ثمرات الاعتقاد بمفردة البداء
مقدمة
تعد مفردة " البداء " العروة الوثقى بين سُلَمِيَات النسق العقدي الديني ، مما يجعلها أفضل وسيلة سلوكية ، و تربوية تقوّم السلوك العبادي بين العبد و ربه . و تجعل المتعبد بها أفضل العابدين . لكن ذلك ، لن يتسنى إلاّ بعد فهم دقيق لفلسفة " البداء " .
لذا رأى العبد الفقير ؛ أن يضع بين يدي القارئ الكريم هذه المقالة المتواضعة ، التي رمت من خلالها بيان ثمرات الاعتقاد بمسألة بالبداء .
إنّ تعدد قراءات المفاهيم و المعتقدات الدينية في عصرنا الحاضر تنبني عما ينسجم مع الأهواء و الآراء ، مما جعلها حاكمة على النص الديني و ليست محكومة له . و المتتبع لذلك يدرك بلا شک أنه كلما كبرت الهوة بيننا و بين المنبع الأصيل الحافظ لهذا الدين ـ و هم أهل البيت عليهم السلام ـ ، تركنا العنان لأهوائنا و تبعنا من يضلنا سواء السبيل .
و أفضل دليل على ذلك المسألة محل البحث . كونها تراءت في مدرسة أهل البيت كلؤلؤة تنير طريق السالكين و العابدين ، بينما عند منكريها كذريعة تواطئ سلطوي على رقاب الناس ، و سبيلا للخمول و الركون إلى واقع مزيف خلقته أيدي الناس . فالبداء لازم لا ينفك في علاقته عن مفهومي القضاء و القدر و جل معاناتنا اليوم وليدة الفهم الخاطئ و الساذج لهذه العلاقة .
إنّ الاعتقاد بالبداء باعث نحو الأعمال الحسنة ، و رادع عن الأعمال السّيئة ، فبه يعيش الوجدان كماله المنشود نحو تحصيل الفضائل و نبذ الرذائل . بخلاف الطرح القائل بجفاف قلم التقدير ، الذي يكون أحدي المصير فهو لا يتوقع أثراً لأعماله بشقيها الحسن و السيئ ، فينكر بذلك أي مدخلية للعمل في تغيير المصير .
كما أنّ مدارس الجبر و التفويض التي وقفت على طرفي النقيض . قد كبلت و طوقت الوجدان الإنساني بمعتقدات تتنافى مع فلسفة الدعاء و آثار اللطف الإلهي . بخلاف مدرسة " الأمر بين الأمرين " التي وضعت الحجر الأساس لفلسفة تفاؤلية ترى لفاعلية الفرد المختار دورًا بالغ الأهمية في تغيير أبجديات الواقع المستقبلي الذي يعد في الوقت نفسه رهنًا للإشارة الإلهية . و لعله يتسنى لنا بعد هذه المقدمة أن نستخلص ـ لا على سبيل الحصر ـ ثمرات الاعتقاد بمسألة البداء و هي :
إندفاع القول بالتفويض و الجبر
إنّ إسناد البداء إلى الله تعالى يدفع شبهة التفويض و شبهة الجبر معاً ؛ و توضيح ذلك أنّ المفوضة قالوا بأنّ الله فعل ما فعل ، و قدّر ما قدّر ، و فرغ من كل أمر ، فلا يغير من خلقه و لا قضائه شيئاً ، فلا يزيد و لا ينقص أمراً ، و أوكل الأفعال إلى العباد ، كما قالت اليهود : ﴿ ... يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ... ﴾ 1لا تبسط و لا تقبض ، و كما قال بعض الفلاسفة من أنّ كل ما في الكون فإنّما هو يجري على نهج واحد . و أمّا المجبّرة فأنكروا تأثير أفعال العباد في الحدوث على طرف النقيض من المفوضة ، حيث قالوا بأنّ أفعال العباد ـ مع ما لها من الآثار ـ مخلوقة للباري ؛ إذ مجاري الأمور مطويّة في علمه الأزلي ، و هو المؤثر في كل ما يحدث في عالم الوجود ، و منه أفعال العباد . و قد قالوا في مسألة المقتول : " لو لم يقتل لمات ، إذ لو لاه لزم خلاف علم الله ، و هو محال " .
