هل الدين حكر على الوجدان
والوجدان لدى وفرة من الناس مصدر من مصادر التدليل ، وقوة من قوى الحكم على الأشياء بالخطأ أو الصواب .
ويغلو بعضهم فيرى أن الدين حكر على الوجدان! .
هذه المنطقة على الخصوص دون غيرها من آفاق النفس الإنسانية هي مولده الحقيقي ومقره الدائم على ما يرى هؤلاء . ويجني الجاني في رأيهم على الدين إذا أراد أن ينقله إلى الفكر أو يتطلبه منه أو يستعين به على إثباته .
وهي دون ريب فكرة غريبة عن هذي البلاد وعن هذا الدين .
فكرة بلاد استعصى عليها أن توفق دينها مع العقل . وعز عليها أن تتبع عقلها بلا دين ، فأفردت لكل منهما منطقة من النفس ، وطمعت أن تحل المعضلة بهذا التقسيم .
أما أن العقل قد يرى من حقه أن يتمرد على هذه الحدود فيجمع الأسلاك والأشواك ويقتحم منطقة الدين ، وأن الدين قد يثأر لقداسته وحرمته من هذه الجرأة فيهاجم العقل .
وأما أن الإنسان يعيش ما يعيش قلق النفس مزدوج الشخصية يحمل في أغوار نفسه خصمين متناحرين لا ينتهي خصامهما ولا يهدأ تناحرهما ، ويتنازع قياده طول دهره قلب مؤمن وعقل ملحد! .
أما هذا جميعه فلا ينبغي أن يكترث له المؤمن في رأي هؤلاء ليسلم له الإيمان وتحصل له الطمأنينة وتجب له النجاة!! . إن الدين فوق العقل فليؤمن بهذه الحقيقة وليعمل بموجبها وكفى! .
وأما أنه كيف يسلم له الإيمان وتحصل له الطمأنينة مع هذا القلق . وكيف تجب له النجاة مع تمرد العقل وإبائه عن الخضوع وكيف يكون الدين فوق العقل إذا كانت حدوده من النفس هي منطقة الوجدان وحدها . أما هذا فلا يحسن التفكير فيه لمن يبتغي الإيمان ، ليخضع وجدانه للدين إخضاعاً ، وليحمله على الإيمان به حملاً . . ثم لاشيء . . ثم الطمأنينة ، والقرار النفسي في الدنيا ، والنجاة والفوز في الأخرى .
هكذا يقررون وهكذا يفكرون .
والوجدان هذا قد يعنى به الضمير ، الحاسة الأدبية التي نحكم بها على أعمالنا وأعمال غيرنا بالخير أو الشر ، وتجزي العامل عليها بالتقدير أو الزراية ، وبالتشجيع أو التوبيخ .
وهي حاسة لا يجحد أثرها ، ولا تجحد أهميتها في توجيه الإنسان . والخلقيون والمثاليون ينيطون عليها آمالاً ويعددون لها آثاراً . وقد ذكرناها نحن لما استعرضنا الذخيرة النفسية لتكامل الإنسان . إلا أنها لا تثمر بذاتها خيراً ولا تملك نفعاً ولا ضراً ما لم تتهيأ لها أقيسة ثابتة عادلة ، تنطبع بها روحها وتبتني عليها أحكامها .
إنها قوة غريزية في الإنسان ، وليست مكتسبة له من خارج نفسه ، وقد وجدت حتى عند البدائيين من الناس ، وعند أكلة لحوم البشر منهم . ولمحت آثارها لدى الأطفال ، إلا أنها غير معصومة . فكثيراً ما أضلتها الخدعة ، وكثيراً ما أخطأها التوفيق . والطوائف التي تتقرب إلى آلهتها بدماء القتلى من البشر تجد لذع الضمير إذا فاتتها هذه القربة ، والأبناء الذين تفرض المجتمعات عليهم قتل آبائهم إذا كبروا وشاخوا يؤنبهم الوجدان إذا هم لم يمتثلوا هذه الفريضة ، والقبائل التي ترى من الإحسان إلى الموتى أن تحرق جثثهم بالنار وتذريها في الرياح توبخها ضمائرها إذا لم تسدي إليهم هذا الإحسان ، والغلاظ الجفاة الذين يئدون أطفالهم صغاراً لا يعدون عملهم هذا إجراماً ولا تحاسبهم ضمائرهم عليها . وقبائل الهند التي ترى من الوفاء للرجل الميت والتكريم لمقامه أن تدفن زوجته الحية معه في قبره لا تأسى لذلك قلوبهم ولا تكترث له وجداناتهم .
