غزوة مؤتة
حدثت غزوة مؤتة في السنة الثامنة من الهجرة في الأول من جمادى الأولى، وكان السبب لتلك الغزوة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إلى ملك "بصرى الشام" وهو الحارث بن عمير الأزدي قد قتله شرحبيل بن عمرو الغساني عندما علم أنّ المقتول مبعوث برسالة إلى الملك يدعوه فيها إلى الدخول في الإسلام، وهو المبعوث الوحيد من مبعوثي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قُتل وهو يؤدّي وظيفته في هذا المجال. ومن المعلوم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد استقرار أوضاع دولة الإسلام الفتيّة في المدينة المنورة رأى أنّ من المناسب للدعوة الإسلامية أن تنطلق خارج إطار الجزيرة العربية فأرسل المندوبين إلى كلّ الملوك والأباطرة والحكّام في البلدان المختلفة كالروم والفرس والأقباط وغيرهم.
ولذا عندما قُتل مبعوث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ملك "بصرى" لم يكن من المناسب من وجهة نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) السكوت عن تلك الجريمة، لأنّ السكوت قد يعتبر ضعفاً واستسلاماً، وهذا ما قد يؤدّي بتلك الدول للتطاول على دولة الإسلام الوليدة، ومن هنا كان قرار إرسال الجيش الذي لم يكن كبيراً في العدد حيث كان قوامه (ثلاثة آلاف مقاتل)، لكن الدلالة فيه أنّ المسلمين حاضرون للدفاع عن دينهم ووجودهم ودولتهم ولو في مقابل القوى العظمى آنذاك.
ولم تكن مهمّة الجيش الذي أرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سهلة، وهذا ما يظهر من تعيينه لقادة ذلك الجيش، حيث جعل القيادة أولاً لزيد بن حارثة فإن قتل لجعفر بن أبي طالب فإن قتل فلعبد الله بن رواحة، فإن قتل فعلى المسلمين الباقين اختيار من يرونه مناسباً لقيادتهم.
ولذا نجد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قلّة عدد ذلك الجيش اهتمّ بأمره كثيراً عندما سار للقتال حيث خرج معه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مسافة من المدينة وأوصاهم بتقوى الله والإعتماد عليه والصبر والثبات في ساعات الشدّة، ونهاهم عن قتل الأولاد وعن الغدر وأن يدعوا المشركين عندما يواجهونهم إلى إحدى ثلاث خصال، إمّا الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية إذا رفضوا الإسلام، أو القتال في حال رفض الخصلتين الأوليتين، وهذه كانت السنّة المتّبعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما يقود الجيش أو يقوده من ينتدبه للقيادة.
ومؤتة هي مكانٌ من بلاد الشام خارج الجزيرة العربية وفي الطريق إلى الشام، ولكن كانت أخبار خروج جيش المسلمين قد وصلت إلى مسامع الروم، فجمعوا جموعهم وجيوشهم التي قدّرها مؤرّخو السيرة النبوية وكتب التاريخ الإسلامي بمائة ألف من الروم ومثل هذا العدد من العرب أتباع الروم كالغساسنة وغيرهم من القبائل التي كانت تحت سلطة الحكم الرومي آنذاك.
ويروى أنّ "هرقل" ملك الروم هو الذي قاد الجيش بنفسه، وعندما علم المسلمون بكثرة عدد جيش الروم تردّد البعض في إكمال المسير وأرادوا التوقّف واستشارة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمر بمعنى أن يرجعوا أو أن يكملوا الطريق لملاقاة العدو، إلاّ أنّ موقف عبد الله بن رواحة الذي خاطب جيش المسلمين بقوله: (يا قوم والله إنّا لم نكن نقاتل الناس بعدد وكثرة بل نقاتل بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإنما هي إحدى الحسنين إمّا الظهور على العدو وإمّا الشهادة).
وكان لهذا الموقف الأثر العظيم عند المسلمين وصمّموا على متابعة الطريق وقتال العدو، والتقى الجيشان في "مؤتة" وهي بلدة من بلاد الشام، وأول من حمل راية المسلمين زيد بن حارثة وقاتل المسلمون إلى جانبه حتّى سقط شهيداً، فحمل الراية بعده جعفر ابن أبي طالب حيث قطع الأعداء يمينه ثمّ شماله إلى أن استشهد رضوان الله عليه، فحمل الراية عبد الله بن روحة وقاتل حتّى سقط شهيداً أيضاً، بعد ذلك تولّى خالد بن الوليد قيادة جيش المسلمين بمن بقي منه وانحاز بهم وعاد إلى المدينة المنوّرة فاستقبلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه المسلمون الذين صاروا يرمون التراب على الجيش الراجع من القتال ظنّاً منهم أنّهم هربوا من الموت والقتل ويقولون لهم "يا فرار فررتم من سبيل الله"، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ليسوا بفرار ولكنّهم الكرار إن شاء الله).
وبسبب قطع يدي جعفر ابن أبي طالب في هذه المعركة واستشهاده أبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الجنّة كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن هنا جاءت تسمية جعفر ب "الطيار".
والفائدة الأساسية من غزوة مؤتة على من يراجع تفاصيلها هي إثبات أنّ الدولة الإسلامية هي دولة قوية متماسكة قادرة على الدفاع عن وجودها ودينها، ولهذا لم تشهد المدينة بعد تلك الغزوة أيّ تفكيرٍ من جانب الأعداء بالهجوم على الدولة الإسلامية لأنّ المسلمين أثبتوا من خلال غزوة "مؤتة" أنّهم حاضرون ومستعدّون للدفاع والقتال والإستبسال، وهذا ما ألقى المهابة في قلوب الأعداء، وهذا يطابق الحديث الوارد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (فوالله ما غزي قومٌ في عقر دارهم إلاّ ذلّوا)، لأنّ المشركين عندما وجدوا أنّ دولة الإسلام قادرة على حشد الجيوش وإرسالهم للقتال خارج حدودهم وبعيداً عن مركزها هي ستكون بالتالي أكثر قدرة وقوّة للقتال على أرضها وبين شعبها وجمهورها، وهذا ما حمى الدولة الإسلامية حتّى تمكّنت بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإنتصار على الروم وعلى الفرس معاً في ظرفٍ قليلٍ من الوقت. والحمد لله ربّ العالمين1.
____________
1. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد حفظه الله.