّة بأس حين أدهى وأدهم
فمن ناقع حرّ القلوب من الظما ومن دافع شرّ العدى يوم تهجم
ومن يكشف البلوى ومن يحمل اللوا ومن يدفع اللأوي ومن يتقحّم
رحلت وقد خلّفتني يا بن والدي أغاض بأيدي الظالمين وأهضم
أحاطت بي الأعداء من كلّ جانب ولا ناصر إلاّ سنان ولهذم
فما زال ينعاه ويندب عنده إلى أن أفاض البقعة الدمع والدم
وأقبل محنيّ الضلوع إلى النسا يكفكف عنها الدمع والدمع يسجم
ولاحت عليه للرزايا دلائل تبين لها لكنّه يتكتّم
وأقدم فرداً للكريهة ليثها وسبعون ألفاً عنه في الكرّ أحجموا
فتحسب عزرائيل صاح بسيفه عليهم ففرّوا من يديه وأُهزموا
وقل غضب الجبّار دمدم صاعقاً بمنحوس ذياك الوجود وأُعدموا
ولمّا أعاد البرّ بحراً جواده السفين به لكنّما الموج عندم
نمت عزمه البقيا عليه فما انثنوا ورقّ على من لا يرقّ ويرحم
وقام لسان اللّه يخطب واعظاً فصمّوا لمّا عن قدس أنواره عموا
وقال انسبوني من أنا اليوم وانظروا حلالا لكم منّي دمي أم محرّم
فما وجدوا إلاّ السهام بنحره تراش جواباً والعوالي تقوم
ومذ أيقن السبط انمحى دين جدّه ولم يبق بين الناس في الأرض مسلم
فدى نفسه في نصرة الدين خائضاً عن المسلمين الغامرات ليسلموا
وقال خذيني يا حتوف وهاك يا سيوف فأوصالي لك اليوم مغنم
وهيهات أن أغدوا على الضيم حائماً ولولي على جمر الأسنّة مجثم
وكرّ وقد ضاق الفضا وجرى القضا وسال بوادي الكفر سيل عرمرم
ومذ خرّ بالتعظيم للّه ساجداً له كبّروا بين السيوف وعظّموا
وجاء إليه الشمر يرفع رأسه فقام به عنه السنان المقوم
وزعزع عرش اللّه وانحط نوره فأشرق وجه الأرض والكون مظلم
ومذمال قطب الكون مال وأوشك انقلاباً يميل الكائنات ويعدم
وحين ثوى في الأرض قرّ قرارها وعادت ومن أوج السما وهي أعظم
فلهفي له فرداً عليه تزاحمت جموع العدى تزداد جهلا فيحلم
لهفي له ضام يجود وحوله الفرات جرى طام وعنه يحرم
ولهفي له ملقى وللخيل حافر يجول على تلك الضلوع وينسم
ولهفي على أعضاك يا بن محمّد توزّع في أسيافهم وتسهم
فجسمك ما بين السيوف موزّع ورحلك ما بين الأعادي مقسّم
فلهفي على ريحانة الطُهر جسمه لكلّ رجيم بالحجارة يرجم
وللعلاّمة الشيخ محمّد حسين الإصفهاني (قدس سره) المتوفّى سنة 1361 هـ ذي الحجّة:
أبو الإباء وابن بجدة اللقا رقى من العلياء خير مرتقى
ذاك أبو الفضل أخو المعالي سلالة الجلال والجمال
شبل علي ليث غابة القدم ومن يشابه أبه فما ظلم
صنو الكريمين سليلي الهدى علماً وحلماً شرفاً وسؤددا
وهو الزكي في مدارج الكرم هو الشهيد في معارج الهمم
وارث من حاز مواريث الرسل أبو العقول والنفوس والمثل
وكيف لا وذاته القدسيّة مجموعة الفضائل النفسيّة
عليه أفلاك المعالي دائرة فإنّه قطب محيط الدائرة
له من العلياء والمآثر ما جلّ أن يخطر في الخواطر
وكيف وهو في علوّ المنزلة كالروح من نقطة باء البسملة
وهو قوام مصحف الشهادة تمّت به دائرة السعادة
وهو لكلّ شدّة ملمّة فإنّه عنقاء قاف الهمّة
وهو حليف الحقّ والحقيقة والفرد في الخلقة والخليقة
وقد تجلّى بالجمال الباهر حتّى بدا سرّ الوجود الزاهر
غُرّته الغرّاء في الظهور تكاد أن تغلب نور الطور
رقى سماء المجد والفخار بالحقّ يدعى قمر الأقمار
بل في سماء عالم الأسماء كالقمر البازغ في السماء
بل عالم التكوين من شعاعه جلّ جلال اللّه في إبداعه
سرّ أبيه وهو سرّ الباري مليك عرش عالم الأسرار
أبوه عين اللّه وهو نورها به الهداية استناء طورها
فإنّه إنسان عين المعرفة مرآتها لكلّ اسم وصفة
ليس يد اللّه سوى أبيه وقدرة اللّه تجلّت فيه
فهو يد اللّه وهذا ساعده تغنيك عن إثباته مشاهده
فلا سوى أبيه للّه يد ولا سواه لأبيه عضد
له اليد البيضاء في الكفاح وكيف وهو مالك الأرواح
يمثّل الكرّار في كرّاته بل في المعاني الغرّ من صفاته
صولته عند النزال صولته لولا الغلوّ قلت جلّت قدرته
هو المحيط في تجوّلاته ونقطة المركز في ثباته
سطوته لولا القضاء الجاري تقضي على العالم بالبوار
وواسم المنون حدّ مفرده والفرق بين الجمع من ضرب يده
بارقة صاعقة العذاب بارقة تذهب باللباب
بارقة تحصد في الرؤوس تزهق بالأرواح والنفوس
واسى أخاه حين لا مواسي في موقف يزلزل الرواسي
بعزمة تكاد تسبق القضا وسطوة تملأبالرعب الفضا
دافع عن سبط نبيّ الرحمة بهمّة ما فوقها من همّة
بهمّة من فوق هامة الفلك ولا ينالها نبيّ أو ملك
واستعرض الصفوف واستطالا على العدا ونكّس الأبطالا
لفّ جيوشَ البغي والفساد بنشر روح العدل والرشاد
كرّ عليهم كرّة الكرّار أوردهم بالسيف ورد النار
آثر بالماء أخاه الضامي حتّى غدا معترض السهام
ولا يهمّه السهام حاشا من همّه سقاية العطاشى
فجاد باليمين والشمال لنصرة الدين وحفظ الآل
قام بحمل راية التوحيد حتّى هوى من عمد الحديد
والدين لمّا قطعت يداه تقطّعت من بعده عراه
وانطمست من بعده أعلامه مذ فقدت عميدها قوامه
وانصدعت مهجة سيّد البشر لقتله وظهر سبطه انكسر
وبان الإنكسار في جبينه فانكدت الجبال من حنينه
وكيف لا وهو جمال بهجته وفي محياه سرور مهجته
كافل أهله وساقى صبيته وحامل اللوا بعالي همّته
واحدة لكنّه كلّ القوى وليث غابة بطفّ نينوى
ناح على أخيه نوح الثكلى بل النبيّ في الرفيق الأعلى
وانشقّت السما وأمطرت دما فما أجلّ رزأه وأعظما
بكاه كالهطال حزناً والده وكيف لا وبان منه ساعده
بكاه صنوه الزكي المجتبى وكيف لا ونور عينه خبا
ناحت بنات الوحي والتنزيل عليه مذ أمست بلا كفيل
ناحت عليه الحور في قصورها لنوح آل البيت في خدورها
ناحت عليه زمر الأملاك مذ ناحت العقائل الزواكي
فمَن لتلك الخفرات الطاهرة مذ سبيت حسرى القناع سافرة
أين ربيب المجد أمّاً وأباً عن أخواته وهنّ في السبا
وأين عن ودائع النبوّة ممثّل الغيرة والفتوّة
وأين عنها ربّ أرباب الإبا إذ هجم الخيل عنهن الخبا
فأصبحت نهباً لكلّ مارق مسوّدة المتون والعواتق
فيها اشتفى العدوّ من ضغائنه فأين حامي الظعن عن ظعائنه
أين فتى الفتيان يوم الملحمة عن فتياته بأيدي الظلمة
فليته يرى بعين الباري عزائز اللّه على الأكوار
يهدي بها من بلد إلى بلد وهنّ في أعظم كرب وكمد
وللعلاّمة الشيخ حسن ابن الشيخ محسن مصبّح الحلّي(253) من قصيدة في الحسين (عليه السلام):
فهناك هبّ ابن الوصيّ إلى الوغى بهمّة ليث لم يرعه قتامها
أبو الفضل حامي ثغرة الدين جامع فرائده إن سلّ منها نظامها
نضى لقراع الشوس غضباً بحدّه ليوم التنادي يستكنّ حمامها
عليه انطوت في حلبة الطعن فانطوى عليه الفضا منه وضاق مقامها
وخاض بها جرّاً يرفّ عبابه ضباً ويد الأقدار جالت سهامها
فحلأها عن جانب النهر عنوة وولّت عواديها يصل لجامها
ودمدم ليث الغاب يعطو بسالة إلى الماء لم يكبر عليه ازدحامها
ثنى رجله عن صهوة المهر وامتطى قرى النهر واحتلّ السقاء همامها
وهبّ إلى نحو الخيام مشمّراً لري عطاشا قد طواها أوامها
ألّمت به سوداء يخطف برقها البصائر من رعب ويعلو قتامها
جلاها بمشحوذ الغرارين أبلج يدبّ به لدار عين حمامها
فلولا قضاء اللّه لم يبق منهم حسيس ولم يكبر عليه اتّصامها
بماضية الأقدار جدّت يساره وثنت بيمنى منه طاب التثامها
وفي عمد حتم القضا شجّ رأسه ترجّل وانثالت عليه لئامها
به انتظمت سمر القنا وتشاكلت وكم فيه يوم الروع حلّ نظامها
دعا يا حمى الإسلام يا بن الذي به دعائم دين اللّه شدّ قوامها
جرى نافذ الأقدار في من تحمه سراعاً فإنّ النفس حان حمامها
فشدّ مجيباً دعوة الليث طالباً تراب به الأعداء طال اجترامها
طواها ضراباً سلّ فيه نفوسها وحلّق فيها للبوار اخترامها
وأحنى عليه قائلا هتك العدى حجاب المعالي واستحلّ حرامها
أخي بمن أسطو وإنّكَ ساعدي وعضبي إذا ما ضاق يوماً مقامها
أخي فمَن يُعطي المكارم حقّها ومَن فيه إعزازاً تطاول هامها
أخي فمن للمحصنات إذا غدت بملساء يذكي الحائمات رغامها
أخي لمن أُعطي اللواء ومَن به يشقّ عباب الحرب إن جاش سامها
أخي فمن يحمي الذمار حفيظة إذا ما كبا بالضاريات اعتزامها
كفى أسفاً أنّي فقدت حشاشتي بفقدكَ والأرزاء جدّ احتدامها
فوالهفتا والدهر غدر صروفه عليكَ وعفواً ناضلتني سهامها
إلى اللّه أشكو لوعة لو أبثّها على شامخات الأرض ساخ شمامها
على أنّني والحكم للّه لاحق بأثرك والدنيا قليل دوامها
فقام وقد أحنى الضلوع على جوى يئنّ كما في الدوح أنّ حمامها
حسبتك للأيتام تبقى ولم أخل تجرّ عليّ الداهيات طغامها
للعلاّمة الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق العاملي(254):
