مسألة في الجبر والاختيار للعباد
والتأثيرات الواقعة من جهة العباد مباشرها ومتولدها هم المحدثون لها دونه .
وقالت المجبرة بأسرها : إن المتولد من فعل الله تعالى .
وقال جهم في المباشر ما قاله في المتولد .
وقال النجار : هو فعل القديم والمحدث .
وقال الأشعري : هو من فعل الله تعالى خلق ومن العبد كسب .
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه : وجوب وقوعها بحسب أحوال من وقعت منه ، ولو كانت فعلا لغيره من قديم أو محدث لاختلف الحال .
وليس لأحد أن يقول : إذا كان القديم تعالى قادرا على إيجادها مطابقة لأحوالكم ، فما المانع من كونها فعلا له ؟ لأن الوجوب يمنع من ذلك .
ولأن إثباته تعالى فرع لا ثبات محدث في الشاهد ، فلا يصح ممن نفى محدثا في الشاهد أن يثبت غائبا .
ولأن إضافة الفعل إلى فاعل لا تمكن إلا بوقوعه بحسب أحواله ، فلا يجوز نفيه عمن يعلم تعلقه به على هذا الوجه ، وإضافته إلى من لا تعلق بينه وبينه ، وهو لو كان فعلا له لم يكن كذلك إلا لوقوعه منه على هذا الوجه .
وأيضا فمعلوم حسن الأمر والنهي وتوجه المدح والذم إلى من تعلق به التأثير الحسن والقبيح ، ولا يجوز إسناد ذلك إلى الكسب لكونه غير معقول ، بدليل تكرير المكالة لمدعيه والمطالبة بإفهامه وارتفاع العلم بحقيقته .
ولأن ذلك ينتقض بالمتولد ، كما نعلم حسن الأمر واللهي بالمباشر وتوجه المدح والذم عليه ، يعلم مثل ذلك في المتولد ، وهو كاف في صحة الاستدلال على كون العبد فاعلا ، لأن إضافة المتولد إلى إحداثه يقتضي إضافة المباشر بغير شبهة .
وإذا ثبت كونه قادرا لحاجة الفعل في وقوعه إلى كون فاعله قادرا فهو قادر بقدرة ، لتجدد كونه كذلك بعد أن لم يكن ، وخروجه عن ذلك وأحواله على ما كانت عليه ، ولتزايد مقدورات بعضنا على بعض .
وهي من فعل الله تعالى ، ليوفر دواعينا في أحوال الحاجة ، وتعذرها لا لوجه ، ومن حكمها إيجاب حالة المختار وتصحيح الفعل من الحي بدليل تعذره مع انتفائها .
ومن صفتها أن لا يصح بها الفعل إلا مع استعمال محلها ، بدليل تعذر الاختراع علينا ، ووقوف تأثيرها على المشارة لمحلها أو لما ماسته .
وهي قدرة على الضدين ، لصحة تصرف كل قادر في الجهات المتضادة ، ولو كان ذلك عن قدرتين لصح انتفاء إحداهما ، فيوجد قادر لا يصح منه التصرف في الجهات ، والمعلوم خلاف ذلك .
وتأثيرها مختص بالأحداث ، بدليل ثبوت صفة القدم من دونها وتعذر إيجاد الموجود ، ولأن المتجدد عند القصد إلى المقدور من صفاته هو الحدوث ، وهي متقدمة للفعل ، لاختصاص تأثيرها بالأحداث ، فيجب أن تكون موجودة في حال عدمه ، ولأن الحاجة إليها ليخرج بها الفعل من العدم إلى الوجود ، فإذا وجد استحال تعلقه بها ، ولا فرق في استغنائه عنها بوجوده بين أول حال وثانيها ، ولأنا قد دللنا على تعلقها بالضدين ، فلو كانت مصاحبة لهما مع كونها موجبة عندهم لاقتضى ذلك اجتماع الضدين وهو محال .
ولا يجوز حدوث الفعل على وجهين ، لأن ذلك لو جاز بقادر أو قادرين لصح تفريقهما ، لأن القادر على جمع الصفتين قادر على تفريقهما ، وذلك يقتضي فعل أحدهما في حال الحدوث والآخر في حال البقاء ، وفيه إيجاد الموجود مع استحالته .
وأيضا وصفه الحدوث لا يتزايده إذ لو كان الفعل صفة زائدة على مجرد حدوثه لوجب أن يكون لها حكم زائد على الأولى ، ونحن نعلم أنه لا حكم للمحدث ولا صفة يزيد على كونه محدثا ، لأن الأحكام كلها المشار إليها مع صفة زائدة حاصلة مع الأولى ، فلا يجوز إثبات مما لا فرق بين إثباته ونفيه .
ولا يجوز حدوث مقدور واحد بقادرين ولا قدرتين ، لأنه لو كان لا يمتنع أن يتوفر دواعي أحدهما إليه وصوارف الآخر عنه ، فإن وقع اقتضى إضافته إلى من يجب نفيه عنه ، وإن ارتفع اقتضى نفيه عمن وجب إضافته إليه ، وكونه بقدرتين يصح انتفاء إحداهما ، فإن وقع فبقدرة معدومة وإن ارتفع خرجت الأخرى من كونها قدرة عليه ، وكلاهما محال ، وإذا استحال مقدور واحد بقادرين أو قدرتين وتجدده على وجهين فسد مذهب النجار والأشعري ، لكونهما مبنيين على ذلك .