فالضمير لا يستقل بالحكم أبداً . ومن أجل ذلك اختلف الناس في أخلاقهم واختلفوا في عوائدهم مع وجود الضمير في كل فرد منهم . .
وقد يراد بالوجدان الموهبة التي نفرق بها بين مواقع القبح ومواقع الجمال ، وبين درجاتهما لدى التفاوت ، فهو إذن خاص بنقد الفنون وما يشبه الفنون ، وفي تمييز حظوظها من الإبداع أو الإخفاق ، وهو إذن يرادف الذوق الذي نختبر به طعوم الجمال ونتبين خصائصه ونصنف مراتبه ، وهو إذن حصيلة تختلف باختلاف ما يدرك الناقد من معاني الجمال ومن درجات التوافق والإنسجام بين أجزاء الشيء وصفاته .
وقد يقصد بالوجدان مجموعة العواطف والإنفعالات التي يجدها الإنسان نحو الشيء ومجموعة الإنطباعات التي يتركها الشيء في الإنسان ، فهو إذن مجموعة أهواء ومجموعة صور تختلف من شخص لشخص بل ومن حال لحال .
وأياً كان معنى الوجدان من هذه المعاني فهو لا يصلح لأن يكون ركيزة للدين ولا مقراً ثابتاً له فإن العقيدة الراسخة المتينة والمنهاج الثابت الخالد ، والإيمان القوي الصناع ، الذي يصوغ الإنسانية ويبني الحياة ويشد الإجتماع يستحيل أن تقوم على سند لا تماسك له ولا قرار ، أو تحتبس في مضيق لا رحابة فيه ولا اتساع .
والقرآن يتحدث إلى الوجدان ويحرك ساكنه ويستجيش كامنه ، لا ليؤسس على نظرته عقيدة ولا ليقيم عليها شريعة ، ولكنه يعلم حق العلم أن الإنسان مجموعة قوى وغرائز وطاقات ونزعات وعواطف وأحاسيس ، وقواه المفكرة وإن كانت أهم ما فيه إلا أنها ليست كل ما فيه ، وكثيراً ما عصى المرء عقله ليدلل عاطفته ، وكثيراً ما وأد فكراً سديداً لأنه يخالف شعوراً يلتذ به أو انفعالاً لا يرضى بتركه . ويعلم القرآن كذلك حق العلم أن الدين منهاج للإنسان كله لا لعقله وحده ولا لروحه وحدها . فمن الحق أن يتحدث إلى الوجدان كما يتحدث إلى العقل ، ومن الحق أن يستثير العواطف والنوازع كما يستثير التفكير والتأمل .
من الحق أن توجه الهداية إلى الإنسان كله بعقله وغرائزه ومشاعره وسائر قواه وطاقاته .
ومن الحكمة والحق أن يستثار الضد لتمنع عادية ضده فيحرك حس الرحمة مثلاً عند خوف الشقاق ويثار شعور الخوف عند خشية الإنطلاق ، ويلمس وتر خفي من النفس لتأمن عدوى طبع ذميم أو لتعان في بناء خلق كريم .
ومن الحكمة أن يصنع كل ذلك ليستبين للعقل وجه من وجوه الحكمة ويفتح له باب كبير من أبواب التفكير .
من أجل هذه الوجوه وغيرها مما لم نذكره ومما لم نحط به علماً يتحدث القرآن إلى الوجدان ويلمس العاطفة ويحرك النزعة الخفية ويداعب الشعور المرهف ويثير الحمية المغمورة . ويهتم بكل ناحية من نواحي الإنسان ليسير به يقظان الوعي متوقد الشعور ينتظم حسه كل حركاته وسكناته وكل أفعاله وتروكه ، ليسير كذلك كتلة واحدة شاعرة متيقظة إلى الغاية التي يبتغيها الإنسان ويدعو إليها رب الإنسان .
أيّاً كان معنى الوجدان فهو لا يكون ركيزة للدين
وإذا لم يكن محيد من أن ننظر الدين بمنظار الوجدان .
وإذا لم يكن محيص من أن نحتكم إليه في أمر الدين كما حكمنا العقل وحكمنا الفطرة في أمره من قبل .