بكر الردى فاجتاح في نكبائه نور الهدى ومحاسنا سيمائه
ودهى الرشاد بناسف لأشمّه وبخاسف أواه بدر سمائه
ورمى فأصمى الدين في نفاذه وارحمتاه لمنتهى أحشائه
يوماً به قمر الغطارف هاشم صكّت يد الجلى جبين بهائه
سيم الهوان بكربلاء فطار للعزّ الرفيع به جناح آبائه
أنّى يلين إلى الدنيّة ملمساً أو تنحت الأقدار من ملسائه
هو ذلك البسام في الهيجاء (والعبّاس) نازلة على أعدائه
من حيدر هو بضعة وصفيحة من عزمه مشحوذة بمضائه
واسى أخاه بموقف العزّ الذي وقفت سواري الشهب دون علائه
ملك الفرات على ظماه وأُسوة بأخيه مات ولم يذق من مائه
لم أنسه مذكّر منعطفاً وقد عطف الوكاء على معين سقائه
ولوى عنان جواده سرعان نحو مخيّم يطفي أوار ظمائه
فاعتاقه السدان من بيض ومن سمر وكلّ سدّ رحب فضائه
فانصاع يخترق الصوارم والقنا لا يرعوي كالسهم في غلوائه
يفري الطلا ويخيط أفلاذ الكلا بشباة أبيضه وفي سمرائه
ويجول جولة حيدر بكتائب ملأ الفضا كالليل في ظلمائه
حتّى إذا ما حان حين شهادة رقمت له في لوح فضل قضائه
حسمت مذربة الحسام مقلة لسقائه ومجيلة للوائه
أمن العدى فتكاته فدنا له من كان هياباً مهيب لقائه
وعلاه في عمد فخر لوجهه ويمينه ويساره بأزائه
نادى أخاه فكان عند ندائه كالكوكب المنقصّ في جوزائه
وافى عليه مفرّقاً عنه العدى ومجمعاً ما أنبثّ من أشلائه
وهوى يقبّله وما من موضع للثم إلاّ غارق بدمائه
ويميط عن حرّ المحيا حمرة علقية صبغت لجين صفائه
يا مبكياً عين الإمام عليك فلتبك الأنام تأسّيساً ببكائه
ومقوّساً منه القوام وحانياً منه الضلوع على جوى برحائه
فلننحني حزناً عليك تأسّياً بالسبط في تقويسه وحنائه
أنتَ الحريّ بأن تقيم بنو الورى طرى ليوم الحشر سوق عزائه
هذا آخر ما وقفنا عليه من حياة قمر الهاشميّين، واللّه وليّ التوفيق، والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الهداة الميامين، ونسأله سبحانه الهداية لما يرضيه والزلفى لديه تعالت آلآؤه.
فهرس المصادر
القرآن الكريم:
كتاب اللّه سبحانه وتعالى المنزل.
1 ـ الرد على المتعصب العنيد،
الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي ت 597، تحقيق الشيخ محمّد كاظم المحمودي، طبع سنة 1403 ـ 1983.
2 ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب،
يوسف بن عبد اللّه بن محمّد ابن عبداللّه القرطبي ت 463، تحقيق علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، الطبعة الأُولى 1415 هـ ـ 1995 م دار الكتب العلمية ـ بيروت.
3 ـ الجامع لأحكام القرآن،
محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ت 67 هـ، تحقيق ابراهيم أصفيش، طبع سنة 1405 هـ ـ 1985 م، دار لحياة التراث العربي ـ بيروت.
4 ـ الخرائج والجرائح،
قطب الدين الراوندي، ت 573، تحقيق محمّد باقر المحمودي، الطبعة الأُولى 1409 هـ، مؤسسه الامام المهدي ـ قم.
5 ـ الاحتجاج،
أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، تعليق محمّد باقر الخرساني، سنة الطبع 1386 هـ ـ 1966 م، دار النعمان ـ النجف الأشرف.
6 ـ إحقاق الحق وازهاق الباطل،
نور اللّه الحسيني التستري،
ت 1019، تعليق السيّد شهاب الدين المرعشي، منشورات مكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي ـ قم ـ إيران.
7 ـ الأخبار الطوال،
أحمد بن داود الدينوري، ت 282 هـ، تحقيق عبد المنعم عامر الطبقه الأُولى 1960 م، دار احياء الكتاب العربي ـ القاهرة.
8 ـ الاختصاص،
الشيخ المفيد، تحقيق علي أكبر الغفاري ومحمود الزرندي، الطبعة الثانية 1414 هـ ـ 1993 م دار المفيد ـ بيروت.
9 ـ الإرشاد،
محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) ـ الطبعة الثانية 1414 هـ ـ 1993 م، دار المفيد ـ بيروت ـ لبنان.
10 ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب،
أحمد بن عبداللّه بن أحمد ابن عبد البر، ت 463، تحقيق علي محمّد البجاوي، الطبقة الأُولى 1412 هـ ـ دار الجبل ـ بيروت.
11 ـ أُسد الغابة في معرفة الصحابة،
عز الدين أبي الحسن علي بن أبي الكرم المعروف بابن الأثير، دار الكتاب العربي ـ بيروت.
12 ـ الإصابة في تمييز الصحابة،
أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد عوض، الطبعة الأُولى 1415 هـ ـ دار الكتب العلميه ـ بيروت.
13 ـ الإصابة في تمييز الصحابة،
أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود علي
محمّد معوض، الطبعة الثانية 1423 هـ، 2002 م، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
14 ـ الأُصول الستة عشر من الأصول الأولية،
تحقيق ضياء الدين المحمودي، الطبعة الأُولى 1423 هـ ـ 1381 ش، دار الحديث قم.
15 ـ الأغاني،
علي بن الحسين أبو الفرج الاصفهاني، ت 356، الطبعة الأُولى، دار احياء التراث العربى ـ بيروت.
16 ـ الأمالي،
علي بن الطاهر المعروف بالمرتضى، تحقيق محمّد بدر الدين الحلبي، الطبعة الأُولى 1325 ـ 1907 م، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي.
17 ـ الأمالي،
محمّد علي بن الحسن بن بابويه القمّي، تحقيق قسم الدراسات السلامية، الطبعة الأُولى 1417 هـ ـ مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة.
18 ـ إمتاع الأسماع،
تقي الدين أحمد بن علي بن القاد المقريزي، ت 845 هـ ـ تحقيق محمّد عبد الحميد النميسي الطبعة الأُولى 1420 هـ 1999 م، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
19 ـ أوائل المقالات،
محمّد العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد، ت 413، تحقيق إبراهيم الانصاري الطبعة الثانية 1414 هـ ـ 1993 م، دار المفيد ـ بيروت.
20 ـ إيمان أبي طالب،
محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد، تحقيق مؤسسة البعثة، الطبعة الثانية 1414 هـ ـ 1993 م، دار المفيد ـ بيروت ـ لبنان.
21 ـ بحار الأنوار،
محمّد باقر المجلسي، تحقيق محمّد باقر البهبودي، الطبعة الثانية 1403 هـ ـ 1983 م، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
22 ـ البداية والنهاية،
إسماعيل بن كثير الدمشقي، تحقيق علي شيري، الطبعة الأُولى 1408 هـ ـ 1988 م، دار التراث العربي ـ بيروت.
23 ـ بشارة المصطفى،
محمّد بن علي الطبري، ت 525، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، الطبعة الأُولى 1420 هـ ـ مؤسسة النشر الاسلامي التابعة جماعة المدرسين بقم.
24 ـ بصائر الدرجات،
محمّد بن الحسن الصفار، ت 290، تحقيق ميرزا حسن باغي طبع سنة 1404 هـ ـ الأحمدي ـ طهران.
25 ـ تاريخ الإسلام،
محمّد بن أحمد بن عثمان شمس الدين الذهبي، تحقيق عمر عبدالسلام ترمزي، الطبعة الأُولى 1407 هـ ـ 1987 م، دار الكتاب العربي ـ بيروت.
26 ـ تاريخ الأُمم والملوك،
محمّد بن جرير الطبري، ت 310، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، مقابلة على النسخة المطبوعة في لندن 1879.
27 ـ تاريخ الأُمم والملوك،
محمّد بن جرير الطبري ت 310، تحقيق نخبه من العلماء، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.
28 ـ تاريخ بغداد،
أحمد بن علي البغدادي، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة الأُولى 1417 هـ ـ دار الكتب
العلمية ـ بيروت.
29 ـ تاريخ مدينة دمشق،
علي بن الحسن بن هبة اللّه المعروف بابن عساكر، تحقيق علي شيري، سنة الطبع 1415، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
30 ـ تاريخ اليعقوبي،
أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب المعروف باليعقوبي، ت 284، نشر مؤسسة نشر فرهنگ أهل بيت (عليهم السلام) ـ قم ـ إيران.
31 ـ تخريج الأحاديث والآثار،
جمال الدين الزيلعي، ت 762، تحقيق عبداللّه بن عبدالرحمان السعد، الطبعة الأُولى 1414 هـ الرياض دار ابن خزيمة.
32 ـ تذكرة الخواص،
يوسف بن قزغلي، سبط ابن الجوزي، ت 654، تحقيق حسن تقي زاده، الطبعة الأُولى 1426 هـ، مجمع أهل بيت (عليهم السلام).
33 ـ تذكرة الموضوعات،
محمّد طاهر بن علي الهندي الفتني، ت 986 هـ.
34 ـ تفسير ابن أبي حاتم،
ابن أبي حاتم الرازي، تحقيق أسعد محمّد الطيب، المكتبة العصرية ـ صيدا.
35 ـ تفسير ابن كثير،
إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، تحقيق يوسف عبدالرحمان المرعشلي، طبع سنة 1412 هـ ـ 1992 م، دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان.
