الصديقة مريم بين القرآن و الانجيل
زعم ( تسدال ) أنّ قصّة مريم و ابنها المسيح ( عليهما السَّلام ) لم ترد في كتب النصرانية المعتمدة , و اعتبرها خرافة وهمية , و حجّته في ذلك عدّة شبَةٍ في ذهنه :
محتويات [إخفاء]
الصدّيقة مريم ( عليها السَّلام )
يا اُخت هارون ؟
ابنة عمران ؟
تأليه الصدّيقة مريم !
1 ـ أنّ ولادتها لعيسى , حسبما جاءت في القرآن , أشبه ما يكون باُسطورة ( ميلاد بده ) عند الهنود , حيث ولد ( بده ) من عذراء لم يمسّها رجال .
2 ـ خدمتها للهيكل , مع أنّ هذا لا يجوز للنساء .
3 ـ ذكر القرآن أنّها اُخت هارون أخي موسى بن عمران ـ على حدّ فهمه ـ و اعتبر ذلك من الخطأ التاريخي في القرآن .
و هكذا أنكر كلام عيسى في المهد , و كذا المعجزات التي ظهرت على يده ممّا ذكره القرآن , مثل صنعة من الطين طيراً ثمّ يكون طيراً بإذن الله . و قصّة المائدة التي نزلت من السماء . و صلب عيسى ( عليه السَّلام ) حيث نفاه القرآن , في حين قد أثبته الكتاب المقدّس .
و مثل : نزول عيسى في آخر الزمان . و مسألة التبشير بمقدم نبي الإسلام حسبما ذكره القرآن , ولم يأت في الإنجيل... و نحو ذلك من اُمور سردها ( تسدال ) بهذا الشأن سرد عاجز سقيم . 1
الصدّيقة مريم ( عليها السَّلام )
أنكر ( تسدال ) قصّة الصّديقة مريم ( عليها السَّلام ) أن تكون وردت بهذا الشكل في كتب النصرانية المعتمدة , و اعتبرها خرافة .
قال الدكتور رضوان : هذه القصّة من الشهرة و الانتشار و البداهة في الوسط المسيحي بمكان , حتّى أنّ فرقة ( البربرانية ) 2 منهم ألّهوها و ابنها المسيح ( عليه السَّلام ) نظراً لولادتها لابنها بطريقة خارقة للعادة , و قد أشار القرآن الكريم لقضية تأليههم لهما ( عليه السَّلام ) . 3
أمّا زعم ( تسدال ) أنّ القصّة غير موجودة في الكتاب المقدّس فيردّه ما ورد في إنجيل ( لوقا ) و نصّه : " . . . اُرسل جبرائيلُ الملاكُ من الله إلى مدينةٍ من الجليل اسمها ناصرة , إلى عذراءٍ مخطوبةٍ لرجل من بيت داود اسمه يوسف , و اسم العذراء مريم . فدخل إليها الملاك و قال : سلامٌ لكِ أيّتها المنعَم عليها , الربّ معكِ , مباركة أنت في النساء . فلمّا رأته اضطربت من كلامه و فكّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة ؟! فقال لها الملاك : لا تخافي يا مريم , لأنّكِ قد وجدتِ نعمةً عند الله , و ها أنتِ ستحبلين و تلدين ابناً و تسمّينه يسوع . هذا يكون عظيماً , و ابنَ العليّ يُدعى , ويعطيه الربّ الإله كرسيّ داود أبيه , و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد . و لا يكون لملكه نهاية . فقالت مريم للملاك , كيف يكون هذا و أنا لستُ أعرف رجلاً ؟ فأجاب الملاك و قال لها : الروح القدس يحلّ عليك , و قوّة العليّ تظّللك . فلذلك أيضاً القدّوس المولود منكِ يُدعَى ابنَ الله .