وإذا انبرى من يقول لنا من الناس: الدين منهاج للإنسان كله فلا بد من أن تقتنع به العاطفة كما يقتنع به العقل ولا بد من أن يذعن به الشعور الغامض كما يؤمن به التفكير الصريح .
على أن الوجدان يقول كذلك : لا بد من الدِّين
لقد استجوبنا فطرة الإنسان من قبل واستجوبنا غريزته ، واستنطقنا أشواقه القوية الملحة وضروراته الكثيرة المتنوعة ، وفحصنا ذخائره النفسية التي أعد بها لبلوغ الكمال واتجاهاته الطبيعية التي تدفع به إلى التسامي .
لقد جربنا كل أولئك فوجدناها تؤمن بالدين وتحكم بأنه ضرورة وبأنه قانون كقوانين الحياة في الأحياء والنمو في الناميات لا غنى عنه ولا بديل له . .
ودلالة تلك البدائة على نتائجها وإن تك فكرية منطقية ، من حيث أن الفكر المجرد هو الذي ينظر في هذه وفي صلتها بتلك ، ثم في اسياقها معها واستتباع تلك لها إلا أن لها كذلك دلالة واقعية وجدانية هي هذا الهوى الداخلي الذي يشد الطالب بالمطلوب ويحول وجهه إليه . وهي هذا الولوع الذي يتجه بإبرة الملاح إلى القطب الشمالي ويوقف حركتها بين يديه . .
أرأيت الشجيرة التي يسمونها زهرة الشمس قمر ؟ أعرفت السر الذي يميل بزهرتها نحو الشمس أنى مالت ويولعها بقرصها حتى يغيب ؟ إنه السبب الذي يعقد المحتاج بمكان حاجته ، ويولع الناقص بمصدر كماله . وأنه بذاته السبب الذي يعلق ذخائر الاستكمال في الإنسان بالمنهاج الذي به يكتمل وبالغاية التي إليها يسمو .
إنه بذاته السبب الذي يحول أوجه هذه الركائز في الإنسان إلى الدين .
وهي دلائل واقعية يعتمدها دعاة الدين كما يعتمدون دلالة البرهان . وأسميها وجدانية من حيث ان المرء يشعر بدعوتها في أعماقه . ولعل الوجدانيين يطلبون نوعاً آخر من حكم الوجدان ، ولا يفقد الدين سنداً من النوع الذي يطلبون ما دامت ركائزه قد ملأت آفاق الإنسان ، آفاق نفسه وآفاق حياته .
وبحسب الدين أن تحرز له الثقة المطلقة من الناس أجمعين .
من الناس أجمعين حتى من الذين لا يعترفون به ولا يخضعون لأحكامه ، أفرأيت أعجب من هذا ؟ ثم هل تريد أن تمتحن بنفسك صدق هذه الدعوى ؟ .
هب أنك اضطررت في يوم ما إلى إيداع شيء كريم ، وهب أنك لم تصب في موضع ضرورتك هذه محلاً معداً للوديعة ، ولا شخصاً معروفاً بالأمانة . وأنك وقفت في حالك هذه على رجلين . أحدهما ثري شريف الأرومة نابه الشأن يذكر بصفات من الخير تضاعف من شرفه وتزيد في نباهة شأنه ، وثانيهما يحرم من غالب هذه الصفات ، بل من جميعها سوى أن له شريعة إلهية تصده عن أن يرتكب ، وضميراً مؤمناً يزعه عن أن يخون ، ونفساً مطمئنة ترفعه عن أن يتدنس .
بل وهب ان الرجلين يتفقان في أهلية الوثوق فكلاهما مشهود له بالصلاح وكلاهما مذكور بالعفة والتجنب عن الخيانة . ولكن سند الوثوق في أحد الرجلين دين تشرق به نفسه ، وعقيدة يمتلئ بها عقله ، وإيمان يعمر به قلبه . ومبعثه في الرجل الآخر عادة مرن عليها لينال بها جمال الأحدوثة بين الناس أو طيب المعاشرة منهم أو أي مبتغى آخر سوى الدين .
هب أنك وقفت في ضرورتك إلى إيداع ذلك الشيء الكريم عليك بين رجلين هذه خصائصهما ، فأي الرجلين تأتمن ؟ .
وهب أنك رغبت في عقد معاملة مع أحد الشخصين ، فأيهما تختار ؟ .