36 ـ تفسير الآلوسي،
الآلوسي، ت 1270 هـ.
37 ـ تفسير البغوي،
ت 510، خالد عبد الرحمن الملك، دار
المعرفة ـ بيروت.
38 ـ تفسير الثعلبي،
ت 437، تحقيق الإمام علي عاشور، الطبعة الأُولى 1422 هـ 2002 م، بيروت ـ لبنان.
39 ـ التفسير الكبير،
الفخر الرازي، تحقيق دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1417 هـ ـ 1997 م، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
40 ـ تاريخ اليعقوبي،
أحمد بن أبي يعقوب بن وهب، طبعة دار صادر ـ بيروت، نشر مؤسسة ونشر فرهنگ أهل بيت (عليهم السلام) ـ قم.
41 ـ تهذيب الأحكام في شرح المقنعة،
محمّد بن الحسن الطوسي، ت 460 هـ، تحقيق السيّد حسن الخرساني، الطبعة الرابعة 1356 ش، دار الكتب الاسلامية ـ طهران.
42 ـ تهذيب الكمال،
جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، ت 654 ـ 742، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، الطبعة الثانية 1407 هـ ـ 1987 م، مؤسسة الرسالة ـ بيروت.
43 ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن،
محمّد بن جرير الطبري، تحقيق الشيخ خليل الميس، طبع سنة 1415 هـ ـ 1995 م، دار الفكر ـ بيروت.
44 ـ جمال الاسبوع،
السيّد ابن طاوس، ت 664، تحقيق جواد فيومي الجنائي الاصفهاني، الطبعة الأُولى، 1371.
45 ـ حلية الأبرار في أحوال محمّد وآله الأطهار (عليهم السلام)،
السيّد هاشم البحراني، تحقيق غلام رضا مولانا البروجردي، الطبعة الأُولى 1414 هـ ـ مؤسسة المعارف الإسلامية ـ قم.
46 ـ الدرجات الرفيعة،
السيّد علي خان مدني، ت 1120 هـ، طبع سنة 1397، بصيرتي ـ قم.
47 ـ الدرر في اختصار المغازي،
أحمد بن عبد اللّه بن أحمد ابن عبد البر، ت 463.
48 ـ الدرّ النظيم،
جمال الدين يوسف بن حاتم بن فوز العاملي، ت 664، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم.
49 ـ الدرّ المنشور في التفسير بالمأثور،
جلال الدين السيوطي، ت 911، دار المعرفه للطباعة والنشر بيروت ـ لبنان.
50 ـ الدمعة الساكبة في أحوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة،
محمّد باقر البهبهاني، ت 285، الطبعة الأُولى 1409 هـ ـ 1989 م، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
51 ـ الذرية الطاهرة،
محمّد بن أحمد بن حماد الدولابي، ت 310 هـ، تحقيق السيّد محمود الجلالي، الطبعة الأُولى 1407 هـ، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.
52 ـ رياض الصالحين،
يحيى بن شرف النووي الدمشقي، ت 676، الطبعة الثانية 1411 هـ ـ 1991 م، دار الفكر المعاصر، بيروت ـ لبنان.
53 ـ روضة الواعظين،
محمّد بن الفتال النيسابوري، ت 508، تحقيق السيّد محمّد مهدي الخرساني، منشورات الشريف ـ قم.
54 ـ زاد المسير،
عبد الرحمن بن علي بن محمّد الجوزي، تحقيق محمّد بن عبد الرحمن، الطبعة الأُولى 1407 هـ ـ 1987 م،
دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان.
55 ـ سنن ابن ماجة،
محمّد بن يزيد القزويني، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر ـ بيروت.
56 ـ سرّ السلسلة العلوية،
أبي نصر البخاري، ت 341، تقديم محمّد صادق بحر العلوم، الطبعة الأُولى 1413 هـ، انتشارات الشريف الرضي.
57 ـ سنن الترمذي،
محمّد بن عيسى الترمذي، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، الطبعة الثانية 1403 هـ ـ 1983 م دار الفكر ـ بيروت.
58 ـ السياسة الشرعية،
محمّد بن عبد الحليم الحراني، سي دي مؤلفات الشيخ والتلميذ.
59 ـ السنن الكبرى،
أحمد بن شعيب النسائي، تحقيق الدكتور عبد الغفار سليمان البندادي، وسيّد كسروي حسن، الطبعة الأُولى 1411 هـ ـ 1991 م، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
60 ـ السيرة الحلبية،
برهان الدين الحلبي الشافعي، ت 1044، طبع سنة 1400 هـ ـ دار المعرفة ـ بيروت.
61 ـ سبل الهدى والرشاد،
محمّد بن يوسف الصالحي الشامي، تحقيق الشيخ عادل أحمد بن عبد الموجود وعلي محمّد معوض، الطبعة الأُولى 1414 هـ ـ 1993 م دار الكتب العلمية ـ بيروت.
62 ـ السنة،
عمرو بن أبي عاصم الضحّاك الشيباني، تحقيق الشيخ محمّد ناصر الدين الالباني، الطبعة الثالثة 1413 هـ ـ 1993 م،
المكتب الإسلامي ـ بيروت.
63 ـ سيرة ابن إسحاق،
محمّد بن إسحاق بن يسار، ت 151، تحقيق محمّد حميد اللّه، معهد الدراسات والأبحاث.
64 ـ السيّرة النبوية،
عبد الملك بن هشام بن أيوب، ت 288، تحقيق محمّد محي الدّين عبد الحميد، طبع سنة 1383 هـ ـ 1963 م، القاهرة.
65 ـ السيّرة النبوية،
تأليف محمّد بن إسحاق بن يسار المطلبي، ت 151، وهذبها عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، ت 218، تحقيق محمّد محي الدين عبد الحميد، طبع سنة 1383 ـ 1963، المدني ـ القاهرة.
66 ـ السيّرة النبوية،
إسماعيل بن كثير، ت 774 هـ، تحقيق مصطفى عبد الواحد، طبع سنة 1396 هـ ـ 1976 م، دار المعرفة ـ بيروت.
67 ـ شواهد التنزيل،
عبيد اللّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي، الطبعة الأُولى 1411 هـ ـ 1990 م، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
68 ـ شرح نهج البلاغة،
ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، بيروت ـ لبنان.
69 ـ شرح نهج البلاغة،
ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر ـ قم.
70 ـ شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت صلوات اللّه وسلامه عليهم،
عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي، الطبعة الأُولى 1411 هـ ـ 1990 م، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية ـ قم.
71 ـ صحيح مسلم،
مسلم بن الحجاج النيسابوري، دار الفكر ـ بيروت.
72 ـ صحيح ابن حبان بترتيب ابن يليان،
علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، تحقيق شعيب الأرنؤوط، طبع سنة 1414 هـ ـ 1993 م، مؤسسة الرسالة.
73 ـ صحيح البخاري،
محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، طبعة سنة 1401 هـ ـ 1981 م، دار الفكر ـ بيروت.
74 ـ الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف،
علي بن موسى بن طاووس الحلّي، ت 664، طبع سنة 1399 هـ ـ خيام ـ قم.
75 ـ الطبقات الكبرى،
محمّد بن سعد، ت 230، دار صادر ـ بيروت.
76 ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب،
أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبه، ت 828، تصحيح محمّد حسن آل الطالقاني، الطبعة الثانية، 1380 هـ ـ 1961 م، المطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف.
77 ـ عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب،
أحمد بن علي الحسيني المعروف بابن عنبة، ت 828 هـ، طبع سنة 1417 هـ ـ 1996 م، الصدر ـ قم.
78 ـ عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري،
العيني ت 855، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
79 ـ عقيدة أبي طالب،
السيّد طالب الرفاعي، نشر مركز الأبحاث العقائدية.
80 ـ عوالي اللئالى العزيزة في الأحاديث الدينية،
محمّد بن علي بن إبراهيم الاحسائي، ت 880، تحقيق مجتبى العراقي، الطبعة الأُولى 1408 ـ 1985 م، سيد الشهداء ـ قم.
81 ـ الغدير،
الشيخ الأميني، الطبعة الثالثة 1387 هـ ـ 1967 م، دار الكتاب العربي بيروت ـ لبنان.
82 ـ فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدراية من علم التفسير،
محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني، ت 1255، مطبعة عالم الكتب.
83 ـ فقه الرضا،
علي بن بابويه، ت 329، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الأُولى 1406 هـ.
84 ـ فتوح البلدان،
أحمد بن يحيى بن جابر المعروف بالبلاذري، ت 279 هـ، تحقيق صلاح الدين المنجد، طبع سنة 1956م، مكتبة النهضة ـ مصر.
85 ـ فتح الباري شرح صحيح البخاري،
شهاب الدين بن حجر العسقلاني، ت 852، الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان.
86 ـ الفتوح،
أحمد بن أعثم الكوفي، ت 314 هـ ـ 926 م، تحقيق علي شيري، الطبعة الأُولى 1411 هـ، دار الأضواء.
87 ـ فيض القدير في شرح الجامع الصغير،
محمّد بن عبد الرؤوف المناوي، تحقيق أحمد عبد السلام الطبعة الأُولى 1415 هـ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
88 ـ القاموس المحيط،
الفيروزآبادي، ت 817 هـ.
89 ـ قرب الاسناد،
عبد اللّه بن جعفر الحميري، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الأُولى 1413 هـ، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث ـ قم.
90 ـ كامل الزيارات،
جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي، ت 368، تحقيق الشيخ جواد القيومي، الطبعة الأُولى 1417 هـ ـ مؤسسة النشر الإسلامي، قم.
91 ـ الكامل في التاريخ،
علي بن أبي الكرم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير، ت 630، طبع سنة 1386 ـ 1966 م، دار صادر ـ بيروت.
92 ـ كتاب الولاية،
أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة الكوفي، جمع وترتيب عبد الرزاق محمّد حسين حرز الدين، الطبعة الأُولى، 1421 هـ ـ انتشارات دليل.
93 ـ الكامل،
المبرد، طبع سنة 1355.
94 ـ كنز الفوائد،
محمّد بن علي بن عثمان الكراجكي، ت 449 هـ، تحقيق عبد اللّه نعمة، طبع سنة 1405 هـ ـ 1985 م، دار الأضواء ـ بيروت.
95 ـ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل،
جار اللّه الزمخشري، ت 538، طبع سنة 1385 ـ 1966 م، شركة مكتبة
مصطفى البابي الحلبي وأولاده ـ مصر.