وهوذا ( اليصابات ) 4 نسيبتك هي أيضاً حبلى بابن في شيخوختها , و هذا هو الشهر السادس لتلك المدعوّة عاقراً , لأنّه ليس شيء غير ممكن لدى الله . فقالت مريم : هوذا أنا أمة الربّ , ليكن لي كقولكَ . فمضى من عندها الملاك . 5
و جاء في إنجيل ( متّى ) : " أمّا ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا : لمّا كانت مريم اُمُّه مخطوبةً ليوسف قبل أن يجتمعا وُجدت حبلى من الروح القدس . فيوسف رجلها إذ كان بارّاً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سرّاً . و لكن فيما هو متفكّر في هذه الاُمور إذا ملاك الربّ قد ظهر له في حلم قائلاً : يا يوسف بن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك , لأنّ الّذي حُبل به فيها هو من الروح القدس , فستلد ابناً و تدعو اسمه يسوع , لأنّه يخلص شعبه من خطاياهم " . 6
و في إنجيل برنابا ـ في الفصل الأول ـ ما نصّه : " لقد بعث الله في هذه الأيام الأخيرة بالملاك جبرائيل إلى عذراء تدعى مريم من نسل داود من سبط يهوذا . بينما كانت هذه العذراء ـ العائشة بكلّ طهر بدون أدنى ذنب , المنزهّة عن اللوم , المثابرة على الصلاة مع الصوم ـ يوماً مّا وحدها و إذا بالملاك جبرائيل قد دخل مخدعها و سلّم عليها قائلاً : ليكن الله معكِ يا مريم . فارتاعت العذراء من ظهور الملاكَ , و لكن الملاك سكن روعها قائلاً : لا تخافي يا مريم , لأنّكِ قد نلتِ نعمةً من لدن الله الذي اختاركِ لتكوني اُمّ نبيّ يبعثه إلى شعب إسرائيل , ليسلكوا في شرائعه بإخلاص . فأجابت العذراء : و كيف ألد بنين و أنا لا أعرف رجلاً ؟! فأجاب الملاك : يا مريم إنّ الله الذي صنع الإنسان من غير إنسان لقادر أن يخلق فيكِ إنساناً من غير إنسان , لأنّه لا محال عنده . فأجابت مريم : إنّي لعالمة أنّ الله قدير , فلتكن مشيئته . فقال الملاك : كوني حاملاً بالنبيّ الذي ستدعينه يسوع . فامنعيه الخمر و المسكر و كلّ لحم نجس , لأنّ الطفل قدّوس الله . فانحنت مريم بضعةً قائلة : ها أنا ذا أمة الله , فليكن بحسب كلمتك " . 7
***
قلت : ما جاء في إنجيل برنابا أسلم و أوفق بالاعتبار ممّا جاء في إنجيلي لوقا و متّى .
أولاً : جاء في إنجيل لوقا : " القدُّس المولود منك يُدعَى ابنَ الله " . 8
و فيه أيضاً : أنّ مريم لمّا أتت خالتها ( اليصابات ) باركتها و وصفتها بأنّها اُمّ ربّها : " و قالت : أنتِ مباركة في النساء و مباركة هي ثمرة بطنك . فمن أين لي هذا أن تأتي اُمّ ربي إليَّ " . 9
و هذا شيءٌ غريب ، كيف يكون الولود من امرأةٍ ابناً لله ، بحجة أنّه لم يولد من أب ؟! إذن لكان الأولى أن يكون آدم ابناً لله ، حيث لم يلده إبٌ و لا اُمّ .
ثم كيف أصبح هذا المولود من غير أب إلهاً من دون الله ؟! الأمر الذي يرفضه العقل الرشيد .
قال صاحب كتاب ( الفارق بين المخلوق و الخالق ) : ما جاء في إنجيل لوقا (ص 32 :1) : ( و ابنَ العليّ يُدعى ) . هذه الجملة منتزعة من قول زكرّيّا ( عليه السَّلام ) في ابنه يحيى : ( و أنت أيّها الصبّي نبيّ العليّ تُدعى ) ( لوقا 76 : 1 ) ، فحرّفت في حقّ عيسى ( عليه السَّلام ) إلى قول لوقا على لسان المَلَك : { و ابنَ العليّ يُدعى } ليوهموا الناس أنّ المسيح إله ابن إله . 10
و ثانياً : قوله : { هذا يكون عظيماً ، و ابن العليّ يُدعى ، و يعطيه الربّ الإله كُرسي داود أبيه ، و يملك على بيت يعقوب و لا يكون لملكه نهاية } . . .