أمّا اندفاع القول بالتفويض ، فإنّ العلم الأزلي الذّاتي المتعلق بجميع الأمور لا ينافي تأثير أفعال العباد في الحوادث ؛ إذ العلم المكنون حيث أنّ له التعلّق الطولي بالأفعال ، ليس بنفسه سبباً لها لتوسط اختيارهم ، فلا مناص عن ترتّب الآثار الموعودة من قبل الله تعالى عليها من زيادة رزق أو نقصه ، و من طول عمر أو قصره ، و هي أفعال الله . فليس الأمر كما زعمه القدري من أنه تعالى قد فرغ من الأمر و أوكل الأفعال إلى العباد ، و لا محو و لا إثبات ، و لا تغيير في الأرزاق و الآجال و سائر الحوادث ، فالمنكر للبداء ينكر دوام قدرة الله في جميع الأزمنة ، و بالنسبة إلى الحوادث كلها ، و المثبت له إنّما يثبت ذلك ، لا أنه ينسب الجهل إلى الله ـ تعالى عن ذلك .
و أمّا اندفاع القول بالجبر ؛ فلأنّه لو كان العلم الأزلي الذّاتي سبباً لكلّ ما يحدث في الخارج ، لم يكن لترتّب العمر على صلة الرّحم معنىً ، و لم يكن للمحو و الإثبات معنىً ، و لم يكن تقسيم علمه إلى مكنون و غيره ، و لم يكن لتقسيم الأجل إلى محتوم و غيره معنىً محصلاً .
البداء مجلى للمسؤولية الفردية و الاجتماعية
إنّ النظرية المناهضة لعقيدة البداء ، أسست بعقيدتها الهشة لأصلي الجمود و الركون في فهم المعطى الدنيوي و المعيشي . كونها قد سلبت الله تعالى القدرة اللامتناهية ، فأدى بها ذلك إلى القول بجفاف قلم التقدير الإلهي و استحالة التغيير فيه .
و العجيب ، أن الإنسان يفتي بوجدانه أنه ستنتفي مؤثريته في هذه الطبيعة لو صدّق بهذه النظرية . فلسان حال هذه الأخيرة يفرض على الإنسان الخضوع و الرضوخ ، و يصادر بعدًا تكوينياً و كمالياً مهماً ألا و هو " بعد الاختيار " ، كما أنه يفقده العزم على التغيير الذي يعد ميزة خاصة في الإنسان .
لذا نقول لا شك أن الطرح ـ القدري ـ هو الذي صوغ للطواغيت و الجبابرة إستعباد رقاب الناس بالباطل ، و صوغ للرعية من جهة الركون و التبعية زاعمين أنه قدر الله الذي لا يطرأ عليه التغيير ، و من أخرى التثاقل عن تغيير حتى البعد الروحي لديهم ، فتجدونهم يبررون ذنوبهم تبعا لطبيعتهم الجمودية ـ التي هي صنيعة أيديهم ـ . فهذا عبد الرحمن بن ملجم ـ لعنه الله ـ حينما خضب شيبة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في محرابه قال له : " أبئس الامام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ؟ " فأجابه المجرم : يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار ؟! ، و بعبارة فنية نقول أن ابن ملجم يريد أن يقول " لا للمسؤولية " إنمّا القدر الإلهي هو الذي طعن الامام ـ عليه السلام ـ . . . !
إنّ هذا الفكر الساذج ، يوحي صراحة بقمع فكرة المسؤولية الفردية ، بل حتى المسؤولية الاجتماعية ، التي انطوت عليها عقيدة البداء ؛ هذه العقيدة المانحة لفرص تغيير الواقع المظلم قال تعالى :﴿ ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... ﴾ 2.