96 ـ كنز الفوائد،
محمّد بن علي الكراجكي، ت 449، الطبعة الثانية 1369، مطبعة الغدير، مكتبة المصطفوي ـ قم.
97 ـ كشف الغمة في معرفة الأئمة،
علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي، الطبعة الثانية 1405 هـ ـ 1985 م، دار الأضواء، بيروت ـ لبنان.
98 ـ الكافي،
محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، تحقيق علي أكبر غفاري، الطبعة الثالثة 1267 ش، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
99 ـ مستدرك الوسائل،
حسين النوري الطبري، ت 1320، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الثانية 1408 هـ ـ 1989 م، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث الإسلامي بيروت ـ لبنان.
100 ـ المجدي في أنساب الطالبين،
علي بن محمّد بن علي بن محمّد العلوي العمري، تحقيق الدكتور أحمد المهدوي الدامغاني، الطبعة الأُولى 1409 هـ، سيد الشهداء ـ قم.
101 ـ المجدي في أنساب الطالبين،
علي بن محمّد العلوي، ت 709 هـ، تحقيق أحمد الدامغاني، الطبعة الأُولى 1409 هـ، مكتبة آية اللّه المرعشي.
102 ـ المناقب،
الموفق بن أحمد بن محمّد المكي، تحقيق الشيخ مالك المحمودي، الطبعة الثانية 1414 هـ ـ مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين.
103 ـ مصباح الفقاهة،
تقرير بحث السيّد أبو القاسم الخوئي،
بقلم محمّد علي التوحيدي التبريزي، الطبعة الأُولى المطبعة العلمية ـ قم، نشر مكتبة الداوري ـ قم.
104 ـ مناقب علي بن أبي طالب وما نزل من القرآن فيه،
أحمد ابن موسى بن مردويه الاصفهاني، ت 410، عبد الرزاق محمّد حسين حرز الدين، الطبعة الثانية 1424 هـ ـ 1383 ش، دار الحديث ـ قم.
105 ـ مسند أحمد بن حنبل،
أحمد بن حنبل، ت 241، دار صادر ـ بيروت.
106 ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،
نور الدين الهيثمي، طبع سنة 1408 هـ ـ 1988 م، دار الكتب العلمية ـ بيروت.
107 ـ المصنف،
عبد اللّه بن محمّد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق سعيد اللحام، طبع سنة 1409 هـ ـ 1989 م، دار الفكر، بيروت ـ لبنان.
108 ـ ميزان الاعتدال،
شمس الدين الذهبي، تحقيق علي محمّد البجاوي، الطبعة الأُولى 1382 هـ ـ 1963 م، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان.
109 ـ مسند ابن راهويه،
إسحاق بن إبراهيم بن مخلد المروزي، تحقيق الدكتور عبد الغفور عبد الحقّ حسين برد البلوسي، الطبعة الأُولى 1412 هـ مكتب الإيمان ـ المدينة المنورة.
110 ـ مقاتل الطالبين،
أبي الفرج الأصفهاني، تحقيق كاظم المظفر ـ الطبعة الثانية، مؤسسة دار الكتاب ـ قم.
111 ـ مستدرك الوسائل،
الميرزا النوري، ت 1320، تحقيق مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)، الطبعة الثانية 1408 هـ ـ 1988 م، مؤسسة
آل البيت (عليهم السلام).
112 ـ من لا يحضره الفقيه،
محمّد بن علي بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق، ت 381 هـ، تحقيق علي أكبر غفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين ـ قم.
113 ـ معجم البلدان،
ياقوت بن عبد اللّه الحموي الرومي البغدادي، ت 636 هـ، طبع سنة 1399 هـ ـ 1979 م، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
114 ـ منهج الرشاد لمن أراد السداد،
جعفر كاشف الغطاء، ت 1228، تحقيق جودت القزويني، الطبعة الأُولى 1418 هـ ـ 1998 م، مطبوع ضمن الطبقات العنبرية في الطبقات الجعفرية لمحمّد حسين كاشف الغطاء.
115 ـ المسترشد،
محمّد بن جرير الطبري (الشيعي)، القرن الرابع، تحقيق أحمد المحمودي، الطبعة الأُولى 1415 هـ، مؤسسة الثقافة الإسلامية.
116 ـ المحتضر،
حسن بن سليمان الحلّي، القرن الثامن، تحقيق علي أشرف، طبع سنة 1424 ـ انتشارات المكتبة الحيدرية.
117 ـ المزار،
محمّد بن مكّي العاملي المعروف بالشهيد الأوّل، ت 786، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام)، الطبعة الأُولى 1410 هـ، مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) ـ قم.
118 ـ المزار،
محمّد بن المشهدي، ت 610، تحقيق جواد القيومي الاصفهاني، الطبعة الأُولى 1419، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.
119 ـ المزار،
محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد، ت 413 هـ، تحقيق محمّد باقر الأبطحي، الطبعة الثانية 1414 ـ 1993 م، دار المفيد، بيروت ـ لبنان.
120 ـ مقتل الحسين المسمى باللهوف،
علي بن موسى بن جعفر ابن طاووس، ت 664 هـ، الطبعة الأُولى 1417، أنوار الهدى ـ قم.
121 ـ معجم ما استعجم،
عبد اللّه بن عبد العزيز البكري الأندلسي، ت 487، تحقيق مصطفى السقا، الطبعة الثالثة، 1403 هـ ـ 1983 م.
122 ـ لسان الميزان،
ابن حجر العسقلاني، ت 852، الطبعة الثانية 1390 ـ 1971 م، مؤسسة الأعلمي، بيروت ـ لبنان.
123 ـ المحاسن،
أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، تحقيق السيّد جلال الدين الحسيني، طبع سنة 1370 ـ 1330 ش، دار الكتب العلمية ـ طهران.
124 ـ المستدرك على الصحيحين،
الحاكم النيسابوري، تحقيق يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
125 ـ المعجم الكبير،
سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق حميدي عبد المجيد سلفي، الطبعة الثانية 1405 ـ 1985 م، دار إحياء التراث العربي.
126 ـ المعجم الأوسط،
سليمان بن أحمد الطبري، تحقيق دار الحرمين، طبع سنة 1415 هـ ـ 1995 م، دار الحرمين للطباعة والنشر.
127 ـ المعجم الصغير،
سليمان بن أحمد الطبراني، ت 390،
دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان.
128 ـ مسند أبي داود الطيالسي،
سليمان بن داود بن الجارود الفارسي البصري الشهير بأبي داود الطيالسي، ت 404، دار المعرفة ـ بيروت.
129 ـ معجم البلدان،
ياقوت بن عبد اللّه الحموي، ت 626، طبع سنة 1399 ـ 1979 م، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
130 ـ مسند سعد بن أبي وقاص،
أحمد بن إبراهيم بن كثير الدورقي البغدادي، تحقيق حسن صبري، الطبعة الأُولى 1407 هـ، دار البشائر الإسلامية ـ بيروت.
131 ـ المصنف،
عبد الرزاق بن همّام الصنعاني، تحقيق وتعليق: حبيب الرحمن الأعظمي، منشورات المجلس العلمي.
132 ـ مناقب آل أبي طالب،
مشير الدين أبي عبد اللّه محمّد بن علي ابن شهرآشوب، تحقيق لجنة من أساتذة النجف الأشرف، طبع سنة 1376 هـ 1956 م، المكتبة الحيدرية ـ النجف الأشرف.
133 ـ مثير الأحزان،
محمّد بن جعفر بن أبي البقاء هبة الدين نما الحلّي، ت 645، طبع سنة 1369 ـ 1950 م، المطبعة الحيدرية ـ النجف الأشرف.
134 ـ مسند أبي داود الطيالسي،
سليمان بن داود بن الجارود الفارسي الشهير بأبي داود الطيالسي، ت 204 هـ، دار المعرفة ـ بيروت.
135 ـ مدينة المعاجز،
السيّد هاشم البحراني، ت 1107 هـ، دار الكتب العلمية ـ قم.
136 ـ معرفة الثقات،
أحمد بن عبد اللّه بن صالح العجلي الكوفي، ت 261، الطبعة الأُولى 1405، مكتبة الدار ـ المدينة المنورة.
137 ـ النوادر،
فضل اللّه الرواندي، ت 571، تحقيق سعيد رضا علي عسكري، الطبعة الأُولى، مؤسسة دار الحديث ـ قم.
138 ـ نظم المتناثر من الحديث المتواتر،
محمّد بن جعفر الكناني، ت 1345، الطبعة الثانية، دار الكتب السلفية ـ مصر.
139 ـ نهج السعادة،
الشيخ محمّد باقر المحمودي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان.
140 ـ نهج البلاغة،
الإمام علي بن أبي طالب، تحقيق وتعليق الشيخ محمّد عبده، دار المعرفة ـ بيروت.
141 ـ نوادر المعجزات،
محمّد بن جرير الطبري (الشيعي)، تحقيق مؤسسة الإمام المهدي، الطبعة الأُولى 1410 هـ ـ مؤسسة الإمام المهدي ـ قم.
142 ـ وفيات الأعيان،
ابن خلكان، ت 681، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة ـ بيروت.
143 ـ وسائل الشيعة،
محمّد بن الحسن بن الحر العاملي، تحقيق عبد الرحيم الرباني الشيرازي، الطبعة الخامسة 1403 هـ ـ 1983 م، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
144 ـ ينابيع المودة لذوي القربى،
سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي، تحقيق علي جمال أشرف الحسني، الطبعة الأُولى 1416 هـ ـ دار أسوة.
الهوامش
الهوامش
(1) الأمالي للشيخ الصدوق: 548، الخصال:68.
(2) كامل الزيارات: 372، تهذيب الأحكام 6: 65، المزار للمفيد: 120، المزار للمشهدي: 388.
(3) ورد في ذخائر العقبى: 141، الذرية الطاهرة للدولابي: 120، وكشف الغمة 2: 171، وبحار الأنوار 44: 137: " وولى غسله الحسين ومحمّد والعبّاس أخوته.. ". ولم يرد في مصدر أن المشارك للحسين (عليه السلام) العبّاس فقط.
(4) في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): " كلّ ما كان للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلنا مثله، إلاّ النبوّة والأزواج " المحتضر: 47.
(5) فقه الإمام الرضا لابن بابويه: 188، مستدرك الوسائل 2: 197، المسترشد لابن جرير: 336، بحار الأنوار 22: 492.
(6) قال الشيخ المفيد في أوائل المقالات: 72: " والأئمة من عترته خاصّة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا، بإعلام اللّه تعالى لهم ذلك، حالاً بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم في مشاهدهم المكرمة ".