قال الاُستاذ النجاّر : إنّ هذه العبارات تفرّد بها لوقا ، ولم يذكرها أحد من كُتّاب لأحواله العالمون بشأنه ـ و أفاض على لوقا الذي ليس تلميذاً و لا من الإثني عشر ، بل رجل دخل في الدين متأخّراً و صار تلميذاً لبولس الذي لم ير المسيح ولم يعاشره . فهذه العبارة ممّا جاء به ليزيّن أمر المسيح و يدخل على الناس تعظيمه ، و المسيح ليس في حاجةٍ إلى ذلك .
و قد طعن صاحب كتاب ( الفاروق ) على هذه الجملة " و يعطيه الإله كرسي داود أبيه " بوجهين وجيهين :
الأول : أنّ عيسى ( عليه السَّلام ) من أولاد الملك ( يهوياقيم ) 11 و لا يصلح أن يجلس على كرسيّ داود ، لأنّه لمّا أحرق الصحيفة التي كتبها ( بارخ ) من فم النبيّ ( أرمياء ) نزل الوحي : " قال الربّ عن يهوياقيم ( يواقيم ) ملك يهوذا ، لا يكون له جالسٌ على كرسيّ داود " . 12
الثاني : أنّ المسيح ـ مع كونه لم يجلس على كرسيّ داود ـ أمر « بيلاطس » بضربه و إهانته ، و سلّمه إلى يهود ـ كما يزعمه النصارى ـ ففعلوا به ما فعلوا و صلبوه .
على أنّه يبدو من إنجيل يوحنا ( 1ص6 )أنّه كان هارباً من قومه عندما أرادوا أن يجعلوه ملكاً و لا يُعقل أن يهرب من أمرٍ بعثه الله لأجله ، على ما بشّر جبرائيل اُمّه العذراء قبل ولادته . ومعلوم أنّه لم يملك بيتُ يعقوب ساعةً فضلاً عن الأبد . 13
يا اُخت هارون ؟
و يقول القاضي عبد الجبار في كتاب ( تنزيه القرآن عن المطاعن ) : و ربما قيل في قوله تعالى : ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ ... ﴾ 14 : كيف يصحّ أن يقال لها ذلك و بينها و بين هارون الذي أخو موسى الزمان الطويل ؟ و جوابنا أنه ليس في الظاهر أنه هاورن الذي أخو موسى ، بل كان لها أخ يسمى بذلك ، و اثبات الايم و اللقب لا يدل على أن المسمى واحد . و قد قيل : كانت من ولد هارون ، كما يقال للرجل من قريش يا أخا قريش . 15
و يشرح المبشّرون هذه الناحية و يقولون : ورد في سورة مريم : ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ 16. يبدو من هذه الآية أنّ محمّداً كان يرى أنّ مريم كانت أُخت هارون أخي موسى . و ممّا يزيد هذا الأمر وضوحاً و جلاءً ما ورد في السورة التحريم و نصّه : ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ ... ﴾ 17 . و في سورة آل عمران : ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ 18 . فلا شكّ أنّ محمداً توهّم أنّ مريم أُخت هارون التي كانت أيضاً ابنة عمران ( عمرام ) هي مريم نفسها التي صارت أُمّ يسوع ( المسيح عيسى ) بعد ذلك بنحو ألف و خمسمأة و سبعين سنة . و هذا خطأ جسيم ، لأنّه لم يقل أحد من اليهود أنّ مريم اُخت هارون و ابنة عمران بقيت على قيد الحياة إلى أيّام المسيح . 19
هكذا وهم تسدال و من حذا حذوه من المبشّرين ! لكنّه وهم فاحش ، إذ كيف يمكن أن يخفى مثل هذا الفصل البيّن بين موسى و المسيح ( عليه السَّلام ) على العرب العائشين في جوار اليهود و بين أظهرهم طيلة قرون ، و كذا مراودتهم مع نصارى نجران و الأحباش ، فضلاً عن نبيّ الإسلام النابه البصير ، ليتصوّر من مريم اُمّ المسيح موسى و هارون!