أنظروا إلى المجتمعات التي تعيش الظلم و الاستبداد ، و ترتع في الانحلال الأخلاقي كيف يرى أفرادها مسألة القضاء و القدر . فقد أصبحت عقيدتهم الباطلة وازعًا مقنعًا للركون و التملص من تكاليفهم الشرعية ، و مسؤولياتهم الفردية و الاجتماعية ، و الانزواء و عدم الاكتراث بما يجري حولهم ، ظنًا منهم أن قلم التقدير قد جفت . جاعلين من هذا الفهم السلبي ، مبررًا لمن وضعوا أنفسهم أوصياء على هاته الشعوب ، في إحكام السيطرة و التمادي في تطبيق مشروع الضياع و الانحراف ، الذي سنته عليهم الدول المستبدة .
و الذي يحز في نفس كل غيور على هذا الدين المحمدي الأصيل ، أن الكثير من مجتمعاتنا الإسلامية تتخبط في وَحل هذه الحقيقة المزيفة . لذا تعدُ مسألة البداء ، نسفًا حقيقيًا ، لمفهوم الجبر الذي نادت به السلطة الأموية ، و شيدت من خلاله تاريخها النجس .
البداء و فلسفة الدعاء
إنً الميثاق الذي عنون به " البداء " ، و جعله اللّه تعالى إقراراً على أنبيائه و أوليائه ، نراه متجليًا في الزخم الدعائي الذي جاد به سر المعصوم ـ عليه السلام ـ . فكان بحق منظومة تربوية متكاملة ، تلطف سر الداعي و توجهه نحو مدارج أكمل و أرفع . كما جاء في حديث للنبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ ﴿ الدعاء مخ العبادة ﴾ 3 . و قد زخر التراث الروحي عند الإمامية ، بفلسفة دعائية ظهرت جليًا من خلال تلك القيم التربوية و المعنوية ، التي انطوى عليها رصيدهم الدعائي ، فكانت بحق أرقى منظومة عرفانية . و لا شك ، أن ذلك راجع لسريان أثار حقيقة البداء و تلك الروح المغمورة بالتفاؤل و الانتظار الباعثة على استرضاء الله تعالى و استعطافه في نفس الداعي .
و لنأخذ على سبيل المثال " الصحيفة السجادية " ، التي جمعت ما تفضلت به الروح الدعائية لسيد الساجدين على ابن الحسين زين العابدين ـ عليه السلام ـ . و هي كتيب يعكس في مضانه الحالات الروحية التي تعرض النفس الإنسانية ، و في الوقت نفسه يعلمنا أسلوب التعامل معها وفقا لمعايير عرفانية عالية . كما تجده يتناول الحالة الاجتماعية و السياسية التي كانت سائدةً في حياة الإمام ـ عليه السلام ـ . و قد اختار ـ عليه السلام ـ أسلوب " الوعي الوجداني " في عرض قضية الإمامة ، و ما جرى عليها من قبل الحكم الأموي الذي أزهق روح الوجدان الإنساني على مشارف تاريخه الدموي . لذا ظل الدعاء و لا يزال ، من أهم الشعائر التي تخض وجدان الفرد الشيعي خظًا ، و تدفعه نحو أسمى مدارج الكمال الروحي ، ولم يقتصر ذلك على المستوى الفردي فحسب بل تعداه إلى نورانية جماعية تصحبها حالة بكائية عجيبة ، تعكسها المجالس التي لا حصر لها و لا حد . إنّ حالة اليأس التي تعرض العبد بعد استنفاذ طلب المكرُمَة عن طريق السنن الكونية ، تجعله يستجدي الإرادة الإلهية لتغيير أحواله ، و يضيق في الهوة بينه و بين ربه التي صنعها الخلوص إلى أدران المادة . من هنا كان تعلق الروح الدعائية تعلقًا ما ورائيًا ، خارجًا عن كل الحدود التي تحف العالم السفلي ، حيث تفضي حالة الاستعطاف التي تعرض النفس إلى اختراق عالم التكوين و تغييره ، و هذا ما يعطي الدعاء القوة لرد و نقض القضاء . جاء في الكافي الشريف عن حماد بن عثمان قال : سمعته يقول : ﴿ إن الدعاء يرد القضاء ينقضه كما ينقض السلك و قد أبرم إبرامًا ﴾ 4 .