وقال العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار 27: 301 بعد ما نقل كلام الشيخ المفيد المتقدّم: " وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافة وحملة الآثار منهم. ولست أعرف فيه لمتكلّميهم من قبل مقالاً.. ".
وفي كنز الفوائد للكراجكي 1: 246، ومنهج الرشاد لمن أراد السداد: 562، وبصائر الدرجات للصفار: 445: أنّ لحومهم محرّمة على الأرض، وأنّها ترتفع إلى السماء بعد ثلاثة أيام.
وحكي عن الشيخ الأعظم قدوة السالكين المولى فتح علي بن المولى حسن السلطان آبادي: أنّه لمّا زار أمير المؤمنين (عليه السلام) ورجع إلى مشهد الحسين أسف على عدم مذاكرته مع علماء النجف في مسألة بقاء جسد الإمام طرياً أو أنّه يبلى، فرأى في المنام أنّه داخل إلى الروضة فرأى جسداً موضوعاً على الحصير والدم يجري من أعضائه، فسأل عنه؟ قيل: إنّه جسد الحسين، أما علمت أنّ أجسادهم لا تُبلى.
(7) روي الصفّار في بصائر الدرجات: 245 عن الباقر (عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) شاهد جبرائيل والملائكة يعينونه على غسل النّبي وتكفينه وحفر القبر ونزولهم معه في القبر، وكذا شاهدهم مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن والحسين يعينونهما على غسل أمير المؤمنين وتكفينه، وشاهدهم الحسين مع النّبي وأمير المؤمنين يعينونه على غسل الحسن، وشاهدهم الباقر مع النّبي وأمير المؤمنين والحسن والحسين يعينونه على غسل أبيه السجّاد.
(8) تاريخ الطبري ونصّ العبارة: " قال: وأقبل العبّاس بن علي يركض حتّى انتهى إليهم فقال: يا هؤلاء القوم إن أبا عبد اللّه يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر، فإنّ هذا أمرٌ لم يجر بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء اللّه، فاما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه.
وإنّما أراد بذلك أن يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره، ويوصي أهله، فلمّا أتاهم العبّاس بن علي بذلك، قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك! قال: أردت ألاّ أكون، ثُمّ أقبل على الناس فقال: ماذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان اللّه، واللّه لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها.. وكان العبّاس بن علي حين أتى حسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد قال: ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار ".
(9) الكافي 4: 576، ح2، عيون أخبار الرضا 1: 308، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 6: 55.
(10) لعلّ جواب قول المصنّف: " وأنت تعلم... " وارد هنا وقد سقط من الطبعة السابقة، وتقديره: " معلومة "، أي أنّ منزلة أبي الفضل... معلومة.
(11) الأحزاب: 33.
(12) السيرة الحلبية 1: 87، البداية والنهاية 2: 325، امتاع الاسماع للمقريزي 4: 57، مجمع الزوائد للهيثمي، وهو ليس تعليلاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما حديث مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورد فيه: " من كرامتي على ربي عزوجل أن ولدت مختوناً، ولم يرَ أحد سوأتي " وقد اختلفوا في تصحيح هذا الخبر وتضعيفه، ففي السيرة الحلبية في نفس المصدر قال: "..جاءت أحاديث كثيرة في ذلك، قال الحافظ ابن كثير: فمن الحفاظ من صححها ومنهم من ضعفها.. ".
(13) الأمالي للشيخ الصدوق: 548، الخصال: 68، بحار الأنوار 22: 274، والنصّ: " وإن للعبّاس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة عظيمة، يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة ".
(14) فاطر: 43.
(15) طبعت هذه الكرامة مع صلاة الشيخ الأنصاري، وذكرها في الكبريت الأحمر ج3 ص50 قال: وذكرها عنه جماعة من أكابر العلماء والثقات المتديّنين.
(16) للعلاّمة الشيخ محمّد السماوي.
(17) هو ابن السيّد محمّد ابن السيّد جعفر ابن سيّد محمّد ابن سيّد هاشم ابن سيّد محمّد ابن سيّد عبداللّه بن سيّد محمّد الكبير بن سيّد عبداللّه البلادي بن سيّد علوي، عتيق الحسين، بن سيّد حسين الغريفي بن سيّد حسن بن سيّد أحمد بن سيّد عبداللّه بن سيّد عيسى بن سيّد خميس بن سيّد أحمد بن سيّد ناصر بن سيّد علي بن كمال الدّين بن سيّد سلمان بن سيّد جعفر بن أبي العشا موسى بن أبي الحمراء محمّد بن علي الطاهر بن علي الضخم بن أبسي علي محمّد الحسن بن محمّد الحائري بن إبراهيم المجاب بن محمّد العابد بن الإمام الكاظم (عليه السلام)، ولهذه الكرامة كتب السيّد سعيد كتاباً في أحوال العبّاس يزيد على أربعمائة صفحة، أجهد نفسه، وسهر الليالي في جمعه وتبويبه، جزاه اللّه خير الجزاء.
(18) ولد السيّد مهدي الرشتي سنة 1303 هـ، توفّي في النجف يوم 14 رجب سنة 1358 هـ، ودفن في الحجرة الملاصقة لباب الصحن المعروفة بباب القزّازين، وكان السيّد رحمه اللّه باذلاً نفسه ونفيسه في خدمة أجداده الأئمة المعصومين، وداره العامرة (حسينية) لأهل طرفه (البراق)، يقيمون فيها مراسيم العزاء والفرح للأئمة (عليهم السلام) لا يعدلون بها بدلاً، وفّقهم اللّه لما يرضيه.
وأما ولده السيّد سعيد فكانت ولادته في سنة 1322 هـ وتوفّي في 15 ذي القعدة سنة 1355 هـ، ودفن في الحجرة مع أبيه، وقام السيّد صالح أبيه في إقامة الأفراح والمآتم، فنعم الخلف لذلك السيّد الطاهر.
(19) هذه الجمّلة التي بين قوسين حدّثني بها في دار الشيخ الجليل الشيخ حسن المذكور ملاّ عبد الكريم، وقد شاهد الرجل بعينه ذلك اليوم.
(20) السيرة النبوية لابن هشام 2: 428، الاستيعاب عبد البر 1: 370، تاريخ خليفة بن خياط: 34، المعارف لابن قتيبة: 422، تاريخ الطبري 2: 121. لكن ابن هشام وغيره قال: " وقد زعموا أنّ حمزة قد قال في ذلك شعراً يذكر فيه أنّ رايته أوّل راية عقدها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن كان حمزة قد قال ذلك فقد صدق إن شاء اللّه.. فأمّا ما سمعنا من أهل العلم عندنا فعبيدة بن الحارث أوّل عن عقد له ".
(21) تاج العروس بمادة عقب 2: 253، نقلاً عن لسان العرب لابن منظور 1: 621.
(22) المصدر غير موجود.
(23) لسان العرب 3: 97، تاج العروس 4: 366.
(24) تاريخ الطبري 2: 639، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 438.
(25) تاريخ الطبري 1: 136، البداية والنهاية لابن كثير7: 33.
(26) تهذيب الأحكام 6: 170، باب النوادر، مستدرك الوسائل 11: 9.
(27) التمدّن الإسلامي 1: 196. وفي الصفحة 168 ذكر اهتمام الفاطميين بالولاية والرايات والدرق، فمن ذلك أنّهم صنعوا بيتاً بمصر يقال له: " خزانة البنود " اختزنوا فيها الأعلام والرايات والأسلحة والسروج واللجم المذهبة والمفضّضة، وكانوا ينفقون عليها في كلّ سنة ثمانين ألف دينار، ولما احترقت الدار بما فيها قدّرت الخسارة بثمانية ملايين دينار، وكان في جملتها لواء يسموّنه: لواء الحمد.
(28) الحجّ: 39.
(29) تاريخ الطبري 6: 25.
(30) آثار الدول للقرماني.
(31) مناقب آل أبي طالب 3: 84.
(32) تاريخ الطبري 4: 469.
(33) التمدّن الإسلامي 1: 166.
(34) الكافي للكليني 5: 39، ونحوه في نهج البلاغة 2: 3، تاريخ الطبري 4: 11.
(35) السيرة الحلبية 3: 119، أمتاع الاسماع للمقريزي 9: 264، وكذلك يظهر من تاريخ الطبري 2: 373.
(36) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 76، تاريخ الطبري 2: 197، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي 6: 157، وقد نقل المصادر التي ذكرت ذلك.
(37) كتاب الجمل للشيخ المفيد: 165، ويظهر من مناقب الخوارزمي: 195، وقد أشار إلى هذه الأبيات وأنها قيلت في صفّين كلّ من: أُسد الغابة 4: 216، الوافي بالوفيات 24: 213، كتاب الفتوح لابن أعثم 3: 161 (2) تاريخ الطبري 4: 14، رجال الطوسي: 67، خلاصة الأقوال للحلّي: 159، رجال ابن داود: 104، نقد الرجال للتفرشي 2: 338، وقعة صفين للمنقري: 252، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5: 201، واسم أبي سفيان لم يحدد بيزيد بل اختلف بين كونه زيد أو يزيد كما في المصادر المتقدمة.
(38) المناقب للخوارزمي: 228، والنقل بالمعنى.
(39) المناقب للخوارزمي: 231، والنقل بالمعنى لواعج الأشجان للأمين: 174، بحار الأنوار 45: 34، وفيها: " فقتل على صغر سنّة خمسة وثلاثين رجلاً " بدل فارس.
(40) للعلاّمة السيّد مير علي أبو طبيخ (رحمه الله).
(41) البداية والنهاية لابن كثير 9: 32، تذكرة الخواص 2: 298.
(42) دلائل الإمامة: 162، الإرشاد للشيخ المفيد: 17، عمدة الطالب لابن عنبة: 67. باختلاف الألفاظ.
(43) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 78، كشف الغمة 2: 235 باختلاف الفاظ الرواية بلفظ: " للّه در أبي طالب لو ولد الناس كلّهم كانوا شجعاناً " كما في كشف الغمة للأربلي، أو: " لو ولد أبو طالب الناس كلّهم لكانوا شجعاناً " كما في شرح النهج.
(44) لسان العرب 11: 224، تاج العروس 14: 216. وقد نظم هذه الخاصة أبو بكر محمّد بن العبّاس الخوارزمي المتوفّى سنة 373، ففي معجم البلدان 1: 57 بمادة (آمل) أنّه قال:
بآمل مولدي وبنو جرير فأخوالي ويحكي المرء خاله
فها أنا رافضي عن تراث وغيري رافضي عن كلاله
عرّض بابن جرير صاحب التاريخ فإنّه أخو أُمّه، وكان من أهل السنّة، وإنّما نسبه إلى التشيّع الحنابلة لتصحيحه حديث الغدير، فتشيّعه ادعائي وهو المعبّر عنه (بالكلالة)، فإنّها في اللغة ما لم يكن من النسب لحاً، فقول الحموي في المعجم: (كذب الخوارزمي ; لأنّ ابن جرير من أعلام السنّة) مبنيّ على عدم فهمه الغرض من البيت، فالخوارزمي لم يعترف بتشيعه.