إذ من يعرف أنّ لموسى و هارون أُختاً اسمها مريم ، لا يمكنه الجهل بهذا الفصل الزمني بين مريمين !
ثُمَّ كيف يسكت اليهود ـ و هم ألدّ أعداء الإسلام ـ على هذا الخطأ التاريخي الفاحش ولم يأخذوه شنعة على القرآن و الإسلام ؟
هذا وقد وقع التساؤل عن هذا التشابه على عهد الرسول ( صلى الله عليه و آله ) على ما نقله السيّد رضيّ الدين ابن طاووس عن كتاب ( غريب القرآن ) لعبد الرحمان بن محمد الأزدي الكوفي ( من كبار رجال القرن الثالث ) بإسناده إلى المغيرة بن شعبة ، قال بعثني رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) إلى أهل نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرأون { يا اُخت هارون } ، و هارون أخو موسى ، بينه و بين عيسى المسيح بكذا و كذا ؟ قال : فرجعت و ذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فقال : ألا أخبرتهم ( أو قلت لهم ) أنّهم كانوا يسمّون بالأنبياء و الصالحين قبلهم ! 20
و هكذا أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة . . . الحديث . 21
نعم وهمت عائشة أنّها اُخت هارون أخي موسى ، فنبّهها كعب الأحبار بأنّها غيرها ، و الفصل الزمني بينهما كبير . و إنّما هو من تشابه الأسماء فرجعت عن زعمها . 22
و ذكر كعب أنّ الفصل الزمني بينهما ستمأة سنة . و لعلّه من حذف الألف في نقل الرواة .
إذن لم يكن ذلك خافياً على أهل النباهة ذلك العهد و هكذا طول عهد الإسلام ، حتى يأتي تسدال و أضرابه من أهل السفاسف في مؤخّرة الزمان ليجعلوه شنعة على القرآن الكريم !!
و الخلاصة ، أنّ التسمية باسم الآباء و الأمّهات تشريفاً بهم ، شيء معروف كما جاء في كلام الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و لا سيّما و هارون كان سيّد قومه مهاباً عظيماً له شأن في بني إسرائيل . و هو أوّل رأس الكهنة الذي ترأّس في اللاويين أكبر قبائل بني إسرائيل . 23
أضف إليه أنّ اُمّ مريم ـ و هي أُخت اليصابات اُمّ يحيى ـ كانت من سبط لاوى من نسل هارون . 24 فهي من جهة الأمّ منتسبة إلى هارون ، فالتعبير بأُخت هارون ، معاتبة لها ، حيث علم أخذها بحرمة هذا النسب العالي . و هذا كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، و للهاشمي : يا أخا هاشم . . . روي ذلك ( انتسابها إلى هارون ) عن السدّي . 25
و هذا لا ينافي أن تكون مريم من جهة الأب منتسبة إلى داود من سبط يهوذا . 26 لأنّ العقاب إنما يقع بأشرف الأبوين .
و هناك احتمال : أنّها شبّهت بمريم اُخت هارون و موسى ، لمكان قداستها و كانت ذات وجاهة عند قومها . و كانت تدعى أيضاً بأُخت هارون . و يعبّر عنها بالنبيّة كهارون أخيها . 27 و كانت أكبر من موسى بعشر سنين ، و هي التي قالت لها اُمّها : قصّيه ، عندما قذفت بتابوت موسى في النيل .
و المعنى : أنّك تماثلين الصديقة مريم اُخت موسى و هارون ، فكان جديراً بك المحافظة على هذا المقام . 28
ابنة عمران ؟
لم تذكر التوراة عن والد مريم شيئاً سوى أنّها من سبط يهوذا من نسل داود . و لا بُعد أن يكون اسم والدها عمران ( عمرام ) و كانت التسمية بهذا الاسم شائعةً في بني إسرائيل . و كان في حشد عزرا من كان يسمّى بهذا الاسم . 29 كما لم ينكر هذا الانتساب منذ العهد الأوّل فإلى الآن ، دليلاً على صحّة الانتساب .
