بحث في الإمامة وذكر بعض المؤلفات في الوصية
الإمامة
الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين ، وهو فرق جوهري أصلي ، وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما .
وعرفت أن مرادهم بالإمامة : كونها منصبا إلهيا يختاره الله بسابق علمه بعباده ، كما يختار النبي ، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ، ويأمرهم باتباعه .
ويعتقدون : أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علي عليه السلام وينصبه علما للناس من بعده ، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس ، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره ، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم ، وإلى اليوم ، ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض ، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فأوحى إليه : [ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ] ، فلم يجد بدا من الامتثال بعد هذا الانذار الشديد ، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم ، فنادى وجلهم يسمعون : ” ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ” ؟ .
فقالوا : اللهم نعم .
فقال : ” من كنت مولاه فهذا علي مولاه ” . . إلى آخر ما قال.
ثم أكد ذلك في مواطن أخرى تلويحا وتصريحا ، إشارة ونصا ، حتى أدى الوظيفة ، وبلغ عند الله المعذرة .
ولكن كبار المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله تأولوا تلك النصوص ، نظرا منهم لصالح الاسلام حسب اجتهادهم فقدموا وأخروا ، وقالوا : الأمر يحدث بعده الأمر .
وامتنع علي وجماعة من عظماء الصحابة عن البيعة أولا ، ثم رأى [ أن ] امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الاسلام ، بل ربما ينهار عن أساسه ، وهو بعد في أول نشوئه وترعرعه ، وأنت تعلم أن للاسلام عند أمير المؤمنين عليه السلام من العزة والكرامة ، والحرص عليه والغيرة ، بالمقام الذي يضحي له بنفسه وأنفس مالديه ، وكم قذف بنفسه في لهوات المنايا تضحية للاسلام . وزد على ذلك أنه رأى الرجل الذي تخلف على المسلمين قد نصح للاسلام ، وصار يبذل جهده في قوته وإعزازه ، وبسط رايته على البسيطة ، وهذا أقصى ما يتوخاه أمير المؤمنين من الخلافة والإمرة ، فمن ذلك كله تابع وبايع ، حيث رأى أن بذلك مصلحة الاسلام ، وهو على منصبه الإلهي من الإمامة ، وإن سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة ، فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال .
أما حين انتهى الأمر إلى معاوية ، وعلم أن موافقته ومسالمته وإبقائه واليا فضلا عن الإمرة ضرر كبير ، وفتق واسع على الاسلام لا يمكن بعد ذلك رتقه لم يجد بدا من حربه ومنابذته .
والخلاصة : أن الإمامية يقولون : نحن شيعة علي وتابعوه ، نسالم من سالمه ، ونحارب من حاربه ، ونعادي من عاداه ، ونوالي من والاه ، إجابة وامتثالا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله : ” اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه”.
وحبنا وموالاتنا لعلي عليه السلام وولده إنما هي محبة وموالاة للنبي صلى الله عليه وآله وإطاعة له .
تالله ما جهل الأقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا وهذا كله أيضا خارج عن القصد ، فلنعد إلى ما كنا فيه من إتمام حديث الإمامية ، فنقول : إن الإمامية تعتقد أن الله سبحانه لا يخلي الأرض من حجة على العباد ، من نبي أو وصي ، ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، وقد نص النبي صلى الله عليه وآله وأوصى إلى علي ، وأوصى علي ولده الحسن ، وأوصى الحسن أخاه الحسين ، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عليهم السلام وهذه سنة الله سبحانه في جميع الأنبياء ، من آدمهم إلى خاتمهم .
وقد ألف جم غفير من أعاظم علماء الدين مؤلفات عديدة في إثبات الوصية ، وها أنا أورد لك أسماء المؤلفين في الوصية ، من القرون الأولى والصدر الأول قبل القرن الرابع :
( كتاب الوصية ) لهشام بن الحكم المشهور .
( الوصية ) للحسين بن سعيد .
( الوصية ) للحكم بن مسكين .
( الوصية ) لعلي بن المغيرة .
( الوصية ) لعلي بن الحسين بن الفضل .
( كتاب الوصية ) لمحمد بن علي بن الفضل .
( كتاب الوصية ) لإبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال .
( الوصية ) لأحمد بن محمد بن خالد البرقي ، صاحب المحاسن .
( الوصية ) للمؤرخ الجليل عبد العزيز بن يحيى الجلودي .
وأكثر هؤلاء من أهل القرن الأول والثاني ، أما أهل القرن الثالث فهم جماعة كثيرة أيضا :
( الوصية ) لعلي بن رئاب .
( الوصية ) لعيسى بن المستفاد .
( الوصية ) لمحمد بن أحمد الصابوني .
( الوصية ) لمحمد بن الحسن بن فروخ .
( كتاب الوصية والإمامة ) للمؤرخ الثبت الجليل علي بن الحسين
المسعودي ، صاحب مروج الذهب .
( الوصية ) لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي .
( الوصية ) لمحمد بن علي الشلمغاني المشهور .
( الوصية ) لموسى بن الحسن بن عامر .
أما ما ألف بعد القرن الرابع فشئ لا يستطاع حصره .
وذكر المسعودي في كتابه المعروف ب ( إثبات الوصية ) لكل نبي اثني عشر وصيا ، ذكرهم بأسمائهم ، ومختصر من تراجمهم ، وبسط الكلام بعض البسط في الأئمة الاثني عشر . وقد طبع في إيران طبعة غير جيدة.