وقال الذهبي في تاريخه 27: 68: " وقال الحاكم في تاريخه: كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يحيّرني حفظه.. ".
(45) الأغاني لأبي فرج الأصفهاني 16: 312.
(46) الأوام: العطش، راجع: لسان العرب 12: 38، القاموس المحيط 4: 77، مجمع البحرين للطريحي 1: 135، تاج العروس 16: 38.
(47) تاريخ الطبري 4: 312، مقتل الحسين لأبي مخنف: 98.
(48) تاريخ الطبري 4: 340، مقتل الحسين لأبي مخنف: 160.
(49) بحار الأنوار 45: 42، مقتل الحسين لأبي مخنف: 179، ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي 3: 67.
(50) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي 3: 68.
(51) بحار الأنوار 45: 42.
(52) الغيبة للنعماني: 219 والنصّ: " كان الحسين بن علي يضع قتلاه بعضهم إلى بعض ويقول: قتلانا قتلى النبيّين ".
(53) الدمعة الساكبة 4: 324 قال: " أقول: وفي بعض الكتب المعتبرة: إن من كثرة الجراحات الواردة على العبّاس (عليه السلام) لم يقدر الحسين (عليه السلام) أن يحمله إلى محل الشهداء، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام ".
(54) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 126.
(55) مناقب آل أبي طالب 3: 256.
(56) السرائر 1: 342، منتهى المطلب 1: 395، ذخيرة العباد: 413، غنائم الأيام 2: 132، جواهر الكلام 14: 340، مصباح الفقيه 2: 761، كتاب الصلاة للشيخ الحائري: 655، مستمسك العروة الوثقى للحكيم 8: 188.
وفي مزار الدروس 2: 25: ".. ثمّ يزور الشهداء، ثمّ يأتي العبّاس بن علي (عليه السلام) فيزوره.. ".
(57) الدروس للشهيد الأوّل 2: 11 والعبارة بالمعنى، الينابيع الفقهية 30: 493.
(58) بحار الأنوار 45: 65، و98: 369، المزار للمشهدي: 486، إقبال الأعمال 3: 73.
(59) لسان العرب 4: 223، تاج العروس 6: 321، مجمع البحرين 1: 605.
(60) أقول: (وأنا العبد الفقير إلى اللّه تعالى محقّق هذا الكتاب محمّد الحسّون) من بعد غيبة طويله وفراق مرير انجلت سحب الآهات عن قلبي، وارتوى ضماي بمعين النظر إلى قبر ضمّ خير ناصر لأبي الأحرار الحسين (عليه السلام)، وشفي غليلي بالنزول بقعوةِ مغيّبهِ، فاستشممتُ عطرَ الملائكة الحافّين بتربته، حيث وفقني الباري تعالى أن أزور قبر قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)، الواقع في السرداب المقدّس الكائن تحت القبة الشريفة، فتغشتني رحمة ربي تعالى بمشاهدة الماء الذي يأتي في سَاقية من جهة قبر سيّد الشهداء أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام) ـ الذي لم يذق من برده شربةً، وقد مضى بقلب حزّته أشفارُ الضما كما حزّ خنجرُ الضبابي منحَره الشريف ـ ثمّ يدور حول قبر السّقاء الذي آثر ألم الضما على الرواء، وارتوى بروح الوفاء لأخيه وابن بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث الكلمة الخالدة
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين وارد المنون وتشربين بارد المعين
واللّه ما هذا فعال ديني ولا فعال صادق اليقين
ومن بعد قرون متطاولة يستمر دوران الماء دورة كاملة حول قبر الشهيد الضامي والأخ المواسي لأخيه، ثمّ يخرج من خلال ساقية إلى خارج كربلاء المقدّسة.
(61) التوبة: 32.
(62) بغداد في عهد العباسيين: 146.
(63) اللألئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1: 364.
(64) تاريخ بغداد 5: 188، الجرح والتعديل للرازي 1: 313، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 5: 333، تهذيب الكمال للمزي 1: 468.
(65) الخصائص الكبرى للسيوطي 2: 125.
(66) قرب الإسناد: 26، كامل الزيارات: 453، ذخائر العقبى: 97، بحار الأنوار 41: 295، كشف الغمة 2: 222، الخصائص الكبرى للنسائي 2: 126، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 761، جواهر المطالب في مناقب الامام علي للدمشقي: 263، باختلاف الألفاظ.
(67) الأحزاب: 21.
(68) كامل الزيارات: 228، والدعاء فيه تقديم وتأخير.
(69) كامل الزيارات: 539، وسائل الشيعة 14: 599، بتقديم وتأخير.
(70)كامل الزيارات: 539، وسائل الشيعة 14: 599، بتقديم وتأخير.
(71) كامل الزيارات: 272، بحار الأنوار 98: 75.
(72) البداية والنهاية لابن كثير 8: 220.
(73) كامل الزيارات: 440، بحار الأنوار 98: 277، والعبارة: " إذا أردت زيارة قبر العبّاس (عليه السلام)، وهو على شط الفرات بحذاء الحائر.. ".
(74) مدينة المعاجز 4: 70، الباب 127، بحار الأنوار 45: 193.
(75) مناقب آل أبي طالب 3: 221، وعنه بحار الأنوار 45: 401، والعوالم: 727.
(76) المزار للشيخ المفيد: 99، المزار للمشهدي: 370.
(77) المزار للمشهدي: 418، بحار الأنوار 98: 232.
(78) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 718، المزار للشهيد الأوّل: 118.
(79) اللهوف في قتلى الطفوف: 85، لواعج الأشجان: 197.
(80) تاريخ الطبري 4: 351، الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 83 الثقات لابن حبّان 2: 313، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 29، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 280، بلاغات النساء لابن طيفور: 21، البداية والنهاية لابن كثير 8: 209.
وقد تعصّب ابن تيمية فأنكر بعث ابن زياد للسبايا والرؤوس إلى يزيد، وهو إنكار باطل ردّه كثير من المحدّثين والمؤرخين.
قال الذهبي في السير 3: 319: " أحمد بن محمّد بن حمزة: حدّثني أبي، عن أبيه، قال: أخبرني أبي حمزة بن يزيد الحضرمي قال: رأيت إمرأة من أجمل النساء وأعقلهن، يقال لها: (ريا)، حاضنة يزيد، يقال: بلغت مئة سنة، قالت: دخل رجل على يزيد، فقال: أبشر، فقد أمكنك اللّه من الحسين، وجي برأسه، قال: فوضع في طست، فأمر الغلام فكشف، فحين رآه خمر وجهه كأنه شمّ منه، فقلت لها: أقرع ثناياه بقضيب؟ قال: أي واللّه.
وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيام، وحدّثتني ريا أنّ الرأس مكث في خزائن السلاح حتّى ولي سلمان، فبعث فجي به، وقد بقي عظاماً أبيض، فجعله في سفط، وطيّبه وكفّنه ودفنه في مقابر المسلمين، فلمّا دخلت المسودة سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه، فاللّه أعلم ما صنع به.
وذكر باقي الحكاية، وهي قوية الإسناد.
يحيى بن بكير، حدّثني الليث قال: أبى الحسين أن يستأسر حتّى قتل بالطفّ، وانطلقوا ببنيه علي وفاطمة وسكينة إلى يزيد، فجعل سكينة خلف سريره لئلا ترى رأس أبيها، وعلي في غلّ، فضرب على ثنيتي الحسين وتمثل بذلك البيت.. ".
وفي مجمع الزوائد للهيثمي 9: 195 رواية الليث المتقدّمة، وقال عقبها: " رواه الطبراني ورجاله ثقات ".
والرواية في المعجم الكبير للطبراني 3: 104، وكذلك في تاريخ الإسلام للذهبي 7: 442، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 70: 15، الكامل في التاريخ لابن الاثير 4: 86.
وفي الإصابة 2: 71: " كان آخر ذلك أن قتل وأُتي برأسه إلى عبيد اللّه، فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلى يزيد، ومنهم علي بن الحسين وكان مريضاً، ومنهم عمته زينب، فلمّا قدموا على يزيد أدخلهم على عياله ".
وكذلك في تاريخ الطبري 4: 352، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نطقت بهذا الأمر، فالتعلّل بعدم إرسالهم إليه تعلّل باطل لم يستند إلى دليل بعدما أثبت المحدّثون والمؤرّخون ذلك.
(81) البقرة: 7.
(82) تاريخ الطبري 4: 348.
(83) الكهف: 9.
(84) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 117، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبري: 473، الدر النظيم: 561.
(85) الكهف: 13.
(86) مناقب آل أبي طالب 3: 218.
(87) الشعراء: 227.
(88) مدينة المعاجز للبحراني 4: 100.
(89) البقرة: 137.
(90) نهاية الدراية للصدر: 217، الوافي بالوفيات للصفدي 15: 201 ; نفس الرحمن في فضائل سلمان للطبرسي: 362، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي 33: 694.
(91) مدينة المعاجز للبحراني 3: 462.
(92) مدينة المعاجز 4: 104.
(93) الخرائج والجرائح للراوندي 2: 577، الصراط المستقيم للعاملي: 179، فيض الغدير في شرح الجامع الصغير للمناوي 1: 265، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 11: 76.
(94) الخطط المقريزية 4: 284.
(95) الأمالي للشيخ الصدوق: 232، روضة الواعظين: 192، إقبال الأعمال لابن طاووس 3: 101، الأنوار النعمانية 3: 246.
(96) الأمالي للشيخ الصدوق: 230، روضة الواعظين: 191.
(97) الخطط المقريزية 2: 129.
(98) العوالم: 443.
(99) مسند أحمد بن حنبل 1: 256، صحيح مسلم 4: 21 و 5: 144، سنن ابن ماجة 2: 947، وغيرها من المصادر.
(100) تاريخ الطبري 2: 184، البداية والنهاية لابن كثير 4: 157، السيرة النبوية لابن هشام 3: 747.
(101) تاريخ الطبري 3: 544، الكامل في التاريخ 3: 257، وقسم منه في نهج البلاغة بشرح محمّد عبده 3: 515 الكافي للكليني 5: 39.
(102) العوالم: 443.