وهب أنهما اختلفا لديك في الشهادة على أمر فبأي الشهادتين تثق ؟ .
قد يسف عاقل فيتردد أيجب أن يكون للبشر دين أم لا يجب . وقد يتردد أيجب أن يكون الدين شاملاً لجميع أصناف الناس أو أن يكون متسعاً لجميع شؤونهم أم لا يجب أن يكون كذلك . ولكن لن يتردد أحد من الناس في أن التدين أقوى سبب يوجب الوثوق بالمعاملة ، وأملك باعث يقتضي الطمأنة بالصدق ، وأمنع وازع يحدو على الوفاء بالحقوق والأداء للأمانة . ومحاكم الدنيا كافة وقضاة العالم أجمع تتفق على هذا الرأي ، فمن الأمور التي لا ريب فيها عندهم أن شهادة الرجل المتدين ـ وأن يكن وثنياً ـ أدنى إلى الصدق من شهادة أي سواه .
والتفسير المقبول لهذه الثقة أن الدين هو الطب الواقعي من أدواء الخلق ، والدواء الناجع لعلل المجتمع ، فالمستمسك بهداياته والسائر في أضوائه يكون أبعد الخلق عن الأدواء وأقربهم إلى الصحة ، وأحراهم بالسيطرة على أهواء النفس ، والإرتفاع بالغرائز الدنيا . وتأريخ الأديان بينة أخرى على صحة هذه الدعوى .
أقول هذا واعني تأريخ الأديان عامة لا خصوص أديان السماء ، وأي دين من الأديان مهما كان مختل الأركان فاسد الأجهزة سقيم التعاليم ـ لم يبعث إلى الخير ، لم يدع إلى البر ، ولم ينهج بأتباعه إلى الصلاح ؟ أي دين من الأديان لم يرم إلى هذا الهدف ، ولم يجر نحو هذا المدى ، وإن يكن سعيه في نطاق ضيق وفي مجال محدود ؟ .
مدد للوجدان و سند للبرهان
والآيات الكونية منتشرة ملئ الأكوان وملئ الزمان ، أترى أنها سند للتفكير العقلي وحده في الدلالة على الله ، والإبانة عن شمول قدرته وسبوغ نعمته ووجوب ارتباط بدينه ؟ .
والنظرات العميقة الحالمة في مظاهر الجمال ومشاهد الإبداع من هذا الملكوت أترى أنها مدد للبرهان المنطقي خاصة على وجود الله وعلى باهر جماله وعظيم جلاله ولا حظ فيها للعاطفة ، ولا نصيب للوجدان ؟ .
يبدوأن جمهور علماء الكلام في الإسلام يرون هذا الرأي ، فقد استدلوا بهذه المعلولات على وجود علتها . كما يستدلون بأثر يجدونه في التراب على قدم وضعته سواء بسواء .
أما الرحمة التي لا تزايل ذلك الأثر مادام موجوداً .
أما الحب الذاتي الخالص الذي يعلق الأثر بمؤثره ، ويولهه به ، ويحول وجهه إليه .
أما الرعاية الدائمة التي تقتضيها الربوبية المطلقة والإنقياد الكامل الذي تقتضيه العبودية المطلقة ، أما التعاطف والتحابب الذي يربط الآثار بعضها ببعض من حيث اتصالها بمبدأ الرحمة ومصدر الحب وينبوع الخير ، الذي يتعالى على السدود والحدود .
أما هذه المعاني وما يشبهها فهي بعيدة عن طرائقهم في البرهنة . ولو أنهم قدموا التوحيد للناس كما قدمه القرآن ، ولو أنهم اتبعوا طريقتهم بالتدليل عليه ، لكانوا أدنى إلى استيفاء أغراض القرآن وأجدر ببلوغ غايته .
هذا التدبير الدائم القائم في كل آية آية ، وهذا الجمال البهيج النضير في كل مظهر مظهر ، وهذا الصنع المحكم المتقن في كل صغير وكبير ، هذا جميعه ليس مددأً للفكر وحده ، ولا مدداً للوجدان وحده بل هو مدد لهما على السواء . والتدبر الصادق والنظرات العميقة في ظواهره وخوافيه تملأ العقل اقتناعاً بالبرهان ، وتملأ القلب إشراقاً بالإيمان ، وتملأ النفس شعوراً بالحب وإحساساً بالرحمة واستمساكاً بالإخلاص ، وتوقظ في المرء أحاسيس الخير ومشاعر الإنسانية وتصله أولاً وآخراً بالله الذي أنطق الأشياء كلها بالدلالة عليه وألهمهما أن تسبح بحمده وأن تسلم وجهها إليه .