هذا ما ألفه العلماء في الإمامة ، وإقامة الأدلة العقلية والنقلية عليها ، ولسنا بصدد شئ من ذلك ، نعم في قضية المهدي عليه السلام قد تعلو نبرات الاستهتار والاستنكار من سائر فرق المسلمين بل ومن غيرهم على الإمامية في الاعتقاد بوجود إمام غائب من الأبصار ليس له أثر من الآثار ، زاعمين أنه رأي فائل ، وعقيدة سخيفة . والمعقول من إنكارهم يرجع إلى أمرين :
الأول : استبعاد بقائه طول هذه المدة التي تتجاوز الألف سنة ، وكأنهم ينسون أو يتناسون حديث عمر نوح الذي لبث في قومه بنص الكتاب ألف سنة إلا خمسين عاما ، وأقل ما قيل في عمره : ألف وستمائة سنة ، وقيل أكثر إلى ثلاثة آلاف.
وقد روى علماء الحديث من السنة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك ، هذا النووي وهو من كبار محدثيهم يحدث في كتابه ( تهذيب الأسماء ) ما نصه : اختلفوا في حياة الخضر ونبوته ، فقال الأكثرون من العلماء : هو حي موجود بين أظهرنا ، وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة ، وحكاياتهم في رؤيته ، والاجتماع به ، والأخذ عنه ، وسؤاله وجوابه ، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى ، وأشهر من أن تذكر .
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه : هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم ، وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين . إنتهى.
ويخطر لي أنه قال هو في موضع آخر ، والزمخشري في ( ربيع الأبرار ) : إن المسلمين متفقون على حياة أربعة من الأنبياء ، اثنان منهم في السماء وهما : إدريس وعيسى ، واثنان في الأرض : الياس والخضر ، وأن ولادة الخضر في زمن إبراهيم أبي الأنبياء.
والمعمرون الذين تجاوزوا العمر الطبيعي إلى مئات السنين كثيرون ، وقد ذكر السيد المرتضى في أماليه جملة منهم ، وذكر غيره كالصدوق في ( إكمال الدين ) أكثر مما ذكر الشريف .
وكم رأينا في هذه الأعصار من تناهت بهم الأعمار إلى المائة والعشرين وما قاربها ، أو زاد عليها .
على أن الحق في نظر الاعتبار أن من يقدر على حفظ الحياة يوما واحدا يقدر على حفظها آلافا من السنين ، ولم يبق إلا أنه خارق العادة ، وهل خرق العادة والشذوذ عن نواميس الطبيعة في شؤون الأنبياء والأولياء بشئ عجيب أو أمر نادر ؟ !
راجع مجلدات ( المقتطف ) السابقة ، تجد فيها المقالات الكثيرة ، والبراهين الجلية العقلية لأكابر فلاسفة الغرب في إثبات إمكان الخلود في الدنيا للانسان . وقال بعض كبار علماء أوروبا : لولا سيف ابن ملجم لكان علي بن أبي طالب من الخالدين في الدنيا ، لأنه قد جمع جميع صفات الكمال والاعتدال . وعندنا هنا تحقيق بحث واسع لا مجال لبيانه .
الثاني : السؤال عن الحكمة والمصلحة في بقائه مع غيبته ، وهل وجوده مع عدم الانتفاع به إلا كعدمه ؟ .
ولكن ليت شعري هل يريد أولئك القوم أن يصلوا إلى جميع الحكم الربانية ، والمصالح الإلهية ، وأسرار التكوين والتشريع ، ولا تزال جملة أحكام إلى اليوم مجهولة الحكمة ، كتقبيل الحجر الأسود ، مع أنه حجر لا يضر ولا ينفع ، وفرض صلاة المغرب ثلاثا ، والعشاء أربعا ، والصبح اثنتين ، وهكذا إلى كثير من أمثالها ، وقد استأثر الله سبحانه بعلم جملة أشياء لم يطلع عليها ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا ، كعلم الساعة وأخواته [ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ].
وأخفى جملة أمور لم يعلم على التحقيق وجه الحكمة في إخفائها ، كالاسم الأعظم ، وليلة القدر ، وساعة الاستجابة.
والغاية : أنه لا غرابة في أن يفعل سبحانه فعلا أو يحكم حكما مجهولي الحكمة لنا ، إنما الكلام في وقوع ذلك وتحقيقه ، فإذا صح إخبار النبي وأوصيائه المعصومين عليهم السلام لم يكن بد من التسليم والاذعان ، ولا يلزمنا البحث عن حكمته وسببه ، وقد أخذنا على أنفسنا في هذا الكتاب الوجيز أن لا نتعرض لشئ من الأدلة ، بل هي موكولة إلى مواضعها ، والأخبار في ( المهدي ) عن النبي صلى الله عليه وآله من الفريقين مستفيضة ، ونحن وإن اعترفنا بجهل الحكمة ، وعدم الوصول إلى حاق المصلحة ، ولكن كان قد سألنا نفس هذا السؤال بعض عوام الشيعة ، فذكرنا عدة وجوه تصلح للتعليل ، ولكن لا على البت ، فإن المقام أدق وأغمض من ذلك ، ولعل هناك أمورا تسعها الصدور ، ولا تسعها السطور ، وتقوم بها المعرفة ، ولا تأتي عليه الصفة .
والقول الفصل : إنه إذا قامت البراهين في مباحث الإمامة على وجوب وجود الإمام في كل عصر ، وأن الأرض لا تخلو من حجة ، وأن وجوده لطف ، وتصرفه لطف آخر ، فالسؤال عن الحكمة ساقط ، والأدلة في محالها على ذلك متوفرة ، وفي هذا القدر من الإشارة كفاية إن شاء الله .