كما جاء في إسناده عن ميسّر بن عبد العزيز عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ : قال : ﴿ قال لي يا ميسّر أدع و لا تقل ، إنّ الأمر قد فرغ منه ، إنّ عند اللّه ـ عز و جل ـ منزلة لا تنال إلا بمسألة ، و لو أن عبدًا سدّ فاه و لم يسأل لم يعط شيئاً ، فسل تعط يا ميسّر إنّه ليس من باب يُقرع إلاّ يوشك أن يفتح بصاحبه ﴾ 5 .
مصير متأرجح بين الخوف و الرجاء
إنّ الله تعالى عالم في الأزل أنّ الذي يلائم النظام الأعلى و يستحق الوجود ، إنّما هو المحكوم عليه بالحكم اللاحق ، و الحكم السابق معلّق بشرط علمه في الأزل عدم تحققه من العبد ، و من مصالح التعليق إيهام الأمر على المطّلعين على ثبوت الحكم الأوّل في اللوح بسعادة أحد أو شقاوته مثلاً ، إمّا بالمشاهدة و العيان كالملأ الأعلى أو بالنقل و البيان من المستحفظين أسرار الله تعالى ؛ لئلا يأمنوا مكر الله ، و يغتّروا بالإتيان بالحسنات ، و ييأسوا من روح الله بالوقوع في الزلاّت ، بل يكونوا بين الخوف و الرجاء الذي هو من عمدة وصايا الأنبياء .
جاء في الكافي الشريف ما نصه عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : ﴿ أنه ليس من مؤمن إلاّ و في قلبه نوران : نور خيفة و نور رجاء ، لو وزن هذا لم يزد على هذا و لو وزن هذا لم يزد على هذا ﴾ 6 ، و في وصيّة لقمان لابنه :﴿ خف الله خيفةً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك ، و ارج الله رجاءً لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك ﴾ 7 ؛ و الحكمة في ذلك أنّ الخوف مع وجود الرجاء ، حامل للمسيء على التدارك ، و مانع للمحسن عن الإعجاب و الاطمئنان . ففي البداء كمال الحكمة ، و الإقرار به لله تعالى عين العبودية ؛ و لهذا ورد في الحديث : ﴿ لو علم النّاس ما في القول في البداء ، ما فتروا عن الكلام فيه ﴾ 8 .
و يمكننا القول أنّ العبد المؤمن ، لا يمكنه تحصيل رؤية عقدية صحيحة للتوحيد و اللطف و العدل ، إلا بحُلَة مفردة " البداء " التي تعد قوام الأفضلية على المستوى العبادي . فمن خلالها ، لا يطرق فكرنا مفهوم الجبر و التفويض الذي يُخرج تخصصاً القول بالجمع بين الاختيار و الإرادة و التدبير الدائم للخالق . فنجد مدرسة المعتزلة مثلاً ، قد فوتت على معتقيدها فرص النهل من نورانية الممارسة الدعائية دنيوياً و أخروياً . نظرا لتنافى فلسفة الدعاء مع صميم نظرتهم للإرادة ، و عقيدتهم التفويضية . لكن ، ضمن عقيدة " الأمر بين الأمرين " يتراءى لك ضياء اللطف الإلهي جلياً ، باعثاً العبد نحو توثيق صلته بمولاه ، من خلال فلسفة تفاؤلية ترى الواقع المستقبلي رهن إشارة الرحمة الإلهية .
____________
1. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 64، الصفحة: 118.
2. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 11، الصفحة: 250.
3. أخرجه الترمذي : 12 / 266 . و المخ خالص كل شيء و انما كان الدعاء كذلك لان حقيقة العبادة هو الخضوع و التذلل و هو حاصل في الدعاء أشد الحصول و في الكافي : 2 / 467 : « ان الدعاء هو العبادة » و هكذا رواه ابن ماجه تحت رقم : 3828 .
4. الكافي : 2 / 419 .
5. المصدر السابق : 2 / 466 .
6. نفسه : 2 / 71 .
7. نفسه .
8. نفسه : 1 / 148 .