كل ما هنا أثر .
أجل . كل ما هنا أثر ، وقانون السببية ـ الذي أودع في فطر العقول ثم أثبته الإستقراء وسار على خطواته العلم ـ يقتاد العقل ليحكم في كل شيء يقف عليه أنه أثر له مؤثر ، وتقدير له مقدر .
ولكن هنا جمالاً رائعاً يبدو في كل مجلى من مجالي الكون .
وإتقاناً عظيماً في كل صنعة من صنائعه .
وحكمة بالغة في كل شيء من أشيائه .
وعناية رحيمة في كل تدبير وفي كل تقدير .
والذوق المرهف والشعور الدقيق والإحساس العميق بل والعاطفة الحية المتطلعة ، هذه العدة الوجدانية التي يملكها الإنسان هي التي يستطيع أن يتبين بها كل أولئك ويدرك مزاياه ويتعرف حدوده .
وقد لفت القرآن نظرة المرء إلى كل أولئك ، وحثه أن يستشف معاني الجمال فيما يرى ، وأن يستجلي فيه دقائق الحكمة وينظر آثار الرحمة ، واقرأ إذا شئت هذه الآيات الكريمة : ﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ 1 .
وكل ذلك أثر . والجمال المبثوث الرائع أيضاً أثر ، والحكمة والإتقان والرحمة الشاملة الواسعة كلها آثار ، ودلالتها على مؤثرها لا تنهض إلا بالفكر ، وإلا بقانون السببية الذي تفتقر إليه دلالة الآثار ، إلا أن هذه آثار يشترك فيه التدليل بها الفكر والروح والقلب ، ويعمم الإيمان بها والإطمئنان إليها جميع آفاق النفس ومنافذ الشعور .
وللقرآن أساليبه الأخاذة المثيرة في تنبيه الشعور وتوجيهه إلى هذه الآيات ، والاعتبار بها والإفادة منها .
وهو يطيل ويقصر في عرض الآيات ويجمل ويفصل حسب اقتضاء الموقف وحسب اقتضاء الأسلوب ، فيقول مثلاً في بعض مواقفه مع الإنسان ، وفي أحد أساليبه في توجيهه :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ 2 .
جميع ما في هذا الملكوت مسخر لابن آدم ، وجميع ما في الأرض مخلوق له ، أفليس من الحق أن يعرف هذه الأشياء ويعلم كيف سخرت له ؟ فيفيد من هذه المعرفة ومن هذا التسخير ؟ واليد القديرة التي خلقت له ذلك وسخرته أليست حرية بأن تعرف وحرية بأن تشكر ؟! .
كل ما في الملكوت مسخر لابن آدم وكل ما في الأرض مخلوق له ، وما من شيء في الكون إلا وله منهج مقرر ثابت ، ومنهجه هذا يسهم من قريب أو من بعيد في إسعاد الإنسان وتوفير موجبات الهناء له وتيسير مطاليب الحياة عليه . فمن الحق أن لا يمر عليها لاهياً عابثاً كمن لا يعنيه من أمرها شيء وان لا تصده عن التفكير فيه إلفة .
واخيراً هذه المناهج كافة إنما قررت من أجله فلا يتصور أن يحيى هو ويموت هكذا سدى دون منهاج ، ودون غاية . ويقول في بعض مواقفه:
﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ 3 .
هؤلاء قوم يكفرون بالحق ويعرضون عن آياته أفليس من الحكمة أن يلقى لهم هذا الإنذار الذي تقشعر له الجلود وتجف منه القلوب ؟ فلعل وطأة الخوف تحملهم على إعادة النظر والإفادة من الفكرة 4 .
______________
1. القران الكريم : سورة ق ( 50 ) ، الآيات : 6 - 11 ، الصفحة : 518 .
2. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآيات : 10 - 16 ، الصفحة : 268 .
3. القران الكريم : سورة فصلت ( 41 ) ، الآيات : 9 - 13 ، الصفحة : 477 .
4. من كتاب : الإسلام ، منابعه ، مناهجه ، غاياته ، للشيخ محمد أمين زين الدين .