و على أيّ حال فلا غرو أن يأتي القرآن . و قد نبّهنا أنّ القرآن يأتي بالصفو الصحيح من آثار الأنبياء و الصدّيقين ، بما أعجب و أبهر ، و لذلك يقول سبحانه : بشأن قصص الصدّيقة مريم : ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ ... ﴾ 30 .
إذ جاءت قصّتها في كتب السابقين مشوّهة محرّفة ، و لكنّها في القرآن نقيّة زاكية .
تأليه الصدّيقة مريم !
﴿ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ... ﴾ 31 .
و هذا تعريض بفرقة من فرق النصارى قالوا بألوهية المسيح و أمّه . . . الأمر الّذي أنكرته فرق النصارى اليوم , بحجّة أنّه لم توجد فرقة تعتقد ألوهية مريم العذراء!
لكن التاريخ يشهد بوجود فرقة أو فرق من المسيحيين الأوائل كانوا يعتقدون بألوهيّتها إلى جنب ألوهيّة المسيح :
يقول عنهم ابن البطريق ـ الطبيب المؤرّخ المسيحي ( 263 ـ 328 هـ / 877 ـ940 م ) : 32
" و كانو مختلفين في الآراء و الأديان . فمنهم من كان يقول : إنّ المسيح و اُمّه إلهان من دون الله . و هم ( البربرانيّة ) . . . و يسمّون ( الريمتيين ) ( المريمانيّة ) . و منهم من كان يقول : إنّ المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار , فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . و هي مقالة ( سابليوس ) و شيعته . و منهم من كان يقول : لم تحبل به مريم بسعة أشهر , و إنّما مرّ في بطنها كما يمرّ الماء في الميزاب , لأنّ الكلمة دخلت في اُذنها و خرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها , و هي مقالة ( إليان ) و أشياعه . و منهم من كان يقول : إنّ المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منّا في جوهره , و أنّ ابتداء الابن من مريم , و أنّه اصطفى ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي , صحبته النعمة الإلهيّة , و حلّت فيه بالمحبّة و المشيئة , و لذلك سمّي ( ابن الله ) . و يقولون : إنّ الله جوهر قديم واحد, و أقنوم واحد . و يسّمونه بثلاثة أسماء , و لا يؤمنون بالكلمة و لا بروح القدس . هي مقالة ( بولس الشمشاطي ) بطريرك أنطاكيّة و أشياعه و هم ( البوليقانيّون ) . و منهم من كان يقول : إنّهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح و طالح و عدل بينهما , و هي مقالة ( مرقيون ) و أصحابه , و زعموا أنّ ( مرقيون ) هو رئيس الحواريّين و أنكروا بطرس . و منهم من كان يقول بألوهيّة المسيح . و هي مقالة ( بولس ) الرسول و مقالة الثلاثمأة و ثمانية عشر أسقفاً . . .
و لتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلاديّة ( مجمع نيقيّة ) عند الملك ( قسطنطين ) و بدعوة منه , فاجتمع ألفان و ثمانية و أربعون أسقفاً , و دارت البحوث , و قد اختار الإمبراطور الروماني ( قسطنطين ) ـ الذي كان قد دخل في النصرانيّة من الوثنية منذ عهد قريب ولم يكن يدري من النصرانية شيئاً ـ هذا الرأي الأخير ( رأي بولس الرسول ) و سلّط أصحابه على مخالفيهم , و شرّد أصحاب سائر المذاهب , و بخاصّة القائلين بألوهيّة الأب وحده , و ناسوتيّة المسيح ! 33
و هكذا يقول ابن حزم الأندلسي (383 ـ 456 هـ ) و هو قريب عهد بابن البطريق ـ بعد شرح الخلافات بين طوائف النصارى أيّام قسطنطين و كان أوّل من تنصّر من ملوك الروم . فكان ممّا عدّ من تلك المذهب و الفرق : البربرانيّة . قال : " و منهم البربرانيّة , و هم يقولون إنّ عيسى و أُمّه إلهان من دون الله عزّ و جلّ : قال : و هذه الفرقة قد بادت . . ." . 34 35
___________
1. راجع : آراء المستشرقين حول القرآن الكريم : 1 / 290 و 296 .