(103) مقتل الحسين للخوارزمي 2: 81، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 62: 85، تاريخ الطبري 4: 456، الكامل في التاريخ 4: 84، وفي هذه المصادر وغيرها اسمها هند بنت عبد اللّه بن عامر بن كريز، وليس عبد اللّه بن عامر زوجها بل أبوها.
(104) المصادر المتقدّمة باختلاف في بعض الألفاظ.
(105) بحار الأنوار 40: 80.
(106) تاريخ الطبري 4: 250، الكامل في التاريخ 4: 14، البداية والنهاية 8: 157.
(107) إحياء علوم الدين للغزالي 3: 186، الآفة الثامنة في اللعن.
(108) فتح الباري 7: 284، المعجم الأوسط للطبراني 2: 222، الاستيعاب لابن عبد البر 4: 65، أُسد الغابة لابن الاثير 5: 84، تهذيب التهذيب لابن حجر 11: 100، الكامل في التاريخ لابن الاثير 2: 251، الوافي بالوفيات للصفدي 27: 253، وذكر ابن الاثير في أُسد الغابة 5: 84: " قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: مات وحشي في الخمر، أخرجه الثلاثة "، وفي شرح مسند أبي حنيفة لملا علي القاري: 528، وابن كثير في البداية والنهاية 4: 22، السيرة النبوية لابن هشام 3: 592، السيرة الحلبية للحلبي 2: 538، واللفظ للأوّل: " وقال ابن الهمام: بلغني أنّ وحشياً لم يزل يحد في الخمر حتّى خلع من الديوان، فكان ابن عمر يقول: لقد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة رضي اللّه عنه هذا.. ".
(109) روح المعاني للآلوسي 26: 72، في تفسير قوله تعالى: (فهل عسيتم أن توليتم).
(110) قال سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص 2: 266: " وذكر جدّي أبو الفرج في كتاب الردّ على المتعصّب العنيد المانع من ذمّ يزيد، وقال: سألني سائل فقال: ما تقول في يزيد بن معاوية؟
فقلت له: يكفيه ما به.
فقال: أتجّوز لعنته؟
فقلت: قد أجازها العلماء الورعون، منهم أحمد بن حنبل، فإنّه ذكر في حق يزيد ما يزيد على اللعنة.
قال جدي: وأخبرنا أبو بكر محمّد بن عبد الباقي البزّار، أنبأنا أبو إسحاق البرمكي، أنبأنا أبو بكر بن عبد العزيز بن جعفر، أنبأنا أحمد بن محمّد الخلال، حدّثنا محمّد بن علي، عن مهنّا ابن يحيى قال: سألت أحمد بن حنبل عن يزيد بن معاوية؟
فقال: هو الذي فعل ما فعل!
قلت: وما فعل؟
قال: نهب المدينة!
قلت: فتذكر عنه الحديث؟
قال: لا، ولا كرامة، لا ينبغي لأحد أن يكتب عنه الحديث.
وحكى جدّي أبو الفرج عن القاضي أبي يعلى الفرّاء في كتابه (المعتمد في الأصول) بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: إنّ قوماً ينسبوننا إلى توالي يزيد؟
فقلت: فلم لا تلعنه؟
فقال: فمتى رأيتني لعنت شيئاً! با بنىّ لِمَ لا يلعن من لعنه اللّه في كتابه؟
فقلت: وأين لعن اللّه يزيد في كتابه؟
فقال: في قوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) محمّد: 22 - 23 فهل يكون فساد أعظم من القتل؟
وفي رواية لما سأله صالح فقال: يا بنىّ ما أقول في رجل لعنه اللّه في كتابه؟ وذكره.
قال جدّي: وصنّف القاضي أبو يعلى الفرّاء كتاباً ذكر فيه بيان من يستحقّ اللّعن، وذكر منهم يزيد، وقال في الكتاب المذكور: الممتنع من جواز لعن يزيد إمّا أن يكون غير عالم بذلك، أو منافقاً يريد أن يوهم بذلك، وربّما استفّز الجهّال بقوله (عليه السلام): " المؤمن لا يكون لعّاناً ".
قال القاضي أبو الحسن: وهذا محمول على من لا يستحقّ اللّعن.
فإن قيل: فقوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) محمّد: 22) نزلت في منافقي اليهود؟
قلت: فقد أجاب جدّي عن هذا في كتابه (الرد على المتعصب العنيد) وقال في الجواب: إنّ الذي نقل هذا مقاتل بن سليمان، ذكره في تفسيره، وقد أجمع عامّة المحدّثين على كذبه ; كالبخاري، ووكيع، والساجي، والسعدي والرازي، والنسائي، وغيرهم.
وقال: فسرّها أحمد بأنّها في المسلمين، فكيف يقبل قول أحد إنّها نزلت في المنافقين؟
فإن قيل: فقد قال النبىّ ـ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ: " أوّل جيش يغزو القسطنطينية مغفور له "، ويزيد أوّل من غزاها؟
قلنا: فقد قال النبىّ ـ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ: "لعن اللّه من أخاف مدينتي" والآخر ينسخ الأوّل...
وأما قوله ـ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ: "أوّل جيش يغزو القسطنطينية"، فإنّما يعني أبا أيّوب الأنصاري، لإنّه كان فيهم.
ولا خلاف أنّ يزيد أخاف أهل المدينة، وسبى أهلها، ونهبها، وأباحها وتسمى وقعة الحرّة...
وقال جدىّ في كتاب (الردّ على المتعصب العنيد): ليس العجب من قتال ابن زياد الحسين، وتسليطه عمر بن سعد على قتله والشّمر، وحمل الرؤوس إليه، وإنّما العجب من خذلان يزيد، وضربه بالقضيب ثناياه، وحمل آل رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم ـ سبايا على أقتاب الجمال وعزمه على ان يدفع فاطمة بنت الحسين إلى الرجل الذي طلبها، وإنشاد أبيات ابن الزبعري: ليت أشياخي ببدر شهدوا..
وردّه الرأس إلى المدينة ـ وقد تغيّر ريحه ـ وما كان مقصوده إلا الفضيحة وإظهار رائحته للناس، أفيجوز أن يفعل هذا بالخوارج؟! أليس إجماع المسلمين أنّ الخوارج والبغاة يكفنون ويصلّى عليهم ويدفنون؟!
وكذا قول يزيد: لي أنّ أسبيكم ـ لمّا طلب الرجل فاطمة بنت الحسين ـ قول لا يقنع لقائله وفاعله اللّعنة.
ولو لم يكن في قلبه أحقاد جاهليّة، وأضغان بدريّة لاحترم الرأس لمّا وصل إليه، ولم يضربه بالقضيب، وكفّنه ودفنه، وأحسن إلى آل رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه [وآله] ـ.
قلت: والدليل على صحة هذا أنّه استدعى ابن زياد إليه وأعطاه أموالاً عظيمة، وتحفاً كثيرة، وقرّب مجلسه، ورفع منزلته، وأدخله على نسائه، وجعله نديمه، وسكر ليلة فقال للمغنّي: غنّ، ثُمّ قال يزيد بديهاً:
اسقني شربة تروّي فؤادي ثُمّ مل فاسقِ مثلها ابن زياد
صاحب السرّ والأمانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي
قاتل الخارجي أعني حسيناً ومبيد الأعداد والحسّادِ
وقال ابن عقيل: وممّا يدلّ على كفره وزندقته ـ فضلاً عن جواز سبّه ولعنته ـ أشعاره التي أفصح فيها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمير وسوء الاعتقاد، فمنها قوله في قصيدته التي أوّلها:
عُليّة هاتي واعلني وترنمي بذلك إنّي لا أحبّ التناجيا
حديث أبا سفيان قدماً سما بها إلى أحد حتّى أقام البواكيا
إلا هاتِ فاسقيني على ذاك قهوة تخيّرها العنسي كرماً شآميا
إذا ما نظرنا في أُمور قديمة وجدنا حلالاً شربها متواليا
وإن متُ ـ يا أُم الاحيمر ـ فانكحي ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا
فإنّ الذي حُدّثت عن يوم بعثنا أحاديث طسم تجعل القلب ساهيا
إلى غير ذلك ممّا نقلته من ديوانه، ولهذا تطّرق إلى هذه الأُمة العار بولايته عليها، حتّى قال أبو العلاء المعرّي يشير بالشّنار إليها:
أرى الأيّام تفعل كُلّ نكر فما أنا في العجائب مستزيد
أليس قريشكم قتلت حسيناً وكان على خلافتكم يزيد
قلت: ولمّا لعنه جدّي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام الناصر وأكابر العلماء، قام جماعة من الجفاة من مجلسه فذهبوا، فقال جدّي: (أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) هود: 95.
وحكي لي بعض أشياخنا عن ذلك اليوم أنّ جماعة سألوا جدّي عن يزيد؟
فقال: ما تقولون في رجل ولي ثلاث سنين: في السنة الأُولى قتل الحسين، وفي السنة الثانية أخاف المدينة وأباحها، وفي السنة الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدّمها وحرّمها؟
فقالوا: يلعن؟
فقال: فالعنوه " تذكرة الخواص 2 - 265 - 280، وارجع لكلام ابن الجوزي - الجدّ - في كتاب الردّ على المتعصب العنيد: 13 - 17.
(111) وفيات الأعيان 3: 287، فوات الوفيات 2: 641، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: 302، السيرة الحلبية 1: 367.
(112) السيرة الحلبية 1: 267.
(113) تذكرة الخواص 2: 265 - 280.
(114) رسائل الجاحظ: 298، الحادية عشر في بني أُمية.
(115) روح المعاني للآلوسي 26: 74، في تفسير قوله تعالى (فهل عسيتم أن توليتم) الآية.
(116) بحار الأنوار 45: 144.
(117) روضة الواعظين: 192.
(118) مثير الأحزان: 85.
(119) اللهوف في قتلى الطفوف: 114.
(120) مناقب آل أبي طالب 3: 231.
(121) تهذيب الأحكام 6: 114.
(122) العوالم: 327 والعبارة: " وذكر المرتضى في بعض مسائله: أنّ رأس الحسين (عليه السلام) ردّ إلى بدنه (عليه السلام) بكربلاء من الشام وضمّ إليه ".
(123) إعلام الورى 1: 476.
(124) معالي السبطين 2: 191.
(125) أعيان الشيعة 1: 627.
(126) كامل الزيارات: 244، تهذيب الأحكام 6: 115.
(127) المزار للشيخ المفيد: 120، المزار للمشهدي: 389، وعنهما بحار الأنوار 98: 217.
(128) كامل الزيارات: 440.
(129) المزار للمشهدي: 486، إقبال الأعمال لابن طاووس 3: 73، وعنه البحار 45: 64.