2. جاء في ( الفِصَل في الملل و النحِل ) لابن جزم : 1 / 48 : و منهم ـ طوائف النصاري ـ البربرانية, و هم يقولون : إنّ عيسى و اُمّه إلهان من دون الله عزّوجلّ , و هذه الفرقة قد بادت .
3. في قوله تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ... ﴾ القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 116 ، الصفحة : 127 .
4. هي امرأة زكريا , حملت بيحيى على أثر دعاء زوجها ( إنجيل لوقا , الإصحاح 1 / 12 ـ 25 ) . و جاء ذلك في القرآن في سورة آل عمران ( 3) ، الآية : 38 ؛ و سورة مريم ( 19 ) ، الآية : 7 ؛ و سورة الأنبياء ( 21 ) ، الآية : 89 . و كانت اليصابات خالة مريم . ( قصص الأنبياء للنجّار : 375 ) .
5. إنجيل لوقا , الإصحاح 1 /26 ـ 38 .
6. إنجيل متّى , الإصحاح 1/ 18 ـ 21 .
7. راجع : قصص الأنبياء للنجّار : 377 .
8. إنجيل لوقا , الإصحاح 1 / 35 .
9. إنجيل لوقا , الإصحاح 1 / 42 , 43 .
10. راجع : قصص الأنبياء للنجّار : 378 .
11. في إنجيل متّى : الإصحاح الأوّل : إنّه من ذرّية ( ألياقين ). و قد غيّر فرعون مصر اسمه إلى ( يهوياقيم ) . ( قاموس الكتاب المقدّس : 986 ) . و راجع : سفر الملوك 2 , إصحاح 23 / 34.
12. كتاب أرمياء , إصحاح 36/ 30 .
13. قصص الأنبياء للنجّار : 377 ـ 378 .
14. القران الكريم : سورة مريم ( 19 ) ، الآية : 28 ، الصفحة : 307 .
15. تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار : 247 .
16. القران الكريم : سورة مريم ( 19 ) ، الآية : 27 و 28 ، الصفحة : 307 .
17. القران الكريم : سورة التحريم ( 66 ) ، الآية : 12 ، الصفحة : 561 .
18. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 35 ، الصفحة : 54 .
19. مصادر الإسلام : 102 ـ 104 ؛ و الفنّ القصصي : 57 ـ 58 .
20. سعد السعود : 221 .
21. الدرّ المنثور : 5 / 507 .
22. فيما رواه ابن سيرين . راجع : الدرّ المنثور : 5 / 507 .
23. راجع : قاموس الكتاب المقدس : 916 .
24. المصدر : 795 .
25. مجمع البيان : 6 / 512 .
26. المصدر : 794 ـ 795 .
27. راجع : سفر الخورج , إصحاح 15 / 20 .
28. راجع : تفسير نمونه : 13 / 51 .
29. راجع : عزراء , إصحاح 10 , عدد 34 .
30. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 44 ، الصفحة : 55 .
31. القران الكريم : سورة المائدة ( 5 ) ، الآية : 116 ، الصفحة : 127 .
32. هو سعيد بن البطريق من أهل مصر . ولد بقسطاط و اُقيم بطريركاًَ في الإسكندريّة و سمّي أنتيشيوس ( Entychius ) 321 هـ ق . له كتب في الطب و التاريخ و لا سيما تاريخ المسيحيّة . كتب عن فرق النصارى و ما بينهم من شقاق و خلاف. راجع : الوافي بالوفيات للصفدي ( 764 هـ ) : 15 / 127 , رقم 4858 ؛ و الأعلام للزركلى : 3 / 144 .
33. راجع ما كتبه سيد قطب بهذا الشأن ( في ظلال القرآن : 6 / 117 ـ 121, المجلّد الثاني, ص 685 ـ 689 ) نقلاً عن كتاب محاضرات في النصرانيّة للشيخ محمد أبوزهره . و عن كتاب تاريخ الاُمّة القبطيّة و غيره من مراجع .
34. الفِصَل في الملل و النحل : 1 / 48 .
35. شبهات وردود حول القرآن الكريم : 78 ـ 87 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الاسلامية الإيرانية .