(130) المزار للشيخ المفيد: 123، المزار للمشهدي: 179، المزار للشهيد الأوّل: 280، بحار الأنوار 97: 428.
(131) المصادر السابقة.
(132) المزار للمشهدي: 27.
(133) بحار الأنوار 51: 307، معجم أحاديث المهدي: 487.
(134) كامل الزيارات: 417، بحار الأنوار 97: 133.
(135) بحار الأنوار 98: 378.
(136) بحار الأنوار 98: 98.
(137) المزار للمشهدي: 179.
(138) المزار للشهيد الأوّل: 280.
(139) بحار الأنوار 97: 428.
(140) بحار الأنوار 97: 429.
(141) المزار للمشهدي: 433، بحار الأنوار 98: 261.
(142) أسرار الشهادة: 66.
(143) يونس: 35.
(144) مستدركات علم الرجال للنمازي 6: 216.
(145) الجريدة في أنساب العلويين 4: 318.
(146) الجوهرة في نسب الإمام علي: 57.
(147) الجريدة في أنساب العلويين 4: 351.
(148) الجريدة في أنساب العلويين: 588.
(149) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 13، تاريخ مدينة دمشق 10: 153، بلاغات النساء لابن طيفور: 202، الكامل في التاريخ 3: 384.
(150) الأغاني 15: 45.
(151) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 18، أنساب الأشرف: 460، الكامل في التاريخ 3: 385.
(152) مروج الذهب 2: 155.
(153) تذكرة الخواص 2: 71.
(154) سرّ السلسلة العلوية للبخاري: 29.
(155) المجدي في أنساب الطالبين: 231.
(156) المجدي في أنساب الطالبين: 231.
(157) سرّ السلسلة العلوية: 90 وذكر أنهنّ أربعة بإضافة أم علي بن الحسين بن علي.
(158) المجدي في أنساب الطالبين: 231.
(159) سرّ السلسلة العلوية: 90، المجدي في أنساب الطالبيين: 232.
(160) المجدي في أنساب الطالبين.
(161) سرّ السلسلة العلوية: 91.
(162) عمدة الطالب: 358.
(163) تاريخ بغداد 3: 328.
(164) تهذيب التهذيب 9: 314.
(165) عمدة الطالب: 324.
(166) تاريخ بغداد: 10: 345.
(167) سر السلسلة العلوية: 90، عمدة الطالب: 359.
(168) تاريخ الإسلام للذهبي 13: 246، الوافي بالوفيات 16: 370.
(169) عمدة الطالب: 359.
(170) تاريخ بغداد 12: 126، أعيان الشيعة 7: 413.
(171) المجدي في أنساب الطالبين: 236.
(172) المجدي في أنساب الطالبين: 236.
(173) المجدي في أنساب الطالبين: 237، عمدة الطالب لابن عنبة: 359.
(174) عمدة الطالب: 359.
(175) المجدي في أنساب الطالبين: 237.
(176) الوافي بالوفيات 2: 220 ; الغدير 3: 2.
(177) تاريخ بغداد 10: 313.
(178) تاريخ الطبري 7: 156.
(179) تاريخ بغداد 10: 313.
(180) عمدة الطالب: 349.
(181) رجال النجاشي: 140، نقد الرجال للتفرشي 2: 167، رجال العلاّمة: 121، رجال ابن داود: 85.
(182) رجال النجاشي: 140/364.
(183) بحار الأنوار 53: 287.
(184) تنقيح المقال 1: 376.
(185) الكنى والالقاب للقمي 1: 187.
(186) رجال النجاشي: 347، ولكن في كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 459، ح7، قال: " فماتت [يعني أم الامام الحجة] ـ في حياة أبي محمّد (عليه السلام) ".
(187) رجال النجاشي: 347/938، وهذه عبارته وليست عبارة ابن داود، وارجع إلى رجال الحلّي: 360/106، ونقد الرجال 4: 274/4926/570، وغيرها.
(188) معجم رجال الحديث للخوئي 17: 351، 11321 ت.
(189) عمدة الطالب لابن عنبة: 358.
(190) المجدي في أنساب الطالبين: 231.
(191) سرّ السلسلة العلوية للبخاري: 90.
(192) سرّ السلسلة العلوية للبخاري: 90.
(193) الكنى والألقاب 1: 186.
(194) شجرة طوبى للحائري: 173.
(195) الحج: 32.
(196) الحج: 30.
(197) الحج: 36.
(198) النور: 36.
(199) المائدة: 97.
(200) التوبة: 108.
(201) الأعراف: 29.
(202) التوبة: 107.
(203) الكهف: 21.
(204) البقرة: 144.
(205) البقرة: 191.
(206) آل عمران: 169.
(207) البقرة: 127.
(208) الكهف: 21.
(209) تفسير البغوي 3: 152، الكشاف عن حقائق التنزيل 2: 478، تفسير النسفي 3: 9، التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي 2: 185، تفسير أبي السعود 5: 215، تفسير الآلوسي 15: 234، الكامل في التاريخ 1: 359، قصص الأنبياء للرواندي: 261، قصص الانبياء للجزائري: 52.
(210) خمسة من هذه العشرة في الرأس وهي: أخذ الشارب، واعفاء اللحى، وطمّ الشعر، والسواك، والخلال وخمسة في البدن: الختان، وتقليم الأظفار، والغسل من الجنابة، والطهور بالماء، وحلق الشعر من البدن، تفسير القمّي 1: 59، التفسير الصافي للفيض الكاشاني 1: 186، مجمع البحرين للطريحي 1: 247.
(211) وفاء الوفاء للسمهودي 2: 85، وبعضها في نيل الأوطار للشوكاني 4: 132، بحار الأنوار 48: 297، السنن الكبرى للبيهقي 3: 412، السيرة الحلبية 2: 290.
(212) السيدة فاطمة الزهراء للبيومي: 134.
(213) وفاء الوفاء للسمهودي 1: 383، الشامي السيرة النبوية لابن كثير 4: 541، سبل الهدى والرشاد للصالحي.
(214) تاريخ المدينة لابن شية النميري 1: 123.
(215) المصدر السابق 1: 126.
(216) وفيات الأعيان 3: 369.
(217) وفيات الأعيان 4: 174، الوافي بالوفيات 4: 77.
(218) وفيات الأعيان 1: 327.
(219) في تاريخ بغداد 13: 29، " فقدم هارون منصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة تسع وتسعين.فحمل موسى معه الى بغداد، وحبسه بها إلى أن توفّي في محبسه ".
نعم في الارشاد للمفيد 2: 243: " ثم حمل فدفن في مقابر قريش " وكذلك في غيره، ومقابر قريش معروفة أنها في بغداد ".
(220) عمدة الطالب: 62.
(221) بحار الأنوار 48: 323.
(222) وفيات الأعيان 1: 174.
(223) وفيات الأعيان 2: 106.
(224) وفيات الأ(225) تهذيب الأحكام 6: 22، المزار للشيخ المفيد: 228، وغيرها من المصادر باختلاف في بعض الالفاظ.
(226) جواهر الكلام 4: 341 وعبارته بعد الكلام عن القبور كالنالي: " وحاصل الكلام أن استحباب ذلك كاستحباب المقام عندها وزيارتها وتعاهدها كاديكون من ضرورات المذهب إن لم يكن الدين ".
(227) الغارات للثقفي 2: 856، فرحة الغري لابن طاووس: 132، بحار الأنوار 97: 280.
عيان 2: 17.
(228) الكافي 3: 202، ح3، التهذيب 1: 461، ح146، الاستبصار 1: 217، ح2، وغيرها من المصادر.
(229) كمال الدين للصدوق: 431، وفي الإكمال: 459 أنّها ماتت في زمن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وقد تقدّم ذكر ذلك في الهامش.
(230) كشف الغطاء 1: 208.
(231) فرحة الغري: 60
(232) الذكرى 2: 37، الدروس الشرعية 1: 318.
(233) جامع المقاصد 1: 449. علماً بأنّ وفاة المحقّق الكركي كانت سنة 940 هـ.
(234) روض الجنان: 317.
(235) مجمع الفائدة والبرهان 2: 499.
(236) ذخيرة المعاد 1: القسم الثاني: 343.
(237) وسائل الشيعة 3: 211.
(238) بحار الأنوار 99: 300.
(239) مفتاح الكرامة 4: 480.
(240) كشف الغطاء 1: 157.
(241) رياض المسائل 2: 221.
(242) غنائم الأيام 3: 535.
(243) مستند الشيعة 3: 373.
(244) جواهر الكلام 4: 332.
(245) مستدرك الوسائل 2: 379.
(246) البداية والنهاية لابن كثير 2: 243، السيرة النبوية لابن هشام 1: 54، تفسير ابن كثير 4: 271.
(247) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق 2: 15، وسائل الشيعة 1: 467، بحار الأنوار 26: 231، وورد بلفظ: " ما قال فينا قائل بيتاً من الشعر حتّى يؤيّد بروح القدس ".
(248) عيون أخبار الرضا 2: 15، وسائل الشيعة 14: 597.
(249) وسائل الشيعة 14: 598، بحار الأنوار 47: 324.
(250) وسائل الشيعة 14: 598، بحار الأنوار 26: 232.
(251) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: 56، وعنه بحار الأنوار 45: 40، والعوالم للبحراني: 281.
(252) نقلتها من كتاب سوانح الأفكار في منتخب الأشعار تأليف الفاضل المهذّب الخطيب السيّد محمّد جواد شبّر.
(253) آل مصبّح أُسرة في الحلّة اشتهرت بالعلم والأدب، منهم: شيخ حسين جدّ المترجم، وابنه الشيخ محسن والد المترجم، كان من العلماء الأفاضل، رثاه السيّد حيدر في قصيدة مثبتة في ديوانه، ومنهم المترجم ولد في الحلّة وهاجر إلى النجف لطلب العلم ولمّا يبلغ العشرين من عمره ورجع بعد استكمال الفضيلة، وحجّ مكّة المكّرمة خمساً وعشرين مرّة تطوعاً تارة، ونائباً ومعلّماً أخرى، جمع ديوانه في حياته وهو حسن جدّاً يناهز العشرة آلاف بيتاً، وجلّ شعره في أهل البيت مدحاً ورثاءً، توفّي عن عمر تجاوز السبعين سنة 1317 هـ، وحمل إلى النجف (البابليّات للخطيب الأستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي).
(254) ولد في النجف الأشرف في شهر صفر سنة 1279 هـ وتوفّى 12 ذي الحجّة سنة 1361، ودفن في مقبرة بجنب الحسينيّة التي أسّسها في (النبطيّة).